کفایه الاصول: دروس فی مسائل علم الاصول [ آخوند خراسانی] المجلد 1

اشارة

سرشناسه : تبریزی، جواد، 1305 - 1385.

عنوان قراردادی : کفایه الاصول .شرح

عنوان و نام پدیدآور : کفایه الاصول: دروس فی مسائل علم الاصول [ آخوند خراسانی]/ تالیف جواد تبریزی.

مشخصات نشر : قم: دارالصدیقه الشهیده، 1429ق.= 1387.

مشخصات ظاهری : 6 ج.

فروست : الموسوعه الاصولیه للمیرزا التبریزی قدس سره.

شابک : دوره 978-964-94850-1-0 : ؛ ج. 1 978-964-94850-2-7 : ؛ ج.2: 978-964-8438-61-1 ؛ ج.3: 978-964-94850-9-1 ؛ ج. 4 978-964-94850-6-5 : ؛ ج.5: 978-964-8438-09-3 ؛ ج.6: 978-964-8438-62-8

وضعیت فهرست نویسی : فاپا (چاپ دوم).

یادداشت : عربی.

یادداشت : این کتاب شرحی است بر " کفایه الاصول" اثر آخوند خراسانی.

یادداشت : چاپ اول : 1429ق. = 1387(فیپا).

یادداشت : چاپ دوم.

یادداشت : کتابنامه.

مندرجات : ج.1. مباحث الالفاظ.- ج.2. مباحث الالفاظ.- ج.3. مباحث الالفاظ - الامارات.- ج.4.الامارات- الاصول العلمیه.- ج.5. الاصول العلمیه- الاستصحاب.- ج.6. الاستصحاب - التعادل والتراجیح- الاجتهاد والتقلید.

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

رده بندی کنگره : BP159/8 /آ3 ک70212 1387

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : 1324719

ص :1

اشارة

ص:2

ص :3

ص :4

المدخل

أمّا المقدمة ففی بیان أُمور[1] .

الأوّل : أنّ موضوع کلّ علمٍ[2] ، وهو الذی یبحث فیه عن عوارضه الذاتیة __ أی بلا واسطة فی العروض __ هو نفس موضوعات مسائله عیناً، وما یتّحد معها خارجاً، وإن کان یغایرها مفهوماً، تغایر الکلّی ومصادیقه، والطبیعی وأفراده،

الشَرح:

[1] قد جرت سیرة المصنّفین علی ذکر مقدمة قبل الشروع فی مباحث العلم ومسائله ویتعرضون فیها لأُمور ترتبط بالعلم ولا تکون من مسائله ، کبیان موضوع العلم وتعریفه وبیان الغرض والغایة منه ، وتبعهم علی ذلک الماتن قدس سره وجعل لکتابه هذا مقدّمة وبیّن فیها أُمورا کلّها خارجة عن مسائل علم الأُصول ولکنّها ترتبط بها بنحوٍ من الإرتباط ، کما ستعرف إن شاء اللّه تعالی .

موضوع العلم ومسائله

:

[2] المعروف عند القوم أن_ّه لابدّ لکلّ علم من موضوع یبحث فی مسائل العلم عن العوارض الذاتیة لذلک الموضوع بأن تکون المحمولات المذکورة فی

ص :5

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

مسائل العلم عوارض ذاتیة له . وذکروا فی تعریف العرض الذاتی : إن_ّه ما یعرض الشیء بلا واسطة أو مع الواسطة المساویة داخلیّة کانت أو خارجیّة.

توضیح ذلک: أن العارض (یعنی المحمول علی الشیء بمفاد کان الناقصة) إمّا أن یکون بلا واسطة أصلاً أو یکون معها ، وعلی الثانی إمّا أن تکون الواسطة داخلیة أو خارجیة.

فالواسطة الداخلیة بالإضافة إلی ذیها تکون أعمّ أو مساویة ولا یمکن أن تکون أخص لأن_ّها جزء الشیء وجزئه لا یکون أخصّ منه ، حیث إنّه جنسه أو فصله ، فالعارض الشی ء بواسطة فصله مثل ادراک الکلّیات والعارض للانسان بواسطة الناطق، العارضة له بواسطة جنسه کالحرکة القصدیه العارضه بواسطه الحیوان. (ولایخفی أنّ الحرکة القصدیّة غیر الحرکة الإرادیّة حیث إنّ الحرکة الإرادیّة لا تکون فی غیر الإنسان من سائر الحیوانات).

الواسطة الخارجیة تکون بالإضافة إلی المعروض مساویة أو أعم أو أخصّ أو مباینة، والأوّل کعروض الضحک للإنسان بواسطة التعجب المساوی له حیث لا یوجد فی غیره من سائر الحیوان، والثانی کعروض الحرکة القصدیة للمتکلم بواسطة الحیوان، والثالث کعروض إدراک الکلّیات للحیوان بواسطة الناطق، والواسطة المباینة کالنّار فی عروض الحرارة للماء وکالسفینة فی عروض الحرکة لجالسها. فهذه أقسام سبعة.

والعرض الذاتی منها ما یعرض الشیء بلا واسطة أو مع الواسطة المساویة داخلیة کانت أو خارجیة .

والغریب منها ما یعرض له بواسطة خارجیة أعمّ أو أخصّ أو مباینة واختلفوا

ص :6

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فیما کان بالواسطة الداخلیة الأعم(1). ولذلک وقعوا فی إشکال لزوم خروج کثیر من مباحث العلوم عن کونها مسائل لها فإنّ المحمولات فی مسائلها لا تکون غالبا عارضة لموضوعاتها بلا واسطة أو مع واسطة مساویة داخلیة أو خارجیة، مثلاً المبحوث عنه فی علم النحو فی مسألة الفاعل رفعه، وفی مسألة المفعول نصبه، ونحو ذلک مع أنّ شیئا من الرفع والنصب لا یعرضان الکلمة بنفسها بل یعرضانها بوساطة الفاعل والمفعول وکل منها أخص من الکلمة التی هی موضوع هذا العلم (علی ما هو المعروف)، وکذا المبحوث عنه فی علم الأُصول ظهور صیغة الأمر فی الوجوب مثلاً مع أنّ النسبة بینها وبین صیغة الأمر فی الکتاب المجید لیست هی التساوی وهکذا.

توضیحه: إنّ فی مسألة «صیغة الأمر ظاهرة فی الوجوب أم لا؟» یکون المبحوث عنه فیها مطلق صیغة الأمر، و موضوع المسألة خصوص «صیغة الأمر فی الکتاب» والمحمول فیها العارض له «ظاهر فی الوجوب» فیعرض لموضوع المسألة الذی هو نوع بواسطة أعمّ، أی الجنس وهو مطلق صیغة الأمر المبحوث عنها ولیس هو الموضوع فی المسألة لعدم کونه فرداً لطبیعی موضوع العلم سواء کان الأدلة الأربعة أو ما یصلح أن یکون دلیلاً علی الحکم الشرعی، کما لا یخفی علی المتأمّل، بل الموضوع فیها صیغة الأمر فی الکتاب أو السنة مثلاً.

وذکر الماتن فی المقام أمرین وکأنّه یندفع الإشکال بهما من أساسه :

أحدهما : أنّ موضوع العلم عین موضوعات مسائله خارجا ولا تغایر بینهما إلاّ

ص :7


1- (1) کتاب البرهان من الشفاء : الفصل الثانی من المقالة الثانیة ص131؛ الأسفار : 1 / 30 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

تغایر الکلّی مع أفراده .

وثانیهما : أنّ کل عرض لا یکون عروضه للشیء مع الواسطة فی العروض هو عرض ذاتیّ له سواء لم یکن فی عروضه له واسطة أصلاً أو کانت بنحو الواسطة فی الثبوت ، ولا یخفی أنّ الواسطة فی العروض نظیر ما فی نسبة الحرکة إلی جالس السفینة حیث إن المتحرک خارجا حقیقة هی السفینة ونسبتها إلی الجالس فیها بنحو من العنایة وعلی ما ذکره قدس سره تکون تمام المحمولات فی مسائل العلوم عوارض ذاتیة لموضوعاتها فإنّه بعد کون الموضوع فی علم النحو مثلاً هی الکلمة (یعنی اللفظ الموضوع لمعنی) وهی عین الفاعل فی الکلام ، یکون الرفع المحمول علی الفاعل محمولاً علی الکلمة بلا واسطة فی العروض .

ثمّ إنّ المراد بالعارض هو المحمول لا العرض فی مقابل الجوهر حیث إنّه ربّما لا یکون المحمول فی المسألة عرضا کما فی بعض مسائل علم الکلام «کقولهم «واجب الوجود عالم، قادر، بسیط» وکقولهم فی الفقه «الماء طاهر» و«الخمر نجس» إلی غیر ذلک.

وعلی ما ذکر یکون قوله رحمه الله (1) «هو الذی یبحث فیه عن عوارضه الذاتیة» جملة معترضة لبیان تعریف موضوعات العلوم ، وقوله رحمه الله (2) : «بلا واسطة فی العروض» تفسیر للعرض الذاتی وإشارة إلی الخلل فیما ذکروه فی تعریفه من تقسیمهم العارض إلی سبعة أقسام وقولهم بأنّ أربعة منها عرض غریب .

ص :8


1- (1) کفایة الأصول : ص7 .
2- (2) کفایة الأصول : ص7 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وقوله رحمه الله (1) : «نفس موضوعات مسائله» خبر «إنّ» یعنی موضوع کل علم هو نفس موضوعات مسائله .

وقوله رحمه الله (2) : «ما یتحد معها خارجا» معطوف علی «موضوعات مسائله» یعنی موضوع کل علم ما یتحد مع نفس موضوعات مسائله خارجا .

وقوله رحمه الله (3) : «والطبیعی وأفراده» معطوف علی «الکلّی ومصادیقه» والمراد من المعطوف والمعطوف علیه واحد .

وقد اتضح بما تقدّم أنّ ما یذکر موضوعا لبعض العلوم مما لا تکون نسبته إلی موضوعات مسائله من قبیل الکلّی والفرد خطأ فی تشخیص الموضوع إذ لا تغایر بین موضوع العلم وموضوعات مسائله إلاّ تغایر الکلی مع فرده کما مرّ (ویقتضیه البرهان المدّعی لإثبات لزوم الموضوع لکلّ علم) . وعلیه فما یقال مِن أنّ موضوع علم الطب مثلاً هو بدن الإنسان وموضوعات مسائله الأعضاء المخصوصة لیس بصحیح لأن نسبة البدن إلی العضو نسبة الکلّ إلی الجزء لا الکلّی إلی الفرد فیکون الموضوع فی علم الطب ما یعرضه المرض لا خصوص البدن .

ثمّ إنّ المعروف أنّ وجه التزام الماتن رحمه الله ومن تبعه بلزوم الموضوع للعلوم ، هو عدم إمکان صدور الواحد عن الکثیر بدعوی أنّ الغرض من العلم واحد فاللازم صدوره عن واحد وهو الجامع بین موضوعات المسائل حیث إنّ الجامع بین

ص :9


1- (1) کفایة الأصول : ص7 .
2- (2) کفایة الأصول : ص7 .
3- (3) کفایة الأصول : ص7 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

محمولاتها ینتهی إلیه کما هو مقتضی قولهم کل ما بالعرض لابدّ من أن ینتهی إلی ما بالذات .

أقول: لیس فی کلامه قدس سره فی المقام ما یشیر إلی الموجب لالتزامه بذلک بل فی کلامه ما ینافی الموجب المزبور حیث صرح فی تداخل العلوم بإمکان غرضین متلازمین فیدوَّن لأجلهما علم واحدٌ ، ومقتضی القاعدة المزبورة عدم إمکان غرضین فی علم واحد بل ولا إمکان ترتب غرضین علی بعض مسائل العلم حیث إنّه من صدور الکثیر عن واحد .

ثمّ إنّه قدس سره أضاف إلی تعریف علم الأُصول «أو التی ینتهی إلیها فی مقام العمل»(1) وذکر فی وجهه أنّه لا موجب لخروج مباحث الأُصول العلمیة وحجیّة الظن الإنسدادی علی الحکومة من مسائل علم الأُصول ، ولو کان المهم الأُصول هو التمکن من الاستنباط فقط لکان مقتضاه الالتزام بالاستطراد فی تلک المباحث والحاصل إنّ لعلم الأُصول غرضین ومع ذلک لا یخرج عن کونه علما واحدا وإرجاعهما إلی غرض واحد غیر سدید ، لإمکان إرجاع الأغراض فی جملة من العلوم إلی غرض واحد ککمال النفس مثلاً .

والذی یخطر بالبال أنّ تعیین الموضوع للعلوم ، کذکر التعریف لمسائلها وبیان الغرض منها ، إنّما هو لتبصرة طالب تلک العلوم علی ما یظهر بعد ذلک.

وکیف ما کان فإنّ أُرید بالکلّی ، الجامع العنوانی لموضوعات مسائله نظیر سائر العناوین الانتزاعیة حتّی من المتباینات فی تمام ذواتها ببعض الاعتبارات فهذا

ص :10


1- (1) کفایة الأصول : ص9 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الجامع کالحجر فی جنب الإنسان فی عدم دخله فی کون تلک المسائل من العلم ، نعم لو بیّن بنحو حصل فیه الاطراد والانعکاس فهو یوجب معرفة موضوعات المسائل لطالب تلک المسائل .

وإن أُرید به الجامع الذاتی ، بأن یکون الموضوع للعلم کالجنس أو النوع لموضوعات المسائل ، فلم یعلم وجه لزوم هذا الجامع ، والاستناد فی لزومه إلی قاعدة عدم صدور الواحد عن کثیر ، غیر صحیح ؛ لما ظهر مما تقدم أنّ الغرض من العلم یمکن أن یکون واحدا عنوانیا أو واحدا مقولیاً له حصص متعدّدة یصدر عن بعض المسائل حصة منه وعن بعض آخر حصته الاخری من غیر أن یکون فیما یصدر عنهما جامع ذاتیّ ، مثلاً التمکن المترتب علی العلم بمسألة من مسائل علم النحو ، غیر التمکن المترتب علی العلم بمسألة أُخری من مسائله فیکون العلم بمسألة رفع الفاعل موجبا للتمکن من حفظ اللسان عن الخطأ فی التکلم بالفاعل، وبمسألة نصب المفعول التمکن من حفظه عن الخطأ فی التکلم بالمفعول وهکذا ، فیکون الغرض من علم النحو مستنداً إلی مسائله بخصوصیاتها .

ولا یخفی أنّ القاعدة المشار إلیها بأصلها وعکسها (أصل القاعدة : «الواحد لا یصدر عنه إلاّ الواحد» . وعکس القاعدة : «الواحد لا یصدر إلاّ عن الواحد» .) أسّسها أهل المعقول لإثبات وحدة الصادر الأوّل من المبدأ الأعلی .

وقد ذکر فی محلّه أنها علی تقدیر تمامیّتها لا تجری فی الفعل بالإرادة ، بل موردها الفعل بالایجاب ، لإمکان صدور فعلین عن فاعل بالإرادة مع کونهما من مقولتین ، وبما أنّ الصادر من المبدأ الأعلی یعدُّ من الفعل بالإرادة فلا شهادة لها بوحدة الصادر الأوّل .

ص :11

والمسائل عبارة عن جملة من قضایا متشتّتة جمعها اشتراکها فی الداخل فی الغرض الذی لأجله دُوِّن هذا العلم[1] . فلذا قد یتداخل بعض العلوم فی بعض المسائل، ممّا کان له دخل فی مهمّین، لأجل کلّ منهما دوِّن علم علی حدة، فیصیر من مسائل العلمین.

الشَرح:

فتحصّل من جمیع ما ذکرنا أنه لا وجه للالتزام بلزوم الموضوع للعلم کما ذکر ، کما لا وجه للالتزام بأنّه لابدّ فی مسائل العلم من البحث عن العوارض الذاتیّة لموضوعه فإنّه یصحّ جعل مسألة من مسائل العلم مع ترتب الغرض منه علیها حتّی ولو کان المحمول فیها من العوارض الغریبة لموضوع المسألة فضلاً عن موضوع العلم ، أو لم یکن المحمول فیها من العوارض أصلاً ، مثلاً البحث عن الملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدمته من مسائل علم الأُصول بلا کلام مع أنّ المبحوث فیه الذی هو ثبوت الملازمة بین الایجابین لیس بحثاً عن العوارض ، فإنّها ما یحمل علی الشیء بمفاد «کان» الناقصة، والبحث عن ثبوت الملازمة بحث عنه بمفاد «کان» التامة ، وکذا البحث عن اعتبار الإجماع مسألة أُصولیة ، مع أنّ حمل الاعتبار علیه علی مسلک الأصحاب _ بلحاظ کشفه عن قول المعصوم علیه السلام _ حمله مع الواسطة فی العروض وهو من العرض الغریب حیث یکون الاعتبار حقیقةً لقول الإمام علیه السلام ، وإسناده إلی فتوی العلماء یکون بالعنایة .

[1] فی توصیف الغرض بقوله قدس سره : «الذی لأجله دوِّن هذا العلم» إشارة إلی أنّه لیس المراد خصوص الثمرة المترتّبة علی کل مسألة من مسائل العلم کما یترتب علی مسألة جواز اجتماع الأمر والنهی التمکّن من استنباط حکم الصلاة فی الدار المغصوبة ، ولا یشارکها فی هذه الثمرة غیرها من مسائل علم الأُصول ، بل المراد الغرض الملحوظ للمدوِّن _ بالکسر _ إبتداءً أو ما یکون داعیا له إلی تدوین جملة من

ص :12

لا یقال: علی هذا یمکن تداخل علمین فی تمام مسائلهما، فیما کان هناک مهمان متلازمان فی الترتّب علی جملة من القضایا، لا یکاد انفکاکهما.

فإنّه یقال: مضافاً إلی بُعد ذلک، بل امتناعه عادة، لا یکاد یصحّ لذلک تدوین علمین وتسمیتهما باسمین، بل تدوین علم واحد، یبحث فیه تارة لکلا المهمّین، وأخری لأحدهما، وهذابخلاف التداخل فی بعض المسائل، فإنّ حسن تدوین علمین کانا مشترکین فی مسألة، أو أزید فی جملة مسائلهما المختلفة، لأجل مهمّین، ممّا لا یخفی.

وقد انقدح بما ذکرنا، أنّ تمایز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الداعیة إلی التدوین[1] لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلاّ کان کل باب، بل کلِّ مسألة من

الشَرح:

المسائل وتسمیتها باسم واحد ، وقد تقدّم أنّ هذا الغرض لیس واحدا شخصیا بل واحد عنوانی أو نوعی ذو حصص مختلفة.

تمایز العلوم

[1] وتقریره : لا ریب فی أنّ کل مسألة من مسائل العلم لها موضوع ومحمول یغایر موضوع الأُخری ومحمولها ، مثلاً مسألة ظهور صیغة إفعل فی الوجوب وعدمه ، وجواز اجتماع الأمر والنهی وعدمه ، وحجّیة خبر العدل وعدمها ، کلّها من مسائل علم الأُصول والموضوع والمحمول فی کلٍّ منها یغایر الموضوع والمحمول فی الأُخری ، وهذا الاختلاف بعینه موجود بین کل مسألتین من مسائل علمین ، مثلاً مسألة رفع الفاعل غیر مسألة ظهور صیغة الأمر فی الوجوب بحسب الموضوع والمحمول فیقع السؤال عن وجه کون مسألة رفع الفاعل ، من مسائل النحو وعدم کونه مسألة ظهور صیغة إفعل فی الوجوب ، منها .

ولا یصحّ الجواب ، بأنّ ذلک لاختلاف المسألتین بحسب الموضوع أو المحمول ، فإنّ لازمه کون کل مسألة من مسائل علم النحو علما علی حدة لأنّها

ص :13

کل علم، علماً علی حدة، کما هو واضح لمن کان له أدنی تأمّل، فلا یکون الإختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدّد، کما لا یکون وحدتهما سبباً لأن یکون من الواحد.

ثم إنّه ربما لا یکون لموضوع العلم _ وهو الکلّی المتّحد مع موضوعات المسائل _ عنوان خاص واسم مخصوص، فیصحّ أن یعبّر عنه بکل ما دلّ علیه، بداهة عدم دخل ذلک فی موضوعیته أصلاً.

الشَرح:

مختلفة کذلک .

بل الصحیح هو القول بأنّ جامع مسائل علم النحو هو الغرض الملحوظ لمدوّن العلم إبتداءً ، وحیث لم یکن ذلک الغرض مترتبا علی مسألة ظهور صیغة الأمر فی الوجوب ، فلم تجعل من مسائل علم النحو بخلاف مسألة رفع الفاعل، وقد ظهر أنّ المراد بالتمایز هو التمایز عند تدوین العلم وأمّا تمایز العلوم عند المتعلّم ، فله طرق متعدّدة.

وبالجملة کلّ مسألةٍ من مسائل العلم ، وإن کانت لها خصوصیة واقعیة ، تکون موجبة لترتّب ثمرة مخصوصة علیها إلاّ أنّ تلک الخصوصیة لا تکون موجبة لتمایزها عن مسائل العلم الآخر فی نظر المدوّن بل المایز لها عنده هو الغرض الداعی إلی التدوین .

هذا کلّه فیما کان المهم من مسائل العلم أمرا مترتبا علیها بأن یکون العلم بتلک المسائل موجبا لحصوله وفی مثل ذلک یکون المهم المزبور المعبّر عنه بغرض التدوین جامعا لمسائل العلم وممیّزا لها عن مسائل علم آخر . وأمّا إذا لم یکن المهم کذلک بل کان المهم نفس معرفة تلک القضایا ، کما فی علم التاریخ حیث إنّ المهم فیه معرفة أحوال الملل والبلاد وحوادثها فی الماضی والحاضر ، یکون امتیاز قضایاه

ص :14

وقد انقدح بذلک أنّ موضوع علم الأُصول هو الکلّی المنطبق علی موضوعات مسائله[1] المتشتّتة، لا خصوص الأدلّة الأربعة بما هی أدلّة، بل ولا بما هی هی، ضرورة أنّ البحث فی غیر واحد من مسائله المهمّة لیس من عوارضها، وهو واضح لو کان المراد بالسنّة منها هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقریره، کما

الشَرح:

عن قضایا غیره بالموضوع ولو کان ذلک الموضوع أمرا واحدا عنوانا وجامعا مشیرا إلی موضوعات قضایاه .

موضوع علم الأُصول

:

[1] لا ینفع ما ذکره قدس سره فی دفع الاشکال فی المقام فانه یرد حتی بناء علی ان موضوع علم الاصول ما ذکر. فإنّ البحث فی مسألة مقدمة الواجب مثلاً بحثٌ فی ثبوت الملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدمته ، وهذا بحث عن مفاد «کان» التامة ، وحیث إنّ موضوع علم الأُصول متّحد مع موضوعات مسائله خارجا یکون البحث المزبور بحثاً عن ثبوت الموضوع وعدمه ، ولیس هذا بحثاً عن العوارض فضلاً عن کونها ذاتیة.

ثمّ إنّهم جعلوا موضوع علم الأُصول الأدلّة الأربعة یعنی (الکتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والعقل).

وأورد الماتن علیهم بأنّ ذلک یوجب خروج مبحث حجّیة الخبر والتعارض بین الخبرین من المباحث الأصولیة ، حیث إنّ خبر الواحد غیر داخل فی السنة ، یعنی قول المعصوم وفعله وتقریره ، فلا یکون البحث عن عارض الخبر بحثاً عن عوارض السنّة .

وقد أُجیب عنه بأنّ المباحث المزبورة تدخل فی مسائل علم الأُصول بناءً علی أنّ المراد بالأدلّة ذواتها لا بما هی أدلّة ، لأنّ مرجع البحث عن حجّیة الخبر إلی

ص :15

هو المصطلح فیها، لوضوح عدم البحث فی کثیر من مباحثها المهمّة، کعمدة مباحث التعادل والترجیح، بل ومسألة حجّیة خبر الواحد، لا عنها ولا عن سائر الأدلّة، ورجوع البحث فیهما _ فی الحقیقة _ إلی البحث عن ثبوت السنّة بخبر الواحد، فی مسألة حجّیة الخبر _ کما أفید _ وبأی الخبرین فی باب التعارض، فإنّه أیضاً بحث فی الحقیقة عن حجّیة الخبر فی هذا الحال غیر مفید فإنّ البحث عن ثبوت الموضوع، وما هو مفاد کان التامّة، لیس بحثاً عن عوارضه، فإنّها مفاد کان النّاقصة.

لا یقال: هذا فی الثبوت الواقعی، وأمّا الثبوت التعبدی _ کما هو المهم فی هذه المباحث _ فهو فی الحقیقة یکون مفاد کان الناقصة.

الشَرح:

البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد ، أو ثبوتها بأیٍّ من الخبرین عند تعارضهما .

وقد ردّ الماتن قدس سره الجواب المزبور بأنّه غیر مفید ، فإنّ البحث عن ثبوت السنّة بالخبر أو بأحد المتعارضین بحث عن مفاد «کان» التامة أی بحث عن وجود السنّة به أو بأحدهما والبحث فی المسائل لابدّ أن یکون عن العارض لموضوع المسألة وما هو بمفاد «کان» الناقصة . هذا فی الثبوت الواقعی یعنی الحقیقی ، وأمّا الثبوت التعبدی بمعنی جعل الحجّة ، فهو وإن کان بحثاً عن العارض إلاّ أنّ الحجیّة لاتترتّب علی السنة بل علی الخبر الحاکی لها .

وبالجملة الثبوت الحقیقی لیس من العوارض ، والتعبدی بمعنی وجوب العمل به وإن کان من العوارض إلاّ أنّه عارض للخبر لا السنّة .

ولا یخفی أنه لم یظهر معنی معقول لثبوت السنة بالخبر ، بأن یکون الخبر علّة لقول المعصوم علیه السلام أو فعله أو تقریره ، فإنّ الخبر علی تقدیر صدقه ، یکون کاشفا وحاکیا عنها . ولو أُغمض عن ذلک فیمکن الجواب عن إشکال مفاد «کان» التامة بأنّ البحث عن معلولیة السنّة للخبر بحث عن العارض وما هو مفاد کان الناقصة .

ص :16

فإنّه یقال: نعم، لکنّه ممّا لا یعرض السنّة، بل الخبر الحاکی لها، فإنّ الثبوت التعبدی یرجع إلی وجوب العمل علی طبق الخبر کالسنّة المحکیة به، وهذا من عوارضه لا عوارضها، کما لا یخفی.

وبالجملة: الثبوت الواقعی لیس من العوارض، والتعبدی و إن کان منها، إلاّ أنّه لیس للسنّة، بل للخبر، فتأمّل جیّداً.

الشَرح:

نعم ، لا ینبغی التأمّل فی أنّ البحث عن البراءة العقلیة أو الاحتیاط العقلی فی الشبهة الحکمیة بحثٌ عن ثبوت الموضوع وهو حکم العقل .

وأمّا ما ذکره قدس سره من أمر الثبوت التعبدی ، فهو عارض للسنّة أیضاً فإنّ الثبوت التعبدی عند الماتن قدس سره لیس إیجاب العمل بالخبر علی ما ذکره فی بحث اعتبار الخبر وغیره ، بل معناه تنزیل قول المخبر منزلة الواقع، یعنی قول المعصوم وفعله وتقریره(1) ، وهذا التنزیل سنخ من الحکم یضاف إلی المنزل (أی خبر العدل) ، وإلی المنزَّل علیه (أی السنّة) ، وکما یمکن البحث فی مسألة اعتبار الخبر أن یقع فی أنّ قول المخبر العدل هل نُزّل منزلة السنّة ؟ فیکون البحث من عوارض الخبر الحاکی لها ، کذلک یمکن أن یقع البحث فی أنّ السنة هل نزل علیها خبر العدل ؟ فیکون البحث من عوارض السنّة .

نعم المعیار فی کون المسألة من مسائل العلم ، هو عنوانها المذکور فی مسائله لا ما هو لازم ذلک العنوان ، وإلاّ کانت المسألة الأُصولیة فقهیة ، والمسألة الفقهیة کلامیة ، فإنّ مرجع البحث عن ثبوت الملازمة بین الإیجابین إلی وجوب الوضوء ونحوه عند وجوب الصلاة ، ومرجع البحث عن تعلّق التکلیف الإلزامی بفعل إلی

ص :17


1- (1) الکفایة : ص279 .

وأمّا إذا کان المراد من السنّة ما یعمّ حکایتها، فلأنّ البحث فی تلک المباحث وإن کان عن أحوال السنّة بهذا المعنی، إلاّ أنّ البحث عن غیر واحد من مسائلها کمباحث الألفاظ وجملة من غیرها، لا یخصّ الأدلّة، بل یعمّ غیرها، وإن کان المهم معرفة أحوال خصوصها، کما لا یخفی] 1].

ویؤیّد ذلک تعریف الأُصول] 2] بأنّه (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحکام الشّرعیة).

الشَرح:

البحث عن إیجاب المخالفة لاستحقاق العقاب ، وإلی غیر ذلک .

[1] لا یخفی أنّ البحث عن ظهور صیغة إفعل فی الوجوب ، مثلاً یکون بحثا عن العارض الغریب للکتاب والسنّة بناءً علی ما ذکروه من أنّ ما یکون عروضه بواسطة أعم فهو عرض غریب ، وأمّا بناءً علی ما ذکره رحمه الله فی العارض الغریب فالبحث المزبور بحث عن العوارض الذاتیّة للکتاب والسنّة ، فالإشکال به علیهم مبنیّ علی مسلکهم حیث یکون نظیر بحث الملازمة بین الإیجابین فی عدم اختصاصه بالواجبات الشرعیّة ، وإن کان المهم معرفة حالها .

[2] ووجه التأیید أنّ مقتضی تعریفهم کون کلّ قاعدة ممهدة لاستنباط الحکم الشرعیّ مسألة أُصولیة ولو لم یکن المحمول فیها من العارض الذاتی للأدلّة الأربعة .

ص :18

وإن کان الأولی تعریفه[1] بأنّه (صناعة یعرف بها القواعد التی یمکن أن تقع فی طریق استنباط الأحکام، أو التی ینتهی إلیها فی مقام العمل)، بناءً علی أنّ

الشَرح:

تعریف علم الأُصول

:

[1] ووجه العدول خروج أمرین عن التعریف المزبور :

أحدهما: مسألة حجیة الظن علی الحکومة ، فإنّ حجیّته علی المسلک المزبور لا تکون موجبة لاستنباط حکم شرعی منها ، وذلک لکون الحجیة بناءً علیها عبارة عن استقلال العقل بکفایة الاطاعة الظنیّة للتکالیف الواقعیة ، وأنّه یقبح من الشارع مطالبة العباد بأزید منها ، کما أنه لا یجوز للمکلّف الاقتصار علی ما دونها من الطاعة الاحتمالیّة والوهمیّة . وهذا الحکم من العقل ، کحکمه بلزوم الاطاعة العلمیّة حال الانفتاح لا یکون مستتبعا لحکمٍ شرعیٍّ مولویٍّ ، کما یأتی بیانه فی باب الانسداد .

ثانیهما: خروج مباحث الأُصول العملیة الجاریة فی الشبهات الحکمیة من النقلیة والعقلیة ، فهی مع کونها من المسائل الأُصولیة لا تکون إلاّ وظائف عملیة بلا استنباط حکم شرعی واقعی منها بل تطبّق فی الفقه ، بتعیین مواردها ، علی صغریاتها .

وقوله قدس سره (1) : «بناءً علی أنّ مسألة حجیة الظن... إلخ» مفاده : أنّ أولویة العدول مبنیة علی کون الأمرین من المباحث الاصولیة کما هو کذلک ، حیث لا وجه للالتزام بالاستطراد فی مثلهما من المهمات . وبما أنّ التعاریف المذکورة للعلوم من قبیل شرح اللفظ لأنّ وحدتها اعتباریة علی ما تقدم من کون کل علم جملة من القضایا المتشتة التی اعتبرت الوحدة لها باعتبار دخلها فی الغرض ، فذکر قدس سره أولویة العدول

ص :19


1- (1) کفایة الأصول : ص9 .

مسألة حجّیة الظنّ علی الحکومة، ومسائل الأصول العملیة فی الشبهات الحکمیة من الأصول، کما هو کذلک، ضرورة أنّه لا وجه لالتزام الاستطراد فی مثل هذه المهمّات.

الشَرح:

لا تعیّنه، وجعل التعریف السابق مؤیدا لا دلیلاً ، حیث لا یعتبر فی هذه التعاریف الإطّراد والإنعکاس.

ولا یخفی أنّ المراد بالقواعد فی تعریف علم الأُصول نتائج المباحث الأُصولیة ، وأمّا الصناعة فهی نفس مباحثها ، فیکون حاصل تعریفه : أنّ علم الأُصول مباحث ، تعرف بها القواعد التی یمکن وقوعها فی طریق استنباط الأحکام الشرعیة الکلیّة أو التّی ینتهی إلیها الأمر فی مقام العمل ، أی بعد الیأس عن الظفر بالدلیل علی الحکم الواقعی .

ولکن یرد علیه أنّ إضافة «أو التی ینتهی... إلخ» غیر مفیدٍ ، فإنّ استنباط الحکم الشرعی الفرعی ، بناءً علی ما اختاره قدس سره من أنّ المجعول فی الأمارات هو الحجیة لها ، أی المنجزیّة والمعذریّة ، یعمّ انکشاف حال الحکم الواقعی من حیث التنجز وعدمه ، ولا ینحصر بالعلم بنفس الحکم الواقعی ، وعلیه فلا فرق بین الأمارات المعتبرة والأُصول العملیة فی أن_ّه یعیّن بهما حال الحکم الواقعی من حیث تنجزّه علی تقدیر الإصابة وعدمه . نعم یکون تعیینه بالأُصول العملیة فی طول التعیین بالأمارة وهذا لا یکون فارقا فإنّ بعض الأمارات أیضاً یکون اعتبارها فی طول بعضها الآخر ، کخبر العدل ، فإنّه وإن کان معتبرا إلاّ أنّه لا اعتبار به فی مقابل الکتاب الدال علی خلافه .

فالصحیح أن یقال فی تعریفه : إنّه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحکم الشرعی الکلی الفرعی أو حاله من حیث التنجیز والتعذیر. ومن البدیهی أن_ّه یعتبر

ص :20

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فی الإستنباط تغایر الحکم المستنبَط والمستنبَط منه ، إمّا بأن لا یکون المستنبط منه حکما شرعیا ولکن یستخرج منه حکم شرعی فرعی ، کقاعدة الملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدمته التی یستخرج منها وجوب الوضوء والغسل وتطهیر الثوب أو البدن عند وجوب الصلاة فی قیاس استثنائی فیقال مثلاً :

کلما کانت الصلاة واجبة ، کان الوضوء الذی هو مقدمة للصلاة واجباً أیضاً .

لکن الصلاة واجبة .

فالوضوء واجب .

وإمّا بأن یکون المستنبط منه حکما شرعیا طریقیّا یحرز به تارة نفس الحکم الشرعی العملی وأُخری حال الحکم الشرعی الفرعی لا نفسه .

فالأوّل کحجیة خبر الثقة بناءً علی کون مفاد أدلّة الإعتبار جعل الخبر علما تعبدیا فیقال مثلاً: العصیر العنبی بعد الغلیان مما قام خبر الثقة علی حرمته .

وکلّ ما قام خبر الثقة علی حرمته فهو معلوم الحرمة .

فینتج : أنّ العصیر العنبی بعد الغلیان مما علم حرمته ، وبعد إحراز الحرمة یفتی الفقیه بحرمة العصیر العنبی بالغلیان .

والثانی کحجیة خبر الثقة بناءً علی کون مفاد أدلة الإعتبار جعل المنجزیّة والمعذریّة ، أو جعل المؤدّی (أی جعل الحکم الطریقی علی طبق مؤدیاتها) وکمباحث الأُصول العملیة ، فالحکم الشرعی العملی لا یستنتج منها بل یستنتج من هذه المباحث حاله من المنجزیّة والمعذریة .

ص :21

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

القواعد الفقهیة

:

و کیف ما کان فقد ظهر مما ذکرنا خروج القواعد الفقهیة التی لا یستنبط منها نفس الحکم الشرعی الکلّی من حیث تنجزه وعدمه عن مسائل علم الأُصول ، فإنّ تلک القواعد بأنفسها أحکام شرعیة عملیة تکلیفیّة کانت أم وضعیّة ، وضمّها إلی صغریاتها من قبیل تطبیق الکبری الشرعیة العملیة علی صغراها ، لا من الإستنباط .

وتوضیح ذلک : أنّ القواعد الفقهیة علی قسمین :

الأوّل: ما یکون مدلولها حکما فرعیا ثابتا لعنوان تندرج تحته الجزئیات الخارجیة فقط ، کما فی نجاسة الخمر وحرمة شربه ، ولا مورد لتوهّم النقض فی هذا القسم ، حیث لا یثبت بضمّها إلی صغراها إلاّ الحکم الجزئی الفرعی لا الکلّی .

الثانی: ما یکون مدلولها حکما شرعیا ثابتا لعنوان تندرج تحته العناوین الکلیة ، کقاعدة «ما یضمن وما لا یضمن» فإنّ موضوعها العقد ، ویندرج تحته البیع والإجارة والقرض والمصالحة وغیر ذلک من أنواع العقود ، فتکون النتیجة فی هذا القسم بعد تطبیقها علی صغریاتها ثبوت الحکم الکلی ، ولکن هذا من باب التطبیق لا الإستنباط فإنّ الملازمة علی تقدیر ثبوتها ، شرعیة بمعنی أنّ الشارع قد أخذ فی موضوع حکمه بالضمان فی العقد الفاسد ، ثبوت الضمان فی صحیحه ، نظیر الملازمة بین وجوب القصر علی المسافر ووجوب الإفطار ، فإنّ مرجعها إلی أنّ الشارع قد جعل السفر الموضوع لوجوب القصر موضوعا لوجوب الإفطار أیضاً ، إلاّ ما استثنی ، وهذا بخلاف الملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدمته ، فإنّها أمر واقعی قد کشف عنه العقل أو هی بنفسها حکم العقل ، ولذا یکون القول بها مصححاً لاستنباط حکم

ص :22

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

شرعی کلّی بقیاس استثنائی علی ما تقدم ، أو قیاس حملی تکون نتیجته الملازمة بین الأمر بالصلاة فی أوقاتها والأمر بمقدماتها .

والحاصل ، تمتاز القاعدة الفقهیة عن القاعدة الأصولیة بأنّ مفاد القاعدة الأصولیة إما أن لا یکون حکما شرعیا ولکن ینتقل منه إلی حکم شرعی کلّی ، أو یکون مفادها حکما شرعیا طریقیا ، ولکن تارةً یحرز به حکم شرعی کلی واقعی بأن تکون نتیجة قیاس الإستنباط العلم بذلک الحکم لا نفس الحکم فیتم بذلک موضوع جواز الإفتاء کما فی موارد الأمارات المعتبرة ، وأُخری یحرز به حال الحکم الکلّی الواقعی من حیث التنجّز وعدمه کما فی موارد الأصول العملیة الجاریة فی الشبهات الحکمیة.

بخلاف القاعدة الفقهیة فإنّ مفادها بنفسه حکم شرعی عملی کلّی لعنوان یکون تحته جزئیات حقیقیة أو إضافیة وتکون قیاساتها من قبیل تطبیق الکبری علی صغریاتها ونتیجتها ثبوت نفس ذلک الحکم فیها ، وإذا کان مفاد القاعدة حکما طریقیا فیحرز به حال الحکم الجزئی من حیث التنجز وعدمه ، کالأصول العملیة الجاریة فی الشبهات الموضوعیة وغیرها من القواعد المجعولة عند الشک فی الموضوع .

ومما ذکر یظهر أنّ قاعدة «لا حرج» أو «لا ضرر» قاعدة فقهیة تطبّق علی صغریاتها ویکون مفادها ثبوت نفس الحکم الشرعی أو عدمه ، ولا یکون مفادها مما یستنبط منه الحکم الشرعی نفسه أو حاله من حیث التنجز وعدمه .

نعم قاعدة الطهارة الجاریة فی الشبهات الحکمیة قاعدة أُصولیة ، إذ یحرز بها حال الحکم الشرعی الواقعی الکلی من حیث التنجز وعدمه ، وإنّما لم یبحث عنها

ص :23

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فی الأُصول لعدم الخلاف فیها ولاختصاصها بباب الطهارة ، فتذکر فی الفقه استطرادا بمناسبة الکلام فی قاعده الطهارة الجاریة فی الشبهات الموضوعیة .

ومما ذکرنا یظهر ضعف ما عن المحقق النائینی قدس سره فی الفرق بین القاعدة الأُصولیة والقاعدة الفقهیة من أنّ الأُولی لا تنفع العامی؛ لعدم تمکّنه من تشخیص صغراها، بخلاف الثانیة فإنّها تنفعه فیما إذا أُلقیت إلیه لتمکّنه من معرفة صغریاتها(1) .

ووجه الضعف ؛ أنّ الفرق غیر جارٍ فی القسم الثانی من القواعد الفقهیة ، فإنّ العامی لا یتمکّن من تشخیص صغریاتها کما فی قاعدة «الشرط جائز ما لم یکن محلّلاً للحرام أو محرّما للحلال» و«الصلح جائز بین المسلمین ما لم یخالف الکتاب والسنّة» إلی غیر ذلک .

الضابطة فی المسألة الأُصولیة

:

ثمّ إنّه یقع الکلام فی المراد بالاستنباط من القاعدة الأُصولیة ، هل هو الاستنباط بلا ضمّها إلی قاعدة أُخری من قواعد الأُصول أو المراد به الاستنباط ولو بضمّها إلیها ، فإن کان المراد هو الأوّل فمن الظاهر أنّ المسائل الأُصولیة لیست کذلک ، وإن کان المراد هو الثانی دخل فی المسائل الأُصولیة ، مسائل علم الرجال أیضاً .

ذهب سیدنا الأستاذ قدس سره إلی الأول ولکن لا بنحو کلّی ، فذهب إلی أنّ القاعدة الأُصولیة هی التی یکون ضم صغراها إلیها کافیا فی استنباط الحکم الفرعی الکلی ولو فی موردٍ واحد ، بخلاف القواعد فی سائر العلوم فإنّها لا تکون کذلک ، بل

ص :24


1- (1) فوائد الأُصول : 4 / 309؛ أجود التقریرات : 2 / 345 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

دائماً تحتاج إلی قاعدة أصولیة لاستنباط الحکم الشرعی منها، فمثلاً مسألة «ظهور صیغة الأمر فی الوجوب» مسألة أُصولیة وإذا أُحرز الأمر بفعل بصیغته فی الکتاب المجید أو السنّة القطعیّة یستنبط منه وجوب ذلک الفعل .

لایقال : لابدّ فی الحکم بوجوب ذلک الفعل من ضمّ کبری حجیة الظواهر .

فإنّه یقال : إنّ المسألة الأُصولیة هی التی لا تحتاج لاستنباط الحکم الشرعی منها إلی ضمّ قاعدة أُخری من قواعد الأُصول إلیها ، لا أنها لا تحتاج إلی ضمّ مقدمة أُخری أصلاً ، وحجّیة الظواهر من المسلمات التی لم یقع الخلاف فیها ، وباعتبار ذلک لم تجعل من مسائل علم الأُصول ، وإن وقع الخلاف فیها فی موارد ، کحجیة ظواهر الکتاب المجید ، أو حجیة الظاهر مع الظن بالخلاف ، وحجیة الظهور لغیر من قصد إفهامه .

والحاصل أنّ استنباط الحکم من قاعدة ظهور صیغة الأمر فی الوجوب وإن کان یحتاج إلی مقدمةٍ أُخری إلاّ أنّ تلک المقدمة لیست من مسائل علم الأُصول ولا من مسائل سائر العلوم ، وهذا بخلاف مسائل سائر العلوم ، فإنّه یحتاج لاستنباط الحکم منها إلی ضمّ قاعدةٍ أُصولیة لا محالة .

ثمّ أردف هذا القائل الجلیل قدس سره أن_ّه لا یلزم أن تکون نتیجة المسألة الأُصولیة علی کل تقدیر کذلک ، بل یکفی فی کون المسألة أُصولیة کون نتیجتها کذلک ، ولو علی بعض التقادیر . مثلاً مسألة «إقتضاء الأمر بشیء للنهی عن ضدّه الخاصّ» وإن کانت لا تکفی بمجردها للاستنباط علی تقدیر القول بالاقتضاء ، بل نحتاج لاستنباط الحکم منها إلی ضمّ مسألة أُصولیة أُخری هی «اقتضاء النهی عن عبادة ، ولو کان

ص :25

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

غیریا فسادها» إلاّ أنّه علی القول بعدم إقتضاء الأمر بشی ء النهی عن ضده الخاص یستنبط منها بضمّ صغراها صحة العبادة المضادة للواجب ، کالصلاة فی أوّل الوقت مع وجوب إزالة النجاسة عن المسجد .

لایقال : نفس ثبوت الحرمة الغیریة للضد الواجب وعدم ثبوتها له حکم شرعی یستنبط من نفس مسألة «اقتضاء الأمر بشیء النهی عن ضدّه» فکیف لا تکون المسألة کافیة فی الاستنباط ؟

فإنّه یقال : نفس الحرمة الغیریة لشیء لا یعدّ أثرا عملیا ولا تکون المسألة _ بهذا الإعتبار _ مسألة أُصولیة ، کما یأتی توضیحه فی بحث مقدمة الواجب(1) .

أقول : الصحیح أنّه لا یستنبط من مسألة «اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه» بمجرّدها الحکم الفرعی العملی ، سواءٌ التزم فیها بالاقتضاء أو عدمه . فإنّه حتّی علی القول بعدم الاقتضاء نحتاج _ لتصحیح العبادة المضادة _ إلی ضمّ قاعدة أُصولیة أُخری هی قاعدة جواز الترتّب (أی جواز الأمر بالمتضادّین ترتّباً)، أو قاعدة عدم التزاحم بین الواجب الموسّع والمضیَّق، أو قاعدة کشف الملاک الإلزامی فی الفرد العبادی المضاد من إطلاق المتعلّق فی خطاب التکلیف، کما ذکروا تفصیل ذلک فی بحث الضدّ.

ثمّ إنّه قد تکون مسألة من سائر العلوم بنفسها کافیة فی الاستنباط بضمّ صغراها إلیها ، ولو فی بعض الموارد ، کبعض مسائل علم اللغة التی یستفاد منها معنی الوجوب والحرمة والکراهة أو معنی النجس والطاهر ، مما یدلّ علی الحکم تکلیفا أو

ص :26


1- (1) المحاضرات : 1 / 12 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وضعا ، فإنّه إذا وقعت هذه الألفاظ فی الکتاب أو فی الخبر المحفوف بقرینة موجبة للقطع بصدوره وجهته ، استنبط منه الحکم بلا ضمّ مقدمة أُصولیة أُخری.

والحاصل : یتعیّن أن یراد بالاستنباط من القواعد الأُصولیة ما هو الأعمّ من الاستنباط بضمّ قاعدة أُخری من مسائله (حتّی فی جمیع الموارد).

وإنما لم تُجعل مسائل علم الرجال وبعض مسائل علم اللغة من علم الأُصول ، باعتبار وضوحها أو باعتبار معلومیتها فی علمٍ آخر .

نعم المباحث التی تذکر فی کتب الأُصول ولکن لاتکون واسطة فی استنباط نفس الحکم بل یحرز بها الموضوع أو المتعلّق للحکم ، کمباحث المشتق والحقیقة الشرعیة والصحیح والأعم ونحوها ، لا تدخل فی مسائل علم الأُصول ، بل تعتبر من المبادئ التصوریة لعلم الفقه ، بخلاف المسائل الأُصولیة فإنّها من المبادئ التصدیقیّة لعلم الفقه . ولذا ینبغی تقسیم المسائل الأُصولیة إلی أربعة أقسام :

الأوّل: مباحث الدلالات اللّفظیة علی الأحکام وتعیین الظهورات فیها .

الثانی: مباحث الاستلزامات العقلیة ، ولو کانت غیر مستقلّة ، کبحث الملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدمته .

الثالث: مباحث الحجج الاعتباریة والأمارات .

الرابع: مباحث الأُصول العملیة .

ص :27

ص :28

الأمر الثانی

الوضع هو نحو اختصاص للّفظ بالمعنی [1]

الشَرح:

حقیقة الوضع

:

[1] مراده قدس سره ؛ إن اللّفظ یتصّف بکونه موضوعا فیما إذا عیّن بإزاء معنی لتفهیمه بذلک اللفظ فی مقام التخاطب ، ویتصّف أیضاً بکونه موضوعا فیما إذا تکرّر استعماله فی معنی بنصب القرینة ورعایة العلاقة إلی حدّ لا یحتاج تفهیم ذلک المعنی به إلی نصب القرینة بل یکون المعنی الأوّل مهجورا عن الأذهان وینسبق إلیها المعنی الثانی عند الإطلاق . واتّصاف اللّفظ بکونه موضوعا فی الصورتین یکشف عن کون الوضع فی الألفاظ أمرا یحصل بالتعیین تارةً ، وبکثرة الاستعمال أُخری ، وذلک الأمر نحو علقة وارتباط بین اللفظ والمعنی یحصل بأحد الأمرین ، وعلی ذلک فما ذکر من أنّ الوضع عبارة عن «تعیین اللفظ بازاء المعنی» غیر سدید ، فإنّه بهذا التعریف غیر قابل للتقسیم إلی التعیینی والتعیّنی .

أقول : الوضع هو تعیین اللفظ بإزاء معنی ، سواء کان إبتدائیا أو مسبوقا بالاستعمال المجازی ، إذ فی الوضع التعیّنی تلغی العنایة ولحاظ العلاقة فی الاستعمال ولو بعد شیوع ذلک الاستعمال لا محالة ، وفی أیّ زمان فرض إلغائها یحصل التعیین . وبتعبیرٍ آخر : کما یحصل التعیین بإنشائه ، کذلک یحصل بالاستعمال ، کما صرّح بذلک قدس سره فی أوائل البحث فی الحقیقة الشرعیة ، فیکون إلغاء العنایة فی الاستعمال بعد تکرّره من التعیین .

وأمّا ما ذکره قدس سره فی حقیقة الوضع من کونه نحو اختصاص وارتباط مخصوص بین اللفظ والمعنی ، فإن أراد قدس سره من الارتباط والاختصاص أُنس الأذهان من لفظ خاصّ ، بمعنی مخصوص ، بحیث ینتقل الذهن عند سماعه إلی ذلک المعنی فهذا

ص :29

وارتباط خاصّ بینهما، ناش من تخصیصه به تارة، ومن کثرة استعماله فیه أخری، وبهذا المعنی صحّ تقسیمه إلی التعیینی والتعیّنی، کما لا یخفی.

الشَرح:

الارتباط صحیح ، إلاّ أن_ّه معلول للعلم بالوضع فیکون الوضع غیر الارتباط المفروض . وإن أراد من الاختصاص أمرا آخر فلا نعرفه .

وقد یقال فی المقام کما عن المحقق الأصفهانی قدس سره : إن الارتباط بین اللفظ والمعنی مما یلازم الوضع ولیس عینه ، بل الوضع أمر اعتباری یشبه وضع العَلَم علی الأرض أو الحجر علی الحجر لغرضٍ ما ، غایة الأمر الوضع فی المثالین حقیقی ، یندرج تحت مقولة الوضع وفی اللفظ اعتباری لا یندرج تحت أیّ مقولة ، فلا یکون مما بازاءه شیء فی الخارج ، ولا ممّا له منشأ انتزاع خارجی .

ویشهد لذلک أنّ الارتباط حاصلٌ بین طبیعیّ اللفظ وطبیعیّ المعنی ، ولو مع الإغماض عن وجود اللّفظ خارجا أو ذهنا ، بحیث لو لم یتلفّظ أحد بلفظ الماء مثلاً ولم یوجد معناه فی ذهن أحد ، لکان الارتباط بین لفظه ومعناه موجوداً ، ومن ذلک یظهر أنّ الوضع لیس من الأُمور الاعتباریة الذهنیة نظیر الکلیّة والجزئیّة والنوعیة والجنسیّة ، لأن_ّه لو کان کذلک لاحتاج إلی لحاظ اللّفظ ولکان المعروض ذهنیاً مع أنّ الإختصاص الوضعی حاصل لطبیعی اللّفظ لا بما هو موجود ذهناً ولا بما هو موجود خارجاً .

ودعوی أنّ قول الواضع : (وضعت هذا اللّفظ) منشأً لانتزاع الوضع فیکون من الأُمور الانتزاعیة _ نظیر ما یقال من أنّ قول البائع : (بعت المال) منشأً لانتزاع الملکیة ، فتوجد الملکیة بمنشأ الانتزاع _ لا یمکن المساعدة علیها ، فإنّ الأمر الانتزاعی من منشأ یحمل العنوان الإشتقاقی المأخوذ منه ، علی منشئه مع أنّ العنوان الاشتقاق من الملکیة والوضع لا یحمل علی صیغة بعتُ ولا علی صیغة وضعتُ .

ویشهد أیضاً لعدم کون اختصاص اللّفظ بالمعنی ، معنی مقولیا ، اختلاف أنظار

ص :30

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الأقوام والطوائف فی ارتباط لفظ بمعنی ، فیری قومٌ ارتباط لفظ بمعنیً ، ویری آخرون ارتباطه بمعنیً آخر(1) .

أقول : ما ذکره قدس سره _ من کون الوضع بنفسه أمرا اعتباریا لا یندرج تحت مقولة _ صحیح ، والشاهد علی ذلک إمکان إلغائه ، ولو کان أمرا حقیقیا لما کان یقبل الإلغاء ، إلاّ أنّ ما ذکره قدس سره من کونه أمرا اعتباریا مسانخا للوضع الخارجی _ کما ذکره _ مما لایمکن المساعدة علیه ؛ إذ اللّفظ وإن کان یتّصف بأنّه موضوع ، والمعنی لایصحّ اتّصافه بالموضوع علیه ، وإنّما یتّصف بالموضوع له ، ولو کان وضع اللفظ أمرا اعتباریا من سنخ الوضع الخارجی لصحَّ اتّصاف اللفظ بالموضوع علیه .

کما أنّ ما ذکره قدس سره من أنّ الإرتباط والإختصاص لازم الوضع لایمکن المساعدة علیه أیضا ؛ وذلک لأنّ هذا الإرتباط والإختصاص إنّما هو أُنس الذهن بالمعنی من اللفظ ، بحیث ینسبق المعنی إلی الذهن عند سماع اللفظ ، وهذا الأُنس یحصل من العلم بالوضع أو تکرار الإستعمال ، لا من مجرّد الوضع وإن أُرید من الإرتباط والإختصاص معنیً آخر ، فلا نعرفه .

وعن المحقق الایروانی قدس سره أنّ حقیقة الوضع فی الألفاظ عبارة عن تنزیل اللفظ منزلة المعنی وجعله عینه ادّعاءً ، وهذه العینیّة الادعائیّة یصحّحها ترتّب غرض التفهیم والتفهم علیها ، وهذا الغرض المهمّ کافٍ فی تصحیح الادّعاء فإنّه بابٌ واسع . وذکر قبل ذلک أنّ دلالة الألفاظ علی المعانی ذاتیة ، ولا یحتاج فی أصل دلالتها إلی الوضع ، وإنّما یحتاج إلی الوضع فی تعیین المعنی وتمییز المراد من

ص :31


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 44 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

المعانی من غیر المراد منها ، ویشهد لذلک صحّة استعمال اللفظ وحصول دلالته علی نوعه أو مثله حتّی لو کان اللفظ مهملاً غیر موضوع لمعنیً(1) .

أقول : لم یظهر وجه الاستشهاد ، فإنّه عند إرادة النوع أو المثل لابدّ من وجود قرینة یکون اللّفظ بها دالاًّ علی إرادة نوعه أو مثله ، وإن کانت تلک القرینة المحمول المذکور فی الکلام ، کما فی قوله : (ضرب فعل ماضٍ) .

هذا مع الإغماض عمّا یأتی من عدم کون إرادة مثل اللّفظ أو نوعه أو شخصه من استعمال اللفظ فی المعنی .

وأمّا ما ذکره قدس سره من کون حقیقة الوضع هو الإدّعاء ، بأنّ هذا اللفظ عین ذلک المعنی ، فیکذّبه الوجدان عند ملاحظة الوضع فی الأعلام الشخصیة ، فإنّ حقیقته لاتختلف عن الوضع فی سائر الألفاظ ، مع أنّه لا تنزیل ولا ادّعاء فی وضعها قطعا ، فإنّ قول الوالد : (سمیت ولدی محمّدا) لیس مفاده جعلته عین لفظ «محمّد» أو أنّ صورته عین ذلک اللّفظ ، ویوضّح ذلک کمال الوضوح ، ملاحظة أسماء ذات الحق «جلّ وعلا» .

وأمّا دعوی(2) کون أصل الدلالة فی الألفاظ ذاتیة ، بتقریب أن_ّه لو سمع شخص کلاما وکان جاهلاً بوضع ألفاظه ، علم أنّ المتکلّم أراد معنیً ما ، فیردّها أنّ علم السامع بذلک لیس ناشئا من دلالة الألفاظ ذاتا ، بل من ظهور حال المتکلم العاقل بأن_ّه لا یفعل شیئا بلا غرض ، والغرض من الکلام عادةً إرادة المعانی .

ص :32


1- (1) نهایة النهایة : 1 / 7 .
2- (2) الدعوی منسوبة إلی عبّاد بن سلیمان الصیمری ، قوانین الأُصول : 1 / 194؛ والمحصول : 1 / 57 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وأمّا الإلتزام بأنّ دلالة الألفاظ لیست بذاتیة محضة بل بها وبالوضع معا _ کما عن المحقق النائینی قدس سره _ ، بدعوی أنّ کل لفظ یناسب معنی واقعا وتلک المناسبة مجهولة عندنا ، واللّه (تبارک وتعالی) عیّن کلّ لفظ لمعناه المناسب له وألهمنا بالتکلّم بذلک اللّفظ عند إرادة ذلک المعنی ، فیکون الوضع فی الألفاظ أمرا متوسطاً بین الأحکام الشرعیة التی یحتاج إبلاغها إلی الأنام إلی إرسال الرسل وإنزال الکتب ، وبین الأُمور الجبلّیّة التی جُبل الإنسان علی إدراکها من الأُمور التکوینیة کالعطش والجوع عند احتیاج البدن إلی الماء والغذاء ، ولو کانت دلالة الألفاظ ذاتیة محضة بلاتوسیط وضع لما جهل أحدٌ معنی لفظٍ ، ولو عند قوم آخرین ، واحتمال أنّ الواضع هو الإنسان غیر صحیح ؛ لأنّا نقطع بحسب التواریخ التی بأیدینا أن_ّه لم یکن شخص أو أشخاص وضعوا الألفاظ فی لغةٍ ، فضلاً عن سائر اللغات .

ومما یؤکّد ذلک أنّ جماعة لو أرادوا وضع ألفاظ جدیدة فی لغةٍ بقدر الألفاظ التی فی تلک اللّغة لما قدروا علیه ؛ لکثرة المعانی وتعذّر تصوّرها من قبل أشخاص ، فضلاً عن شخصٍ واحد . فقد ظهر أنّ حقیقة الوضع هو تعیین اللفظ لمعنی بمقتضی مناسبة له وأنّ هذا التعیین من اللّه (عز وجل)(1) ، فغیر صحیح ؛ وذلک لأنّ دعوی المناسبة الواقعیّة بین کل لفظ ومعناه ، مما لم یشهد بها شاهد ، وما یقال من أنّ الوضع یستلزم الترجیح بلامرجح لولا مناسبة واقعیة ، غیر صحیحٍ ؛ لأنّ الغرض من الوضع _ وهو التسبیب إلی تفهیم المعانی والمرادات _ بنفسه کافٍ فی تعیین أیّ لفظ لأیّ معنی ، وعدم وجود اسم شخص أو أشخاص فی التواریخ التی بأیدینا لا تدلّ

ص :33


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 11 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

علی أنّ واضع الألفاظ هو اللّه سبحانه ، إذ یحتمل أن یکون أصل الوضع فی أیّ لغة قد حدث قبل التاریخ ، ثمّ کملت تلک اللغة علی مرّ العصور نتیجة تطوّر الأفکار وکثرة الحاجات ، کما نری بالوجدان أنّ المصنوعات والمخترعات الجدیدة تُوضع لها الأسماء من غیر أن یذکر فی التاریخ مَن سمّاها بها ، ومما ذکر یظهر الجواب عن تعذّر وضع أشخاص لغةً جدیدة ، فضلاً عن شخصٍ واحد .

وقد ذهب سیدنا الأستاذ قدس سره إلی أنّ وضع الألفاظ فی حقیقته تعهّد وقرار من مستعمل اللفظ بأنّه کلّما أتی به أراد تفهیم المعنی الفلانی ، ولا یفرّق فی ذلک بین أن یکون التعهّد والقرار إبتدائیا ، أو کان مسبوقا بالتعهد والاستعمال من الآخرین فیکون مستعمل الألفاظ مع ذلک التعهّد واضعا ، ولو کانت استعمالاته مسبوقة بالاستعمال من الآخرین ، فإنّ عدم إعراضه عن استعمال السابقین وإقرار اللفظ علی ما هو علیه إمضاءٌ للتعهّد والقرار ، فکلّ مستعمل واضع ، غایة الأمر السابق _ لسبقه فی التعهّد والاستعمال _ یطلق علیه الواضع ، وعلی ذلک فما یری من خطور المعنی إلی الذهن عند سماع اللفظ ولو من غیر شاعر فهو لیس من الدلالة الوضعیّة ، بل منشأه أُنس الأذهان لکثرة الاستعمال(1) .

ولکن لا یخفی أنّه لو کان الأمر کذلک لکان الأُنس حاصلاً بین اللفظ وإرادة تفهیم المعنی لا نفسه .

والصحیح أنّ الوضع فی الألفاظ عبارة عن جعلها علامات للمعانی ، والغرض من جعل العلامة تفهیمها بها ، فالمعنی هو الموضوع له ومسمّی اللّفظ ، لا أنّ إرادة

ص :34


1- (1) محاضرات فی أُصول الفقه : 1 / 45 .

ثمّ إنّ الملحوظ حال الوضع إمّا أن یکون معنی عامّا] 1]، فیوضع اللّفظ له تارة، ولأفراده ومصادیقه أخری، وإمّا یکون معنی خاصّاً، لا یکاد یصحّ إلاّ وضع اللفظ له دون العام، فتکون الأقسام ثلاثة، وذلک لأنّ العام یصلح لأن یکون آلة للحاظ أفراده ومصادیقه بما هو کذلک، فإنّه من وجوهها، ومعرفة وجه الشیء

الشَرح:

المعنی نفسها مسمّی اللّفظ ، ثمّ إنّ هذا التعیین وجعل اللفظ علامة للمعنی قد یکون إبتدائیا ، وقد یکون مسبوقا بالاستعمالات المتکررة بالعنایة وملاحظة العلاقة فیکون الوضع تعیّنیّاً .

أقسام الوضع

:

[1] حاصل ما ذکره قدس سره فی المقام : أنّ وضع اللفظ لمعنی یتوقّف علی لحاظ ذلک المعنی ، فإن کان المعنی الملحوظ عامّا یعنی کلیّا یکون فی ذلک العامّ جهتان ؛ الأولی : أن_ّه معنیً من المعانی ، وبهذا الاعتبار یکون وضع اللفظ له من الوضع العامّ والموضوع له العامّ . والثانیة وجهة کونه عنوانا لأفراده ووجوداته وصورة لها ، وبهذا الاعتبار یکون وضع اللّفظ من الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فإنّ الموضوع له فی الحقیقة وجوداته وأفراده غایة الأمر لم تلاحظ تلک الأفراد تفصیلاً بل إجمالاً ، یعنی بعنوانها وبالصورة المشترکة بینها .

وأمّا إذا کان المعنی الملحوظ جزئیا فبما أنّ لحاظه لیس إلاّ لحاظ نفسه لا غیره من سائر الأفراد ولا للصورة المشترکة بینها حیث إنّ الجزئی لا یکون صورة لغیره فیکون وضع اللّفظ له من الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ .

نعم إذا لوحظ الجزئی فربّما ینتقل الذهن إلی أنّ له کلیّا ویوضع اللفظ لذلک الکلّی ، فهذا أمر ممکن إلاّ أنّ الوضع فی هذا الفرض کالموضوع له عامّ ، فإنّه لوحظ

ص :35

معرفته بوجه، بخلاف الخاصّ، فإنّه بما هو خاصّ، لا یکون وجهاً للعام، ولا لسائر الأفراد، فلا یکون معرفته وتصوّره معرفة له، ولا لها _ أصلاً _ ولو بوجه.

نعم ربّما یوجب تصوّره تصوّر العام بنفسه، فیوضع له اللفظ، فیکون الوضع عامّاً، کما کان الموضوع له عامّاً، وهذا بخلاف ما فی الوضع العام والموضوع له الخاصّ، فإنّ الموضوع له _ وهی الأفراد _ لا یکون متصوّراً إلاّ بوجهه وعنوانه، الشَرح:

المعنی العامّ ثانیا ، بعد تصور الجزئی أوّلاً ، وفرق بین تصور الشیء بعنوانه وصورته المرآتیّة کما فی الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، وبین تصوّر الشیء بنفسه ولو بعد الانتقال إلیه من تصوّر شیء آخر کما فی حالة الانتقال إلی أنّ للجزئی کلیّا .

لا یقال: کون اللفظ موضوعا للجزئی أو استعماله فیه یلازم إدخال الخصوصیات الموجبة للجزئیة فی ذلک المعنی الموضوع له أو المستعمل فیه ، وتصور العامّ فی مقام الوضع أو الاستعمال لا یکون إلاّ تصوّرا لنفسه وهی الجهة المشترکة بین أفراده ومع حذف خصوصیات الأفراد فی الملحوظ لا یکون الموضوع له خاصا فلابدّ من جعل الموضوع له المعنونات بذلک العنوان بأن یلاحظ ما یکون إنسانا أو غیره بالحمل الشایع ویجعل الموضوع له هو المعنون ، لا العنوان ، وهذا فی الحقیقة انتقال إلی الجزئی ، و لحاظه إجمالاً بعد تصوّر العامّ ویجری ذلک فی الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ الذی ذکر قسما رابعا للوضع بأن یلاحظ الجزئی أوّلاً ویوضع اللفظ لما هو عنوان له ، وبالجملة یکون فی کلتا الصورتین تصور المعنی بنفسه ولو إجمالاً ، بعد تصور شیء آخر عامّ أو خاصّ .

فإنّه یقال : إنّ إمکان الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ إنّما هو باعتبار أنّ لحاظ معنی بخارجیّته کافٍ فی جزئیّته ، فإنّ المعنی الکلی یمکن تصوّره بحیث یکون لحاظا لتلک الوجودات العینیة ، حیث إنّ الکلی عینها خارجا ، کما یمکن ملاحظته بحیث

ص :36

وهو العام، وفرق واضح بین تصوّر الشیء بوجهه، وتصوّره بنفسه، ولو کان بسبب تصوّر أمر آخر.

ولعلّ خفاء ذلک علی بعض الأعلام، وعدم تمیّزه بینهما، کان موجباً لتوهّم إمکان ثبوت قسم رابع، وهو أن یکون الوضع خاصّاً، مع کون الموضوع له عامّاً، مع أنّه واضح لمن کان له أدنی تأمّل.

الشَرح:

یقبل الاتصاف بالوجود والعدم . فإن کان اللّفظ قد وضع له مع الإغماض عن العینیّات الخارجیّة ، بحیث یکون قابلاً للاتصاف بکل من الوجود والعدم ، کان الموضوع له کالوضع عامّا ، وإن کان اللفظ قد وضع له بلحاظ العینیّات الخارجیّة بحیث لا یقبل الاتصاف بالوجود والعدم بل یکون الأمر فیه نظیر ما فی الأعلام الشخصیة فی عدم اتصافها بالوجود والعدم کان الموضوع له خاصّا ، مثلاً ؛ فی العنقاء یصحّ أن یقال : إنّه معدوم ، ولا یصح أن یقال : زید معدوم ، بل یقال : إنّه غیر باق . والحاصل أنّ الطبیعیّ عین وجوداته خارجا ، فلحاظه بجهة خارجیّته کافٍ فی کون الموضوع له خاصا ، والمراد بجهة العینیّة واقعها لا مفهوم العینیّة فإنّ مفهومها هو عین مفهوم الوجود ، کما هو ظاهر .

ص :37

ثمّ إنّه لا ریب فی ثبوت الوضع الخاص والموضوع له الخاص کوضع الأعلام، وکذا الوضع العام والموضوع له العام، کوضع أسماء الأجناس وأمّا الوضع العام والموضوع له الخاص، فقد توهّم أنّه وضع الحروف، وما ألحق بها من الأسماء، کما توهّم أیضاً أنّ المستعمل فیه فیها خاصّ مع کون الموضوع له کالوضع عامّاً.

والتّحقیق _ حسبما یؤدّی إلیه النّظر الدقیق[1] _ أن حال المستعمل فیه والموضوع له فیها حالهما فی الأسماء، وذلک لأنّ الخصوصیة المتوهمة، إن کانت هی الموجبة لکون المعنی المتخّصص بها جزئیاً خارجیاً، فمن الواضح أنّ الشَرح:

المعنی الحرفی

[1] وبتعبیرٍ آخر إنّ مثل لفظ «من» ولفظ «الابتداء» موضوعان لمعنی واحد غایة الأمر ، ذلک المعنی یلاحظ تارةً بما هو هو فیستعمل فیه لفظ «الإبتداء» ، وأُخری یلاحظ آلیّاً فیستعمل فیه لفظ «من» ولیس المراد أنّ اللّحاظ الآلی أو الاستقلالی داخل فی المستعمل فیه ، بل هما نحوان من اللّحاظ یتعلّقان بنفس المعنی فی مقام الاستعمال ، ونفس ذلک المعنی _ الذی یتعلّق به اللّحاظ الآلی تارةً والاستقلالی أُخری _ هو الموضوع له والمستعمل فیه ، فیهما.

ویدلّ علی عدم کون معانی الحروف جزئیات بل کمعانی الأسماء کلیّات ؛ أنّ القائل بالجزئیة إن أراد الخصوصیة الخارجیّة الموجبة لکون المعنی جزئیا خارجیا ، فمن الظاهر أنّ تلک الخصوصیة غیر داخلة فی معانی الحروف ، فإنّه کثیرا ما یکون معنی لفظ «من» کلّیا یصدق علی کثیرین ، کما إذا وقع تلو الأمر أو النهی ، کقوله «سر من البصرة» ولذا إلتجأ بعض الفحول إلی جعله جزئیّاً إضافیا ، وهو کماتری ؛ لأنّ ما

ص :38

کثیراً ما لا یکون المستعمل فیه فیها کذلک بل کلّیاً، ولذا التجأ بعض الفحول إلی جعله جزئیاً إضافیاً، وهو کما تری. وإن کانت هی الموجبة لکونه جزئیاً ذهنیاً، حیث إنّه لا یکاد یکون المعنی حرفیاً، إلاّ إذا لوحظ حالة لمعنی آخر، ومن خصوصیاته القائمة به، ویکون حاله کحال العرض، فکما لا یکون فی الخارج إلاّ فی الموضوع، کذلک هو لا یکون فی الذهن إلا فی مفهوم آخر، ولذا قیل فی تعریفه: بأنّه ما دلّ علی معنی فی غیره، فالمعنی، وإن کان لا محالة یصیر جزئیاً بهذا اللحاظ، بحیث یباینه إذا لوحظ ثانیاً، کما لوحظ أولاً، ولو کان اللاحظ واحداً، إلاّ أن هذا اللحاظ لا یکاد یکون مأخوذاً فی المستعمل فیه، وإلاّ فلا بدّ من لحاظ آخر، متعلّق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ، بداهة أن تصوّر المستعمل فیه مما

الشَرح:

یوجب کونه جزئیّا إضافیا غیر داخل فی معناها بل هو مستفاد من دالٍّ آخر ، کمدخولها کما لا یخفی .

وإن أراد جزئیّة معانی الحروف باعتبار خصوصیّة ذهنیّة مأخوذة فیها ، موجبة لکونها جزئیات ذهنیّة ، بأن یکون الموضوع له نفس الوجود العرضی الذهنی ، بأن یقال : کما أنّ الموجود الخارجیّ قد یکون قائما بنفسه فیعبّر عنه بالجوهر وقد یکون قائما بالغیر فیعبّر عنه بالعرض ، کذلک الموجود الذهنی فإنّ المعنی قد یلاحظ بنفسه ، فیکون إسمیّا ، وقد یلاحظ آلیّا ، حالة لمعنی آخر (بأن یکون الموجود ذهنا بما هو ، المعنی الآخر) فیکون حرفیا ، وعلیه یکون معنی الحرف باعتبار أخذ واقع اللحاظ الآلی فیه وتقوّمه بمعنی آخر ، جزئیا ذهنیا.

ففیه : أن هذا اللّحاظ لا یمکن أخذه فی معانی الحروف بشهادة أُمور :

الأوّل: ما أشار إلیه بقوله قدس سره : «وإلاّ فلابدّ من لحاظٍ آخر» وتوضیحه : أنّه لو کان واقع اللّحاظ الآلی داخلاً فی معنی الحرف لزم تعدد اللّحاظ فی استعماله ، ضرورة

ص :39

لا بدّ منه فی إستعمال الألفاظ، وهو کماتری. مع أنه یلزم أن لا یصدق علی الخارجیات، لامتناع صدق الکلّی العقلی علیها، حیث لا موطن له إلاّ الذهن، فامتنع امتثال مثل (سر من البصرة) إلاّ بالتجرید و إلغاء الخصوصیة، هذا مع أنّه لیس لحاظ المعنی حالة لغیره فی الحروف إلاّ کلحاظه فی نفسه فی الأسماء، وکما لا یکون هذا اللحاظ معتبراً فی المستعمل فیه فیها، کذلک ذاک اللحاظ فی الحروف، کما لا یخفی.

الشَرح:

أنّ الاستعمال موقوف علی لحاظ المعنی وتصوّره ، وقد فرضنا واقع اللحاظ الآلی دخیلاً فی معنی الحرف ، فلابدّ من لحاظ الابتداء آلیا أوّلاً ، ثمّ لحاظ الملحوظ باللّحاظ الأوّل ، وهذا ممّا یکذّبه الوجدان .

أقول : توقّف الاستعمال علی لحاظ المستعمل فیه ، وإن کان صحیحا إلاّ أنّ لحاظ المستعمل فیه لیس إلاّ إحضاره فی أُفق النفس ، وإذا فُرض حضور المستعمل فیه عند النفس باللّحاظ الأوّل _ کما فی المعلوم بالذات _ فلا معنی لإحضاره فیها بلحاظٍ آخر وفی الجملة لو کان واقع اللّحاظ الآلی مأخوذا فی معانی الحروف لم یکن فی استعمالها حاجة إلی أزید من ذلک اللحاظ .

الثانی: ما ذکره قدس سره من أنّه لو کان اللّحاظ مأخوذا فی معانی الحروف لما صحّ أن تصدق معانیها علی الخارجیّات ؛ لأنّ الصدق علیها هو الانطباق علیها ، والانطباق هو العینیّة ، والمعنی المرکب والمقید باللحاظ أمر ذهنی لا ینطبق علی الخارج بوجه . نعم عدم الانطباق لا یمنع الحکایة عن کثیرین فإنّ الطبیعی المقیّد بالکلّی المنطقی لا یمکن حصوله فی الخارج ، مع ذلک یکون کلّیاً باعتبار حکایته عن کثیرین _ کما فی الکلی العقلی المصطلح _ وعلی ما ذکر فیمتنع امتثال قوله «سر من البصرة» إلاّ بالتجرید بإلغاء خصوصیة اللّحاظ عن متعلّق الأمر .

ص :40

وبالجملة: لیس المعنی فی کلمة (من) ولفظ الابتداء _ مثلاً _ إلاّ الإبتداء، فکما لا یعتبر فی معناه لحاظه فی نفسه ومستقلاً، کذلک لا یعتبر فی معناها لحاظه فی غیرها وآلة، وکما لا یکون لحاظه فیه موجباً لجزئیته، فلیکن کذلک فیها.

إن قلت: علی هذا لم یبق فرق بین الاسم والحرف فی المعنی، ولزم کون مثل کلمة (من) ولفظ الابتداء مترادفین، صحّ استعمال کل منهما فی موضع الآخر، وهکذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانیها، وهو باطل بالضرورة، کما هو واضح.

قلت: الفرق بینهما إنّما هو فی اختصاص کلٍّ منهما بوضع [1]، حیث إنّه

الشَرح:

الثالث: ما أشار إلیه بقوله : «مع أن_ّه لیس لحاظ المعنی... إلخ» یعنی لیس اللّحاظ الآلی فی استعمالات الحروف إلاّ نظیر اللّحاظ الاستقلالی فی استعمال الأسماء ، وکما أنّ اللحاظ الاستقلالی غیر مأخوذ فی معانیها فی الوضع والاستعمال کذلک اللحاظ الآلی فی استعمالات الحروف ووضعها .

ثمّ إنّ قوله قدس سره : «لامتناع صدق الکلّی العقلی علیها ، أی الخارجیات» لیس کما ینبغی ، فإنّ معنی الحرف بناءً علی تقیّده باللحاظ الآلی وإن کان کالکلّی العقلی من ح_یث حکایته عن کثیرٍ من الخارجیّات إلاّ أنّه لیس من الکلی العقلی المصطلح علیه ، و الصحیح أن یقال : لامتناع صدقه نظیر امتناع صدق الکلّی العقلیّ علی الخارجیّات .

[1] وبتعبیر آخر معنی لفظَی «من وابتداء» وإن کان أمرا واحدا یتعلّق به اللحاظ الآلی تارةً ، والاستقلالی أُخری ، وشیء من اللحاظین غیر مأخوذ فی ناحیة الموضوع له والمستعمل فیه إلاّ أنّ الوضع فی الحروف مقیّد بتعلّق اللّحاظ الآلی بمعانیها عند الاستعمال ، وفی الأسماء بتعلّق اللّحاظ الاستقلالی بها کذلک ،

ص :41

وضع الإسم لیراد منه معناه بما هو هو وفی نفسه، والحرف لیراد منه معناه لا کذلک، بل بما هو حالة لغیره، کما مرّت الإشارة إلیه غیر مرّة، فالاختلاف بین الاسم والحرف فی الوضع، یکون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما فی موضع الآخر، وإن اتّفقا فیما له الوضع، وقد عرفت _ بما لا مزید علیه _ أنّ نحو إرادة المعنی لا یکاد یمکن أن یکون من خصوصیاته ومقوماته.

الشَرح:

واختلافهما بحسب الوضع واختلاف شرط الوضع فی کلّ منهما یوجب عدم صحّة استعمال أحدهما فی موضع الآخر ، ولیس المراد بالتقید وشرط الوضع ما یرادف معنی الشرط فی المعاملات ، أعنی الالتزام بشیء فی ضمن معاملة ، لیقال إنّ اتّباع شروط الوضع والعمل بها غیر لازم ، کما لو فرضنا أنّ الواضع اشترط دفع درهم علی من استعمل هذا اللفظ فی هذا المعنی ، بل المراد بالشرط هو ما فی لسان علماء الأدب من أنّ وضع الحرف لذلک المعنی معلّق علی لحاظه آلیا وفی الإسم علی لحاظه استقلالاً .

أقول : غایة ذلک عدم صحة استعمال الحرف فی موضع الإسم حقیقةً ؛ لکونه بغیر الوضع ، وأمّا عدم صحته أصلاً ولو بنحو المجاز ، فلا موجب له ، مع أنّ استعمال أحدهما موضع الآخر یعدّ غلطاً ، وهذا کاشف عن اختلاف المعنی فی الحرف والإسم ذاتاً ، وأنّ معنی الأوّل غیر الآخر ، لا أنّهما یختلفان باللّحاظ أو بتقید الوضع مع اتحاد المعنی ، فیبقی الکلام فی ذلک الاختلاف .

وعن المحقق الاصفهانی قدس سره أنّ الحرف موضوع للوجود الرابط الذی ذکره بعض الفلاسفة ، فی مقابل وجود الجوهر والعرض (الذی یعبّر عنه بالوجود الرابطیّ) . وحاصل ما ذکره قدس سره فی المقام : أنّ الألفاظ الموضوعة للجواهر والأعراض _ وهی الأسماء _ تکون معانیها من قبیل الماهیّات ، سواء کانت متأصّلة (أی منتزعة

ص :42

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

من نفس وجوداتها) ، أو من الاعتبارات (أی المنتزعة من الشیء باعتبار أمرٍ آخر) ، ولا یکون الوجود الخارجی أو الذهنی مأخوذا فی معانی الأسماء أصلاً ، بل تتّصف معانیها بالوجود والعدم ، وفی مقابل هذه الماهیّات من الجواهر والأعراض والانتزاعیّات وجودٌ آخر ضعیف ودقیق فی الغایة زائدا علی وجود الجوهر والعرض ، یظهر بالبرهان علی ما استدلّوا علیه فإنّه ربّما یعلم بوجود کلٍّ من الجوهر (کوجود الإنسان) والعرض (کحصول الحرکة) ، ولکن یشکّ فی قیام الحرکة بالإنسان أو بغیره ، وهذا دلیلٌ واضح علی أنّ الحصّة الخاصّة من الحرکة القائمة بالإنسان لها نحو وجود ، نعبّر عنه بالوجود الرابط زائدا علی أصل الحرکة ، ووجود الإنسان لقضاء تعلّق الشک به وتعلّق الجزم بالأخیرین وهذا الوجود الرابط لضعفه وخفائه لا یکون له مهیّة ، لیکون وضع اللّفظ لها ، بل الحروف موضوعة لنفس الوجودات الروابط ، وتلاحظ هذه الوجودات فی مقام الوضع ، وعند الاستعمال بنحو الإشارة إلیها ، فتکون معانی الحروف مباینة ذاتا لمعانی الأسماء ؛ لأنّ الأسماء توضع للصور الذهنیّة المنطبقة علی الخارج ویکون الوجود الخارجی کالوجود الذهنی ، خارجا عن الموضوع له والمستعمل فیه فیها ، بأن یکون الموضوع له والمستعمل فیه نفس الماهیّات بخلاف الحروف ، فإنّها موضوعة لما هو رابط خارجا ، لا عنوان الرابط ، فإنّه معنیً إسمی ویلزم علی ذلک أن یکون الوضع فی الحروف عامّا والموضوع له خاصّا(1) .

أقول : یناقش فیما ذکره قدس سره :

ص :43


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 51 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

أولاً: بأنّه لا سبیل إلی الجزم بأنّ فی الخارج وجودا آخر غیر وجود العرض والجوهر یسمّی بالوجود الرابط ، والدلیل علیل ، إذ تعدّد متعلقی الیقین والشک ، لایلزم أن یکون بتعدّد الوجود ، بل یکفی فیه تعدّد الاعتبار والجهة مع الاتحاد خارجا ، فإنّه ربّما یعلم حصول الطبیعی ویشکّ فی أفراده ، ومن الظاهر أنّ الطبیعی عین أفراده خارجا ولا وجود له غیر وجودها ، وعلی ذلک لو علم بوجود الإنسان خارجا ووجود الحرکة یکون الشکّ فی إضافة ما تقوم به الحرکة من کونه معنونا بعنوان الإنسان أو غیره .

وثانیا: إنّ الوجود الرّابط _ علی فرض تسلیمه _ لا یکون الموضوع له فی الحروف ، فإنّ الحروف تستعمل فی موارد لا یکون فیها ذلک الوجود قطعا ، کما یقال «الوجود للإنسان ممکن» و«لشریک الباری ممتنع» و«لذات الحق (جل وعلا) واجب» مع أنّه لا رابط فی شیءٍ منها بالمعنی المتقدّم أصلاً .

وثالثا: یلزم _ علی ماذکر _ أن لا یکون قول المخبر : (لزیدٍ علم ، ولعمروٍ خوف ، ولبکرٍ شجاعة) کذبا ، فیما إذا لم یکن لهم شیء ممّا ذکر ، فإنّه فی الفرض لا یکون للکلام مستعمل فیه بالإضافة إلی الحرف لیقال إنّ مدلوله غیر مطابق للواقع کما هو الفرض من عدم الرابط ، المدّعی کون اللاّم مستعملة فیه ، ویتضّح ذلک أکثر بملاحظة الحروف المستعملة فی النفی وفی الجواب والإستفهام والنداء والتعجّب ، إلی غیر ذلک ، مما لا یعقل فرض الوجود الرابط فیها .

وللمحقق النائینی قدس سره فی اختلاف معنی الإسم والحرف کلامٌ ، ملخَّصه : أنّ المعنی فی الأوّل إخطاریّ ، وفی الثانی إیجادی ، سواء کان معنی الحرف نسبیّا أو

ص :44

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

غیر نسبیّ ، فالثانی کحروف النداء والتشبیه والجواب ونحوها ، ممّا یتحقّق باستعمالها فرد من النداء والتشبیه والجواب أو غیرها ، بخلاف الأوّل _ یعنی الحروف النسبیّة _ فإنّه یتحقّق باستعمالها فرد من النسبة والربط بین أجزاء الکلام بحسب معانیها .

وتوضیح ذلک : أنّ الأسماء _ سواء کانت معانیها من الجواهر خارجا أو من الأعراض _ موضوعة لنفس المعانی التی تتّصف بالوجود الخارجیّ أو الذهنیّ تارةً ، وبالعدم أُخری ، وهذه المعانی کلّها مستقلّة ذاتا ، بمعنی أنّه یخطر عند سماع ألفاظها ومعانیها فی الأذهان ولو لم یکن سماعها فی ضمن ترکیب کلامیّ ، وهذا بخلاف الحروف ، فإنّه لیس لها معانٍ استقلالیّة وإخطاریة ، بحیث تخطر إلی الذهن عند سماعها منفردةً عن الترکیب الکلامی .

ثمّ لا یخفی أنّ العرض لمّا کان لا یرتبط مفهومه ومعناه _ بما هو مفهوم ومعنی _ بمعنی المعروض ومفهومه کذلک ، بل کان العرض خارجا ، مرتبط بمعروضه الخارجی وملابساته من الزمان والمکان والآلة والمفعول وغیر ذلک من الملابسات ، فدعت الحاجة إلی إیجاد الربط بین معنی اللفظ الدال علی العرض ومعنی اللّفظ الدال علی المعروض ، وکذا سائر الملابسات فی مقام المعانی لیقوم الربط بین المدالیل فی الکلام بحیث یعدّ نسبة الربط فیه إلی النسبة الخارجیة مثل الظل إلی ذی الظلّ .

ولیس المراد أنّ النسبة الخارجیّة محقّقة للنسبة الکلامیة ، نظیر فرد الإنسان خارجا ، حیث إنّه یکون تحققا لطبیعیّ الإنسان ، بل المراد أنّ قیام الحرکة مثلاً بالإنسان کافٍ فی ارتباطها به خارجا ولکن معنی لفظ الحرکة غیر مرتبط بمعنی الإنسان ، فوضعت الحروف لإیجاد الربط بینها فی مقام التکلّم ، ثمّ إنّه ربّما یکون

ص :45

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

هذا الارتباط الکلامیّ متّفقا مع الإضافة الخارجیة ، توافق الظلّ وذیه ، فیکون الکلام صادقا ، وربّما لا یوافقها ، فیکون کاذبا ، فالمستعمل فیه فی الحروف إیجادی ، لکن لا کالإیجاد فی إنشاء البیع والطلب ، بأن یوجد البیع والطلب خارجا وفی عالم الاعتبار ، بل الإیجاد فی الحروف بمعنی تحقیق الربط بین مدلول أجزاء الکلام .

نعم فی الحروف غیر النسبیّة یکون الموجود فردا خارجیا من النداء والتشبیه والجواب وغیر ذلک(1) .

أقول : یرد علیه قدس سره أنّ دعواه بأنّ المعانی الإسمیة لا یمکن لحاظها مرتبطة بنحو ارتباط بعضها ببعض إلاّ بالتکلّم بالحروف ، لا یمکن الالتزام بها ، حیث یمکن للإنسان لحاظ شیئین مرتبطین خارجاً بما هما علیه من الارتباط ، فکما أنّ اللّفظ الموضوع لکلٍّ منهما یحکی عنهما خارجا بصورتهما المرآتیّة ، کذلک الحرف بصورته المتدلّیة فی معناهما ، یحکی عمّا هما علیه من الارتباط خارجا ، فیمکن وضع لفظ للصورة المتدلّیة فی صورتی الشیئین المرتبطین خارجا ، ویکون اللفظ بحکایته عن تلک الصورة المتدلّیة (الحاکیة عن الخارج) موجبا لحصول الارتباط بین معنی کلٍّ من الإسمین .

وبتعبیرٍ آخر : یکون الفرق بین معانی الأسماء والحروف أنّ معانی الأسماء إخطاریة ، بمعنی أنّه ینسبق منها معانیها إلی الأذهان ولو عند التلفّظ بکلٍّ منها منفردا ، بخلاف الحروف فإنّه لا ینسبق منها المعانی إلاّ إذا تلفّظ بها فی ضمن ترکیب کلامی و مع التلفظ بمدخولها وهذا معنی کون معانی الحروف غیر إخطاریّة .

ص :46


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 16 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وممّا ذکر ظهر أنّه لا مقابلة بین إخطاریّة معنی اللّفظ وبین کونه إیجادیا حتّی یکون نفی الأول مستلزما لإثبات الثانی .

ثمّ إنّه قدس سره ذکر أنّ معانی الحروف تکون آلیّة ومغفولاً عنها ، بخلاف الأسماء .

فهذا لا یمکن المساعدة علیه أیضاً ، فإنّه إن کان المراد بالآلیّة عدم کون تفهیمها هو المقصود الأصلی للمتکلم ، فمن الظاهر أنّه کثیرا ما یکون الغرض الأصلی من التکلّم تفهیم الإرتباط بین شیئین خارجا ، لعلم السامع بحصول کلٍّ منهما وعدم علمه بالإرتباط الخاصّ بینهما ، وإن کان المراد أنّ نظر المتکلّم إلی صورها المتدلّیة فی غیرها نظر مرآتی ، فهذا النظر المرآتی حاصل فی معانی الأسماء وغیرها ، حیث إنّ المتکلّم عند التکلّم ینظر بالمعانی التی هی فی حقیقتها صور للأشیاء إلی نفس الأشیاء فی مواطنها .

إذن فالحقّ فی المقام والذی یقتضیه التأمّل فی معانی الحروف هو أنّها موضوعة لإفادة خصوصیّة فی مدلول مدخولاتها بحسب الوعاء المناسب لتلک المدخولات ، فمثلاً لفظة «فی» موضوعة لتدخل علی الإسم وتدلّ علی أنّ مدخولها متّصفٌ بکونه ظرفا بحسب الخارج .

ولیس المراد أنّ لفظة «فی» ترادف لفظ «الظرف» لیکون معنی «فی» ظرفا بالحمل الأوّلی أو بالحمل الشائع ، بل المراد أنّ معنی لفظ «ظرف» معنی إسمی وأنّ لفظة «فی» وضعت لتکون بعد دخولها علی الإسم دالّة علی أنّ ذلک المدخول موصوف خارجا بکونه ظرفا لشیء یذکر فی الکلام أو ذکر سابقا ، کما أنّ «کاف التشبیه» موضوعة لتکون دالّة علی أنّ المعنیّ بذلک الإسم خارجا مشبّه به ، ولفظة «من» وضعت لتکون دالّة علی أنّ مدلول ذلک الإسم خارجا معنون بعنوان المبدأ ،

ص :47

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وکلمة «نعم» موضوعة لتدخل علی الجملة ولتدلّ علی أنّ مضمونها هو الجواب ولفظة «لا» موضوعة لتدخل علیها فتدل علی انتفاء مضمون تلک الجملة بحسب الخارج وهکذا وهکذا ، کما هو الحال فی الاعراب والهیئات الداخلة علی الأسماء والجُمل .

وبتعبیرٍ آخر : کما أنّ حالات الإعراب موضوعة لتدلّ علی أنّ معنی مدخولها بحسب الخارج متّصف بکونه مصداقا للفاعل أو المفعول أو غیرهما ، کذلک الحروف موضوعة لتکون بدخولها علی الإسم أو غیره دالّة علی خصوصیّة مدخولها بحسب الخارج ، فمثلاً إذا قیل : (الصلاة فی المسجد أفضل من الصلاة فی غیره) یکون لفظ «فی» دالاًّ علی أنّ المسجد متّصف بکونه ظرفا فتکون الهیئة الکلامیة دالّة علی أنّ الصلاة المفروض کون المسجد ظرفا لها محکومة بما ذُکر ، وعلیه فلفظة «فی» لم توضع لتقیید معنی الصلاة وتضییقها بالظرف .

نعم بما أنّها موضوعة للدلالة علی کون مدخولها ظرفا، تکون الصلاة المفروض لها الظرف الخاصّ أخصّ من طبیعیّ الصلاة، وأمّا إذا لم یکن فی البین شیء قابل للتضییق لم یحصل ذلک التقیید کما فی قولنا (زید کالأسد) أو (فی الدار) إلی غیر ذلک.

والحاصل ؛ أنّ الفرق بین الحروف والأسماء فی أنّ الأسماء موضوعة للعناوین (ولذا تکون معانیها إخطاریّة بالمعنی المتقدّم) بخلاف الحروف ، فإنّها موضوعة لتدل علی اتّصاف مدخولاتها بالعناوین بحسب الوعاء المناسب لتلک المدخولات (ولذا تکون معانیها فی مدالیل مدخولاتها) .

ومما ذکر یظهر ضعف القول بأنّ الحروف موضوعة لتضییق معانی الأسماء

ص :48

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وتقییدها(1) . فإنّ التقیید والتضییق وإن کان یحصل فی المورد القابل له عند استعمال الحروف فی معانیها إلاّ أنّه لم یکن بموضوع لها ، بل التضییق والتقیید لازم للمعانی الحرفیة فی المورد القابل .

لا یقال : ما الفرق بین لفظ «زید» الحاکی عن مصداقٍ خاصٍّ للإنسان ، وبین لفظة «فی» الحاکیة عن مصداق الظرف ، فلو کان مجرّد الحکایة عن مصداق عنوان موجبا لکونه حرفا ، لزم کون معنی لفظ «زید» أیضاً حرفیا .

فإنّه یقال : معنی لفظ «زید» إخطاری یحکی عن نفس المصداق ولو بعنوان مشیر إلیه ولا یحکی عن جهة کونه مصداقا لعنوان الإنسان ، بل الحاکی عن هذه الجهة الهیئة الترکیبیة فی قولنا «زید إنسان» ، وهذا بخلاف لفظة «فی» حیث إنّ معناها لا یکون إخطاریا ، ولفظة «فی» لا تحکی عن نفس مصداق عنوان الظرف ، بل الحاکی عن نفس المصداق مدخولها ، وهو لفظ الدار ، فیکون مدلول لفظة «فی» اتّصاف مدخولها بکونه ظرفا . وبما ذکرناه من معنی الحروف تبیَّن صحّة تعریف الحرف بأنّه : ما دلّ علی معنیً فی غیره ، علی أن یکون المراد بالغیر مدخوله کما ذکرنا ذلک فی ناحیة وضع الإعراب .

کما تبیّن أیضاً أنّ ما اشتهر من عدم المعنی للإعراب ، غیر صحیح علی إطلاقه ، فإنّ الإعراب وإن لم یکن له معنیً إخطاریّ إلاّ أن_ّه إذا دخل علی المعرَب دلَّ علی خصوصیة فی معناه بحسب الوعاء المناسب له ، فما قیل من أنّ الحروف لو کانت کالاعراب فی عدم المعنی ، لزم أن یکون معنی مفردات الکلام مساویا لمعنی

ص :49


1- (1) محاضرات فی أُصول الفقه : 1 / 75 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الکلام ، بأن یکون معنی «زید» «دار» مساویا لمعنی «زید فی الدار» غیر صحیح ؛ إذ هو یبتنی علی أن یکون الإعراب لا معنی له ، وقد عرفت خلافه .

لا یقال : ما الفرق بین معانی أسماء الأعراض ومعانی الحروف ، فکما أنّ العرض یکون خصوصیة بحسب الخارج لمعروضه ، کذلک معانی الحروف .

فإنّه یقال : إنّ أسماء الأعراض تحکی عن نفس الخصوصیة بنحو الإخطار ، ولو لم تکن فی ضمن ترکیب کلامی ، غایة الأمر تکون وجوداتها قائمة بالمعروض ، وکون وجوداتها کذلک بإدراک العقل لا بدلالة اللفظ ، بخلاف الحروف فإنّه لیس لها معانٍ إخطاریة ، بل حیث تدخل علی الأسماء تکون دالّة علی أنّ مدخولاتها متّصفة بالعناوین الإسمیّة فی الوعاء المناسب لها ، ویعبّر عن تلک العناوین الإسمیة بالأعراض والخصوصیّات .

وقد انقدح ممّا تقدّم أنّ معانی الحروف لا تتّصف بالکلّیة والجزئیة ؛ لکونها متدلّیات بمعانی مدخولاتها ، فإن کان مدخول الحروف کلّیا أو مما یصدق علی الکلّ والأبعاض ، کانت معانی الحروف الداخلة علیه کذلک ، فیکون معناها قابلاً للتقیید بتبع تقیید المدخول ، وإن کان مدخولها جزئیّا کان معنی الحرف الداخل علیه قابلاً للتعیین بحسب ما یقبله ذلک الجزئیّ من التعیین بحسب الحال والزمان .

وبتعبیرٍ آخر : الأزمنة التی توجد فیها الدار المزبورة کحالاتها متعددة فیمکن تقییدها ببعضها ، والحرف الداخل علی کلمة الدار یقبل هذا النحو من التقیید ، وإن لم یکن مدخول الحرف قابلاً حتّی لهذا النحو من التقیید ، لم یک معنی الحرف قابلاً للتقیید أصلاً ، کما فی أوّل ساعة من یوم الجمعة من الشهر الفلانی من السنة الفلانیة ، فإذا قیل : (مات زید فی أوّل ساعة من ذلک الیوم) فلا یکون المعنی الحرفی قابلاً

ص :50

ثمّ لا یبعد أن یکون الاختلاف فی الخبر والإنشاء أیضاً کذلک [1]، فیکون الخبر موضوعاً لیستعمل فی حکایة ثبوت معناه فی موطنه، والإنشاء لیستعمل فی قصد تحقّقه وثبوته، وإن اتّفقا فیما استعملا فیه، فتأمّل.

الشَرح:

للتقیید . هذا کلّه فی تقیید معانی الحروف ، وأمّا تقیید معانی الهیئات فیأتی الکلام فیها فی بحث الواجب المطلق والمشروط إن شاء اللّه تعالی .

الخبر والإنشاء

:

[1] یعنی کما أنّ الفرق بین الإسم والحرف لم یکن إلاّ فی ناحیة الوضع مع کون الموضوع له والمستعمل فیه واحدا فیهما ، فلا یبعد أن یکون الفرق بین الجملة الخبریة والجملة الإنشائیّة کذلک ، بأن یکون الموضوع له والمستعمل فیه فیهما واحدا ، غایة الأمر الوضع فی الجملة الإنشائیّة مشروط بإرادة المعنی بنحوٍ خاصّ ، وفی الجملة الخبریة بإرادته بنحوٍ آخر.

توضیح ذلک أنّ ثبوت النسبة فی موطنها وانتفائها فیه علی اختلاف أنحائها لها صور عند النفس ، ولو کانت تلک الصور متدلّیة فی طرفیها ، مثلاً نسبة المحمول إلی الموضوع واقعها اتّحادهما وجودا بنحوٍ خاصّ ، أو مفهوما أیضاً ، ونسبة المبدأ إلی الفاعل عبارة عن قیام المبدأ به صدورا أو حلولاً أو غیرهما ، والصور فی جمیع ذلک هی الموضوع لها فی الهیئات وتلک الصور وإن کان لها وجودات فی أُفق النفس إلاّ أنّ الهیئات لم توضع لتلک الوجودات بل وضعت لذواتها، وإذا خاطب المتکلم شخصا بقوله : (أطلب منک ضرب زید) بنحو الإخبار ، أو (طلبت ضربه منک) ، وقال الآخر لمخاطبه : (اضرب زیدا) إنشاءا ، فالکلامان مترادفان فی المعنی ، وإنما یختلفان فی نحو إرادة ذلک المعنی ، فإنّه فی الإخبار یقصد المتکلم الحکایة عن ثبوت المضمون

ص :51

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فی موطنه ، وفی الإنشاء یقصد أن یثبت ذلک المضمون ویتحقّق فی موطنه .

ومما ذکرنا یظهر أنّ فی عبارته قدس سره حیث قال : «فی حکایة ثبوت معناه» و«فی قصد تحقّقه» تسامحاً ، فإنّ المناسب تبدیل لفظة «فی» باللاّم ؛ لأنّ الحکایة أو التحقّق غایة للاستعمال فی الإخبار والإنشاء کما هو المدّعی ، لا أنّهما داخلان فی الموضوع له أو المستعمل فیه .

وبتعبیرٍ آخر : الفرق بین مثل قول المولی لعبده (أطلب خروجک إلی السفر) بنحو الإخبار ، وبین قوله لعبده الآخر : (أخرج إلی السفر) إنشاءا ، بعد اشتراکهما فی أنّ مدلول کلٍّ منهما ثبوت طلب الخروج من المولی ، هو أنّ الشرط فی وضع هیئة فعل المضارع کون الداعی للمستعمِل من نقل ثبوت الطلب إلی ذهن المخاطب ، حکایة ثبوته ، بینما الشرط فی وضع صیغة إفعل کون الداعی إرادة ثبوت الطلب بذلک الاستعمال .

وقد ظهر مما ذکرنا أن_ّه لا فرق عند الماتن قدس سره بین قول القائل : (بعت داری بکذا) إخبارا ، وبین قوله : (بعت داری بکذا) إنشاءا ، إذ الهیئة فیهما قد استُعملت فی معنیً واحد ، وهو ثبوت بیع الدار ، وکذا قوله : (إضرب زیدا) إنشاءً ، و(أطلب منک ضرب زید) إخبارا ، فإنّهما قد استُعملا فی ثبوت الطلب والبیع ، وإنّما الاختلاف فی أنّ إنشاء البیع بقوله : (بعت داری) استعمال بغیر الوضع وإنشاء الطلب فی (اضرب زیدا) استعمال بالوضع . نعم ربّما لا یکون ثبوت الشیء أو ثبوته لشیءٍ آخر قابلاً للإنشاء ، نحو : زید أسود اللون ، وهذا لا یوجب أن لا یکون المستعمل فیه ثبوت سواد اللون لزید ، بل المستعمل فیه ذاک ، فلا یکون قصد الحکایة داخلاً فی الموضوع له والمستعمل فیه .

ص :52

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وذکر المحقق الاصبهانی قدس سره أنّ الأمر فی مثل قوله «بعت داری» من الصیغ المشترکة بین الإخبار والإنشاء هو کما ذکره قدس سره من أنّ المستعمل فیه للهیئة نسبة بیع الدار إلی المتکلّم ، وهذه النسبة تکون لقصد الحکایة تارةً ، ولقصد الإنشاء أُخری . وأمّا فی مثل قوله : (اضرب زیدا) وقوله : (أطلب منک ضرب زید) ممّا لا اشتراک فیه بین الجملة الإنشائیة والجملة الخبریة لفظا وهیئةً ، فلا یتمّ ذلک ؛ لأنّ الأوّل موضوع للبعث الاعتباری لا بما هو هو ، بحیث یکون البعث ملحوظا بذاته ، بل بما هو نسبة بین المتکلّم والمادّة والمخاطب ، ولذا لا تکون لتلک النسبة واقعیة لتطابقها أو لا تطابقها.

وبتعبیرٍ آخر : کما أن_ّه إذا حرّک شخص غیره نحو الفعل تحریکاً خارجیا لایکون ذلک التحریک الخارجی ملحوظا بذاته ، بل الملحوظ هو الفعل من المحرَّک ، کذلک فی التحریک والبعث الإنشائی الاعتباری ، یکون الملحوظ بالذات نفس المادّة من المخاطب ، کما فی قوله : (اضرب زیدا) ، وأمّا إذا قال : (أبعثک نحو ضرب زید) أو (أُحرّکک نحو ضرب زید) أو (أطلب منک ضرب زید) إخبارا ، فلیس الملحوظ بالذات ضرب زید (بأن یکون البعث مفاد الهیئة وملحوظا لا بذاته) حتّی یقال لا فرق فی المعنی بین الهیئة الإنشائیّة والإخباریّة ؛ لأنّ البعث معنی واحد ، والتفاوت باللّحاظ غیر المقوّم للمستعمل فیه ، بل مضمون الهیئة ومدلولها فی موارد الإخبار نسبة نفس البعث إلی المتکلّم بنسبة صدوریّة ، وکم فرقٍ بین النسبة البعثیّة وبین نسبة البعث(1) ؟

أقول : یرد علی المصنّف قدس سره أنّه لو لم یک فرقٌ فی ناحیة المستعمل فیه

ص :53


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 61 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

والموضوع له فی قوله : (اضرب زیدا) إنشاءً ، و(أطلب منک ضرب زید) إخبارا ؛ لکان استعمال الأوّل فی م_ورد الثانی صح_یحا ، غایة الأم_ر لا یکون الاستعمال علی طبق الوضع فیحتاج إلی القرینة ، کما تقدّم فی استعمال الحروف فی موضع الإسم .

ویرد علی ما ذکره المحقّق الأصفهانی قدس سره أنّ ما ذکره هو بیان للفرق بین الهیئة الداخلة علی المادّة المضاف إلیها الطلب ، کما فی قوله : (إضرب زیدا) وبین الهیئة الداخلة علی مادّة الطلب عند إرادة الحکایة عن نفس الطلب ، کقوله : (أطلب منک ضرب زید) وأن_ّه یکون الطلب فی الأوّل ملحوظا آلیّا ، وفی الثانی ملحوظا استقلالاً ، وهذا الفرق ممّا لابدّ منه علی مسلکهم ، حیث إنّ استعمال الهیئة فی الأوّل فی الطلب لا یزید علی استعمال الحروف ، بخلاف قوله : (أطلب منک ضرب زید» فإنّ دلالته علی الطلب بمادّته وبمدخول الهیئة ، ومعنی الطلب فیه لابدّ أن یکون ملحوظا بذاته ، کالمعنی الإسمی فی استعمال سائر الأسماء إلاّ أنّ هذا لیس فرقا بین الإنشاء والإخبار ، فإنّه لو قصد من قوله (أطلب منک ضرب زید) الإنشاء لکان بین مدلوله ومدلول قوله (إضرب زیداً) ذلک الفرق ، بمعنی أنّ المنتسب إلی المتکلّم فی الثانی هو الضرب بنسبة طلبیّة وبعثیّة ، وفی الأوّل المنسوب إلیه طلب الضرب بنسبة قیامیّة ، ولیس هذا محل الکلام وإنّما الکلام فی المائز بین الإنشاء والإخبار وأنّ ذلک المیز داخل فی المستعمل فیه والموضوع له ، أو أن_ّه أمرٌ خارج عنهما وأنّه شرط للوضع فی کلّ من الجملة الإنشائیّة والخبریّة .

ویشهد لما ذکرنا أن_ّه لو أراد من قوله (أطلب منک ضرب زید) الإنشاء تارةً والإخبار أُخری ، لما کان بینهما فرقٌ فی کون الطلب المتعلّق بضرب زید ملحوظا بذاته ، کما لا یخفی .

ص :54

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وذکر سیدنا الأستاذ قدس سره أنّ الجملة الخبریّة لا یمکن وضع هیئتها للنسبة الخارجیّة _ أی وضعها لثبوت شیء لشیء خارجا _ فإنّه ربّما لا تکون فی الخارج نسبة کما فی (الإنسان موجود) أو (شریک الباری ممتنع) أو (الإنسان ممکن) والإلتزام باستعمال الهیئة فی مثل هذه الموارد بالعنایة خلاف الوجدان ، مع أن_ّه لا معنی لدلالة الهیئة علی النسبة الخارجیّة فإنّها لا تفید الظن بالثبوت الخارجی ، فضلاً عن العلم به ، ولا معنی لدلالة الهیئة علی النسبة الخارجیّة ، غیر کونها کاشفة عنها علما أو ظنا ، کما لا معنی لوضعها للنسبة الکلامیة بأن توجد النسبة بین أجزاء الکلام _ نظیر ما تقدّم فی الحروف من أنّها موضوعة لإیجاد الربط بین المعانی الإسمیّة _ .

نعم الجملة الإسمیّة یوجب سماعها انتقال الذهن إلی ثبوت المحمول للموضوع بنحو التصوّر ، ولکنّ ذلک المتصوّر لا یمکن أن یکون مستفادا من الهیئة ومدلولاً لها ، فإنّها من قبیل التصوّر ، ومفاد الهیئة فی الجملة الخبریّة تصدیقی . فالصحیح أنّ الهیئة فی الجملة الخبریة موضوعة للدلالة علی قصد المتکلم الحکایة عن الثبوت الواقعی ، أی ثبوت شیء لشیء ، ویعبّر عن ذلک بثبوت المحمول للموضوع أو ثبوت شیء فی موطنه من ذهن أو خارج.

وبتعبیرٍ آخر : تکون الهیئة بحسب وضعها کاشفة عن قصد المتکلّم الإعلام بالثبوت الواقعی ، حیث إنّ الوضع فی الألفاظ _ کما تقدم _ بمعنی التعهّد والالتزام ، والتعهّد من شخصٍ إنّما یتعلّق بفعل نفسه وعلم الغیر بثبوت شیء لشیء ، أو ظنّه به خارج عن اختیار المتکلّم ، فلا یتعلّق به التعهّد ، والذی هو فعل اختیاری له ، هو قصد الحکایة عن ثبوت شیء لشیء أو نفس ثبوته أو لا ثبوته ، وعلی ذلک فلا یکون الصدق والکذب من أوصاف نفس مدلول الجملة الخبریّة ، بل من أوصاف متعلّق

ص :55

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

المدلول ، (یعنی الحکایة) . هذا بالإضافة إلی الجملة الإسمیّة المستعملة فی مقام الإخبار ، وأمّا إذا کانت فعلیّة فهیئتها أیضاً تدلّ علی قصد الحکایة عن تحقّق المبدأ بنحو المضی أو الترقّب(1) .

أمّا الإنشاء فهو عبارة عن إبراز اعتباره فیما یکون ثبوت الشیء بذلک الاعتبار ، والاعتبار وإن کان أمرا نفسانیّا إلاّ أنّه غیر قصد الحکایة .

وما اشتهر من أنّ الإنشاء عبارة عن إیجاد المعنی خارجا باستعمال اللفظ ، لا یمکن المساعدة علیه ؛ وذلک لأنه إن أُرید من المعنی فی إنشاء البیع مثلاً الملکیّة التی یعتبرها المتکلّم ، فلا یکون إیجادها باللفظ ، بل وجودها بالاعتبار القائم بالنفس ولا یحتاج إلی اللفظ ، بل اللّفظ مبرز لذلک الاعتبار ، وإن أُرید الملکیّة العقلائیّة أو الشرعیّة _ یعنی إمضاء العقلاء أو الشارع لتلک الملکیّة _ فمن الظاهر أنّ إمضاء العقلاء أو الشارع لا یکون من فعل المستعمل لیوجده باللفظ أو بغیره ، بل هو فعل العقلاء والشارع ، فیکون حکما مترتبا علی الإنشاء أو المنشأ لا موجودا بفعل المستعمل للجملة الإنشائیّة(2) .

أقول : أوّلاً: إنّه قد اعترف (نوّر اللّه مضجعه الشریف وجزاه عن العلم وأهله خیرا) بأنّ سماع الجملة الخبریّة الإسمیّة یوجب انتقال الذهن إلی ثبوت المحمول للموضوع ، وکذا ثبوت الشیء لشیء أو وقوعه منه ، فیما کانت الجملة الخبریة فعلیّة ، مثل ضربتُ أو قمتُ ، وحینئذٍ نقول : ما الموجب لهذا الانسباق ؟ هل هو إلاّ الوضع ، فلو کانت الهیئة موضوعة لقصد الحکایة عن النسبة الخارجیّة لکان الذهن ینتقل إلی

ص :56


1- (1) محاضرات فی أُصول الفقه : 1 / 85 .
2- (2) محاضرات فی أُصول الفقه : 1 / 88 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

قصد الحکایة عنها ، لا إلی نفس صورة الثبوت الخارجی أو لا ثبوته ، مع أن_ّه لا یحرز قصد الحکایة إلاّ إذا أحرز أنّ المتکلّم شاعر یرید بکلامه تفهیم المعنی ، فلیست الهیئة موضوعة لقصد الحکایة کما أنّها لیست موضوعة للثبوت الخارجی _ أی نفس النسبة الخارجیّة _ لیلزم أن لا یکون فی مورد کذب المتکلّم استعمال أصلاً . بل الموضوع له والمستعمل فیه للهیئة هی صورة النسبة الخارجیّة .

ولکن هذه الصورة لیس لها استقلال بل متدلیة فی أطرافها وخصوصیة لها علی نسق ما ذکرنا فی معانی الحروف ، وقد أغمض فی وضع الهیئات عن کون تلک الصورة فی أُفق النفس ، کما هو الحال فی وضع الأسماء وغیرها ، ومعنی دلالة الهیئة علی تلک النسبة انتقال تلک الصورة إلی ذهن سامع الهیئة فی ضمن سماع أسامی الأطراف والمواد ، فإن کان غرض المتکلّم من إحضار تلک الصورة (التی تلاحظ مرآة للخارج) إرادة تفهیم فعلیّة ذی الصورة مع قطع النظر عن الاستعمال المزبور کان ذلک إخباراً وإن کان غرضه حصول ذی الصورة بذلک الاستعمال والاحضار کان إنشاءً .

وثانیاً: إنّ ما ذکره قدس سره من أنّ الجملة الخبریة مفادها التصدیق ، وتلک الصورة من قبیل التصور لا التصدیق .

ففیه : أنّ الاعتقاد بثبوت شیءٍ لشیء خارجا تصدیق بالإصطلاح المنطقی ، وغیر داخل فی مدلول الجملة الخبریة بوجه ، والتصدیق فی مدلول الجملة الخبریة هو التصدیق باصطلاح علماء الأدب ، وهو الدلالة علی النسبة التی یصحّ سکوت المتکلّم علیها ، وهذا حاصل فی استعمال الجملة الخبریة لا محالة فهو تصدیق بالإصطلاح الأدبی ، وإن کان تصورا بالإصطلاح المنطقی .

ص :57

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وثالثاً: إنّ ما ذکره قدس سره من أنّ الأُمور الإنشائیّة یکون حصولها بالاعتبار القائم بالنفس ولا یحتاج إلی اللّفظ ، بل اللّفظ مبرز لذلک الإعتبار ، لا یمکن المساعدة علیه ، فإنّ الإنشائیّات وإن کان اعتبارها بالنفس ، إلاّ أنّها أُمور إبرازیّة أیضاً ، فما لم یکن فی البین إبراز لا یحصل ذلک الأمر الإعتباری حتّی فی اعتبار المعتبر ، فلو اعتبر الدائن براءة ذمّة المدیون ، ولکن لم یبرز أصلاً ، لم یکن إبراءً بوجه ، حتّی بنظره قدس سره ، فلو سألناه عن إبرائه ذمّة زید _ مثلاً _ فلا یصحّ له أن یقول إخبارا (إنّه بریء الذمّة) ویصحّ أن یقول : (إنّه بریء الذمّة) إنشاءا ، فإبراء الذمّة لم یحصل حتّی بنظر المعتبِر قبل الإبراز ، فکیف یعتبره موجوداً قبل الإبراز ؟

وقد ظهر ممّا ذکرنا أنّ قول المخبر (بعت داری بکذا) فی مقام الإخبار ، وقول منشیء البیع فی مقام إنشائه (بعت داری بکذا) لا یختلفان فی المستعمل فیه ، بل المستعمل فیه فی کلا المقامین هو صورة وقوع البیع خارجا ، ولکنّ الغرض من إلقاء تلک الصورة إلی ذهن المخاطب یختلف ، ففی مقام الإخبار یکون غرضه أن یُفهم السامع الوقوع الخارجی ، مع قطع النّظر عن هذا الإستعمال ، سواء کان السامع بعد إلتفاته إلی وقوعه بصورته جازما به أو ظانّا أو شاکّا أو حتّی جازما بالعدم ؛ ولذا یصحّ أن ینسب إلی المتکلّم أنّک ذکرت لنا وقوع البیع ، کما یصحّ للمتکلّم أن یقول :

ذکرت لکم وقوع البیع ، وفی مقام الإنشاء یکون غرضه من إحضار صورة وقوع البیع هو أن یتحقّق ذو الصورة خارجا بذلک الإحضار بالتکلّم أو بغیره ، فلو باع الوکیل متاعا وحین إنشاء الوکیل البیع قال المالک لشخصٍ آخر : (بعت مالی) إخبارا ببیع وکیله ، لم یکن قول المالک إنشاءا ، بل هو إخبار ، یخالف قول وکیله لمشتری المتاع : (بعت) فإنّه إنشاء .

ص :58

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وبالجملة الإنشاء هو إحضار صورة وقوع الشیء بالتکلّم أو بغیره ، لغرض تحقّق ذی الصورة خارجا بالاعتبار ، سواء کان إحضار تلک الصورة بنحو المعنی الحرفی أو بنحو المعنی الإسمی ، فقوله للمخاطب : (إضرب زیدا) وقوله : (أطلب منک ضرب زید) إنشاءا کلاهما إحضار لصورة البعث المتعلّق بضرب المخاطب إلاّ أن_ّه فی الأوّل بنحو المعنی الحرفی ، وفی الثانی بنحو المعنی الإسمی ، وبکل منهما یحصل البعث خارجا ولو بالاعتبار .

نعم مقتضی ما تقدّم هو أنّ الإنشائیة والإخباریة إنّما تنشئان من الغرض من نقل صورة وقوع الشیء خارجا إلی ذهن السامع ، لا أنّ الهیئة فی الجملات لا دلالة لها علی تعیین الغرض من الإحضار بالوضع ، فإنّ هذا أمر لا یمکن إنکاره ، فهیئة (إضرب) وإن کانت توجب انتقال صورة بعث المخاطب نحو الضرب ولو بنحو المعنی الحرفی ، إلاّ أنّها تدلّ أیضاً علی تعیین الغرض وهو إیجاد الطلب خارجا .

کما أنّ الجملة الخبریة بهیئتها تدلّ علی أنّ الغرض من الإحضار حکایة حصول ذی الصورة ، ولذا تکون إرادة الإنشاء من الجملة الخبریة محتاجة إلی القرینة ولکن لا یصحّ إرادة الإخبار من الهیئة الموضوعة للإنشاء فلا یصحّ قوله للمخاطب (بع المال) إخبارا بالبیع ؛ لأنّ الکلام الدالّ علی طلب البیع من المخاطب لا یناسب إخباره به ، فإنّ الطلب منه یستلزم عدم حصول البیع فعلاً ، والإخبار والحکایة یتوقّف علی الفراغ عن حصوله ، فالإخبار بوقوع شیء بالجملة الإنشائیّة یشبه طلب الحاصل الرکیک ، بخلاف استعمال الجملة الإخباریة لغرض إنشاء طلبه ، فإنّ التعبیر عن طلب شیء بوقوعه ولو مستقبلاً یناسب شدّة الطلب والشوق والوثوق بالفاعل ، وهذه مناسبة توجب حسن استعمال الجملة الخبریة فی مقام الإنشاء .

ص :59

ثمّ إنّه قد انقدح ممّا حققناه، أنّه یمکن أن یقال: إنّ المستعمل فیه فی مثل أسماء الإشارة[1] والضّمائر أیضاً عامّ، وأنّ تشخّصه إنّما نشأ من قبل طور استعمالها، حیث إن أسماء الإشارة وضعت لیشار بها إلی معانیها، وکذا بعض الضّمائر، وبعضها لیُخاطَب به المعنی، والإشارة والتخاطب یستدعیان التشخص کما لا یخفی، فدع_وی أنّ المستعمل فیه فی مثل (هذا) أو (هو) أو (إیاک) إنّما هو الشَرح:

الوضع فی أسماء الإشارة

:

[1] ظاهر کلامه قدس سره أنّ الموضوع له والمستعمل فیه فی أسماء الإشارة والضمائر وسائر الأسماء المبهمة کالموصولات ، هو معنی عامّ کالمفرد المذکر ، بأن یکون لفظ (هذا) مرادفاً للفظ المفرد الموصوف بالتذکیر ، غایة الأمر الإختلاف بینهما بالوضع حیث أنّ لفظ (هذا) موضوع لذلک المعنی العامّ علی أن یشار إلیه عند استعماله فیه بالإشارة الخارجیّة ، کما أنّ الضمیر الغائب کلفظ (هو) موضوع له بشرط أن یشار إلیه بالإشارة المعنویّة ، ولم یؤخذ فی ناحیة الموضوع له والمستعمل فیه قید ، وإنّما أُخذ فی ناحیة نفس الوضع ، کما تقدم فی معانی الحروف ، وعلی ذلک فضمیر المخاطب مثلاً یکون لنفس ذلک المعنی العامّ یعنی الفرد الموصوف بالتذکیر ، ویکون وضعه له مشروطا بالتخاطب معه عند استعماله فی ذلک المعنی .

وبالجملة دعوی أنّ الموضوع له والمستعمل فیه فی الأسماء المزبورة کالوضع فیها عامّ وإنّما الخصوصیة والتشخّص ناشئة من الإشارة والتخاطب ، حیث أنّ الإشارة لا تکون إلاّ إلی الشخص ، والخطاب لا یکون إلاّ مع الشخص ، غیر بعیدة .

أقول : لا ینبغی التأمّل فی أنّ لفظ (هذا) لا یکون مرادفا للمفرد المذکر المشار إلیه أو معنی لفظ المفرد المذکر عند الإشارة إلیه ، نعم لو قیل : إنّ (هذا) إسم لما یصحّ إطلاق عنوان المفرد المذکّر علیه عند الإشارة إلیه ، صحّ ، سواء کان ما یطلق

ص :60

المفرد المذکّر، وتشخّصه إنّما جاء من قبل الإشارة، أو التخاطب بهذه الألفاظ إلیه، فإنّ الإشارة أو التّخاطب لا یکاد یکون إلاّ إلی الشّخص أو معه، غیر مجازفة.

فتلخّص ممّا حققناه: أنّ التشخّص النّاشئ من قبل الاستعمالات، لا یوجب تشخص المستعمل فیه، سواء کان تشخّصاً خارجیّاً __ کما فی مثل أسماء الإشارة _ أو ذهنیاً _ کما فی أسماء الأجناس والحروف ونحوهما _ من غیر فرق فی ذلک أصلاً بین الحروف وأسماء الأجناس، ولعمری هذا واضح. ولذا لیس فی کلام القدماء من کون الموضوع له أو المستعمل فیه خاصّاً فی الحرف عین ولا أثر، وإنّما ذهب إلیه بعض من تأخّر، ولعلّه لتوهم کون قصده بما هو فی غیره، من خصوصیات الموضوع له، أو المستعمل فیه، والغفلة من أنّ قصد المعنی من لفظه علی أنحائه،

الشَرح:

علیه من قبیل الموجود الخارجی أو الموجود الذهنی أو معنیً من المعانی المفردة أو الترکیبیّة .

ولا یعتبر فی استعمال (هذا) کون الإشارة خارجیة ، بل ربّما تکون الإشارة معنویة ، کما فی قولک : (الإنسان مدرک للکلیات) ، وبهذا یمتاز عن سائر الحیوانات حیث إنّ الإشارة بهذا فی المثال معنویّة ، وکما فی قولک : (الإنسان کلی یصدق علی کثیرین ، وهذه الکلیّة لیس موضعها الإنسان الخارجی).

نعم ضمیر الغائب ک«هو» تکون الإشارة فیه معنویة إلی السابق ذکرا أو ذهنا ، بخلاف ضمیر الخطاب ، فإنّه للإشارة إلی المخاطب الحاضر حقیقةً أو ما یکون بمنزلة الحاضر ، وبما أنّ خصوصیّة الإشارة مستفادة من اللفظ ، فکیف لا تکون داخلة فی معناه ولو بنحو التقید ؟ ثمّ إنّ الإشارة فی استعمال (هذا) فی الخارجیات بمثل الإصبع ونحوه إنّما هو لتعیین المشار إلیه لا لخصوصیة الإشارة، کما یظهر للمتدبر.

وممّا ذکرنا یظهر أنّ الوضع فی تلک الأسماء عامّ ، والموضوع له خاصّ ،

ص :61

لا یکاد یکون من شؤونه وأطواره، وإلاّ فلیکن قصده بما هو هو وفی نفسه کذلک، فتأمّل فی المقام فإنّه دقیق، وقد زلّ فیه أقدام غیر واحد من أهل التّحقیق والتّدقیق.

الشَرح:

ولا نعنی بالخاصّ ، الجزئی الخارجی ، بل ما ینطبق علیه عنوان الفرد المذکر ولو کان فی نفسه معنی من المعانی وطبیعة من الطبائع ، کما لا یخفی .

ص :62

الثالث

صحّة استعمال اللفظ فیما یناسب ما وضع له، هل هو بالوضع[1]، أو بالطبع؟ وجهان، بل قولان، أظهرهما أنّه بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فیه ولو مع منع الواضع عنه، وباستهجان الاستعمال فیما لا یناسبه و لو مع ترخیصه، ولا معنی لصحته إلاّ حسنه، والظاهر أنّ صحة استعمال اللفظ فی نوعه أو مثله من قبیله، کما یأتی الإشارة إلی تفصیله.

الشَرح:

الاستعمال المجازی

:

[1] المراد بصحة الاستعمال حُسنه عند أهل المحاورة ، بأن لا یستهجن عندهم استعمال اللفظ فی المعنی المزبور ، وهل الصحة محتاجة إلی الوضع بمعنی ترخیص الواضع فی خصوص ذلک الإستعمال (ویسمّی بالوضع الشخصی) أو ترخیصه فی نوع ذلک الاستعمال بأن یرخص الاستعمال فیما کانت بین الموضوع له والمستعمل فیه إحدی العلاقات المعروفة، أو لا تحتاج إلی شیء من ذلک، بل کل استعمال لایکون مستهجنا عندأهل اللسان وکان استعمالاً للفظ فیما یناسب معناه عندهم فهو صحیح، حتّی مع منع الواضع عنه فضلاً عن عدم ترخیصه، وکل مایکون مستهجنا عندهم ولاتقبله الطباع فهو غیر صحیح حتّی لو رخّص الواضع فیه .

قال سیّدنا الأُستاذ قدس سره : إنّ البحث فی أنّ المجاز محتاج إلی وضع شخصی أو نوعی ، یتوقّف علی أمرین :

أحدهما: ثبوت الاستعمالات المجازیّة ، بأن یستعمل اللفظ الموضوع لمعنی فی غیر ذلک المعنی ، وأمّا بناءً علی ما ذهب إلیه السکّاکی فی باب الاستعارة من أنّ اللفظ یستعمل دائما فی معناه الموضوع له ویکون تطبیقه علی غیر مصداقه ،

ص :63

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بدعوی أنّه فرده ، فلا یبقی مجال لهذا البحث ، والصحیح ما ذهب إلیه السکّاکی والوجه فیه أن_ّه یفهم الفرق بین قول القائل : (زید أسد ، أو أن_ّه قمر) وبین قوله : (زید شجاع ، أو أن_ّه حسن الوجه) حیث یفهم المبالغة من الأوّل دون الثانی ، ولو کان لفظ (أسد) أو (قمر) مستعملاً فی معنی الشجاع أو حسن الوجه لما کان بینهما فرق .

ثانیهما: الالتزام بأنّ الوضع غیر التعهّد والالتزام بإرادة المعنی الفلانی عند ذکر هذا اللفظ ، وإلاّ فبناءً علی مسلک التعهّد یکون کل مستعمل متعهّدا بإرادة ذلک المعنی منه عند ذکره بلا قرینة وإرادة مناسبه عند ذکره مع القرینة سواء کان تعیین ذلک المعنی المناسب أیضاً بالقرینة کما فی الوضع النوعی ، أو بما عیّنه أولاً ، کما فی الوضع الشخصی(1) .

أقول : ما ذهب إلیه السکاکی من الالتزام بالعنایة والمجاز فی الإسناد والتطبیق ، لا یعمّ جمیع الاستعمالات المجازیّة لیقال إنّ أمر التطبیق خارج عن شأن الواضع ، بل ذکر ذلک فی الاستعارة وهی ما یکون بعلاقة المشابهة فی أظهر الأوصاف والخواصّ ، وأمّا فی موارد سائر العلاقات فلا ینبغی إنکار استعمال اللفظ فی غیر معناه الموضوع له ، کما فی قوله : (من قتل قتیلاً) وقوله : (رأس القوم) وإرادة رئیسهم ، و(عین القوم) وإرادة حارسهم ، و(أعتق رقبة) وإرادة العبد والمملوک ، إلی غیر ذلک من الموارد التی لا ینتقل ذهن السامع فیها إلی المعانی الأوّلیة للألفاظ ، وإنّما ینتقل إلی المعانی التی یستعمل فیها اللفظ (ولو بالقرینة) ، حتّی مع جهله بالمعانی الحقیقیة ، وهذا بخلاف (زید أسد) أو (أنّ وجهه قمر) .

ص :64


1- (1) المحاضرات : 1 / 92 .

الرابع

لا شبهة فی صحة إطلاق اللفظ، و إرادة نوعه به، کما إذا قیل: ضرب _ مثلاً _ فعل ماض [1]، أو صنفه کما إذا قیل: (زید) فی (ضرب زید) فاعل، إذا لم یقصد به شخص القول أو مثله ک_ (ضرب) فی المثال فیما إذا قصد.

الشَرح:

وأمّا عدم جریان النزاع علی مسلک التعهّد فلا یتمّ أیضاً ، وعلی تقدیره أیضاً یکون للبحث مجال ؛ وذلک لأنّ الوضع ینسب إلی المتعهّد الأوّل ؛ ولذا یقال فی جواب من سأل : من سمّی الولد بهذا الإسم ؟ سمّاه أبوه ، ولو لم یکن الوضع مستندا إلی السابق فی التعهّد لم یکن للسؤال والجواب مجال ، وعلی ذلک یقع الکلام فی أنّ استعمال اللفظ المزبور فی معنیً آخر یحتاج إلی رخصة الشخص المزبور شخصا أو نوعا ، أو أنّ کلّ ما تقبله الطباع من الاستعمال یصحّ ولو مع منع ذلک الشخص .

استعمال اللفظ فی اللفظ

:

[1] التزموا بصحّة استعمال اللفظ فی اللفظ ، بأن یکون اللفظ دالاًّ علی إرادة اللفظ الآخر ، فیکون اللفظ الآخر مدلولاً وصحّحوه فی استعمال اللفظ فی نوعه واستعماله فی صنفه واستعماله فی مثله .

فالأوّل کما إذا قیل : (ضرب فعل ماضٍ) إذ من الظاهر أنّ الملفوظ لیس بالفعل الماضی بل هو مبتدأ فی الکلام ، والذی هو فعل ماض ما یقال عند الإخبار بوقوع الضرب بنحو التحقّق ، وإذا أراد المتکلّم بقوله (ضرب) طبیعیّ لفظ ضرب (الذی یقال عند الإخبار بوقوع الضرب بنسبة تحقیقیّة) یکون ذلک الطبیعی من قبیل المعنی لما تلفظ به ، فیکون الملفوظ دالاًّ وذلک الطبیعی مدلولاً .

والثانی فیما إذا قال : (زید فی ضرب زید ، فاعل) ولم یرد شخص ما ذکره من

ص :65

وقد أشرنا إلی أنّ صحة الإطلاق کذلک وحسنه، إنّما کان بالطبع لا بالوضع، وإلاّ کانت المهملات موضوعة لذلک، لصحة الإطلاق کذلک فیها، والالتزام بوضعها کذلک کما تری.

وأم_ّا إطلاقه وإرادة شخصه، کما إذا قیل: (زید لفظ) وأرید منه شخص نفسه، ففی صحته بدون تأویل نظر، لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول، أو ترکب القضیة من جزءین کما فی الفصول.

الشَرح:

(ضرب زید) بل کان مراده : أنّ کلما ذکر زیدٌ بعد (ضرب) فی مقام الإخبار فهو فاعل ، وعلیه فإنّ لفظ زید الذی ذکره أوّلاً دالّ وزید الثانی مدلول ، وهو من قبیل إرادة الصنف لا النوع إذ لا یشمل کل أفراد لفظ زید حتّی الواقعة غیر فاعل ، مثل (زید ضرب) ، بل خصوص أفراده الواقعة فاعلاً فی مقام الإخبار من أیّ متکلّم ، فالمراد الصنف من لفظ زید لا النوع .

والثالث نفس المثال ، فیما إذا أراد من لفظ زید الذی ذکره أوّلاً ، لفظ زید فیما تکلّم به من شخص القول وهو من قبیل استعمال لفظ زید فی مثله .

ومما ذکرنا یظهر أنّ قول المصنف قدس سره : «کضرب فی المثال فیما إذا قصد» من سهو القلم ، ولابدّ من تبدیله إلی قوله ک(زید فی المثال فیما إذا قصد شخص القول) .

ثمّ أراد قدس سره بقوله : «و قد أشرنا إلی أنّ صحّة الإطلاق... إلخ» ما تقدم منه فی الأمر الثالث من أنّ صحّة استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له بالطبع ، وزاد علیه بالاستشهاد له بوقوع هذا النحو من الاستعمال فی الألفاظ المهملة ، کما إذا قیل (ویز) مهمل . ودعوی أنّ الألفاظ المهملة إنّما یطلق علیها المهملة لعدم وضعها لمعنی علی حدّ سائر الألفاظ ، ولا ینافی ذلک کونها موضوعة للاستعمال فی نوعها أو صنفها أو

ص :66

بیان ذلک: أنّه إن اعتبر دلالته علی نفسه _ حینئذٍ _ لزم الاتحاد، و إلاّ لزم ترکّبها من جزءین، لأنّ القضیة اللفظیة _ علی هذا _ إنّما تکون حاکیة عن المحمول والنسبة، لا الموضوع، فتکون القضیة المحکیة بها مرکبة من جزءین، مع امتناع الترکّب إلاّ من الثلاثة، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبین.

الشَرح:

شخصها ، واضحة البطلان .

واختلفوا فیما إذا ذکر لفظ وأُرید منه شخصه ، کما إذا قیل : (زیدٌ لفظ) وأُرید منه شخص الملفوظ لا نوعه وصنفه ومثله ، فإنّ کون ذلک من قبیل استعمال اللفظ فی المعنی محل إشکال ؛ لأنّ شخص الملفوظ إن کان دالاًّ ومدلولاً لزم اتّحاد الدال والمدلول ، وإن کان دالاًّ فقط ، لزم ترکّب القضیة المحکیة من جزئین المحمول والنسبة ، مع أنّ تلک القضیة لابدّ من ترکّبها من ثلاثة أجزاء : الموضوع ، والمحمول ، والنسبة ، فإنّه لا یمکن تحقّق النسبة بدون المنتسبین .

وأجاب الماتن قدس سره عن الإشکال بوجهین :

الأوّل: أن_ّه یکفی فی تعدّد الدالّ والمدلول ، تعدّدهما بالاعتبار ، ولا یلزم التعدّد الخارجی ، فاللفظ بما أن_ّه صادر عن لافظه دالّ وباعتبار أنّه بنفسه وبشخصه مراد ، یکون مدلولاً .

والثانی: أنّ القضیة المعقولة وإن امتنع ترکّبها إلاّ من ثلاثة أجزاء ، إلاّ أنّ القضیة الملفوظة لا یمتنع ترکّبها من جزئین ، وبیان ذلک أنّه إذا أمکن للمتکلّم إحضار الموضوع فی القضیة المعقولة فی ذهن السامع بلا توسیط استعمال اللفظ ، کانت الأجزاء فی القضیة المعقولة تامّة بلا حاجة إلی الإتیان بالحاکی عنه ، وفیما إذا تلفّظ بلفظٍ وأُرید شخصه فی ثبوت المحمول له تتمّ القضیة المعقولة ، ولا یکون فی ناحیة الموضوع استعمال للّفظ فی المعنی أصلاً .

ص :67

قلت: یمکن أن یقال: إنّه یکفی تعدد الدالّ والمدلول اعتباراً، و إن اتحدا ذاتاً، فمن حیث إنّه لفظ صادر عن لافظه کان دالاًّ، ومن حیث إنّ نفسه وشخصه مراده کان مدلولاً، مع أنّ حدیث ترکّب القضیة من جزءین _ لولا اعتبار الدلالة فی البین _ إنّما یلزم إذا لم یکن الموضوع نفس شخصه، وإلاّ کان أجزاؤها الثلاثة تامّة، وکان المحمول فیها منتسباً إلی شخص اللفظ ونفسه، غایة الأمر أنّه نفس الموضوع، لا الحاکی عنه، فافهم، فإنّه لا یخلو عن دقة.

الشَرح:

أقول : أمّا الجواب الأوّل فهو لا یفید شیئا ؛ لأنّ الکلام فی المقام فی الدلالة اللفظیة واستعمال اللفظ ، بأن یکون خطور اللفظ إلی ذهن السامع أوّلاً ، وخطور معناه بتبعه ثانیا ، ولو ببرکة القرینة ، وهذه الدلالة تحتاج إلی تعدّد اللفظ والمعنی حقیقة ، وأمّا دلالة صدور اللفظ من لافظه علی إرادة اللافظ ذلک اللفظ ، فهی دلالة عقلیة ، فإنّ اللفظ فی کل موردٍ صدر من متکلّمٍ عاقل ، یکون کاشفا عقلاً عن تعلّق إرادة اللافظ ولحاظه به ، ولا یختصّ ذلک بالتلفّظ بل یجری فی کلّ فعلٍ صادر عن فاعلٍ مختار ، فیکون صدوره کاشفا عن تعلّق قصد فاعله به ولحاظه إیّاه ، وأین هذا من الدلالة اللفظیة وإحضار المعنی إلی ذهن السامع بتبع إحضار اللفظ ؟

وممّا ذکرنا یظهر أنّه لا یمکن المساعدة علی ما ذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره فی المقام فی توجیه کفایة التعدّد الاعتباری بین الدالّ والمدلول ، من أنّ التضایف بین الشیئین لا یقتضی التقابل بینهما مطلقاً بأن یکون لکلّ من المتضائفین وجود مستقل ، بل التقابل ینحصر بالموارد التی یکون بین الشیئین تعاندٍ وتنافٍ فی الاتّحاد ، کما فی العلّیة والمعلولیة والأُبوّة والبنوّة ، لا فی مثل العالمیة والمعلومیة والمحبیّة والمحبوبیة ، فإنّ النفس من کلّ إنسان عالمة ومعلومة لها ، ومحبّة لها ومحبوبة لها ، والدلالة _ أی کون الشیء دالاًّ ومدلولاً _ من هذا القبیل ؛ ولذا ورد فی

ص :68

وعلی هذا، لیس من باب استعمال اللفظ بشیء، بل یمکن أن یقال: إنّه لیس إیضاً من هذا الباب، ما إذا أطلق اللفظ وأرید به نوعه أو صنفه [1]، فإنّه فرده ومصداقه حقیقة، لا لفظه وذاک معناه، کی یکون مستعملاً فیه استعمال اللفظ فی المعنی، الشَرح:

دعاء أبی حمزة الثُّمالی : «وَأَنْتَ دَلَلْتَنِی عَلَیْکَ»(1) .

ووجه الظهور أنّ الکلام فی المقام فی الدلالة اللفظیة واستعمال لفظ فی معنی ، والمراد بها ما تقدّم ، من انتقال ذلک المعنی إلی ذهن السامع بنقل اللفظ إلیه ، وهذه تکون من قبیل العلّیة والمعلولیّة فی الانتقال ، فلا یعقل اتّحاد الدالّ والمدلول خارجا ، وأمّا الدلالة فی دعاء أبی حمزة الثُّمالی «وَأَنْتَ دَلَلْتَنِی عَلَیْکَ» فهی کون شیء منشأً للعلم به .

ومن الظاهر أنّ اللّه سبحانه نفسه منشأ لعرفان الخلائق إیّاه ، فإنّه الذی هو خالق الأشیاء ومکوِّن الأجرام الفلکیة والکونیّة ومرکّب الإنسان وغیره من سائر الحیوانات ، فیکون کلّ ذلک معرّفا لقدرته وعظمته وجبروته وحکمته ، فإنّ البناء بعظمته یکشف عن مهارة بانیه وبالتالی تظهر مهارة البانی بمهارته نفسه .

وأمّا ما ذکره فی الجواب ثانیا من إحضار الموضوع وإلقائه إلی ذهن السامع بلاتوسیط استعمال اللفظ ، فهو أمرٌ صحیح ؛ لأنّ الاستعمال إنّما یحتاج إلیه فیما إذا لم یمکن إلقاء المعنی ونقله إلی ذهن السامع بلا توسیط ، وأمّا إذا کان مقصود المتکلّم ومراده نفس اللفظ والحکم علیه ، فلا موجب للاستعمال بل لا مصحّح له ، وعلیه فلا یکون من باب استعمال اللفظ فی المعنی ، کما تقدّم .

[1] ثمّ إنّه قدس سره قد أجری ما ذکره فی ذکر اللفظ وإرادة شخصه _ من عدم کون

ص :69


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 61 .

فیکون اللفظ نفس الموضوع الملقی إلی المخاطب خارجاً، قد أحضر فی ذهنه بلا وساطةٍ حاکٍ، وقد حکم علیه ابتداءً، بدون واسطة أصلاً، لا لفظه، کما لا یخفی، فلا یکون فی البین لفظ قد استعمل فی معنی، بل فرد قد حکم فی القضیة علیه بما هو مصداق لکلی اللفظ، لا بما هو خصوص جزئیه.

الشَرح:

إرادة الشخص من قبیل استعمال اللفظ ، بل من إلقاء الموضوع بلا توسیط الاستعمال _ علی ما إذا ذکر اللفظ وأُرید به نوعه أو صنفه ، وذکر أنّه یمکن فی موارد إرادة النوع أو الصنف أن یحکم علی اللفظ _ أی الملفوط _ بما هو فردٌ ومصداقٌ من الطبیعی ، فیقال : زید ثلاثی ، أو بما هو فرد من صنف نوعه بأن یقال : زیدٌ المذکور فی أوّل الکلام مرفوعا مبتدأ ، إلی غیر ذلک .

ولکن قد التزم باستعمال اللفظ فی اللفظ فی موارد إرادة المثل کما أنّه التزم فی آخر کلامه بأنّه یمکن فی موارد إرادة النوع أو الصنف کونه بنحو إلقاء الموضوع کما تقدّم ، ویمکن کونه من قبیل استعمال اللفظ فی المعنی ، کما إذا جعل اللفظ مرآة وحاکیا عن نوعه أو صنفه ، فإنّه کموارد إرادة المثل ، یکون مستعملاً فی المعنی وحاکیا عنه .

ثمّ ذکر قدس سره أنّ الاستعمالات المتعارفة فی موارد إرادة النوع لیست من قبیل إلقاء الموضوع حیث أنّ الحکم المذکور فی الکلام ربّما لا یعمّ نفس الملفوظ کما فی قولنا : (ضرب فعل ماضٍ) حیث إنّ ما تلفّظ به لیس بفعل ماضٍ ، بل هو مبتدأ فی الکلام . ومن الظاهر أنّ ما ذکره فی النوع من عدم عموم الحکم یجری فی إرادة الصنف أیضاً ، فهذه الموارد تکون من قبیل استعمال اللفظ فی اللفظ ولکن الاستعمال فیها لیس بحقیقة ؛ لعدم الوضع ، کما أن_ّه لیس بمجاز ؛ لعدم لحاظ العلاقة بین المعنی الحقیقی والمستعمل فیه ، لجریان الاستعمال فی المهملات أیضاً ، وهذا

ص :70

نعم فیما إذا أرید به فرد آخر مثله، کان من قبیل استعمال اللفظ فی المعنی، اللّهمّ إلاّ أن یقال: إنّ لفظ (ضرب) وإن کان فرداً له، إلاّ أنّه إذا قصد به حکایته، وجعل عنواناً له ومرآته، کان لفظه المستعمل فیه، وکان _ حینئذٍ _ کما إذا قصد به فرد مثله.

وبالجملة: فإذا أطلق وأرید به نوعه، کما إذا أرید به فرد مثله، کان من باب الشَرح:

هو المراد من قوله قدس سره فیما یأتی فی بحث الحقیقة الشرعیة : «وقد عرفت سابقاً أنّه فی الاستعمالات الشائعة فی المحاورات ما لیس بحقیقة ولا مجاز»(1) .

لا یقال : ما الفرق بین إرادة المثل وقد التزم قدس سره فیه بالاستعمال وبین إرادة الصنف فالتزم فیه بإمکان الوجهین من الاستعمال وإلقاء الموضوع بنفسه .

فإنّه یقال : کأنّه قدس سره نظر إلی أنّ مقتضی کون شیء مثلاً للآخر هو الاثنینیّة فیهما ، ولذا یلزم اجتماع المثلین ، بخلاف موارد إرادة الصنف ، فإنّه یمکن وجود فرد من الصنف والحکم علیه بما هو فرد ، کما إذا قیل : زید فی أوّل الکلام مبتدأ ، ولذا یکون الحکم المذکور شاملاً لنفس ذلک اللفظ .

أقول : الصحیح عدم الفرق بین موارد إرادة الشخص وبین موارد إرادة المثل والصنف والنوع ، فإنّ شیئا منها لیس من قبیل استعمال اللفظ فی اللفظ ؛ وذلک لأن_ّه کما یکون المعنی کلیّا ویرد علیه التقیید بحیث لا ینطبق معه إلاّ علی واحد ، کذلک نفس اللفظ وإذا أُرید طبیعی الملفوظ یعنی زید مع هیئته وقیّد بکونه بعد شخص (ضَرَبَ) ینطبق علی الواقع بعده ولا یعمّ غیره ، فیکون الحکم فی القضیة علی فرد خاصّ لا بصورته الخاصّة ، بل بالعنوان المنطبق علیه خاصّة ، ولو ببرکة التقیید .

لا یقال : القابل للتقیید والانطباق علی الفرد هو الطبیعی ، لا الشخص ،

ص :71


1- (1) الکفایة : ص21 .

استعمال اللفظ فی المعنی، وإن کان فرداً منه، وقد حکم فی القضیة بما یعمّه، و إن أطلق لیحکم علیه بما هو فرد کلّیه ومصداقه، لا بما هو لفظه وبه حکایته، فلیس من هذا الباب، لکن الاطلاقات المتعارفة ظاهراً لیست کذلک، کما لا یخفی، وفیها ما لا یکاد یصح أن یراد منه ذلک، مما کان الحکم فی القضیة لا یکاد یعمّ شخص اللفظ، کما فی مثل: (ضرب فعل ماض).

الشَرح:

وبالتلفّظ بلفظ زید ، یوجد الشخص لا الطبیعی القابل للتقیید ، ففی مورد إرادة المثل لابدّ من الالتزام بالاستعمال .

فإنّه یقال : تقیید الطبیعی بقید بحیث لا ینطبق معه إلاّ علی واحد یکون فی موطن النفس ، فلا ینافی ذلک کونه شخصا بالتلفّظ به ، فهو _ مع قطع النظر عن تشخّصه باللّفظ _ یکون کلّیا فی أُفق النفس ، وقد قیّد فیه وحکم علیه بما ذکر .

وبالجملة الإطلاقات المتعارفة فی موارد الحکم علی اللفظ کلّها من قبیل إلقاء الموضوع فی الخارج بنفسه لا بلفظه . وما ذکره قدس سره من أنّ الحکم فی القضیة قد لا یعمّ شخص اللفظ کما مثّل له بقوله : ضرب فعل ماضٍ ، وأنّ الملفوظ مبتدأ لا فعل ماض ، لا یمکن المساعدة علیه ، حیث إنّ (ضَرَبَ) فیما إذا استُعمل فی معناه الموضوع له یکون ماضیا ، وأمّا مع عدم استعماله فی المعنی المزبور وإرادة نفس الصیغة کما هو المفروض یمکن الحکم علیه فیکون مبتدأً . وبتعبیرٍ آخر : یکون المراد (ضرب) فی المثال السابق علی تقدیر استعماله فی معناه الموضوع له فعلاً ماضیا لا مطلقاً ، کما لا یخفی . نعم یمکن الحکم علیه بما إذا لم یقیّد بحال استعماله فی المعنی ، کما فی قولنا : (ضرب لفظٌ) .

ص :72

الخامس

لا ریب فی کون الألفاظ موضوعة بإزاء معانیها [1] من حیث هی، لا من حیث هی مرادة للافظها، لما عرفت بما لا مزید علیه، من أنّ قصد المعنی علی أنحائه من مقوّمات الإستعمال، فلا یکاد یکون من قیود المستعمل فیه.

الشَرح:

خروج القصد عن المعنی

:

[1] وبیانه أن_ّه یتحقّق الاستعمال بأمرین : الأوّل لحاظ المتکلّم المعنی ، وثانیهما کون قصده من الاستعمال الالتفات إلیه بأن یحضر ذلک المعنی إلی ذهن السامع بتبع التفاته إلی اللفظ أوّلاً ، وقد ذکر قدس سره سابقا خروج الأمر الأوّل _ یعنی لحاظ المعنی _ عن حریم الموضوع له والمستعمل فیه ، وأنّ المستعمل فیه اللفظ کالموضوع له ، نفس المعنی .

ویذکر فی المقام خروج الأمر الثانی عن حریمهما وأنّ القصد المزبور کاللحاظ غیر مأخوذ فی معانی الألفاظ ، واستشهد للخروج بأُمور :

الأوّل: أنّ القصد المزبور مقوّم للاستعمال ومحقّق له فلا یؤخذ فی الموضوع له والمستعمل فیه ، کاللحاظ .

والثانی: صحّة الحمل والإسناد فی الجمل بلا تصرف فی أطرافها ، فإنّ الألفاظ لو کانت موضوعة للمعانی بما هی مرادة ، لما صحّ الإسناد والحمل فیها بلا تجرید فی أطرافها ، مع أنّ المحمول علی زید فی (زیدٌ قائم) والمسند إلیه فی (ضَرَبَ زیدٌ) نفس القیام والضرب لا بما هما مرادان ، وکذلک الأمر فی ناحیة الموضوع والفاعل ، فإنّ الموضوع والفاعل هو زید لا بما هو مراد .

والثالث: أنّ اللازم علی تقدیر أخذ القصد المزبور فی المعانی هو کون الوضع

ص :73

هذا مضافاً إلی ضرورة صحة الحمل والاسناد فی الجمل، بلا تصرّف فی ألفاظ الأطراف، مع أنّه لو کانت موضوعة لها بما هی مرادة، لما صح بدونه، بداهة أنّ المحمول علی (زید) فی (زید قائم) والمسند إلیه فی (ضرب زید) _ مثلاً _ هو

الشَرح:

فی عامّة الألفاظ عامّا ، والموضوع له خاصّا ؛ لأنّ ما یتوقّف علیه الاستعمال بل مقوّمه لیس هو مفهوم الإرادة والقصد ، بل ما یکون بالحمل الشائع إرادةً وقصدا وأخذ واقع القصد فی معنی اللفظ یوجب جزئیته .

أقول : کلامه کما ذکرنا ناظرٌ إلی خروج قصد المعنی عن الموضوع له والمستعمل فیه ، وأمّا أنّ القصد المزبور لیس شرطا فی ناحیة الوضع نظیر ما التزم به فی المعنی الحرفی والاسمی من کون اللحاظ الآلی شرطا فی وضع الحرف ، والاستقلالی شرطا فی وضع الإسم ، فلیس فی کلامه تعرّض لإبطال ذلک . ولقائلٍ أن یقول : بما أنّ الوضع فی الألفاظ أمرٌ بنائی ، فلا محالة یختصّ بصورةٍ خاصّة ، وهی ذکر اللفظ فی مقام قصد المعنی وإرادة انتقاله إلی ذهن السامع .

وأمّا مع ذکره فی غیر هذا المقام فلم یتعلق باللفظ تعیین وقرار ، فیکون نفس الوضع مقیّدا بصورة إراده التفهیم لا الموضوع له والمستعمل فیه ، لیرد علیه لزوم التجرید فی مورد الحمل أو الإسناد أو کون الوضع فی عامّة الألفاظ عامّاً والموضوع له خاصّا .

وما ذکر من خطور المعنی إلی الذهن عند سماع اللفظ ولو من غیر شاعر لاینافی اشتراط الوضع بالقصد ، فإنّ الخطور المذکور لا یستند إلی الوضع ، بل إلی أُنس الأذهان بتلک المعانی من تلک الألفاظ ؛ ولذا یخطر المعنی ولو مع تصریح الواضع باختصاص وضعه بصورة قصد التفهیم ، وحیث إنّ قصد التفهم لابدّ من

ص :74

نفس القیام والضرب، لا بما هما مرادان، مع أنّه یلزم کون وضع عامة الألفاظ عاماً والموضوع له خاصاً، لمکان اعتبار خصوص إرادة اللافظین فیما وضع له اللفظ، فإنّه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة فیه، کما لا یخفی، وهکذا الحال فی طرف الموضوع.

الشَرح:

إحرازه بوجه ؛ فلو أُحرز تکون الألفاظ معیّنة للمعانی بمقتضی قرار الوضع والتعیین ، وقد جرت سیرة أهل المحاورات عند صدور کلام عن متکلّمٍ عاقل علی حمله علی إرادة التفهیم ما لم یکن فی البین قرینة علی الخلاف .

والحاصل أنّ الدلالة التصدیقیة التی ذکرها المصنّف فی ذیل کلام العلمین عین الدلالة الوضعیة وأنّ الدلالة التصوریّة _ یعنی خطور نفس المعنی من نفس اللفظ عند سماعه بأی نحوٍ کان _ ناشئة عن أُنس الذهن بالاستعمال ولا یکون فی اشتراط الوضع بذلک شیء من المحاذیر المتقدّمة .

ولکنّ الصحیح أنّه کما لا اشتراط فی ناحیة المستعمل فیه کذلک لا اشتراط فی ناحیة الوضع أیضاً ، وذلک لأن_ّه إن کان المأخوذ فی ناحیة الوضع مطلق إرادة التفهیم فی مقابل التلفظ غفلة وبلا إرادة ، فهذا لا یحتاج إلی الاشتراط ؛ لأنّ الاستعمال لا یکون بدون تلک الإرادة وإنّما یمکن اشتراط شیء فی الوضع إذا أمکن استعمال اللفظ بدونه لو لا الاشتراط ، وإلاّ یکون الاشتراط لغوا ، وإن کان المأخوذ إرادة خاصّة کالإرادة المتعلّقة بتفهیم المعنی الفلانی مثلاً ، فاشتراطها فی الوضع غیر معقول ؛ لأن_ّه علی ذلک یلزم علی السامع إحراز أنّ المتکلّم یرید المعنی المزبور من الخارج لأن_ّه شرط دلالة اللفظ ، وهذا فی الحقیقة إبطال لدلالة الألفاظ ، فتحصّل من جمیع ذلک أنّ اللفظ فی مقام الوضع یتعیّن لذات المعنی ، من غیر أن یؤخذ اللحاظ أو الإرادة والقصد فی ناحیة.

ص :75

وأما ما حکی عن العلمین (الشیخ الرئیس، والمحقق الطوسی) من مصیرهما إلی أنّ الدلالة تتبع الإرادة، فلیس ناظراً إلی کون الألفاظ موضوعة للمعانی بما هی مرادة، کما توهمه بعض الأفاضل [1]، بل ناظر إلی أنّ دلالة الألفاظ علی معانیها بالدلالة التصدیقیة، أی دلالتها علی کونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها، ویتفرع علیها تبعیّة مقام الإثبات للثبوت، وتفرع الکشف علی الواقع المکشوف، فإنّه لولا الثبوت فی الواقع، لما کان للاثبات والکشف والدلالة مجال، ولذا لا بدّ من إحراز کون المتکلّم بصدد الإفادة فی إثبات إرادة ما هو ظاهر کلامه ودلالته علی الإرادة، وإلاّ لما کانت لکلامه هذه الدلالة، وإن کانت له الدلالة التصوریة، أی کون سماعه موجباً لإخطار معناه الموضوع له، ولو کان من وراء الجدار، أو من لافظ بلا شعور ولا اختیار.

الشَرح:

تبعیة الدلالة للإرادة

[1] وحاصل التوهّم هو أنّ ما حکی عن العلمین من تبعیة الدلالة للإرادة ، ظاهره أنّ ثبوت المدلول للکلام تابع وموقوف علی إرادة المتکلّم له ، بأن یکون قصد المعنی قیدا للمعنی ، وإلاّ لم یکن المدلول موقوفا وتابعا للإرادة.

وبتعبیرٍ آخر : حیث إنّ ظاهر کلام العلمین توقّف ثبوت المدلول للکلام علی إرادة المتکلّم بحیث لا یثبت المدلول فیما لم یکن له إرادة ، یلزم أخذ الإرادة فی معانی الألفاظ.

ودفع قدس سره التوهّم بأنّ للکلام مدلولین:

الأوّل: المدلول التصوری ، وهو الناشئ من العلم بوضع الألفاظ ، بأن یکون سماع اللفظ موجبا للانتقال إلی معناه فیما کان السامع عالما بوضعه ، وهذا المدلول

ص :76

إن قلت: علی هذا، یلزم أن لا یکون هناک دلالة عند الخطأ، والقطع بما لیس بمراد، أو الإعتقاد بإرادة شیء، ولم یکن له من اللفظ مراد.

قلت: نعم لا یکون حینئذٍ دلالة، بل یکون هناک جهالة وضلالة، یحسبها الجاهل دلالة، ولعمری ما أفاده العلمان من التبعیة _ علی ما بیّنّاه _ واضح لا محیص عنه، ولا یکاد ینقضی تعجبی کیف رضی المتوهم أن یجعل کلامهما ناظراً إلی ما لا ینبغی صدوره عن فاضل، فضلاً عمن هو عَلَم فی التحقیق والتدقیق؟!.

الشَرح:

ثابت للکلام علی کلّ تقدیر ، وغیر موقوف علی قصد المتکلّم وإرادته .

والثانی: المدلول التصدیقی ، وهو کون المتکلم قاصدا لتفهیم المعانی المقررة فی وضع تلک الألفاظ ، وهذه الدلالة لا تثبت بمجرّد العلم بالوضع ؛ ولذا لابدّ فیها من إحراز کون المتکلّم فی مقام التفهیم لیحرز قصده تلک المعانی من تلک الألفاظ وکلام العلمین ناظر إلی هذه الدلالة الموقوفة والتابعة للقصد والإرادة.

لا یقال : هذه الدلالة أیضاً لا تتبع قصد المتکلم ، فإنّ المدلول التصدیقی یثبت فی موارد عدم إرادة المتکلّم ، کما فی مقام الخطأ والاعتقاد بإرادة شیء مع أن_ّه لم یکن ذلک الشیء مرادا للمتکلّم .

فإنّه یقال : لا یکون فی هذه الموارد دلالة حقیقة ، بل تخیّل دلالة یحسبها الغافل دلالة .

أقول : الدلالة التصدیقیّة أیضاً علی قسمین :

الأوّل: الدلالة التصدیقیة الاستعمالیة ، وهذه الدلالة تتبع قصد التفهیم ، فإنّه إذا قصد المتکلم تفهیم أمر وأتی بالکلام علی وفق وضع الألفاظ المقرّرة للمعانی ثمّ جزم السامع بأنّ ما أفهمه المتکلّم بکلامه أمرٌ آخر ، یکون ذلک من خطأ السامع

ص :77

السادس

لا وجه لتوهّم وضع للمرکبات، غیر وضع المفردات [1]، ضرورة عدم الحاجة إلیه، بعد وضعها بموادها، فی مثل (زید قائم) و (ضرب عمرو بکراً) شخصیّاً، وبهیئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعیاً، ومنها خصوص

الشَرح:

وتخیّله ، لا من المتکلّم.

والثانی: الدلالة التصدیقیة ، بالمراد الجدی یعنی کشف المراد الجدی بأصالة التطابق بین مراده الاستعمالی ومراده الجدّی وهذه الدلالة _ المعبّر عنها بأصالة التطابق _ تثبت ولا تتبع إرادة المتکلم جدّا ، لما أفهم بکلامه کما فی موارد الإفتاء تقیّة . وبتعبیرٍ آخر : هذه الدلالة لا تتبع إرادة المتکلم واقعا وجدا ، ولا ینافیها عدم إرادته کذلک ، وإنّما ینافیها العلم بالخلاف أو نصبه القرینة علی الخلاف ، کما لا یخفی . وعلی ذلک فإن أراد العلمان تبعیّة هذه الدلالة التصدیقیة لإرادة المتکلم ، فقد ذکرنا عدم تبعیتها لها ، وإن أراد التبعیة فی ثبوت الدلالة الاستعمالیة فلها وجهٌ ، کما تقدم .

الوضع فی المرکبات

:

[1] بأن یقال : المرکّب بما هو مرکّب _ مادّةً وهیئةً _ قد وضع لمعنی المرکب بوضع آخر زائدا علی وضع مفرداته فی ناحیة موادها شخصیا ، وفی ناحیة هیئات مفرادته نوعیا ، وقوله قدس سره : «ومنها خصوص هیئات المرکبات» عطفٌ علی قوله : «بهیئاتها المخصوصة یعنی من الهیئات الطارئة علی المواد هیئات المرکبات ، کهیئة المبتدأ والخبر ، مع أداة التأکید أو مع غیرها أو بدونهما .

ثمّ إنّ ظاهر کلامه وکلام غیره أنّ الوضع فی مثل (زید قائم) و(ضرب زید عمرواً) فی ناحیة موادهما شخصیّ وفی جهة الهیئات نوعیّ.

ص :78

هیئات المرکبات الموضوعة لخصوصیات النسب والإضافات، بمزایاها الخاصة من تأکید وحصر وغیرهما نوعیاً، بداهة أن وضعها کذلک وافٍ بتمام المقصودمنها، کما لا یخفی، من غیر حاجة إلی وضع آخر لها بجملتها، مع استلزامه الدلالة علی

الشَرح:

ولنا أن نتسائل : کیف صار الوضع فی ناحیة المواد شخصیا ، وفی ناحیة الهیئات نوعیا ؟

فإن قیل : بأن الواضع حین وضع المواد لاحظ مادّة مخصوصة بحیث لا تعمّ سائر المواد ووضعها لمعنی ؛ ولذا صار الوضع فی ناحیة الماده شخصیا .

فیقال : بأنّ الوضع فی ناحیة الهیئات أیضاً کذلک ، فإنّ الواضع حین الوضع لاحظ هیئةً خاصّة بحیث لا تعمّ سائر الهیئات ، مثلاً لاحظ هیئة (الفاعل) بخصوصها ولم یکن الملحوظ شاملاً لهیئة (مفعول) أو غیرها .

وإن قیل : إنّ الملحوظ حین وضع هیئة (فاعل) کان شاملاً لجمیع جزئیاتها الطارئة علی المواد المختلفة بالنوع وبهذا الاعتبار سمّی وضعها نوعیّا.

فإنّه یقال : الملحوظ عند وضع المادّة أیضاً کان شاملاً لجمیع جزئیاتها الطارئة علیها الهیئات المختلفة بالنوع ، وبالجملة لم یظهر وجه لتسمیة الوضع فی ناحیة الهیئة نوعیّا وفی ناحیة المادّة شخصیّا.

واُجیب عن الإشکال : بأنّ حال الهیئات _ حتّی فی مقام اللحاظ _ حال العرض فی الخارج ، فکما أنّ العرض فی الخارج لایتحقق بلا موضوع کذلک الهیئة لاتکون ملحوظة إلاّ فی ضمن مادّة ، حیث لا یمکن حین وضعها لحاظها بنفسها بخلاف الموادّ فإنّها قابلة للتصوّر بنفسها ، بمعنی أنّه یمکن للواضع ملاحظة مادّة من المواد ، عاریة عن جمیع الهیئات المعروفة الموضوعة فی مقابل المواد ، وعلیه فاللازم فی وضع الهیئات أحد أمرین : إمّا ملاحظتها طارئة علی عنوان جعلی مشیر إلی المواد

ص :79

المعنی: تارة بملاحظة وضع نفسها، وأخری بملاحظة وضع مفرداتها، ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلک، هو وضع الهیئات علی حدة، غیر وضع المواد، لا وضعها بجملتها، علاوة علی وضع کل منهما.

الشَرح:

المختلفة بالنوع ، کما یعبرون عن ذلک ب_ (ف ع ل) ویجعلونه مشیرا إلی المواد المختلفة . وإمّا ملاحظتها طارئة علی مادة فتوضع هی وما یماثلها من الهیئات لمعناها .

أقول : عدم إمکان لحاظ الهیئة مستقلاً والاحتیاج عند وضعها إلی أحد الأمرین لا یکون موجبا لافتراقها عن المادة بحسب الموضوع ، حیث إنّ الموضوع فی کلٍّ منها کما ذکرنا هو النوع لا الشخص فی أحدهما والنوع فی الآخر وإمکان لحاظ المادة بلا هیئة لا یفید فیما ذکر فی الفرق ، فإنّ علماء الأدب القائلین بوضع المادة شخصیا والهیئة نوعیا قد صرّحوا بأنّ الأصل فی الکلام _ أی المشتقات _ هو المصدر أو الفعل الماضی ، ومرادهم من الأصل أنّ المادة حین وضعها لوحظت فی ضمن هیئة المصدر أو هیئة الفعل الماضی .

وعلی ذلک فالموضوع لیس خصوص المادة الملحوظة مع هیئة المصدر أو الفعل ، بل هی وما یکون منها فی ضمن سائر الهیئات فیکون وضعها أیضاً نوعیا کالوضع فی ناحیة الهیئة.

واستدلّ الماتن قدس سره علی عدم وضع آخر للمرکب بما هو مرکب بأمرین:

الأوّل: عدم الحاجة إلیه بعد وفاء الوضع فی ناحیة مواد المرکب وهیئاتها لغرض الوضع .

والثانی: بأنّ لازم ثبوت وضع آخر للمرکب بما هو مرکب تعدّد الانتقال ، فباعتبار الوضع فی مواده وهیئاته یکون الانتقال تفصیلیا ، وباعتبار وضعه بما هو

ص :80

السابع

لا یخفی أنّ تبادر المعنی من اللفظ، وانسباقه إلی الذهن من نفسه _ وبلا قرینة _ علامة کونه حقیقة فیه، بداهة أنّه لولا وضعه له، لما تبادر [1].

ولا یقال: کیف یکون علامة؟ مع توقفه علی العلم بأنّه موضوع له، کما هو واضح، فلو کان العلم به موقوفاً علیه لدار.

فإنّه یقال: الموقوف علیه غیر الموقوف علیه، فإنّ العلم التفصیلی _ بکونه موضوعاً له _ موقوف علی التبادر، وهو موقوف علی العلم الإجمالی الارتکازی به، لا التفصیلی، فلا دور.

هذا إذا کان المراد به التبادر عند المستعلم، وأمّا إذا کان المراد به التبادر عند أهل المحاورة، فالتغایر أوضح من أن یخفی.

الشَرح:

مرکب یکون الانتقال إجمالیا ، کما ینتقل إلی ما یراد من لفظ الدار من المعنی إجمالاً بسماع لفظ الدار ، وینتقل إلیه تفصیلاً فیما إذا ذکر العرصة التی علیها الجدران وفیها البیوت وسائر المرافق ومدخلها من الباب .

علائم الحقیقة والمجاز

اشارة

التبادر

:

[1] بعدما ثبت بطلان الدلالة الذاتیة، بحیث یکون اللفظ دالاًّ علی معنی بلا جعل قرار ، فإنّه لو کان اللفظ بنفسه مقتضیا للانتقال إلی معناه لما کان أحد جاهلاً باللغات ، یکون التبادر والانسباق معلولاً للعلم بالوضع ، ولا ی_کفی فیه ثب_وت الوضع واقعا ، فإنّه من الواضح أنّه لو لم یکن علم بالوضع لم یکن انسباق وتبادر ، فالانسباق معلول للعلم بالوضع ، ولو کان العلم بالوضع أیضاً حاصلاً من الانسباق ، کما

ص :81

ثم إنّ هذا فیما لو علم استناد الانسباق إلی نفس اللفظ، وأمّا فیما احتمل استناده إلی قرینة، فلا یجدی أصالة عدم القرینة فی إحراز کون الاستناد إلیه، لا إلیها _ کما قیل _ لعدم الدلیل علی اعتبارها إلاّ فی إحراز المراد، لا الاستناد.

ثمّ إنّ عدم صحة سلب اللفظ _ بمعناه المعلوم المرتکز فی الذهن اجمالاً کذلک _ عن معنی تکون علامة کونه حقیقة فیه، کما أن صحة سلبه عنه علامة کونه مجازاً فی الجملة.

الشَرح:

هو مقتضی جعل التبادر علامة للوضع ، لتوقّف إحراز الوضع علی إحرازه ، وهو الدور .

وأجابوا عن ذلک کما فی المتن بأنّ العلم الحاصل من التبادر غیر العلم بالوضع الذی یتوقّف علیه التبادر ، فإنّ الأوّل علم تفصیلی ، والثانی _ یعنی ما یتوقّف علیه التبادر_ علم إجمالی ارتکازی ، والمراد بالعلم الإجمالی الإرتکازی عدم الالتفات فعلاً إلی المعنی وخصوصیاته من سعته وضیقه ، لا الجهل به رأسا ، وأهل أیّ لغةٍ واصطلاح یعلمون معانی لغتهم بالارتکاز ویلتفتون إلیها عند سماع ألفاظها .

أقول : ما یترتّب علی التبادر کما ذکر لا أهمیة له ، فإنّ تشخیص المراد الاستعمالی للمتکلم موقوف علی العلم الإجمالی الإرتکازی بأوضاع الألفاظ هیئةً ومادةً ، لا علی العلم التفصیلی ، والمفروض أنّ العلم الإجمالی لا یحصل بالتبادر ، بل التبادر یحصل به .

ثمّ إنّ هذا فیما إذا أُرید کون التبادر عند المستعلِم (بالکسر) أمارة عنده علی وضع اللفظ ، وأمّا إذا أُرید کون التبادر عند أهل المحاورة أمارة للمستعلم الجاهل بوضعه ، فلا مجال لتوهّم الدور ، فإنّ علم المستعلم موقوف علی التبادر ، والتبادر عند أهل المحاورة موقوف علی علمهم ، وفی هذا الفرض یستکشف المستعلم من التبادر عندهم وضع اللفظ ولکن فی خصوص ما أُحرز أنّ التبادر عندهم غیر مستند

ص :82

والتفصیل: إنّ عدم صحة السلب عنه، وصحة الحمل علیه بالحمل الأولی الذاتی، الذی کان ملاکه الاتحاد مفهوماً، علامة کونه نفس المعنی [1]، وبالحمل الشائع الصناعی، الذی ملاکه الاتحاد وجوداً، بنحو من أنحاء الاتحاد، علامة کونه من مصادیقه وأفراده الحقیقیّه.

الشَرح:

إلی قرینة خاصّة أو عامّة .

ولا یفید مع احتمال الاستناد إلی القرینة أصالة عدم القرینة ؛ لأنّ أصالة عدم القرینة أو الحقیقة أو غیرهما من الأُصول اللفظیّة إنّما تعتبر فیما شکّ فی مراد المتکلّم ، لا فیما أُحرز مراده وشکّ فی أن_ّه بالقرینة أم بالوضع .

مثلاً إذا أُحرز ظهور کلام الشارع أو غیره فعلاً ، ولکن شکّ فی أنّ الکلام زمان صدوره أیضاً کان ظاهرا فی هذا المعنی أو کان ظاهرا فی غیره لاحتمال النقل أو کان زمان صدوره مجملاً لاشتراک اللفظ فی ذلک الزمان ، ثمّ هجرت سائر معانیه بعد ذلک ، ففی مثل ذلک بما أنّ الشکّ فی مراد المتکلّم زمان صدور کلامه ، تجری أصالة عدم النقل أو عدم الاشتراک أو أصالة عدم القرینة إلی غیر ذلک .

صحة الحمل وعدمه وصحة السلب وعدمه

:

[1] حاصل ما ذکر قدس سره فی عدم صحة السلب المعبّر عنه بصحّة الحمل وفی صحّة السلب المعبّر عنه بعدم صحّة الحمل هو أنّه لو لم یصحّ سلب معنی لفظ (والمراد المعنی المرتکز منه إجمالاً فی الأذهان علی قرار ما تقدم فی التبادر) عن معنی وصحّ حمله علیه بالحمل الأوّلی ، کان ذلک علامة کون المعنی عین معنی اللفظ المرتکز فی الأذهان ، کما أنّ عدم صحّة سلب ذلک المعنی المرتکز عن شیء ، وصحة حمله علیه بالحمل الشائع علامة لکون الشیء المزبور من مصادیق ذلک المعنی المرتکز .

ص :83

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

کما أنّ صحّة السلب بالسلب الأوّلی علامة لعدم کون المعنی المفروض هو المعنی المرتکز من ذلک اللفظ ، کما أنّ صحة السلب الشایع علامة عدم کون الشیء المفروض من مصادیق ذلک المعنی المرتکز من ذلک اللفظ .

وإن قلنا بأنّ إطلاق اللفظ المزبور وحمل معناه المرتکز علی ذلک الشیء لایکون من باب المجاز فی الکلمة ، بل اللفظ یستعمل فی معناه المرتکز ویطبق علیه بالادعاء والعنایة ، فیکون المجاز فی الأمر العقلی ؛ لأنّ انطباق المعنی علی مصادیقه خارج عن استعمال اللفظ فی معناه ، بل هو أمر یدرکه العقل ؛ فلذا یقال : إنّ المجاز فی هذه الموارد فی أمر عقلی کما صار إلیه السکاکی .

ومما ذکر فی التبادر ، یظهر أنّ کون صحة الحمل علامة للحقیقة أو لکون المصداق حقیقیا وکون صحة السلب علامة للمجاز أو لعدم کون الشیء مصداقا حقیقة لا یستلزم الدور للتغایر بین الموقوف والموقوف علیه بالإجمال والتفصیل ، أو أنّ أحدهما علم المستعلم ، والآخر علم أهل المحاورة .

أقول : صحة الحمل الأوّلی وإن کان یکشف عن اتّحاد المحمول مع الموضوع مفهوماً، لکنّه لا یکشف عن اتّحاد هما من جمیع الجهات، بل قد یکون بینهما تغایر بالإجمال والتفصیل (کما فی قولنا: الحیوان الناطق إنسان) أو باعتبار آخر (کما فی قولنا: الإناسن بشرٌ)، وعلیه فلا یکون صحة الحمل الأوّلی کاشفاً عن کون المعنی المحمول علیه هو بعینه المعنی المرتکز للفظ، بل غایة ما یثبت ذلک صحة الاستعمال، وهو أعمّ من الحقیقه.

وتظهر ثمرة ذلک فیما إذا کان أحد العنوانین موضوعا لحکمٍ خاصّ فی خطاب الشارع دون الآخر ، فإنّه وإن صحّ حمل الموضوع علی العنوان الآخر بالحمل الأوّلی

ص :84

کما أنّ صحة سلبه کذلک علامة أنّه لیس منها، وإن لم نقل بأن إطلاقه علیه من باب المجاز فی الکلمة، بل من باب الحقیقة، و إن التّصرف فیه فی أمر عقلی، کما صار إلیه السکّاکی، واستعلام حال اللفظ، وأن_ّه حقیقة أو مجاز فی هذا المعنی بهما، لیس علی وجه دائر، لما عرفت فی التّبادر من التغایر بین الموقوف والموقوف علیه، بالإجمال والتّفصیل أو الإضافة إلی المستعلم والعالم، فتأمّل جیّداً.

الشَرح:

إلاّ أنّ الحکم لا یترتب إلاّ علی العنوان الأول ، مثلاً : إذا حکم الشارع بطهارة الدم المتخلّف فی الحیوان المذبوح ، وذبح حیوان وشکّ فی دم فی جوفه أنّه من الدم المتخلّف أو أن_ّه رجع إلی جوفه لعارض کعُلوّ رأس الحیوان أو جرّ نَفَسه الدم من الخارج ، فإنّه باستصحاب عدم خروج الدم المزبور إلی الخارج لا یثبت عنوان الدم المتخلّف ، مع أنّه یحمل بالحمل الأوّلی علی عنوان (دم لم یخرج من جوفه عند ذبحه) إلاّ أنّ حکمه لم یثبت علیه ، فتدبّر .

نعم صحة السلب _ یعنی سلب المعنی المرتکز من اللفظ _ عن شیء شکّ بدوا فی کونه مصداقا له علامة عدم کون المسلوب عنه مصداقا وفردا لذلک المعنی ، فإنّ الطبیعی لا یسلب عن فرده ومصداقه فی حال ، بل یحمل علیه فی جمیع الأحوال ، ولو صحّ حمل عنوان علی شیء فی حالٍ خاصّ لثبت أنّه فرده فی ذلک الحال فقط ، فتدبّر جیّداً و ممّا ذکرنا یظهر أن تبادر المعنی من حاق اللفظ التی هی علامة للحقیقة وکشف الدلالة الوضعیة لا یغنی عن صحة السلب و عدم صحته فإن بصحة السلب و عدم صحته یعلم سعة المعنی الموضوع له وضیقة بعد العلم الإجمالی الارتکازی بأصل المعنی کما لا یخفی فإنّ من أوضح الألفاظ من حیث المعنی لفظ الماء وربّما یشک فی دخول ماء فیه و عدمه کالماء المصنوع وبعض ما السیل.

ص :85

ثم إنّه قد ذُکر الاطراد وعدمه علامة للحقیقة والمجاز أیضاً، ولعلّه بملاحظة نوع العلائق [1] المذکورة فی المجازات، حیث لا یطرد صحة استعمال اللفظ

الشَرح:

الاطّ_راد

:

[1] وحاصله أنّ القائل بکون الاطّراد فی استعمال اللفظ فی معنی علامة الحقیقة ، وعدم اطراده علامة المجاز لاحظ نوع العلائق التی ذکروها للاستعمالات المجازیة ، ورأی أنّ اللفظ لا یستعمل فی کلّ معنی یکون بینه وبین معناه الموضوع له إحدی هذه العلاقات . ولاحظ أیضاً اللفظ الموضوع لمعنی ورأی أنّه یستعمل فیه دائما ، فذکر أنّ استعمال اللفظ فی معنی مطّرداً علامة کونه حقیقة فیه وعدمه کما ذکر علامة کونه مجازا ، وإلاّ فلو لاحظ هذا القائل خصوص علاقة یصحّ بها استعمال اللفظ فی معنی بتلک العلاقة لرأی أنّه یصحّ استعماله فی ذلک المعنی مکرّرا ، فمثلاً استعمال لفظ الأسد فی الحیوان المفترس مطرّد ، وکذلک استعماله فی الرجل الشجاع ، وعلی ذلک فلا یعلم من مجرّد اطّراد الاستعمال فی لفظ بالإضافة إلی معنی من المعانی أن_ّه علی نحو الحقیقة أو المجاز .

وذکر صاحب الفصول قدس سره أنّ الاطّراد بلا تأویل علامة الحقیقة(1).

وفیه أنّ زیادة قید (بلا تأویل) أو (علی وجه الحقیقة) وإن کان موجبا لاختصاصه بالحقیقة فإنّه لابدّ فی الاستعمال المجازی من التأویل وإعمال العنایة ، إلاّ أنّ الاطّراد علی ذلک لا یکون علامة الحقیقة إلاّ بوجه دائر ؛ لتوقّف إحراز کون الاطّراد بلا تأویل علی العلم بالوضع ، فلو توقّف العلم بالوضع علیه لدار .

لا یقال : الموقوف علی الاطّراد العلم التفصیلی ، والاطّراد موقوف علی العلم

ص :86


1- (1) الفصول : ص31 س8 ، الطبعة الحجریة .

معها، وإلاّ فبملاحظة خصوص ما یصحّ معه الاستعمال، فالمجاز مطرد کالحقیقة، وزیادة قید (من غیر تأویل) أو (علی وجه الحقیقة)، وإن کان موجباً لاختصاص الاطراد کذلک بالحقیقة، إلاّ أنّه _ حینئذٍ _ لا یکون علامة لها إلاّ علی وجه دائر، الشَرح:

الإجمالی بالوضع ، کما تقدم فی الجواب عن الدور فی التبادر وعدم صحة السلب .

فإنّه یقال : الجواب المتقدّم غیر جارٍ فی المقام ، فإنّ انسباق المعنی من اللفظ إلی ذهن السامع لا یتوقّف علی علمه التفصیلی بوضع ذلک اللفظ لذلک المعنی ، فالعلم التفصیلی یحصل للسامع بالتبادر ، بخلاف المقام ، فإنّ الاطّراد هو شیوع استعمال اللفظ فی معنی بلا تأویل وعنایة ، وإحراز هذا الاطّراد یتوقّف علی حصول العلم التفصیلی بالوضع قبل إحراز الاطّراد وذلک لأنّ العلم التفصیلی یحصل بملاحظة استعمال واحد وإحراز الاطّراد یتوقّف علی ملاحظة أکثر من استعمال واحد. فیکون جعل الاطّراد علامة لغواً لحصول العلم التفصیلی بالوضع قبله باستعمال واحد. وکذلک الأمر ، بناءً علی أنّ التبادر عند العالم علامة للمستعلم ، حیث إنّه یمکن للمستعلم إحراز المعنی المتبادر من اللفظ عند أهل المحاورة قبل علمه بالوضع ، بل یحصل هذا العلم له نتیجة علمه بالتبادر عندهم .

وهذا بخلاف الاطّراد فإنّ إحراز الشخص أنّ هذا اللفظ یستعمل عند أهل المحاورة بنحو الشیوع والتکرار بلا عنایة فی معنی خاصّ فرع علمه بالوضع عندهم لذلک المعنی ، وإلاّ فکیف یحرز أنّ هذه الاستعمالات کلّها بلا لحاظ علاقة وعلی وجه الحقیقة ؟

أقول : لعلّ مراد القائل بکون الاطّراد علامة الحقیقة وعدمه علامة المجاز هو أنّه لو أراد المستعلم أن یعلم کون استعمال لفظ فی معنی خاصّ عند أهل المحاورة بنحو الحقیقة ومن قبیل استعمال اللفظ فیما وضع له أو أنه یستعمل فیه بنحو

ص :87

ولا یتأتّی التفصی عن الدور بما ذکر فی التبادر هنا، ضرورة أنّه مع العلم بکون الاستعمال علی نحو الحقیقة، لا یبقی مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد، أو بغیره.

الشَرح:

المجاز ، فعلیه أن یلاحظ استعمالاتهم فإذا رأی صحّة التعبیر عندهم عن ذلک المعنی بذلک اللفظ حتّی فی استعمالاته التی لا تناسب رعایة العلاقة المحتمل رعایتها فی بعض تلک الاستعمالات ، علم بوضع اللفظ لذلک المعنی .

وإذا رأی عدم صحّة استعمال اللفظ المزبور فی ذلک المعنی فی جمیع التراکیب المتعارفة ، فیعلم بأنّ استعماله إنّما هو بلحاظ تلک العلاقة التی کان یحتمل وقوعه بلحاظها ، کما فی المرق الرقیق ، فإنّه قد یطلق علیه الماء فی موارد الطعن علی صاحبه مثلاً ، أو آکلیه ، وقد لا یطلق علیه الماء فی جمیع الموارد کما إذا لم یکن عند المکلّف ماء للوضوء والغسل وکان عنده المرق ، فإنّه لا یقول عندی ماء ، وهذا بخلاف ماء الکوز ونحوه فإنّه یطلق علیه الماء فی جمیع الموارد ، ووصفه فی بعضها بأنّه قلیل لا یقدح فیما هو المهمّ فیه .

فیکون الاطّراد علامة لاستناد فهم المعنی فی الثانی إلی حاق اللفظ بخلاف الاستعمال فی الأول فإنه یکون بلحاظ العنایة وملاحظة المناسبة.

ص :88

الثامن

أنّه للّفظ أحوال خمسة، وهی: التجوّز، والاشتراک، والتخصیص [1]، والنقل، والإضمار، لا یکاد یصار إلی أحدها فیما إذا دار الأمر بینه وبین المعنی الحقیقی، إلاّ بقرینة صارفة عنه إلیه.

وأمّا إذا دار الأمر بینها، فالأصولیون، وإن ذکروا لترجیح بعضها علی بعض وجوهاً، إلاّ أنّها استحسانیة، لا اعتبار بها، إلاّ إذا کانت موجبة لظهور اللفظ فی المعنی، لعدم مساعدة دلیل علی اعتبارها بدون ذلک، کما لا یخفی.

الشَرح:

أحوال اللفظ

:

[1] فإنّه إن استُعمل اللفظ فی غیر ما وضع له بلحاظ العلاقة یکون مجازا ، وإن استُعمل فی معنیً آخر باعتبار أن_ّه الموضوع له أیضاً بلا هجر معناه الأول یکون مشترکا ، ومع هجره ورعایة المناسبة یکون منقولاً ، وباعتبار عدم إرادة بعض مدلوله جدّا یکون تخصیصا ، وباعتبار تقدیر الدالّ علی المراد یکون إضمارا .

وإفراد التخصیص عن المجاز مبنیّ علی ما هو الصحیح من أنّه کالتقیید لایکون موجبا للمجاز فی استعمال العامّ ، وأمّا عدم ذکره قدس سره التقیید ، فلعلّ مراده بالتخصیص ما یعمّه ، کما أنّ عدم تعرّضه للمجاز والعنایة فی الإسناد لدخوله فی التجوّز کما هو الحال فی الاستخدام.

ثمّ إذا أُحرز ظهور اللفظ فی معنی ، واحتمل أن یکون مراد المتکلّم غیر ذلک الظاهر بأن احتمل استعماله فی غیره مجازا ، أو أنه موضوع للمعنی الآخر عنده بلا هجر معناه الأوّل ، أو مع هجره أو أنه أراد غیر ذلک الظاهر بنحو الاضمار ، أو کون مراده الجدی غیره بنحو التخصیص أو التقیید ، تکون أصالة الظهور متّبعة کما هو

ص :89

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

المقرر فی مبحث حجیة الظهور .

وأمّا إذا أُحرز أنّ مراده غیر معناه الظاهر وتردّد مراده بین الأنحاء المذکورة أو بین بعضها ، فلا اعتبار بشیء ممّا قیل فی ترجیح بعضها علی بعض ما لم یکن فی البین ظهور لکلامه فی تعیین أحدها .

ص :90

التاسع

إنّه اختلفوا فی ثبوت الحقیقة الشرعیة وعدمه علی أقوال، وقبل الخوض فی تحقیق الحال لا بأس بتمهید مقال، وهو: أنّ الوضع التعیینی، کما یحصل بالتصریح بإنشائه[1]، کذلک یحصل باستعمال اللفظ فی غیر ما وضع له، کما إذا وضع له، بأن الشَرح:

الحقیقة الشرعیة

[1] ذکر قدس سره أن الوضع التعیینی کما یکون بإنشاء الوضع وتعیین اللفظ بإزاء المعنی بالقول کذلک یکون الوضع والتعیین بنفس استعمال لفظ فی معنی غیر موضوع له ، علی نحو استعمال اللفظ فیما وضع له بأن یقصد الحکایة والدلالة علی ذلک المعنی بنفس اللفظ لا الحکایة عنه باللفظ مع القرینة ، نعم لابدّ فی البین من قرینة دالّة علی أنّ استعمال اللفظ فیه والحکایة عنه بنفس اللفظ لغایة تحقّق وضعه له _ وهذه غیر قرینة المجاز ، حیث إنّ القرینة فیه تکون علی حکایة اللفظ معها عن المعنی _ وعدم کون استعمال اللفظ فی غیر ما وضع فی مقام وضعه له ، من الاستعمال الحقیقی (حیث إنّ المفروض حصول الوضع بعد تحقّق ذلک الاستعمال) ولا من المجاز (حیث إنّ المعتبر فی الاستعمال المجازی لحاظ العلاقة بین المعنی المستعمل فیه ومعناه الموضوع له) غیر ضائر ، بعد کون هذا النحو من الاستعمال مما یقبله الطبع ولا یستهجنه ، وقد تقدّم أنّ فی الاستعمالات الشائعة ما لا یکون حقیقة ولا مجازا ، ولکن ممّا یقبله الطبع ، کاستعمال اللفظ فی اللفظ.

وأورد المحقّق النائینی قدس سره علی ما ذکر من حصول الوضع بالاستعمال ، بأنّ الاستعمال یقتضی لحاظ اللفظ فانیا فی المعنی بحیث یکون الملحوظ استقلالاً هو المعنی ویکون اللفظ مغفولاً عنه، بخلاف الوضع فإنّه یقتضی لحاظ اللفظ استقلالاً، فلو حصل الوضع بالاستعمال لزم کون اللفظ فی ذلک الاستعمال ملحوظا آلیا

ص :91

یُقصد الحکایة عنه، والدلالة علیه بنفسه لا بالقرینة، وإن کان لا بد _ حینئذ _ من نصب قرینة، إلاّ أنّه للدلالة علی ذلک، لا علی إرادة المعنی، کما فی المجاز، فافهم.

الشَرح:

واستقلالیّا.

ولکن لا یخفی ما فیه ، فإنّه _ کما سیأتی فی بحث استعمال اللفظ فی أکثر من معنی _ أنّ مجرد استعمال اللفظ فی معنی لا یقتضی کون اللفظ ملحوظا استقلالاً ، لا أنّه یقتضی عدم لحاظه استقلالاً ، فلو کان فی الاستعمال غرض یقتضی لحاظ اللفظ استقلالاً فلا ینافیه الاستعمال ، کما إذا کان غیر العربی یتکلّم باللغة العربیة ویعبّر عن مراداته بتلک اللغة فی مقام إظهار معرفته بها ، فیکون کمال إلتفاته إلی الألفاظ ویستعملها لتفهیم مراداته.

ولو أُغمض عن ذلک وقلنا بأنّ الاستعمال یقتضی فناء اللفظ فی المعنی وکونه مغفولاً عنه ، فإنّ مقتضی ذلک أن لا یکون اللفظ بنفسه ملحوظا استقلالاً عند إنشاء المعنی المراد من اللفظ أو الحکایة عنه ، وهذا لا ینافی کون النفس ملتفتة إلی الاستعمال المذکور فتعتبره وضعا لذلک اللفظ بإزاء ذلک المعنی المنشأ والمحکی عنه .

وأورد أیضاً علی ما ذکره الماتن قدس سره من أنّ المقصود فی مورد الوضع بالاستعمال الحکایة والدلالة علی المعنی بنفس اللفظ لا بالقرینة ، کما فی المجاز ، بأنّ دلالة اللفظ علی المعنی المزبور لا تکون بلا قرینة ؛ وذلک لعدم إمکان انتقال المعنی إلی ذهن السامع من اللفظ بدون الوضع وبدون القرینة لبطلان الدلالة الذاتیة فی الألفاظ ، وإذا لم یکن فی الفرض وضع قبل حصول الاستعمال کما هو المفروض ، فکیف یکون الانتقال من اللفظ إلی ذلک المعنی بلا قرینة ؟ غایة الأمر القرینة الدالّة علی کونه فی مقام الوضع تکون مغنیة عن قرینة مستقلّة للدلالة علیه ، ولو فرض فی مورد عدم کفایتها ، لزم نصب قرینة أُخری أیضاً للدلالة .

ص :92

وکون استعمال اللفظ فیه کذلک فی غیر ما وضع له، بلا مراعاة ما اعتبر فی المجاز، فلا یکون بحقیقة ولا مجاز [1]، غیر ضائر بعد ما کان مما یقبله الطبع ولا یستنکره، وقد عرفت سابقاً، أنّه فی الاستعمالات الشایعة فی المحاورات ما لیس بحقیقة ولا مجاز.

الشَرح:

ولکن لا یخفی ما فیه ، فإنّ دلالة اللفظ علی المعنی وإن لم تکن ذاتیة ولکنها لا تتوقّف علی الوضع الحاصل من قبل أو القرینة علی الدلالة ، بل الموجب للدلالة هو العلم بالوضع ، ولو بالوضع الحاصل بالاستعمال ، فالقرینة علی الوضع بالاستعمال ، فی الحقیقة قرینة علی جعل نفس اللفظ دالاًّ علی المعنی المفروض ، فیکون ذلک اللفظ بنفسه دالاًّ ، ولذا ذکر أنّها تغنی عن القرینة الأُخری .

[1] لعلّ نظره قدس سره فی عدم کون الاستعمال المزبور حقیقةً إلی عدم تحقّق الوضع عند الاستعمال وکون الاستعمال إنشاءا للوضع مقتضاه أن لا یتّصف المعنی فی الاستعمال المزبور بکونه موضوعا له ، وأمّا عدم کونه استعمالاً مجازیا فلأنّ المفروض عدم کون الاستعمال بلحاظ العلاقة وإعمال العنایة .

أقول : ماذکره من عدم کون الاستعمال حقیقة فیما إذا أُرید تحقّق الوضع لایمکن المساعدة علیه ، فإنّ حصول الوضع بالاستعمال لکون الابراز مقوما فی الإنشائیات ومنها الوضع فی الألفاظ ، وعلی ذلک فلا یکون المعنی قبل الاستعمال متّصفا بکونه موضوعاً له ، وکذا فی مرتبة الاستعمال ، ولکن زمان حصول الاستعمال متّحد مع زمان الوضع الذی یکون اعتباره بالنفس وإبرازه بالاستعمال ، ولا ح_اجة فی کون الاستعمال حقیقة إلی أزید من ذلک ، إذ معه لا یحتاج المتکلّم إلی لحاظ العلاقة وإعمال العنایة . وقد تقدّم أنّ ما أشار إلیه المصنّف من أنّ فی الاستعمالات المتعارفة ما لا یکون بحقیقة ولا مجاز غیر صحیح ، وأنّ استعمال اللفظ فی اللفظ أمرٌ

ص :93

إذا عرفت هذا، فدعوی الوضع التعیینی فی الألفاظ المتداولة فی لسان الشارع هکذا قریبة جدّاً، ومدعی القطع به غیر مجازف قطعاً، ویدل علیه تبادر المعانی الشرعیة منها [1] فی محاوراته، ویؤید ذلک أنّه ربما لا یکون علاقة معتبرة بین المعانی الشرعیة واللغویة، فأیّ علاقة بین الصلاة شرعاً والصلاة بمعنی

الشَرح:

لا أساس له.

[1] قد یقال : تبادر المعانی الشرعیة من ألفاظ العبادات الواردة فی محاورات الشارع أوّل الکلام ، وعلی تقدیره فلا یکون مثبتا للوضع بالاستعمال ، ولکنّ الظاهر عدم ورود الإشکال ، فإنّه لا یحتمل أن یکون مثل قوله سبحانه : «کُتِبَ عَلَیْکُمْ الصِّیامُ»الآیة(1) ، عند نزولها من المجملات ، ولم تکن ظاهرة فی الصدر الأوّل فی المعانی الشرعیة ، أو کانت ظاهرة فی معانیها اللغویة .

نعم ، یبقی فی البین احتمال کون تلک الألفاظ موضوعة لتلک المعانی قبل الشریعة الإسلامیة أیضاً ، کما استشهد الماتن لذلک بغیر واحد من الآیات ، مثل قوله تعالی «کُتِبَ عَلَیْکُمْ الصِّیامُ کَما کُتِبَ عَلی الّذِیْنَ مِنْ قَبْلِکُمْ» ، وقوله سبحانه : «وَأَذِّنْ فِی النَّاسِ بِالحَجِّ»(2) ، وقوله سبحانه : «وَأَوْصانِی بِالصّلاةِ وَالزَّکاةِ ما دُمْتُ حَیَّاً»(3) ، فتکون ألفاظها حقیقة لغویة لا شرعیة ، واختلاف الشرائع فی تلک الحقائق جزءا أو شرطا لا یوجب تعدّد المعنی ، فإنّ الاختلاف یمکن أن یکون فی المصادیق والمحقّقات کاختلافها بحسب الحالات فی شرعنا .

ثمّ إنّه قدس سره أیّد ثبوت الحقیقة الشرعیة فی تلک الألفاظ ، بعدم ثبوت علاقة

ص :94


1- (1) سورة البقرة : الآیة 183 .
2- (2) سورة الحج : الآیة 27 .
3- (3) سورة مریم : الآیة 31 .

الدعاء، ومجرد إشتمال الصلاة علی الدعاء لا یوجب ثبوت ما یعتبر من علاقة الجزء والکل بینهما، کما لا یخفی. هذا کله بناء علی کون معانیها مستحدثة فی شرعنا.

الشَرح:

معتبرة بین المعانی الشرعیة وبین معانیها اللغویة ، وقد مثّل بلفظ الصلاة حیث لا علاقة بین معناها الشرعی وبین معناها اللغوی ، ومجرد اشتمال معناها الشرعی علی الدعاء لا یوجب ثبوت العلاقة المعتبرة فی استعمال اللفظ الموضوع للجزء فی الکلّ ، حیث إنّه لا ترکیب حقیقة ، ولیس الجزء من الأجزاء الرئیسیة .

فعدم ثبوت العلاقة المعتبرة یکشف عن عدم کون استعمال لفظ الصلاة فی معناها الشرعی فی محاورات الشارع من قبیل الاستعمال المجازی ، والوجه فی جعل ذلک مؤیّدا لا دلیلاً یمکن أن یکون أحد أمرین :

الأوّل : إنّ عدم العلاقة علی تقدیره لا یکشف عن وضع الشارع ، لإمکان کون تلک الألفاظ موضوعة للمعانی الشرعیة قبل الإسلام ، کما استشهد لذلک بالآیات .

والثانی : إمکان صحّة استعمال اللفظ فی المعنی ، ولو مع عدم العلاقة المعتبرة وبلا وضع ، کما تقدّم من وقوعه فی بعض الاستعمالات المتعارفة لحسنها بالطبع .

وأورد المحقّق النائینی قدس سره علی ما ذکره _ من أنّ ثبوت المعانی الشرعیة فی الشرائع السابقة یوجب کون تلک الألفاظ حقائق لغویة _ بأنّ ثبوت بعض المعانی الشرعیة أو کلّها فی الشرائع السابقة لا یوجب انتفاء الحقیقة الشرعیة ؛ لأنّ ثبوتها فیها لا یکشف عن کون أسامیها المتداولة عندنا کانت موضوعة لها قبل الإسلام فی لسان العرب السابق، حیث لم تکن لغة جمیع الأنبیاء السابقین (علی نبینا وآله وعلیهم السلام) عربیة ، فیحتمل أنّ العرب فی ذلک الزمان کانوا یعبّرون عنها بغیر الألفاظ المتداولة عندنا ، بل کانوا یعبّرون بغیر اللغة العربیة کما نراهم فعلاً یعبّرون عن بعض الأشیاء

ص :95

وأما بناءً علی کونها ثابتة فی الشرائع السابقة، کما هو قضیة غیر واحد من الآیات، مثل قوله تعالی «کتب علیکم الصیام کما کتب علی الذین من قبلکم»(1) وقوله تعالی «وأذّن فی الناس بالحج»(2) وقوله تعالی «وأوصانی بالصلاة والزکاة ما دمت حیّاً»(3) إلی غی_ر ذلک، فألفاظها حقائق لغویة، لا شرعیة، واختلاف الشَرح:

المخترعة بلغات سائر الأُمم ، ووجود لفظ الصلاة فی الإنجیل المترجم بلغة العرب لا یدلّ علی سبق استعمال لفظ الصلاة أو غیره فی تلک المعانی قبل الإسلام ؛ لاحتمال حدوث الاستعمال عند ترجمة الإنجیل بلغة العرب بعد الإسلام .

وبالجملة ، ثبوت الحقیقة الشرعیة لا یتوقّف علی عدم وجود المعانی الشرعیة قبل الإسلام ، بل موقوف علی عدم کون الألفاظ المتداولة عندنا موضوعة لتلک المعانی الشرعیة قبل الاسلام ، سواء کان ذلک لعدم المعنی الشرعی سابقا أو لعدم وضع اللفظ له قبل الإسلام(4) .

أقول : المدّعی أنّ الناس قد فهموا من قوله سبحانه «کُتِبَ عَلَیْکُم الصِّیامُ»(5) عند قراءة النبی صلی الله علیه و آله لها ولغیرها من الآیات ، المعانی الشرعیة ولایکون ذلک عادةً إلاّ إذا کان تعبیرهم عن تلک المعانی الشرعیة السابقة علی الإسلام بهذه الألفاظ المتداولة .

لا یقال : کیف یمکن دعوی الجزم بأنّ المعانی الشرعیة کانت هی المتبادرة فی

ص :96


1- (1) القبرة / 183.
2- (2) الحج / 27.
3- (3) مریم / 31.
4- (4) أجود التقریرات : 1 / 34 .
5- (5) سورة البقرة : الآیة 183 .

الشرائع فیها جزءاً وشرطاً، لا یوجب اختلافها فی الحقیقة والماهیة، إذ لعلّه کان من قبیل الاختلاف فی المصادیق والمحققات، کاختلافها بحسب الحالات فی شرعنا، کما لا یخفی.

ثم لا یذهب علیک أنه مع هذا الإحتمال، لا مجال لدعوی الوثوق _ فضلاً عن القطع _ بکونها حقائق شرعیة، ولا لتوهم دلالة الوجوه التی ذکروها علی ثبوتها، لو سلم دلالتها علی الثبوت لولاه، ومنه قد انقدح حال دعوی الوضع التعیّنی معه، الشَرح:

محاورات الشارع وعند نزول الآیات المشار إلیها ، مع أنّ ما ورد فی الروایات المعتبرة فی قضیة تیمّم عمّار شاهد لکون المتفاهم عندهم کانت هی المعانی اللغویة ؟

فإنّه یقال : المدّعی أنّ جلّ تلک الألفاظ کانت حقیقة فی تلک المعانی لا کلّها ، بحیث لا یشذّ منه لفظ أو لفظان ، ولفظ التیمّم _ علی ما یظهر من الروایات _ لم یکن له معنیً خاصّ فی الشرائع السابقة ، کما یشیر إلیه قوله صلی الله علیه و آله : «جُعلت لی الأرض مسجدا وطهورا»(1) .

ودعوی أنّ لفظ الصلاة أیضاً کان ظاهراً فی معناه اللغوی وإنّما کان یستعمل فی معناه الشرعی فی محاورات الشارع مجازا أو بلحاظ العلاقة ، حیث إنّ الصلاة فی اللغة بمعنی المیل والعطف ، والعطف من اللّه سبحانه الرحمة والمغفرة ، ومن العباد طلبها ، فیکون من باب استعمال اللفظ الموضوع للکلی وإرادة فرده الخاصّ ، لا یمکن المساعدة علیها ، فإنّه لا یحتمل أن یکون قوله سبحانه «وَأقِیْمُوا الصَّلاةَ»(2) مرادفا عندهم لقوله «وَاسْتَغْفِرُوا اللّه»ولا مناسبا له ، کما لا یخفی .

ص :97


1- (1) الوسائل : ج2 ، باب7 من أبواب التیمّم ، الحدیث : 2 و 3 و 4 .
2- (2) سورة البقرة: الآیة 43.

ومع الغض عنه، فالإنصاف أنّ منع حصوله فی زمان الشارع فی لسانه ولسان تابعیه مکابرة [1]، نعم حصوله فی خصوص لسانه ممنوع، فتأمل.

وأمّا الثمرة بین القولین [2]، فتظهر فی لزوم حمل الألفاظ الواقعة فی کلام الشارع بلا قرینة علی معانیها اللغویة مع عدم الثبوت، وعلی معانیها الشرعیة علی الثبوت، فیما إذا عُلم تأخر الإستعمال، وفیما إذا جهل التاریخ، ففیه إشکال، الشَرح:

[1] یعنی لو فرض الإغماض عمّا تقدّم والتسلیم بأنّ الاستعمالات فی تلک الألفاظ کانت بنحو المجاز والعنایة ، فلا ینبغی المناقشة فی أنّها صارت حقائق فی المعانی الشرعیة باستعمالات الشارع واستعمالات تابعیه ، یعنی المسلمین ، وإنکار ذلک مکابرة ، ویکفی فی الجزم بذلک تداول بعض تلک الألفاظ فی محاورات الشارع والمسلمین فی کلّ یوم مرّة أو مرّات ، نعم یمکن منع حصول الوضع بکثرة الاستعمال فی خصوص کلام الشارع واستعمالاته .

أقول : هذا مبنیّ علی حصول الوضع بکثرة الاستعمال وصیرورة اللفظ ظاهرا فی معناه الجدید بکثرة الاستعمال ، بحیث لا یحتاج فی استعماله فیه إلی تعیین ، ولکن ذکرنا أنّ التعیین یحصل لا محالة ولو بنحو إنشائه بالاستعمال .

[2] تظهر الثمرة بین القولین فیما إذا ورد من تلک الألفاظ فی کلام الشارع بلا قرینة ، فعلی القول بإنکار الحقیقة الشرعیة یحمل علی معناه اللغوی ، وبناءً علی ثبوت الحقیقة الشرعیة بنحو الوضع التعیینی یحمل علی المعنی الشرعی ، وکذا إذا قیل بالحقیقة الشرعیة بنحو الوضع التعیینی فیما إذا کان صدور الکلام بعد حصوله بخلاف ما إذا کان صدوره قبل حصوله ، ویکون الکلام مجملاً فیما إذا دار أمر صدوره بین التقدّم والتأخّر .

وعن المحقّق النائینی قدس سره أن_ّه لم یوجد فی کلام الشارع من تلک الألفاظ ما دار

ص :98

وأصالة تأخّر الاستعمال [1] مع معارضتها بأصالة تأخّر الوضع، لا دلیل علی اعتبارها تعبداً، إلاّ علی القول بالأصل المثبت، ولم یثبت بناء من العقلاء علی التأخر مع الشک، وأصالة عدم النقل إنما کانت معتبرة فیما إذا شک فی أصل النقل، لا فی تأخره، فتأمل.

الشَرح:

أمره بین حمله علی المعنی اللغوی أو الشرعی بأن یجهل مراد الشارع ، وعلیه فیصبح البحث فی الحقیقة الشرعیة بحثاً علمیّا محضاً(1) .

أقول : یمکن المناقشة فیه بأنّ المراد من الصلاة فی قوله سبحانه : «قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَکَّی وَذَکَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّی»(2) مردّد بین الدعاء ومعناه الشرعی ، وکذا فی قوله سبحانه «یا أیُّها الَّذِیْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَیْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِیْما»(3) فإنّه یدور أمره بین الدعاء ولو بقول القائل: (اللّهم ارفع درجات النبی صلی الله علیه و آله )، وبین کونها الصلاة المتعارفة عند المتشرّعة ، وکذا ما وصل إلینا من کلام النبی صلی الله علیه و آله من غیر طرق أئمّتنا علیهم السلام فإنّه وإن وصل غالب کلامه إلینا بواسطتهم علیهم السلام وکان علیهم نقله بحیث یفهم مراده صلی الله علیه و آله لوقوع النقل فهم فی مقام بیان الأحکام الشرعیة إلاّ أنّ قلیلاً منه قد وصل بغیر واسطتهم فاستظهار المراد من کلامه یبتنی علی البحث فی الحقیقة الشرعیة .

[1] قد یقال : إنّه إذا دار أمر الاستعمال بین وقوعه قبل الوصول إلی مرتبة الوضع التعینی أو بعد وصوله ، فیحمل علی المعنی الشرعی لأصالة تأخّر الاستعمال .

ص :99


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 33 .
2- (2) سورة الأعلی : الآیة 14 .
3- (3) سورة الأحزاب : الآیة 56 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فنقول : إن کان المراد بأصالة التأخّر استصحاب عدم صدور الاستعمال المزبور إلی زمان حصول الوضع ویثبت به ظهوره فی المعنی الشرعی وهو موضوع الحجّة ، فهذا مع الغضّ عن کونه مثبتا حیث إنّ ظهوره فی المعنی الشرعی أثر عقلیّ لتأخّر الاستعمال ، معارض بأصالة تأخّر الوضع ، یعنی استصحاب عدم حصول الوضع إلی زمان ذلک الاستعمال .

وإن أُرید بأصالة تأخّر الاستعمال عدم حصول النقل فی اللفظ المزبور زمان استعماله وإنّ هذا أصل عقلائی یعبّر عنه بأصالة عدم النقل .

ففیه : أنّ أصالة عدم النقل إنّما تعتبر عند العقلاء فیما إذا شک فی مراد المتکلم من ذلک اللفظ ولم یعلم حصول النقل فیه أصلاً ، وأمّا إذا علم النقل وشک فی تقدّمه وتأخّره فلا تعتبر ولا یمکن إحراز مراد المتکلّم بها .

ص :100

العاشر

أنّه وقع الخلاف فی أن ألفاظ العبادات، أسامٍ لخصوص الصحیحة أو للأعم منها؟

وقبل الخوض فی ذکر أدلة القولین، یذکر أمور:

منها: إنه لا شبهة فی تأتّی الخلاف، علی القول بثبوت الحقیقة الشرعیة، وفی جریانه علی القول بالعدم إشکال.

وغایة ما یمکن أن یقال فی تصویره [1]: إنّ النزاع وقع _ علی هذا _ فی أنّ

الشَرح:

الصحیح والأعمّ

:

[1] ذکر قدس سره ما حاصله إنّ جریان البحث فی الصحیح والأعمّ علی القول بإنکار الحقیقة الشرعیة ، والبناء علی أنّ استعمال الشارع تلک الألفاظ فی معانیها الشرعیة کان بنحو المجاز یتوقّف علی أمرین :

الأوّل: عدم ملاحظة الشارع العلاقة بین کلٍّ من الصحیح والأعمّ وبین المعانی اللغویة لتلک الألفاظ ، بل کانت الاستعمالات فی أحدهما بملاحظة العلاقة بینه وبین المعنی اللغوی ، واستعماله فی الآخر منها بنحو سبک المجاز عن مجاز ، یعنی بملاحظة العلاقة بینه وبین المعنی المجازی الأوّل .

والثانی: إثبات أن_ّه بعد فرض وحدة المجاز المسبوک عن المعنی اللغوی جری دیدنه عند إرادة المعنی المسبوک من الحقیقة علی الاکتفاء بنصب قرینة صارفة فقط ، وأنّه عند إرادة المعنی المسبوک عن المجاز کان ملتزما بنصب قرینة معیّنة علیه ونتیجة هذین الأمرین حمل کلامه علی المسبوک من معناه اللغوی عند قیام القرینة الصارفة علی عدم إرادته ، فللملتزم بالأمرین أن یتکلّم فی المعنی الذی لاحظ

ص :101

الأصل فی هذه الألفاظ المستعملة مجازاً فی کلام الشّارع، هو استعمالها فی خصوص الصحیحة أو الأعم، بمعنی أنّ أیّهما قد اعتبرت العلاقة بینه وبین المعانی اللغویة ابتداءً، وقد استعمل فی الآخر بتبعه ومناسبته، کی ینزل کلامه علیه مع الشَرح:

الشارع العلاقة بینه وبین المعنی اللغوی ، والذی جرت عادته عند إرادته علی نصب قرینة صارفة فقط ، هل کان هو الصحیح أو الأعمّ ، ولکن لا یمکن لمنکر الحقیقة الشرعیة والقائل بمجازیة استعمالات الشارع إثبات هذین الأمرین ، إذ من المحتمل ملاحظة الشارع العلاقة بین کلٍّ من الصحیح والأعمّ ، وبین المعنی اللغوی فی عرض واحد ، أو کان دیدنه نصب قرینة معیّنة لکلٍّ منهما .

وذکر بعض الأعاظم رضی الله عنه أنّه یکفی فی جریان النزاع علی القول بمجازیة استعمالات الشارع إثبات أحد الأمرین المزبورین ، فإنّه لو ثبت سبک أحد المعنیین عن الحقیقة ، وسبک الآخر من المجاز ، کان کلامه عند قیام القرینة الصارفة عن المعنی اللغوی ظاهرا فی إرادة المسبوک من المعنی الحقیقی لا محالة ، کما أن_ّه لو قیل بأنّه کانت عادته علی عدم نصب قرینة معیّنة لأحد المعنیین ، بل کان تفهیمه بالقرینة الصارفة فقط ، کان اللفظ ظاهرا فیه عند قیام القرینة الصارفة فقط ، حتّی مع ملاحظته العلاقة بین کلٍّ من المعنیین والمعنی اللغوی فی عرض واحد(1) .

أقول : لایخفی مافیه ، فإنّه کیف یکون ظهور اللفظ فی أحد المعنیین بخصوصه بقیام القرینة الصارفة ، فیما إذا ثبت أنّ استعماله فیه کان بنحو سبک المجاز عن الحقیقة ، مع احتمال جریان عادته علی نصب القرینة لتعیین کلٍّ منهما ، نعم لو ثبت الأمر الثانی من الأمرین لکفی فی جریان النزاع ، ولا حاجة معه إلی اثبات الأمر

ص :102


1- (1) نهایة الأفکار : 1 / 73 .

القرینة الصارفة عن المعانی اللغویة، وعدم قرینة أخری معینة للآخر.

وأنت خبیر بأنّه لا یکاد یصح هذا، إلاّ إذا علم أن العلاقة إنّما اعتبرت کذلک، وأنّ بناء الشارع فی محاوراته، استقر عند عدم نصب قرینة أخری علی إرادته، بحیث کان هذا قرینة علیه، من غیر حاجة إلی قرینة معینة أخری، وأنّی لهم بإثبات ذلک.

الشَرح:

الأوّل .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره النزاع بوجهٍ آخر _ بناءً علی کون استعمالات الشارع بنحو المجاز _ وهو أن یکون النزاع فی مقتضی الأدلّة الدالّة علی الحقیقة عند المتشرّعة من التبادر وغیره ، وفی أنّها دالّة علی کون الألفاظ حقیقة عند المتشرّعة فی خصوص الصحیح أو فی الأعم ، وحیث إنّ المعنی الحقیقی (أی المسمّی بلفظ الصلاة) عندهم کاشف عن المراد الشرعی عند الإطلاق الذی هو مجاز عنده _ حسب الفرض _ ، فإنّ منشأ هذه الحقیقة ذلک المجاز ، فیتعیّن بتعیینها(1) .

ولا یخفی ما فیه أیضاً ، فإنّه لا تکون ثمرة البحث مترتبة علی ما ذکره ، وذلک لأن_ّه لو ثبت مثلاً أنّ الحقیقة المتشرعیة هی الأعم ، وعلم أیضاً أنّ منشأ هذا استعمال الشارع اللفظ فیه مجازا ، فلا یمکن إثبات أنّ الشارع لم یکن یستعمل اللفظ فی الصحیح أصلاً ، ولو فی بعض الأحیان ؛ لیکون المعنی الأعم متعینا فی کلامه فیما إذا أحرزنا أنّه لم یرد فی الاستعمال المزبور معناه اللغوی ، فإنّا نحتمل أن یکون صیرورة اللفظ حقیقة فی الأعمّ عند المتشرّعة لشیوع استعمال اللفظ عندهم فی المعنی الأعمّ من غیر سبق هذا الشیوع فی استعمالات الشارع بل کان دیدنه نصب القرینة

ص :103


1- (1) فوائد الأُصول : 1 / 59 .

وقد انقدح بما ذکرنا تصویر النزاع _ علی ما نسب إلی الباقلاّنی [1] _ وذلک بأن یکون النزاع، فی أن قضیة القرینة المضبوطة التی لا یتعدی عنها إلاّ بالأخری _ الدالة علی أجزاء المأمور به وشرائطه _ هو تمام الأجزاء والشرائط، أو هما فی الجملة، فلا تغفل.

ومنها: أنّ الظّاهر أنّ الصحة عند الکل بمعنی واحد، وهو التمامیة، وتفسیرها بإسقاط القضاء _ کما عن الفقهاء _ أو بموافقة الشّریعة _ کما عن المتکلمین _ أو غیر ذلک، إنّما هو بالمهم من لوازمها [2]، لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الأنظار، الشَرح:

علی إرادة کل منهما.

[1] وتقریره : أن_ّه بناءً علی المنسوب إلی الباقلاّنی وإن کانت تلک الألفاظ مستعملة فی کلام الشارع فی معانیها اللغویة دائما وإنّما الخصوصیات التی لها دخل فی المأمور به من الأجزاء والشرائط مستفادة من دالٍّ آخر ، إلاّ أنّه لم تکن الدلالة علیها دائما بذکرها تفصیلاً ، فلم یکن یقول دائما : صلّوا ، وارکعوا ، واسجدوا ، وکبّروا ، إلی غیر ذلک ، بل کان ینصب علی تلک الخصوصیات دالاًّ یدلّ علیها بالإجمال ، أی بنحو دلالة لفظ الدار علی أجزائها ، فیقع البحث فی أنّ ذلک الدالّ علیها بالإجمال المعبّر عنه بالقرینة المضبوطة کان دالاًّ علی عدّة منها کما فی دلالة لفظ الصلاة علیها علی القول بالأعمّ أو کان دالاًّ علی جمیعها ، کما لو قیل بوضعها للصحیح ، ولا یخفی أنّ هذا التصویر لم یعلم مما ذکره قبل ذلک ، فلا یظهر وجه لقوله قدس سره : «وقد انقدح بما ذکرنا» .

[2] لا یخفی أن إسقاط القضاء أو موافقة الشریعة وإن کانا من اللوازم ، إلاّ أنهما من لوازم صحّة المأتیّ به ، بمعنی مطابقته لمتعلّق الأمر ، وکلامنا فی المقام فی صحّة المتعلق لا المأتیّ به ، حیث إنّ صحّة المأتی به تکون بعد تعلّق الأمر ، وفی مرحلة

ص :104

وهذا لا یوجب تعدد المعنی، کما لا یوجبه اختلافها بحسب الحالات من السفر، والحضر، والاختیار، والاضطرار إلی غیر ذلک، کما لا یخفی.

الشَرح:

الامتثال ، والبحث فی المقام فی الصحّة التی تکون مأخوذة فی المسمّی علی مسلک الصحیحی والمتأخّر عن الأمر لا یؤخذ فی متعلّقه ، فضلاً عن أخذ لوازمه . وبتعبیرٍ آخر : مثل الصلاة مرکب اعتباری وقوامه باعتبار معتبره ، فما یوجد من الأفراد یضاف إلی ذلک المرکّب ، فإن کان شاملاً لجمیع المأخوذ فیه یکون تامّا ، وإن کان فاقدا لبعضها یکون فاسدا ، فیقع الکلام فی المقام فی أنّ الموضوع له للفظ الصلاة مثلاً تمام ذلک المرکّب بحیث یکون إطلاقها علی الناقص بالعنایة ، أو أنّ الموضوع له هو أصل المرکّب الموصوف بالتمام تارةً ، وبالناقص أُخری ، والصحّة بمعنی التمام والفساد بمعنی النقص لا تکون إلاّ فی المرکّبات أو المقیّدات ، وبالجملة المحتمل اعتباره فی الموضوع له لیس عنوان الصحّة أو الصحیح ، بل علی تقدیر الأخذ یکون المأخوذ فی الموضوع له ، ما به یوصف بالصحّة والتمام .

وذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره فی تعلیقته مناقشة أُخری فی کلام الماتن قدس سره ، وحاصلها : أنّ موافقة الأمر أو إسقاط القضاء لیسا من لوازم الصحّة ، یعنی التمامیة ، بل تکون التمامیة بهما حقیقة ، حیث لا حقیقة للتمامیة إلاّ التمامیة من جهتهما ، ولایمکن أن یکون اللازم متمّماً لمعنی ملزومه ، وتمامیة حقیقة الصحّة بهما کاشفة عن عدم کونهما بالإضافة إلیها من قبیل اللازم بالإضافة إلی ملزومه ، فتدبّر(1) .

ثمّ ذکر فی الهامش فی وجه التدبّر أنّ ما ذکر من عدم إمکان تمامیة معنی الملزوم بلازمه إنّما هو فی لوازم الوجود حیث إنّه لا یعقل فیه دخالته وتمامیة

ص :105


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 95 .

ومنه ینقدح أنّ الصحة والفساد أمران إضافیان، فیختلف شیء واحد صحة وفساداً بحسب الحالات، فیکون تاماً بحسب حالة، وفاسداً بحسب أخری، فتدبر جیّداً.

الشَرح:

ملزومه به ، وأمّا بالإضافة إلی عارض المهیّة أی محمولها الخارج عنها مفهوما ، فیمکن أن یکون الشیء خارجا عن تلک الماهیة ومع ذلک دخیلاً فی تمامیتها وحصولها ، کالناطق بالإضافة إلی الحیوان ، حیث إنّه عارض للحیوان ولکن یکون به حصول الحیوان(1) .

أقول : قد تقدّم أنّ التمامیة إذا کانت وصفا للمأتیّ به ، فالمراد بها مطابقته لمتعلّق الأمر ، فیکون سقوط القضاء أو موافقة الأمر من آثار صحّة المأتیّ به ، وإذا کانت وصفا لما تعلّق به الأمر فالمراد اشتماله علی جمیع ما یوصف معه بالصحیح بمعنی التامّ ، وسقوط القضاء أو موافقة الأمر لا یرتبط بالمتعلّق ولیسا من لوازمه ، فإنّه یوصف بالصحّة قبل تعلّق الأمر وفی مرحلة التسمیة .

وأمّا ما ذکره قدس سره من التفرقة بین لوازم الوجود والمهیة ، من أنّ عارض الوجود لا یدخل فی معنی ملزومه ، ولکن عارض المهیّة یمکن دخله فی تمامیتها ، فإن کان المراد من التمامیة صیرورة الماهیّة نوعا فهو وإن کان صحیحا إلاّ أنّ الکلام هنا فی الدخول فی معنی الملزوم ، کما لا یخفی ، وصیرورة المهیة نوعا وعدمها أجنبی عن مورد الکلام فی المقام .

ثمّ إنّه قد یقال الصحّة فی العبادة تغایر الصحّة فی المعاملة أی _ العقود والإیقاعات _ ، حیث إنّ الصحّة فی المعاملة بمعنی ترتب الأثر علیها خارجا والمعاملة الفاسدة لا یترتب علیها الأثر _ أی الأثر المترقب من تلک المعاملة _ .

ص :106


1- (1) نهایة الدرایة : ج1 ، هامش95 .

ومنها: أنه لابدّ _ علی کلا القولین _ من قدر جامع فی البین، کان هو المسمی بلفظ کذا، ولا إشکال فی وجوده بین الأفراد الصحیحة [1]، وإمکان الإشارة إلیه الشَرح:

ووجه الفرق بین الصحتین هو أنّ الحکم المجعول للمعاملة بنحو القضیة الحقیقیة یکون انحلالیّا یثبت لوجودات تلک المعاملة ، فمعنی قوله سبحانه «أحَلَّ اللّهُ البَیْعَ»(1) ثبوت الحلیة الوضعیة لکلّ ما ینطبق علیه عنوان البیع خارجا ، فالبیوع التی لا تثبت لها تلک الحلیة یعبر عنها بالفاسدة ، وهذا بخلاف التکالیف فإنّ الأمر لا یتعلّق بالوجود الخارجی للمتعلق ، فإنّه یکون من طلب الحاصل بل یتعلّق بالعنوان ومعنی الأمر به طلب صرف وجوده بالمعنی المصدری ، فالمأتی به إذا کان صرف وجوده یکون مسقطا للأمر به فینتزع الصحّة للمأتی به عن مطابقته للعنوان المتعلّق به الأمر بمعنی اشتماله علی تمام ما اعتُبر فی ذلک المتعلق من الأجزاء والقیود .

ولکنّ الظاهر أنّ ترتّب الأثر لیس بمعنی الصحّة حتّی فی المعاملة ، حیث إنّ کلامنا فی الصحّة فی مقام التسمیة ، فیکون المراد من کون الفاظ المعاملات أسامی للصحیحة أو الأعمّ کونها موضوعة لما یکون جامعا لجمیع ما یلاحظ فی إمضائها أو أنّها موضوعة لما یلاحظ فی إمضائها فی الجملة ولو لم تکن جامعة لجمیعها ، ولذا لو سُئِل أحد عن البیع الصحیح ، لأجاب بمقوماته بجمیع قیوده ، وبهذا الاعتبار تتّصف المعاملة بالصحّة قبل تحققها ، نعم لا تکون الصحّة الفعلیة إلاّ إذا حصل ذلک الجامع الملحوظ خارجا بتمام قیوده الملازم لإمضائها ، ولیس کلامنا فی المقام فی الصحّة الفعلیة بل الصحّة فی مقام التسمیة.

[1] الاشتراک اللفظی فی مثل لفظ الصلاة ، بأن یوضع اللفظ لکل ما یطلق علیه

ص :107


1- (1) سورة البقرة : الآیة 275 .

بخواصه وآثاره، فإنّ الاشتراک فی الأثر کاشف عن الاشتراک فی جامع واحد، یؤثر الکل فیه بذاک الجامع، فیصح تصویر المسمّی بلفظ الصلاة مثلاً: بالناهیة عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن، ونحوهما.

الشَرح:

الصلاة بوضع مستقل ، أو یوضع لها بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ غیر محتمل ، کما یشهد بذلک خطور المعنی الواحد عند الاطلاق ، مع أنّ الثانی أیضاً یستدعی وجود الجامع ولو بین الأفراد الصحیحة ، والتزم المصنف قدس سره بإمکان وجود الجامع بین الأفراد الصحیحة ، بل التزم بوجود الجامع المزبور لا محالة ، اعتمادا علی قاعدة «الواحد لا یصدر إلاّ من الواحد» حیث إنّ کلّ ما یطلق علیه الصلاة ویوصف بالصحّة له أثر واحد کما یفصح عن ذلک قوله سبحانه : «إنّ الصَّلاة تَنْهَی عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْکَرِ»(1) ، وقوله علیه السلام _ علی ما ادّعی _ : «الصلاة معراج المؤمن»(2) ، حیث إنّ المؤثّر فی الواحد یکون واحدا ، کما هو مقتضی لزوم السنخیّة بین الشیء وعلّته ، یمکن الإشارة فی مقام الوضع إلی ذلک الجامع ولو بذلک الأثر ، فیوضع له لفظ الصلاة ، أو یستعمل فیه لفظها مجازا ، أو بنحو تعدّد الدالّ والمدلول .

ثمّ أورد قدس سره علی ذلک ، بأنّ الجامع المزبور لا یمکن أن یکون مرکّبا من الأجزاء والشرائط ، فإنّ کلّ ما یفرض من المرکّب منها ، یمکن أن یکون صحیحا فی حالٍ وفاسدا فی حالٍ آخر ، لما تقدّم من اختلاف الصحیح بحسب الحالات والأشخاص ، وأنّ الصحیح فی حال أو من شخص فاسد فی حال آخر أو من شخص آخر . وکذا لا یمکن أن یکون الجامع المزبور أمرا بسیطا بحیث لا یصدق ذلک

ص :108


1- (1) سورة العنکبوت : الآیة 45 .
2- (2) روضة المتقین : 2 / 6 ، لم نظفر علی مصدر یدل علی کون هذه الجملة من کلام المعصوم علیه السلام ، لعلّها من کلام المجلسی الأوّل قدس سره ، واللّه العالم .

والإشکال فیه: بأنّ الجامع لا یکاد یکون أمراً مرکباً، إذ کل ما فرض جامعاً، یمکن أن یکون صحیحاً وفاسداً، لما عرفت، ولا أمراً بسیطاً، لأنّه لا یخلو: إما أن یکون هو عنوان المطلوب، أو ملزوماً مساویاً له، والأول غیر معقول، لبداهة استحالة أخذ ما لا یتأتّی إلاّ من قبل الطلب فی متعلقه، مع لزوم الترادف بین لفظة الشَرح:

العنوان البسیط إلاّ علی الأفراد الصحیحة ، فإنّ البسیط إمّا عنوان المطلوب ، أو عنوان ملزوم لعنوان المطلوب ، وأما کون لفظ الصلاة موضوعا لعنوان المطلوب فغیر معقول ؛ لأنّ هذا العنوان یحصل بعد تعلق الطلب بالصلاة ، ویستحیل أن یتعلق الطلب بعنوان یتوقّف علی تعلّق الطلب به ، هذا مع عدم الترادف بین لفظ الصلاة ولفظ المطلوب ، وأمّا کون المسمّی عنوان المطلوب أو ملزومه المساوی له فلازمه أن لا تجری البراءة عند الشک فی جزئیة شیء أو قیدیته للصلاة مثلاً ، فإنّ الشکّ فیها لا یکون شکّا فی نفس متعلّق التکلیف ، بل فیما یحصل به ذلک المتعلّق ، والشکّ والإجمال فیما یحصل به المتعلّق مجری قاعدة الاشتغال ، وبهذا یظهر أنّ المسمّی للصلاة علی الصحیحی ، کما لا یمکن أن یکون عنوان المطلوب کذلک لا یمکن أن یکون ملزومه المساوی له ، فإنّه علیه أیضاً لا یمکن أن تجری البراءة فی موارد الشکّ فی جزئیّة شیء أو شرطیّته لکون الشکّ فی المحصل للصلاة .

وأجاب عن الإیراد ، بالالتزام بأنّ المسمّی عنوان بسیط ، ملزوم لعنوان المطلوب بعد تعلّق الأمر به ، والمعنی البسیط المنتزع بلحاظ الأثر الواحد یمکن أن ینطبق علی المرکّب بتمام أجزائه وقیوده ، لا أن تکون الأجزاء والقیود محصّلة له کما فی عنوان (حافظ الإنسان من برودة الجوّ) فإنّ عنوان الحافظ ینطبق علی البیت المرکّب من الأجزاء بتمام شرائطه ، انطباق الکلی علی مصداقه ، والإجمال فی أجزاء المرکّب المفروض وشرائطه عین إجمال ذلک العنوان بحسب وجوده ،

ص :109

الصلاة والمطلوب، وعدم جریان البراءة مع الشک فی أجزاء العبادات وشرائطها، لعدم الإجمال _ حینئذ _ فی المأمور به فیها، وإنّما الإجمال فیما یتحقق به، وفی مثله لا مجال لها، کما حقق فی محله، مع أنّ المشهور القائلین بالصحیح، قائلون بها فی الشک فیها، وبهذا یشکل لو کان البسیط هو ملزوم المطلوب أیضاً _ مدفوع، بأنّ الشَرح:

فیؤخذ عند الشکّ ، بالمقدار المتیقّن من المطلوب ، ویرجع فی المشکوک إلی أصالة البراءة کان المشکوک جزءا أو شرطا وقیدا .

وإنّما لا یؤخذ بالبراءة فیما إذا کان متعلّق الأمر واحدا خارجیّا ، مسببا وجوده عن وجود مرکّب مردّد أمره بین الأقل والأکثر ، کالطهارة من الحدث بناءً علی أنّها حالة للنفس تحصل من الغسل أو الوضوء ، وفی مثل ذلک إذا شکّ فی کون شیء جزءا أو شرطا للوضوء أو الغسل ، فلامورد للبراءة ، بل مقتضی استصحاب بقاء الأمر بالطهارة وقاعدة لزوم إحراز الامتثال بعد إحراز اشتغال الذمة بشیء ، لزوم الاحتیاط .

أقول : یستفاد من کلامه قدس سره من صدره إلی ذیله أُمور :

الأوّل: لزوم الجامع علی کل من القولین ، الصحیحیّ والأعمیّ .

الثانی: إنّ تحقّق الجامع بین الأفراد الصحیحة مقتضی البرهان ، یعنی برهان لزوم السنخیة بین الشیء وعلّته ، ویکون ذلک الجامع المستکشف بالبرهان هو الموضوع له علی الصحیحی .

الثالث: إنّ الجامع المستکشف بمقتضی البرهان بسیط یتّحد مع الأجزاء والشرائط خارجا ، وملزوم لعنوان المطلوب ولو بعد تعلّق الأمر بذلک الجامع .

الرابع: إنّه من تعلّق الأمر بذلک الجامع البسیط عنوانا ، لا یلزم الاحتیاط فی موارد الشکّ فی جزئیّة شیء أو شرطیّته وإنّما یجب الاحتیاط فیما إذا کان للعنوان البسیط وجود خارجا مسبّب عن المرکّب أو تردّد أمر المرکّب بین الأقل والأکثر.

ص :110

الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المرکبات المختلفة زیادة ونقیصة. بحسب إختلاف الحالات، متحد معها نحو اتحاد، وفی مثله تجری البراءة، و إنما لا تجری فیما إذا کان المأمور به أمراً واحداً خارجیاً، مسبباً عن مرکب مردد الشَرح:

أمّا الأمر الأوّل: فقد ناقش فیه المحقّق النائینی قدس سره ، وذکر ما حاصله أنّ للصلاة مراتب تکون أعلاها صلاة المختار ، وأدناها صلاة الغرقی ، وبینهما مراتب لها عرض عریض ، فیمکن القول بأنّ الصلاة وضعت للمرتبة الأعلی أوّلاً وهی الصلاة الاختیاریّة من جمیع الجهات ، ثمّ إنّها استُعملت وطبّقت علی سائر المراتب بالادّعاء والتنزیل، أو من باب الاکتفاء بها فی سقوط التکلیف، من غیر أن تکون فردا تنزیلیا، کما فی صلاة الغرقی ، فإنّه یمکن أن لا تکون فردا تنزیلیّا، بل یکتفی بها فی مقام الامتثال، نظیر ما ذکره الشیخ قدس سره فی نسیان بعض أجزاء الصلاة وشرائطها ممّا لا یدخل فیالمستثنی من حدیث «لا تعاد»، حیث التزم بأنّ المأتی به خارجا المنسیّ بعض أجزائه أو شرائطه لا یعمّه متعلّق الأمر، ولکن مع ذلک یسقط به التکلیف بالصلاة.

نعم بالإضافة إلی صلاة المسافر والحاضر لکونهما فی مرتبة واحدة وعرض واحد ، لابدّ من فرض جامع بینهما .

والالتزام بأنّ لفظ الصلاة موضوع للمرتبة العلیا ویستعمل فیها وتطبّق تلک المرتبة علی سائرها بالادّعاء والتنزیل ، أو من باب الاکتفاء ، قریبٌ جدّا . ویؤیّده جملة من الاستعمالات المتعارفة ، حیث یوضع اللفظ ابتداءا لما اختُرع أوّلاً ، ثمّ یستعمل ذلک اللفظ فی الناقص والمشابه له ، وعلی ما ذکر ینتفی النزاع بین الصحیحی والأعمّی من أساسه ؛ لأنّ ثمرة الخلاف کما یأتی تظهر فی التمسّک بإطلاق خطابات العبادة ، فإنّه لا یجوز التمسک به عند الشکّ فی جزئیّة شیء أو شرطیّته لمتعلق الأمر علی الصحیحی لإجمال المتعلّق عندنا ، ویتمسّک بإطلاقه

ص :111

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

علی الأعمّی مع عدم وروده بنحو الإهمال ، وتنتفی هذه الثمرة بناءً علی وضع الصلاة للمرتبة العلیا والالتزام بالتنزیل فی سائر المراتب ، ووجه الانتفاء عدم إحراز التنزیل فی الاستعمال الواقع فی الخطاب بالإضافة إلی الفاقد لیؤخذ بالاطلاق(1).

أقول : لا یخفی ما فیه ، فإنّ الصلاة الاختیاریة من جمیع الجهات لا تنحصر بالقصر والتمام ، بل الصلاة الیومیة وصلاة الآیات والجمعة والعیدین ، وغیرها من الصلوات حتّی المندوبة منها کلّها اختیاریّة ، ولا تکون بعضها فی طول الأُخری ، فلابدّ من فرض الجامع بینها ، هذا أوّلاً .

وثانیا : إنّ الوجدان شاهد صدقٍ بأنّ إطلاق الصلاة وانطباق معناها علی المراتب علی حدٍّ سواء فی عرف المتشرّعة ، وکما أنّ الصلاة مع الطهارة المائیّة صلاة ، کذلک مع الطهارة الترابیّة ، ومن هنا ینساق إلی الأذهان من مثل قوله سبحانه «إنّ الصَّلاة تَنْهَی عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْکَرِ»(2) ومن قوله صلی الله علیه و آله : «بُنی الإسلام علی خمسٍ: علی الصلاة...» الحدیث(3) ، معنی یعمّ جمیع أفرادها ، وعلیه فاللازم تصویر الجامع بین جمیع المراتب، ولو کانت بعضها فی طول الاخری فی مقام تعلّق الأمر بها، وقد تقدّم منه قدس سره الالتزام بأنّ التبادر الفعلی کاشف عن کیفیّة وضع الشارع واستعماله فی ذلک الزمان.

وثالثا : ما ذکره قدس سره من انتفاء ثمرة الخلاف فیما إذا شکّ فی اعتبار شیء جزءا أو

ص :112


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 36 .
2- (2) سورة العنکبوت : الآیة 45 .
3- (3) الوسائل : ج1 ، الباب1 من أبواب مقدّمات العبادات .

بین الأقل والأکثر، کالطهارة المسببة عن الغسل والوضوء فیما إذا شک فی أجزائهما، هذا علی الصحیح.

الشَرح:

شرطا ، فهو فیما إذا شکّ فی اعتبار أحدهما فی سائر المراتب ، وأمّا إذا شکّ فی اعتبار أحدهما فی المرتبة العلیا التی تعلّق بها الأمر ، فعلی الصحیحیّ لایمکن التمسّک بإطلاق الخطابات ؛ لإجمال تلک المرتبة وعلی الأعمّی یصحّ مع عدم إهمال الخطاب .

وأمّا الأمر الثانی: فیقع الکلام فیه من جهتین ؛ الأُولی : هل للصلوات الصحیحة أثرٌ واحد یحدث بحصول کلٍّ منها ؟ والثانیة : علی تقدیر الأثر الواحد لها ، فهل یکشف ذلک الأثر عن جامعٍ ذاتیٍّ بین الصلاة الصحیحة ، بحیث یکون التأثیر لذلک الجامع لقاعدة «عدم إمکان صدور الواحد إلاّ عن واحد» أم لا ؟

أمّا الجهة الأُولی ، فتظهر حقیقة الحال فیها بالتکلّم فی معنی قوله سبحانه «الصَّلاة تَنْهَی عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْکَرِ»(1) فنقول : لیس المراد من النهی النهی التشریعی قطعا ، فإنّ الناهی عن الفحشاء والمنکر هو الشارع سبحانه ، یقول اللّه عزّ وجلّ : «إنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسانِ وَإیْتاءِ ذِی الْقُرْبَی وَیَنْهَی عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْکَرِ»(2) .

وقد یقال : إنّ إسناد النهی عن الفحشاء والمنکر باعتبار أنّ الصلاة المتعلّق بها الأمر مقیّدة بقیود _ من عدم السوء والمنکر _ ، حیث إنّها مشروطة بإباحة المکان والثوب والساتر وعدم لبس الذهب للرجال وغیر ذلک، فیکون نهی الصلاة عن السوء بمعنی أخذ عدم ذلک السوء فیها ، فلا یکون عدم الفحشاء والمنکر أثرا خارجیّا مترتبا علی الصلاة ترتّب المعلول علی علّته ، لتکشف وحدته عن وحدة المؤثّر .

ص :113


1- (1) سورة العنکبوت : الآیة 45 .
2- (2) سورة النحل : الآیة 90 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ولکن لا یخفی أنّ إرادة ذلک من نهی الصلاة عن الفحشاء والمنکر لا یناسب تعظیم الصلاة وحثّ المؤمنین علی المواظبة علیها لکی لا تضیع ولو فی وقتها ، بل الظاهر أنّ المراد من النهی ، المنع الخارجی المترتّب علی المواظبة علیها والإتیان بما هو حقّها ، فإنّ الإتیان بها کذلک یقتضی أن لا ینقدح للمؤمن داعٍ نفسانی إلی السوء والمنکر ، نظیر إسناد الأمر بالسوء والفحشاء إلی الشیطان فی مثل قوله سبحانه : «الشَّیْطانُ یَعِدُکُمُ الْفَقْرَ وَیَأْمُرُکُمْ بِالْفَحْشاءِ»(1) ، و«إنَّما یَأْمُرُکُمْ بِالْسُّوْءِ وَالْفَحْشاءِ وَأنْ تَقُولُوا عَلَی اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»(2) .

وبتعبیرٍ آخر: ترتّب الامتناع عن السوء علی الصلاة إنّما هو فی مرحلة امتثال الأمر بها ، حیث إنّ العبد إذا امتثل الأمر بها ، بالتدبّر بالقراءة والأدعیة والأذکار المشروعة فی أفعالها، والتعمّق فی الخشوع بها الوارد فی الروایات بأنّ ذلک روحها تحصل للنفس حالة ترتقی بها عن الانحطاط المناسب للشرور والقبائح، وبوصولها إلی بعض مراتبها الکمالیة، لا یحصل لها الداعی إلی ارتکاب الفحشاء والمنکرات الشرعیة ویختلف هذا باختلاف مراتب الارتقاء الحاصل بمراتب الامتثال فی الصلاة.

والحاصل إنّ منع الصلاة عن الفحشاء والمنکر ، إنّما هو لارتقاء النفس بها فی بعض مراتب الامتثال ، الملازم لعدم میل النفس إلی الشرور والقبائح ، أو لعدم تمامیّة الداعی له إلیها ، فیکون للصلوات الصحیحة جهة جامعة فی مقام الامتثال ، وهی کون محتوی الأفعال والأذکار والقراءة والأدعیة المشروعة فیها موجبة لتذکّر

ص :114


1- (1) سورة البقرة : الآیة 268 .
2- (2) سورة البقرة : الآیة 169 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

العبد ربّ العالمین والتوجّه إلی عزّه وذلّ نفسه ، وتمتاز الصلاة بذلک عن سائر العبادات ، حیث لا یکون لها هذه المرتبة من التذکّر والخشوع ؛ ولذا عبّر عن الصلاة بالذکر فی قوله سبحانه : «فَاسْعَوا إلی ذِکْرِ اللّهِ»(1) .

وأمّا الجهة الثانیة: فمن الظاهر أنّ ترتّب هذا الأثر علی الصلاة الصحیحة فی مقام الامتثال لا یلازم الجامع لها بین الأفراد الصحیحة فی مقام التسمیة بالمعنی المتقدّم ، فإنّ الناقص أیضاً لو کان مأموراً به وکان امتثال أمره ببعض مراتب الامتثال المراعی فیها الخشوع والتذکّر بمحتواها ، لحصل لها هذا المنع أیضاً .

وبالجملة فلیس المترتّب علی الصلاة فی مقام التسمیة إلاّ شأنیّتها للخشوع والتذکّر بها ، وهذا الأثر یشترک فیه فی مقام التسمیة التامّة والناقصة ، ولا تترتّب الشأنیّة علی خصوص التامّ ، کما ذکرنا .

وأما ما ذکر من کون «الصلاة معراج المؤمن» فلم یحرز وروده فی خطاب الشارع لیقال إنّ ترتّب العروج علی الصلاة الصحیحة یکشف عن جامع بینها ، وعلی تقدیر وروده أیضاً یجیء فیه ما تقدّم فی قوله سبحانه : «الصَّلاةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْکَرِ»(2) ، حیث إنّ عروج المؤمن عبارة أُخری عن ارتقاء نفسه إلی بعض المراتب الکمالیّة ، کما لا یخفی .

وإن شئت البرهان علی أن_ّه لا یمکن أن یکون فی البین جامعٌ ذاتی بین الأفراد الصحیحة ، فنقول : الأثر الوارد فی الکتاب المجید أو غیره یترتّب علی ما یحصل

ص :115


1- (1) سورة الجمعة : الآیة 9 .
2- (2) سورة العنکبوت : الآیة 45 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

خارجا ویوصف بالصحّة ، ومن الظاهر أنّ الموجود خارجا مرکب اعتباریّ أوّله التکبیر وآخره التسلیم ، فیعتبر فیه أفعال وأقوال من الأذکار والقراءة وسائر القیود المعبّر عنها بالشرائط ، ومن البدیهی أنّ القراءة والذکر من مقولةٍ ، والرکوع والسجود والقیام من مقولةٍ أُخری ، والطهارة من الحدث والخبث من مقولة ثالثة ، فالأثر المترتّب یترتّب علی المجموع ، ولا یعقل جامع ذاتّی بین مجموع هذه المقولات المتباینة، وإذا لم یمکن الجامع الذاتیّ بین أجزاء صلاة واحدة ، بحیث یکون هو المؤثّر ، فکیف یمکن الجامع الذاتیّ بین الصلوات المختلفة ؟ بل الجامع علی تقدیره یکون اعتباریّا ولو لوحظ خصوصیّة کلٍّ من الصلاتین ، فلا یمکن أخذ الجامع الترکیبی أصلاً فإنّ إحدی الصلاتین مشروطة بالرکعة الأُخری مثلاً والأُخری مشروطة بعدم تلک الرکعة کصلاة الصبح وصلاة المغرب ، وأخذ الجامع فرع إلغاء الخصوصیتین ومع إلغائهما یکون ذلک الجامع منطبقاً علی الصحیح والفاسد ، لما تقدّم من أنّ الصحیح فی حالٍ ، فاسد فی حالٍ آخر .

وممّا ذکرناه یظهر وجه المناقشة فیما ذکره المحقّق الاصفهانی قدس سره فی المقام ، حیث قال : إنّ تصویر الجامع فی المقام علی الصحیحیّ والأعمیّ علی نهجٍ واحد ، وذلک فإنّ الماهیة مع وجودها الحقیقی (الذی حیثیة ذاته طرد العدم) متعاکسان فی الاطلاق والسعة ؛ لأنّ الماهیّة سعتها وإطلاقها للضعف والإبهام ، وسعة الوجود الحقیقیّ لفرط الفعلیّة ، ولذا کلّما کان الضعف والإبهام فی المعنی أکثر ، کان الإطلاق والسعة والشمول فیه أکثر ، وکلمّا کان الوجود أشدّ وأقوی ، کان الإطلاق والسعة أعظم وأتمّ ، فإن کانت الماهیّة من الماهیّات الحقیقیة ، کان إبهامها وضعفها بلحاظ ذالطوارئ والعوارض ، مع حفظ نفسها کالانسان ، فإنّه لا إبهام فیه من حیث الجنس

ص :116

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

والفصل ، وإنّما الإبهام فیه من حیث الشکل واللون وشدّة القوی وضعفها ، وسائر عوارض النفس والبدن حتّی عوارض الوجود والماهیّة ، وإن کانت الماهیة من الأُمور المؤتلفة من عدّة أُمور بحیث تنقص وتزید کمّا وکیفا ، فمقتضی الوضع لها بحیث یعمّها مع تفرّقها وشتاتها أن تلاحظ علی نحوٍ مبهم غایة الإبهام بمعرفیّة بعض العناوین غیر المنفکّة عنها ، وکما أنّ الخمر مثلاً مائع مبهم من حیث اتّخاذه من العنب والتمر وغیرهما ، ومن حیث اللون والطعم والریح ومن حیث مرتبة الإسکار والمقدار ، ولذا لا یمکن وضعه إلاّ لمائع خاصّ ، بمعرفیّة المسکریّة من دون لحاظ الخصوصیّة تفصیلاً ، بحیث إذا أراد المتصوّر تصوّره لم یوجد فی ذهنه إلاّ مائع مبهم من جمیع الجهات إلاّ جهة مائعیّته ، بمعرفیّة المسکریّة من دون لحاظ شیء آخر ، کذلک لفظ الصلاة مع الاختلاف الشدید بین مراتبها کمّاً وکیفا ، فلابدّ من أن یوضع لفظه لعمل یکون معرّفه النهی عن الفحشاء أو غیره من المعرّفات ، بل العرف لا ینتقل من سماع لفظ الصلاة إلاّ إلی سنخ عمل خاصّ مبهم إلاّ من حیث کونه مطلوبا فی الأوقات الخاصّة ، وهذا لا یدخل فی النکرة ، فإنّه لم یؤخذ فیه کما ذکرنا خصوصیّة البدلیة کما أُخذت فی النکرة ، والحاصل أنّ الإبهام فی معنی الصلاة غیر التردید المأخوذ فی معنی النکرة ، والجامع بالنحو الذی ذکرناه لا مناص منه بعد الجزم بحصول الوضع للمعنی الشرعی ولو تعیّنا وعدم إمکان الالتزام بجامع ذاتیّ وعدم صحّة الالتزام بکون الموضوع له الجامع العنوانیّ أو الاشتراک اللفظی فی مثل الصلاة.

وقال قدس سره : قد التزم بنظیر ما ذکرنا بعض أکابر فنّ المعقول فی تصحیح التشکیک فی الماهیة ، جوابا عمّا قیل بعدم إمکان شمول طبیعة واحدة لتمام مراتب الزائدة

ص :117

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

والناقصة والمتوسطة ، مع الإغماض عن وجودها ، حیث قال : الجمیع مشترک فی سنخ واحد مبهم غایة الإبهام ، بالقیاس إلی تمام نفس الحقیقة ونقصها زائدا عن الإبهام الناشئ فیه عن اختلاف الأفراد بحسب هویّاتها . وقال : إنّ ما ذکرناه فی المرکّب الاعتباری أولی ممّا ذکره فی الحقائق المتأصّلة ، کما لا یخفی .

أقول : لعلّ نظره فی الأولویة إلی أنّ الحقائق المتأصّلة لا یمکن فیها الإهمال بالإضافة إلی نفس الماهیة ، فالماهیّة لابدّ من کونها متعیّنة ، بخلاف المرکّبات الاعتباریة ، فإنّه یمکن فرض الإبهام فی معانیها(1) .

ووجه ظهور المناقشة : أنّ ما قرّره فی إبهام المعنی ، لا یخرج المعنی عن الجامع العنوانی البسیط (الذی اعترف قدس سره فی کلامه بأنّه لا یمکن أن یکون معنی الصلاة) حیث لو تبادر إلی أذهان المتشرّعة ذلک الجامع ولو بمعرفیّة النهی عن الفحشاء ، أو الوجوب فی أوقات خاصّة مع فرض إبهامه من سائر الجهات ، فإن کان المتبادر عنوان العمل المبهم من جمیع الجهات المعلومة ، بمعرفیّة النهی عن الفحشاء أو التکلیف به فی أوقاتٍ خاصّة ، فمن الظاهر أنّ عنوان العمل ، جامع عنوانی وإن کان المتبادر واقع العمل ومصادیقه ، المعرّفة بالنهی عن الفحشاء والمنکر ، أو بالتکلیف بها فی أوقاتٍ خاصّة ، فمن الظاهر أنّ المصادیق مختلفة متعدّدة فیکون وضع اللفظ لها من الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ .

أضف إلی ذلک ، صدق الصلاة وشمول معناها للصلاة المندوبة التی لیس لها وقت ، وتبادر المعنی منها إلی أذهان المتشرّعة من غیر أن یعرفوا علامیّة النهی عن

ص :118


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 101 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الفحشاء ، وما هو المراد منه أصلاً .

وما قیل من أنّ لفظ الصلاة لیس موضوعا لجامعٍ ذاتیّ مقولیّ ، ولا لجامعٍ عنوانیّ ، وإنّما هو إسم لمرتبة من الوجود ، وتلک المرتبة سیّالة فی جمیع الصلاة الصحیحة(1) ، لا یمکن المساع_دة علیه أیضاً ؛ إذ لو أُرید أنّ الصلاة إسم للأجزاء المشروطة والمقیّدة المتحقّقة ، فمن الظاهر أنّ ما فی الخارج وجودات متعدّدة تندرج فی مقولاتٍ مختلفة ، تجمعها وحدة اعتباریّة ، ولیست مرتبة من الوجود ، وإن أُرید أنّ مع الوجودات المتعدّدة وجودا آخر یحصل بتلک المتعدّدات وتکون وحدتها بذلک الوجود ، نظیر مرتبة من قوّة جرّ الثقیل الحاصلة من العشرة رجال أو الخمس عشرة نسوة ، أو رجلین ، أو غیر ذلک .

وبتعبیرٍ آخر : الملاک الملحوظ یحصل من کلّ من الصلاة الصحیحة المختلفة بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال ، فمن الظاهر أنّ الملاک الملحوظ الواحد علی تقدیر وجوده غیر محرز عند العرف فلا یمکن أن یکون نفس ذلک الملاک موضوعا له ، کما لا یمکن أن یکون الموضوع له ، ما هو دخیل فی حصول ذلک الملاک ، فإنّه إن أُرید ممّا هو الدخیل فیه عنوانه ، فیکون جامعا عنوانیا ، ولا یتبادر إلی الأذهان من لفظ الصلاة عنوان «الدخیل فیما هو ملاک عند الشارع» ، وإن أُرید معنونه ، فقد تقدّم أنّ المعنون بذلک العنوان متعدّد ومختلف بحسب الحالات والأشخاص ، فیکون وضع اللفظ للمعنون من وضع العامّ والموضوع له الخاصّ .

وبالجملة ، لا یتصوّر معنی لا یکون من الجامع الذاتیّ ولا من الجامع العنوانیّ

ص :119


1- (1) نهایة الأفکار : 1 / 82 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بحیث یکون معنیً واحدا بسیطا ولا یتّصف بأحدهما ، وقد ذکرنا عدم معقولیة الجامع الذاتیّ بین الأفراد الصحیحة ، فیتعیّن الجامع العنوانیّ البسیط ، وذکرنا أنّ کون الموضوع للفظ الصلاة مثلاً هو العنوان البسیط خلاف المعنی المتبادر عرفا ، حیث لا یتبادر منها إلاّ المشتمل علی الأعمال الخاصّة .

وقد تحصل ممّا ذکرنا ، أنّ ما یمکن للقائل بوضع اللفظ للصحیح بحیث یساعده فهم المتشرّعة أن یدّعیه ، هو أنّ الشارع لاحظ التکبیرة والقراءة والرکوع والسجود والتشهّد والتسلیمة ، وبنی علی أنّ کلّ عمل یشرّعه فیما بعد ویشتمل علی جمیع الأعمال المزبورة أو معظمها فنفس العمل المزبور بتشریعه هو معنی لفظ الصلاة مثلاً ، سواء کان تشریعه بعد ذلک بالأمر الوجوبی أو الندبی ، فیکون التشریع شرطا لفعلیّة وضع اللفظ لذلک العمل ، ویکون فی الحقیقة لفظ الصلاة موضوعا بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، فإن کان العمل المؤلّف منها مشروعا فی حال أو فی حقّ شخصٍ فهو صلاة فی ذلک الحال أو من ذلک الشخص ، لا یکون صلاة فی حالٍ آخر ، أو فی حقّ شخصٍ آخر لعدم المشروعیة فیهما . ولا ینافی ذلک تعلّق الأمر فی خطاب تشریعه به بعنوان الصلاة ، فإنّ المفروض اتّحاد زمان التشریع مع الإطلاق علی ما تقدّم .

ص :120

وأما علی الأعم، فتصویر الجامع فی غایة الإشکال، فما قیل فی تصویره أو یقال: وجوه:

أحدها: أن یکون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة، کالأرکان [1] فی الصلاة الشَرح:

[1] ذکر هذا الوجه صاحب القوانین قدس سره فی تصحیح الجامع علی الأعمیّ وأنّ لفظ «الصلاة» مثلاً موضوع للأرکان(1) .

وأورد علیه المصنّف قدس سره بوجهین :

الأوّل: أنّ لفظ الصلاة لو کان موضوعا لها بحیث کان کلّ من الأرکان مقوّما لمعنی الصلاة ، فلازمه دوران صدق الصلاة مدار تحقّق الأرکان ، مع أنّ الوجدان شاهد علی خلافه ، فإنّ الصلاة تصدق مع الإخلال ببعضها کالصلاة قبل الوقت ، ومع نسیان الرکوع فیها ، ولا تصدق علی الأرکان مع فقد سائر الأجزاء والشرائط .

الثانی: أنّه یلزم من وضعها للأرکان کون استعمالها فی المشتملة علی تمام ما یعتبر فی المأمور به ، مجازیا ومن قبیل إطلاق اللفظ الموضوع للجزء علی الکلّ ، لا من باب إطلاق الکلّی وإرادة الفرد ، ولا یلتزم القائل بالأعمّ بذلک .

لا یقال : لو أخذت الأرکان لا بشرط ، بالإضافة إلی بقیة الأجزاء والشرائط ، یکون إطلاق اللفظ الموضوع للمعنی لا بشرط علی المشتملة لسائر الأجزاء والشرائط من قبیل إطلاق الکلّی علی الفرد .

فإنّه یقال : إنمّا یتمّ ذلک فیما کان المأخوذ لا بشرط متّحدا مع ما فی الخارج وجودا کاتّحاد الحیوان مع الإنسان والإنسان مع أشخاصه ، بأن یکون الاختلاف بین المعنی لا بشرط ، والمشروط ، فی العنوان والمفهوم ، وأمّا إذا کان المعنی المشروط

ص :121


1- (1) قوانین الأُصول : 1 / 43 و 44 .

مثلاً، وکان الزائد علیها معتبراً فی المأمور به لا فی المسمّی.

وفیه ما لا یخفی، فإنّ التسمیة بها حقیقة لا تدور مدارها، ضرورة صدق الصلاة مع الإخلال ببعض الأرکان، بل وعدم الصدق علیها مع الإخلال بسائر الشَرح:

بشیء مجموع الوجودات والمأخوذ لا بشرط ، بعض تلک الوجودات ، یکون إطلاق اللفظ الموضوع للثانی علی الأوّل من قبیل إطلاق اللفظ الموضوع للجزء علی الکلّ ، ولعله قدس سره أشار إلی ذلک بالأمر بالفهم .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّه لا یمکن للأعمی أن یلتزم بأنّ تامّ الأجزاء والشرائط ، الشامل للأرکان وغیرها صلاة والناقص یعنی المشتمل علی الأرکان فقط أیضاً صلاة ، فإنّ لازم ذلک کون غیر الأرکان علی تقدیر وجوده داخلاً فی حقیقة الشیء، وعلی تقدیر عدمه خارجا عنها ، ولا یمکن ذلک فی جزء الحقیقة ، فإنّ الشیء إذا کان مقوّما للحقیقة یکون دخیلاً فیها مطلقاً ، وإذا لم یکن مقوّما لا یکون دخیلاً فیها أصلاً(1) .

وما قیل فی تصحیح ذلک بالتشکیک وأنه کما یحمل الشیء علی مرتبته الأخیرة وتکون الشدّة فی تلک المرتبة داخلة فی الحقیقة وعلی المرتبة الضعیفة الفاقدة للشدّة وتکون الشدّة فی هذه المرتبة خارجة عن الحقیقة ، کذلک الصلاة بالإضافة إلی التامّ والناقص(2) ، لا یمکن المساعدة علیه ، فإنّ التشکیک لا یتحقّق إلاّ فی موردین :

أحدهما: أن تکون الماهیّة من البسائط ، بأن یکون ما به الامتیاز عن سائر

ص :122


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 42 .
2- (2) نهایة الأُصول : ص40 و 50 .

الأجزاء والشرائط عند الأعمیّ، مع أنّه یلزم أن یکون الاستعمال فیما هو المأمور به _ بأجزائه وشرائطه _ مجازاً عنده، وکان من باب إستعمال اللفظ الموضوع للجزء فی الکل، لا من باب إطلاق الکلّی علی الفرد والجزئی، کما هو واضح، ولا یلتزم به القائل بالأعم، فافهم.

الشَرح:

مراتبها عین ما به الاشتراک فیها کالسواد والبیاض .

وثانیهما: أن یکون التشکیک فی حقیقة الوجود وإدراک هذا النحو من التشکیک أمرٌ صعب فوق إدراکنا ، وعلی تقدیره ، فإنّ حقیقة الوجود بنفسه أشدّ بساطة من الماهیّات البسیطة وما نحن فیه خارج عن الموردین ، فإنّ الصلاة فی حقیقتها مرکّبة من الأجزاء التی لها وجودات مستقلّة مقیّدة بقیود ودخول بعض تلک الوجودات فی حقیقتها تارةً ، وخروجها عنها أُخری ، غیر ممکن .

ثمّ أورد قدس سره علی ما فی القوانین بوجه ثالث ، وهو أنّ الأرکان تختلف بحسب المکلّف وحالاته ، فإنّ الرکوع له مراتب تبدء من الانحناء عن قیام بحیث یتمکّن من إیصال الیدین إلی الرکبتین بقصد الرکوع ، وتنتهی إلی القصد المجرد ، فلابدّ من تصویر الجامع بین مراتبه ، فیعود المحذور المتقدّم من عدم الجامع بین المراتب ، فإنّه کیف یتصوّر الجامع بین الأنحناء المفروض فی المرتبة الأُولی ، وبین القصد المجرّد فی المرتبة الأخیرة ، مع أنّهما داخلتان تحت مقولتین .

أقول : حاصل ما تقدّم أنّ الالتزام بکون مسمّی لفظ الصلاة هو الأرکان ، فیه محاذیر ثلاثة :

الأوّل : عدم دوران صدق الصلاة مدار الأرکان .

والثانی : لزوم العنایة فی إطلاق الصلاة علی التامّ من حیث الأجزاء والشرائط .

ص :123

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

والثالث : عدم الجامع بین مراتب الأرکان لیؤخذ ذلک الجامع فی المسمّی .

ولکن هذه المحاذیر إنّما تتّجه لو التزمنا بأنّ الأجزاء المسمّاة بالصلاة محدودة بالأرکان فی ناحیتی القلّة والکثرة ، وأمّا مع الالتزام بعدم کونها محدودة فی ناحیة الکثرة فلا یرد شیء من المحاذیر ، والوجه فی ذلک ما تقدّم من أنّ الصلاة مرکّب اعتباریّ تکون وحدتها کترکیبها بالاعتبار ، ولیست من المرکّبات الحقیقیة کالنوع المرکّب من الجنس والفصل عقلاً ، ومن المادة والصورة خارجا ، لیقال إنّه لا یمکن فی المرکّب الحقیقی التردید فی أجزائه العقلیة والخارجیة بأن یکون شیء فصلاً للنوع فی حال دون حال ، أو صورة له فی زمان دون زمان ، وهذا بخلاف المرکّب الاعتباریّ الذی یکون لکلٍّ من أجزائه وجود مستقلّ خارجا ، وتکون وحدتها برعایة الجهة الخارجة عن الأجزاء ، فإنّ أجزاء هذا المرکّب قلّةً وکثرةً وتعیینا وتخییرا بید معتبره ، فإنّه قد یعتبر الحدّ لأجزائه فی ناحیة قلّتها فقط ، ویأخذه فی ناحیة کثرتها لا بشرط بالإضافة إلی أُمور ، مثل الکلام عند النحویین فإنّ المعتبَر عندهم أن لایکون أجزاء الکلام أقلّ من الفعل والفاعل أو المبتدأ والخبر ، وأمّا فی طرف الکثرة فأخذوه لا بشرط بالإضافة إلی الملابسات لکلّ منهما ، فیصدق الکلام علی قول القائل (ضرب زید) وکذا علی قوله ثانیاً (ضرب زید عمروا) وعلی قوله ثالثاً (ضرب زید عمروا یوم الجمعة) وعلی قوله رابعاً (ضرب زید عمروا یوم الجمعة فی المسجد) إلی غیر ذلک ، فإنّه ما لم یحصل مصداق آخر للکلام بالتکلّم بفعل وفاعل آخَرَین أو مبتدأ وخبر کذلک ، یصدق الکلام علی الفعل والفاعل المزبورین بجمیع ملابساتهما ، ولأن یطمئن قلبک لاحظ صیغ الجمع ، فإنّه اعتبر فی الموضوع له فیها أن لا یکون أقلّ من ثلاثة ، ولم یعتبر حد فی ناحیة الزیادة ، فإذا قال المخبر : (جائنی

ص :124

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

علماء) وأراد الإخبار بمجیء من جائه من العلماء من عشرین أو أقلّ أو أکثر فلا یکون ذلک من استعمال صیغة الجمع فی غیر الموضوع له .

وعلی ذلک فیمکن أن یکون لفظ (الصلاة) موضوعا لعدّة أجزاء تکون فی ناحیة قلّتها محدودة بها ، وتؤخذ فی ناحیة کثرتها لا بشرط ، نظیر المرکّبات الاعتباریّة التی أشرنا إلیها ، فیکون إطلاق الصلاة علی التامّ والناقص علی حدٍّ سواء من غیر أن یکون فی البین مجاز ، وهذه المرکّبات تمتاز عن المرکّبات الحقیقیة بأنّه لا یمکن الإبهام والتردّد فی المرکّب الحقیقیّ بحسب أجزائه فإنّ الجنس والفصل أو الهیولی والصورة لا یکون شیء منها مبهما أو مردّدا ، غایة الأمر یمکن کونه مجهولاً لنا وله واقع معیّن بخلاف المرکّبات الاعتباریة فإنّه یمکن أن یکون الجزء مبهما لا یکون له واقع معیّن أصلاً ، کما لو أخذ أحد الأشیاء لا بعینه جزءا ، ولا یخفی أنّ تبادل المسمّی بهذا النحو ممکن بل واقع .

والحاصل أنّه یمکن للشارع لحاظ مراتب الرکوع والسجود وغیرهما من الأرکان ، فیأخذ فی المسمّی إحدی تلک المراتب لا بعینها وعدم إمکان الجامع الذاتی بین المراتب لا یضرّ بما ذکر ، فلا یکون ما ذکره المحقّق النائینی قدس سره من اختلاف المراتب فی الأرکان موجبا للمحذور فی التسمیة ، کما لا یرد الإشکال بلزوم محذور المجاز فی الاطلاق علی التامّ .

نعم ربّما یناقش فی کلام صاحب القوانین قدس سره بعدم دوران صحّة الإطلاق مدار الأرکان ، وهذه المناقشة علی تقدیر صحّتها تدفع بتصویر الجامع بمعظم الأجزاء ، فإنّه لا فرق بینه وبین ما ذکره صاحب القوانین قدس سره إلاّ فی تعیین الحدّ الأقل فإنّه علی

ص :125

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ما ذکره یکون الأرکان ، وعلی الوجه الثانی یکون معظم الأجزاء .

وربّما یقال : المستفاد من الروایات کون المأخوذ فی الصلاة فی ناحیة القلّة هو الأرکان ، وأنّه کیف لا یصدق الصلاة علیها ، فإنّها ربّما تکون الصلاة معها صحیحة فضلاً عن صدق إسم الصلاة ، کما إذا کبّر لصلاة الوتر ونسی القراءة فیها ورکع ثمّ سجد ونسی السجدة الثانیة وتشهد وسلّم وانصرف ، أو انصرف قبل التشهّد والتسلیمة نسیانا ، وفی صحیحة الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «الصلاة ثلاثة أثلاث ، ثلث طهور ، وثلث رکوع ، وثلث سجود»(1) .

نعم لابدّ من رفع الید عن إطلاقها وحملها علی کون المراد بالأثلاث أثلاثها بعد الدخول فیها ، بما دلّ علی کون تکبیرة الإحرام رکنا وأنّه لا یتحقّق الدخول فیها بترکها ولو نسیانا ، ولعل عدم ذکر التکبیرة فی حدیث «لا تعاد» باعتبار أنّ الصلاة لا تتحقّق إلاّ بالدخول فیها بالتکبیرة وأنّ الحدیث ناظر إلی بیان حکم الخلل فیما یعتبر فی الصلاة بعد الدخول فیها . وأیضاً المراد بالتکبیر ما یکون بقصد الدخول فی الصلاة لا مطلق التکبیر ، وبالرکوع الانحناء الخاصّ المعتبر وقوعه قبل السجود ، کما أنّ المراد بالسجود الواقع بعد الرکوع ، وبهذا یدخل الترتیب فی المسمّی .

أقول : لا ینبغی التأمّل فی أنّ التحدید الوارد فی الروایات تحدید للصلاة فی مقام تعلّق الأمر بها ، لا فی مقام التسمیة ، وقد ورد فی حدیث «لا تعاد»(2) ذکر الوقت فی المستثنی، مع أنّه غیر داخل فی المسمّی قطعا؛ لعدم اعتبار الوقت فی

ص :126


1- (1) الوسائل : ج4 ، باب28 من أبواب السجود ، الحدیث2 .
2- (2) الوسائل : ج4 ، باب28 من أبواب السجود ، الحدیث1 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بعض الصلوات کصلاة القضاء، وبعض المندوبة، کالهدیة للموتی والصلاة الابتدائیّة المندوبة.

ولا یمکن استفادة المسمّی بالصلاة من الروایات المشار إلیها لعدم اعتبار الظهور بعد العلم بالمراد ، والشکّ فی کیفیة الإرادة مع اختلاف الصلوات المتعلق بها الأمر ، بالإضافة إلی الأوقات والموجبات وحالات المکلّفین ، وکلامنا فی المقام علی الأعمیّ فی الجامع بینها المأخوذ محدودا فی ناحیة الأقلّ فی المسمّی ، وبعد ما نری بالوجدان صدق الصلاة علی فاقد بعض الأرکان کالصلاة مع نسیان الطهارة ، کما فی صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام أنّه سُئِل عن رجل صلّی بغیر طهور ، أو نسی صلوات لم یصلِّها ، أو نام عنها ؟ فقال علیه السلام : «یقضیها إذا ذکرها فی أیّ ساعة ذکرها من لیلٍ أو نهار» الحدیث(1) .

وکذا إطلاقه علی الصلاة قبل الوقت ، وإلی غیر القبلة أو مع نسیان الرکوع حتّی فی کل من رکعتی الفجر إلی غیر ذلک ، وهذا الصدق والإطلاق لم ینشأ فی الأزمنة المتأخّرة عن زمان الشارع ، بل نشأ وصدر من الشارع فی ذلک الزمان ، فلا سبیل إلاّ إلی الالتزام بأنّ المسمّی هو معظم الأجزاء مع قیوده فی الجملة ، علی ما ذکر من عدم التحدید فی ناحیة الکثرة وأنّ المعظم قد أخذ فی ناحیة الکثرة لا بشرط .

ولیس المراد من لا بشرط أنّ وجود الأجزاء الأُخری خارجاً لا تضرّ بصدق الصلاة علی المعظم ، کعدم قدح وجود حیوان آخر مع الإنسان فی صدق الإنسان علی ذلک الإنسان ، لیقال إنّ إرادة المجموع من الإنسان وغیره من لفظ الإنسان

ص :127


1- (1) الوسائل : ج5 ، باب2 من أبواب قضاء الصلوات ، الحدیث3 .

ثانیها: أن تکون موضوعة لمعظم الأجزاء التی تدور مدارها التسمیة عرفاً، فصدق الإسم کذلک یکشف عن وجود المسمی، وعدم صدقه عن عدمه.

وفیه _ مضافاً إلی ما أورد علی الأوّل أخیراً [1] _ أنه علیه یتبادل ما هو المعتبر فی المسمی، فکان شیء واحد داخلاً فیه تارة، وخارجاً عنه أخری، بل مردداً بین الشَرح:

تجوّز ، کما أنّه لیس المراد من لا بشرط ، کون استعمال لفظ الصلاة دائماً فی معظم الأجزاء، حتّی عند إرادة تمام الأجزاء والشرائط ، لیرد علیه أنّ المستعمل فیه خارجاً، یتردّد بین بعض تلک الأجزاء ویکون استعماله وإرادة تمام الأجزاء والشرائط من الاستعمال فی غیر الموضوع له ، فیصیر مجازاً کما ذکر المصنف قدس سره هذین الأمرین فی الإیراد علی کون الجامع هو المعظم ، وأضاف إلیهما اختلاف العبادات بحسب اختلاف الحالات من العجز والنسیان والحرج والضرر إلی غیر ذلک ، فلا یمکن تعیین المعظم ، لاختلافه بحسب تلک الحالات ، بل المراد لا بشرط بالإضافة إلی ضمّ بقیة الأجزاء والقیود إلی المستعمل فیه عند الإستعمال ، نظیر إطلاق الکلام فی مقام استعماله علی الفعل والفاعل مع جمیع ملابساتهما أو بعضها علی ما تقدّم ، فلا یکون إرادة التامّ منها مجازا ، ولا یتردّد معه الخارج عن المستعمل فیه .

وأمّا تبادل الجزء أو الشرط واختلافهما بحسب الحالات ، فقد تقدّم أخذ الجامع بین الحالات ، ولو کان الجامع المزبور عنوانا اعتباریّا کعنوان أحدها ، والحاصل یلاحظ المعظم بالإضافة إلی أقلّ الأفراد کمّا والجامع بین أجزائه وشرائطه کیفا ، فلا محذور فی ذلک أصلاً .

[1] المراد ممّا أورد علی الأوّل أخیرا ، هو لزوم المجاز فی إطلاق لفظ الصلاة وإرادة التامّ من حیث الأجزاء والشرائط ، فإنّه یکون من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء _ أی المعظم _ فی الکل .

ص :128

أن یکون هو الخارج أو غیره عند اجتماع تمام الأجزاء، وهو کما تری، سیّما إذا لوحظ هذا مع ما علیه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.

ثالثها: أن یکون وضعها کوضع الأعلام الشخصیّة [1] ک (زید) فکما لا یضر الشَرح:

وقوله قدس سره : «یتبادل» ، إشکال ثانٍ علی الالتزام بکون الموضوع له معظم الأجزاء والشرائط ، وتوضیحه: أن_ّا إذا استعملنا لفظ الصلاة فی مجموعة من أجزائها ثمّ استعملناه فی مجموعة أُخری وکانت کلتا المجموعتین معظم الأجزاء إلاّ أنّ بعض أجزاء الثانیة خارجة عن الأُولی، لزم أن تکون هذه الأجزاء داخلة فی المسمّی فی الاستعمال الثانی، وخارجة عنه فی الاستعمال الأوّل. وهذا هو التبادل کما انه عند اجتماع تمام الاجزاء فی الاستعمال یتردد الشیء الواحد بین ان یکون هو الخارج عن المستعمل فیه أو غیره، وقد ظهر ممّا ذکرناه فی التعلیقة السابقة، الجواب عن إشکالات لزوم المجازیّة والتبادل والتردّد، فلا نعید.

وقوله قدس سره فیما بعد هذا : «مع ما علیه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات» راجعٌ إلی الإشکال فی تعیین المعظم ، کما تقدّم فی التعلیقة السابقة .

[1] قیل إنّ الوضع فی أسامی العبادات کالوضع فی الأعلام الشخصیّة ، وکما أنّ تبادل الحالات المختلفة کالصغر والکبر والسمن والنحافة وتغیّر اللون إلی لونٍ آخر ونقص بعض الأجزاء وزیادته لا یضرّ فی الأعلام الشخصیّة کذلک فی العبادات .

وبتعبیرٍ آخر : کما یطلق إسم زید علی ما فی الخارج من الشخص مع التبادل واختلاف الأحوال فیه ، کذلک إسم الصلاة یطلق علی العبادة المخصوصة فی جمیع حالاتها . وأجاب الماتن قدس سره بأنّ الموضوع له فی الأعلام هو الشخص الذی یکون بالوجود الخاصّ ، وتغیّر عوارض ذلک الوجود لا ینافی بقاء الوجود الذی یکون بقائه بقاء الشخص ، وکما لا یضرّ اختلاف أحوال الشخص ببقائه کذلک لا یضرّ ببقاء

ص :129

فی التسمیة فیها تبادل الحالات المختلفة من الصغر والکبر، ونقص بعض الاجزاء وزیادته، کذلک فیها.

وفیه: أنّ الأعلام إنما تکون موضوعة للأشخاص، والتشخص إنما یکون بالوجود الخاص، ویکون الشخص حقیقة باقیاً ما دام وجوده باقیاً، وإن تغیرت الشَرح:

تسمیته ، وهذا بخلاف الموضوع له فی مثل لفظ الصلاة ، فإنّه من قبیل المفهوم والکلیّ ، وعلیه فاللاّزم تعیین ذلک المعنی الکلیّ بحیث یکون حاویا لمتفرّقاته وجامعا لأفراده ، کما تقدّم ذلک فی الجامع علی قول الصحیحی .

لا یقال : الشخص هو الوجود الخارجی ، ومن الظاهر عدم وضع اللفظ له أصلاً حتّی فی الأعلام الشخصیة ، حیث إنّ الموضوع له لابدّ من کونه قابلاً للتصوّر واللحاظ فی الوضع والاستعمال ، والوجود الخارجی لا موطن له إلاّ الخارج .

فإنّه یقال : الوجود الخارجی قابل للحاظه ولو بعنوان مشیر إلیه وإمکان لحاظه کذلک یکفی فی صحّة وضع اللفظ له ، کما تقدّم فی الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ؛ ولذلک لا توصف الأعلام الشخصیّة بالوجود والعدم ، بأن یقال زید موجود أو معدوم ، بل یقال إنّه حیّ یرزق ، أو غیر باقٍ ومیت ، بخلاف الکلّیات فإنّها توصف بالوجود والعدم .

ثمّ لا بأس للتعرّض فی المقام لما ذکره المحقّق الاصفهانی قدس سره فی بیان المسمّی فی الأعلام الشخصیّة ، لدفع الوهم عن کون مسمّاها من المجرّدات .

فإنّه ذکر أوّلاً ما حاصله : إنّ زیدا مثلاً مرکّب من نفس وبدن ، والبدن مرکّب من عظم ولحم وجلد وأعصاب ، فیکون زید مرکّباً طبیعیّا فی مقابل الصناعی کالسریر والبناء ، ووحدة جسم زید باتصال الأعضاء التی لکلٍّ منها وجود . والاتصال لا یخرجه إلی الوحدة إلاّ من جهة الذبول والنموّ ، لا من جهة نقص یده أو رجله أو

ص :130

عوارضه من الزیادة والنقصان، وغیرهما من الحالات والکیفیات، فکما لا یضرّ اختلافها فی التشخص، لا یضرّ اختلافها فی التسمیة، وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات مما کانت موضوعة للمرکبات والمقیّدات، ولا یکاد یکون موضوعاً له، إلا ما کان جامعاً لشتاتها وحاویاً لمتفرقاتها، کما عرفت فی الصحیح منها.

الشَرح:

إصبعه إلی غیر ذلک ، والالتزام بأنّه ملحوظ لا بشرط ، بالإضافة إلی أعضائه مشکل ، فإنّه لو کان الملحوظ بنحو اللابشرط نفس زید یلزم کون المسمّی من المجرّدات ، وإن کان الملحوظ کذلک نفسه مع بدنه یجیء الکلام فی أنّ أیّ مقدار من البدن ملحوظ مع النفس بنحو لا بشرط .

وذکر ثانیا بأنّ المراد من البدن الملحوظ مع النفس المسمّی بلفظ زید ، لیس هو الأعضاء من اللحم أو الشحم والأعصاب وغیرها ، بل الروح البخاری الذی یکون مادّة للنفس ویعبّر عن الروح البخاری الذی هو فی حقیقته جنس طبیعی بالحیوان ، وتکون فعلیة النفس بذلک الروح ویتّحد معها اتّحاد المادّة بصورته ، کما أنّ الروح البخاری متّحد مع الأعضاء لأن_ّها مادّة إعدادیة للروح البخاری ، فتحصّل أنّ الموضوع له للفظ زید نفسه المتعلّقة بالبدن ، وتشخّص البدن ووحدته بوحدة النفس وتشخصّها ، إذ المعتبر مع النفس مطلق البدن .

وذکر ثالثا أنّ ما ذکر خلاف المتفاهم العرفی من اللفظ ، فإنّ ما ذکر لا یدرکه إلاّ الأوحدی من الأعلام، والصحیح أن یقال: إنّ المسمّی عندهم الهویّة الخارجیّة التی لا یلاحظ الممیّز فیها إلاّ کونها غیر الهویّات الأُخر، من کونها مبهمة من سائر الجهات(1).

ص :131


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 117 .

رابعها: إنّ ما وضعت له الألفاظ ابتداءً هو الصحیح التام [1] الواجد لتمام الأجزاء والشرائط، إلا أن العرف یتسامحون _ کما هو دیدنهم _ ویطلقون تلک الألفاظ علی الفاقد للبعض، تنزیلاً له منزلة الواجد، فلا یکون مجازاً فی الکلمة _ علی ما ذهب إلیه السکاکی فی الاستعارة _ بل یمکن دعوی صیرورته حقیقة فیه، الشَرح:

أقول : لا ینبغی التأمّل فی أنّ الأعضاء الخارجیّة الرئیسیة حال اتصال بعضها ببعض ، بحیث تکون الروح توأما معها ، هو الشخص ویکون لا بشرط بالإضافة إلی کمال الأعضاء ونقصها وما یعرض علیها ، سواء کان فی الخارج هویّة أُخری مثلها أو لم تکن ، فلا یفرق فی وضع العلم الشخصی بین وضع لفظ آدم لأوّل مخلوقٍ من الإنسان وبین وضع لفظ زید لمن یتولّد من أُمّه فعلاً ، والملحوظ عند وضع کلّ منها الشخص الذی هو البدن التوأم مع الروح .

[1] کأنّ مراد هذا القائل أنّ اللفظ فی إبتداء الأمر ، قد وضع _ کسائر المرکّبات _ للصحیح التامّ ، ثمّ استعمل فی الناقص بالتنزیل بلحاظ الأثر ، یعنی سقوط التکلیف بالناقص لاشتماله علی الملاک ولو فی حالٍ مخصوص ، أو عنایة للمشابهة فی الصورة ، کما فی الناقص المحکوم بالفساد حتّی صار اللفظ حقیقة فی الناقص أیضاً .

وقد أورد قدس سره علی هذا التصویر بأنّه یمکن فی مثل أسامی المعاجین الموضوعة إبتداءا للمرکّب من أجزاء خاصّة ، حیث یصحّ فیها إطلاقها علی الناقص منها للمشابهة صورة أو للمشارکة فی الأثر ، ولا یتمّ فی مثل الصلاة من العبادات التی تکون أفرادها التامّة مختلفة ومتعدّدة بحسب اختلاف الحالات واختلاف المکلّفین ، بحیث یکون الصحیح بحسب حالة فاسدا بحسب حالة أُخری .

أقول : هذا التصویر بظاهره لا یرجع إلی محصّل ، فإنّه إذا فرض وضع اللفظ للصحیح التامّ ، ثمّ فرض استعماله فی الناقص بلحاظ الأثر أو المشابهة فی الصورة ،

ص :132

بعد الاستعمال فیه کذلک دفعة أو دفعات، من دون حاجة إلی الکثرة والشهرة، للانس الحاصل من جهة المشابهة فی الصورة، أو المشارکة فی التأثیر، کما فی أسامی المعاجین الموضوعة ابتداءً لخصوص مرکبات واجدة لأجزاء خاصة، حیث یصح إطلاقها علی الفاقد لبعض الأجزاء المشابه له صورة، والمشارک فی المهم أثراً تنزیلاً أو حقیقة.

وفیه: إنه إنما یتم فی مثل أسامی المعاجین، وسائر المرکبات الخارجیة مما یکون الموضوع له فیها ابتداءً مرکباً، خاصاً، ولا یکاد یتم فی مثل العبادات، التی عرفت أن الصحیح منها یختلف حسب إختلاف الحالات، وکون الصحیح بحسب حالة فاسداً بحسب حالة أخری، کما لا یخفی، فتأمل جیداً.

الشَرح:

والمفروض أنّ الناقص بالإضافة إلی التامّ متعدّد ومتکثّر ، یکون اللفظ المفروض بعد صیرورته حقیقة فی الناقص أیضاً من قبیل متکثّر المعنی ، فأین الجامع الشامل للصحیح والفاسد کما هو قول الأعمیّ ، اللهمّ إلاّ أن یراد صیرورته حقیقة فی الجامع کما یأتی تقریره فی الوجه الخامس .

ص :133

خامسها: أن یکون حالها حال أسامی المقادیر والأوزان، مثل المثقال، والحقة، والوزنة إلی غیر ذلک، مما لا شبهة فی کونها حقیقة فی الزائد والناقص فی الجملة[1]، فإن الواضع وإن لاحظ مقداراً خاصاً، إلاّ أنه لم یضع له بخصوصه، بل للأعم منه ومن الزائد والناقص، أو أنه وإن خص به أولاً، إلا أنه بالإستعمال کثیراً فیهما بعنایة أنهما منه، قد صار حقیقة فی الأعم ثانیاً.

وفیه: إن الصحیح _ کما عرفت فی الوجه السابق _ یختلف زیادة ونقیصة، فلا یکون هناک ما یلحظ الزائد والناقص بالقیاس علیه، کی یوضع اللفظ لما هو الأعم، فتدبر جیداً.

الشَرح:

[1] والفرق بین هذا الوجه والوجه الرابع المتقدّم هو أنّ اللفظ علی هذا الوجه ، یکون فی النتیجة حقیقة فی الجامع ؛ وذلک لأن اللفظ الموضوع للمقدار والوزن وإن لوحظ عند وضعه مقداراً خاصّاً معیّناً ، ووضع بإزائه إلاّ أنّ مع استعماله فی الزائد وفی الناقص عنه _ ولو بدعوی أنّهما ذلک المقدار _ صار اللفظ المزبور حقیقة فی الأعمّ من ذلک المقدار ، بحیث یشمل معناه الزائد والناقص فی الجملة .

وقد أشرنا فی الوجه السابق ، أنّه یمکن إرجاعه إلی هذا الوجه ، ولعل الماتن قدس سره قد فهم ذلک ، حیث لم یورد علی الوجه السابق بأنّه یوجب کون اللفظ من متکثّر المعنی ، بل أورد علیه بأنّ اختلاف الصحیح وتعدّده بحسب الحالات ، یمنع الالتزام فیه بما یلتزم فی أسامی المعاجین ، کما أن_ّه أورد بذلک أیضاً علی هذا الوجه ، وقال : إنّ تعدّد الصحیح فی العبادة واختلافهما بحسب الحالات یمنع عن الالتزام فیها بما یلتزم فی أسامی المقادیر والأوزان ، ولکنّ العجب هو ما ذکر فی أسامی المقادیر والأوزان ، والتزم به الماتن قدس سره أیضاً ، فإنّه لو کانت هناک ألفاظ ذات معانٍ محدودة فی ناحیة قلّتها وکثرتها وسعتها وضیقها فأوّلها أسامی المقادیر والأوزان ، فکیف یمکن

ص :134

ومنها: إن الظاهر أن یکون الوضع والموضوع له _ فی ألفاظ العبادات _ عامین، واحتمال کون الموضوع له خاصاً بعید جدّاً، لاستلزامه کون استعمالها فی الجامع، فی مثل: (الصلاة تنهی عن الفحشاء) و (الصلاة معراج المؤمن) و (عمود الدین) و (الصوم جنّة من النار) مجازاً، أو منع استعمالها فیه فی مثلها، وکل منهما بعید إلی الغایة [1]، کما لا یخفی علی أولی النهایة.

الشَرح:

دعوی أنّها صارت حقائق فی الأعمّ ، بحیث تشمل الزائد والناقص فی الجملة ؟ مع أن_ّه لا یترتّب شیء من الأحکام المترتّبة علی تلک المقادیر والأوزان علی الناقص منها ولو بیسیر ، فلا یحکم باعتصام الماء ولو نقص من مقدار الکرّ مثقالاً ، ولا تتعلق الزکاة بالغلّة إذا نقصت عن النصاب بمثقال ، ولا تقصر الصلاة فی سفر إذا نقص من مقدار المسافة ولو بشبر ، إلی غیر ذلک . ولذا یصحّ سلب ذلک المقدار عن الناقص بل عن الزائد ، کما لا یخفی .

[1] یعنی الالتزام بأنّ لفظ الصلاة استعمل فی تلک الاستعمالات فی الجامع مجازا، أو أنّه لم یستعمل فی الجامع بل فی بعض الأفراد بخصوصه، بعید إلی الغایة.

أقول : قد تقدّم عدم تصویر الجامع علی الصحیحی ، فعلیه أن یلتزم فی تلک التراکیب إمّا باستعمال اللفظ فی بعض الأفراد أو فی جمیعها علی نحو استعمال اللفظ فی أکثر من معنی ، أو فی الجامع الاعتباری من الأفراد الصحیحة ، ولو کان ذلک الجامع غیر موضوع له ، وأمّا القائل بالأعمّ فهو فی فسحة من ذلک ، فهو لا یلتزم بالمجاز فیها ، بل باستعمال اللفظ فیها فی الجامع الموضوع له کما تقدّم .

لا یقال الآثار المذکورة فی تلک الاستعمالات لا تترتّب إلاّ علی خصوص الصحیحة من الصلاة لا علی الجامع المتقدّم الذی یتحقّق بالصحیح والفاسد .

فإنّه یقال : قد تقدّم أن الآثار الواردة تترتّب علی الصلاة ، أی علی الجامع

ص :135

ومنها: أن ثمرة النزاع إجمال الخطاب علی القول الصحیحی [1]، وعدم جواز الرجوع إلی إطلاقه، فی رفع ما إذا شک فی جزئیة شیء للمأمور به أو شرطیته أصلاً، لاحتمال دخوله فی المسمی، کما لا یخفی، وجواز الرجوع إلیه فی ذلک الشَرح:

المتقدّم فی مقام الامتثال ، وإذا اتّصف الجامع المفروض بأن_ّه امتثال یکون صحیحا لا محالة ، فإرادة الامتثال فیها بدالٍّ آخر ، ودلالة الخطاب علی إرادة الصلاة الممتثلة إنّما هو بتعدّد الدالّ والمدلول فلا مجازیّة ، کما لا یخفی .

وبالجملة ، الآثار الواردة لا تترتّب حتّی علی الصحیح فی مقام التسمیة ، کما تقدّم ، فالمراد الصحیح فی مقام الامتثال لا محالة .

[1] وبیان ذلک : أن_ّه لا یمکن التمسّک بالإطلاق الوارد فی الخطاب إلاّ بعد إحراز انطباق المعنی المطلق علی مورد الشکّ مع تمامیّة مقدمات الحکمة ، حیث یحرز بعد الانطباق وتمامیتها بأنّه لولا ثبوت الحکم لمورد الشکّ ؛ لکان فی البین دالّ علی التقیید ، ومع عدم ما یدلّ علیه ، یکون المتکلّم مظهرا لعدم دخالة المشکوک ، وأمّا إذا لم یحرز ذلک الانطباق ، کما إذا ورد فی الخطاب (جعل اللّه الماء لکم طهورا) وشکّ فی صدق الماء علی الجلاّب لیصحّ الوضوء وسائر الطهارات به ، فلا یمکن الحکم بکونه طهورا تمسّکاً بإطلاق الماء فی الخطاب المزبور ، إذ لو لم یکن مطهّرا فإنّما هو لعدم کونه ماء لا لتقیید الماء بغیره .

وعلی ذلک فإذا شکّ فی کون شیء جزءا للصلاة مثلاً ، لا یمکن إحراز عدم کونه جزءا أو شرطا بمثل قوله سبحانه «أَقِیْمُوا الصَّلاةَ» علی القول بالصحیح¨ لعدم إحراز معنی الصلاة حتّی ینطبق علی الفاقد لذلک الجزء ، وهذا بخلاف القول بالأعمّ ، فإنّه بناءً علیه یمکن نفی جزئیّة المشکوک أو شرطیّته به ، مع تمامیّة مقدّمات الحکمة لإحراز کون الفاقد له صلاة .

ص :136

علی القول الأعمّی، فی غیر ما احتمل دخوله فیه، مما شک فی جزئیته أو شرطیته، نعم لا بدّ فی الرجوع إلیه فیما ذکر من کونه وارداً مورد البیان، کما لا بد الشَرح:

نعم یتحقّق إجمال الخطاب بناءً علی الأعمیّ أیضاً ، فیما إذا احتمل کون المشکوک مقوّما للمسمّی .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّ الخطابات من الکتاب والسنّة غیر واردة فی مقام بیان الأجزاء والشرائط لمتعلّقات الأحکام ، یعنی العبادات ، بل کلّها فی مقام تشریع تلک المتعلّقات ، فلا یمکن التمسّک بها علی القولین ، غایة الأمر عدم جواز التمسّک بها علی الصحیحیّ ، لإجمالها فی ناحیة المراد من المتعلّقات ، وعلی الأعمیّ لإهمالها من جهتها ، هذا بالإضافة إلی الاطلاق اللفظی .

وأمّا بالإضافة إلی الاطلاق المقامیّ، کما إذا أُحرز فی مورد، أنّ الشارع فی مقام بیان ما یعتبر فی العبادة جزءا أو شرطا کصحیحة حماد(1) الواردة فی کیفیة الصلاة، وکصحیحة زرارة(2)، وغیرها الواردة فی بیان غسل الجنابة، فیمکن نفی جزئیّة المشکوک أو شرطیّته بإطلاقها یعنی عدم ذکر دخالة المشکوک فی ذلک المقام، فإنّه لو کان معتبرا فی العبادة لکان عدم ذکره فیه خلاف الغرض، بلا فرقٍ القول بالصحیح أو الأعمّ.

ثمّ قال قدس سره : ولکنّ الصحیح عدم جواز التمسّک بصحیحة حماد المشار إلیها ، لإثبات وجوب المذکورات فیها ، وذلک للعلم الإجمالی باشتمالها علی أُمور مستحبّة أیضاً ، فیکون ظهورها فی الوجوب والجزئیّة ساقطا ، ونظیرها التمسّک

ص :137


1- (1) الوسائل : ج4 ، باب 1 من أبواب أفعال الصلاة ، الحدیث : 1 / 673 .
2- (2) الوسائل : ج1 ، باب26 من أبواب الجنابة ، الحدیث : 2 / 502 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بقوله صلی الله علیه و آله : «صَلُّوا کما رأیتمونی أُصلِّی»(1) .

فإنّه بعد القطع والیقین بعدم اقتصار النبی صلی الله علیه و آله علی الأجزاء الواجبة والشرائط اللازمة ، بل کان یأتی بالمستحبّات فی صلاته ، یکون المراد بالأمر بالاتباع مطلق الطلب ، فلا یمکن الحکم بالجزئیّة والشرطیّة بمجرّد ورود روایة بأنّ النبی صلی الله علیه و آله کان یقرأ فی صلاته بکذا أو یفعل کذا(2) .

وفیه العلم الاجمالی باشتمال الصحیحة علی بعض الأُمور المستحبّة ینحلّ بالظفر خارجا بالدلیل علی استحباب بعض تلک الأُمور ، وبتعبیرٍ آخر : إنّ قیام الدلیل علی الترخیص فی ترک بعض تلک الأُمور لا یکون موجبا لرفع الید عن ظهورها بالإضافة إلی غیر ذلک البعض ، وأیضاً العلم الاجمالی المزبور لا یمنع عن الحکم بعدم الجزئیّة والشرطیّة فی المشکوک الذی لم یذکر فی تلک الصحیحة ، وإنّما یمنع مع عدم انحلاله أو مع المناقشة فی أصل ظهور الصحیحة فی الوجوب بالإضافة إلی المذکورات فیها .

وممّا ذکرنا یظهر الحال بالإضافة إلی قوله صلی الله علیه و آله : «صلُّوا کما رأیتمونی أُصلّی» بل لا یبعد صحّة التمسّک بالإطلاق اللفظی لأدلّة العبادات ، علی الأعمیّ فیما إذا أُحرز عدم دخول المشکوک فی المسمّی بمثل قوله سبحانه «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّیامَ إِلی اللَّیْلِ»(3) ، بعد قوله «وَکُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطَ الأَبْیَضَ» فإنّه لا بأس

ص :138


1- (1) غوالی اللئالی : 1 / 198 ، الفصل التاسع ، الحدیث 8 .
2- (2) أجود التقریرات : 1 / 45 .
3- (3) سورة البقرة : الآیة 187 .

منه فی الرجوع إلی سائر المطلقات، وبدونه لا مرجع أیضاً إلاّ البراءة أو الاشتغال، علی الخلاف فی مسألة دوران الأمر بین الأقل والأکثر الإرتباطیین.

الشَرح:

بالأخذ به فیما إذا شکّ فی کون الارتماس مفطرا .

ودعوی إهمال الخطاب فی ناحیة المتعلّق لا یمکن المساعدة علیها بعد ظهور الآیة التی قبلها وبعدها فی أنّ ما یمسک عنه هو الأکل والشرب والنساء ، والأصل فی الخطاب کون المتکلّم فی مقام بیان الحکم والمتعلّق والموضوع ، کما لا یخفی .

لا یقال : التمسّک بالإطلاق فی آیة الصوم ، یجری علی الصحیحیّ أیضاً ، فإنّه من التمسّک بالإطلاق المقامیّ .

فإنّه یقال : لم یظهر معنی الصوم من قوله سبحانه «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّیامَ إِلی اللَّیْلِ» بناءً علی الصحیحیّ لیتمسّک بإطلاقه ، بخلافه علی الأعمیّ لصدقه علی الإمساک عن المذکورات فی عرف المتشرّعة ، لاتّصافه بالبطلان مع تجرّده عن الإمساک عن سائر المفطرات ، کما لا یخفی .

وقد یقال بإجمال الخطابات علی القولین ، أمّا بناءً علی القول بالصحیح ، فلما تقدّم ، وأمّا بناءً علی الأعمیّ فللعلم بأنّه لیس المراد من الخطابات المسمّیات ؛ لأنّ المسمّی یصدق علی الصحیح والفاسد ، بل المأخوذ فی متعلق الأمر مقید بالصحّة لا محالة ، ولا فرق فی عدم جواز التمسک بالخطاب بین کونه مجملاً بنفسه أو بالقید المجمل المعلوم أخذه فیه ، فیکون متعلّق الأمر مجملاً بالذات علی القول بالصحیح ، ومجملاً بالعرض علی القول بالأعمّ .

واُجیب بأنّ الصحّة متأخّرة عن الأمر بالعبادة ، ولا یمکن أخذها فی متعلّق الأمر .

ص :139

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ولکن لا یخفی أنّ هذا لا یدفع المناقشة ، فإنّ هذه الصحّة کما أنّها متأخّرة عن الأمر بالعبادة ، کذلک متأخّرة عن التسمیة حتّی علی القول بالصحیح ، ولا تکون مأخوذة فی متعلّق الأمر ، ولا فی التسمیة علی القولین ، والذی کان موجبا لإجمال المعنی علی مسلک الصحیحیّ هو عدم معلومیة تمام ما له دخل فی الملاک الملحوظ ، ولو بالعنوان الملازم ، وهذا المعنی المأخوذ فی متعلّق الأمر علی الصحیحیّ مأخوذ فی متعلّق الأمر فی الخطابات علی الأعمیّ ، فیکون متعلّق الأمر مجملاً حتّی بناءً علی الأعمیّ أیضاً .

والصحیح فی الجواب هو أن یقال : إن المناقشة بإجمال الخطاب علی الأعمیّ مبتنیة علی استعمال لفظ الصلاة ، مثلاً عند الأمر بها ، فیما هو الموضوع له عند الصحیحی ، ولکنّ الأمر لیس کذلک بل ورود القید علی متعلق التکلیف فی المقام کورود القید علی سائر المطلقات لا یکشف عن استعمال اللفظ الموضوع للمطلق فی المقید إلاّ بنحو تعدّد الدال والمدلول ، کما ذکر فی بحث المطلق والمقیّد ، فظاهر الخطاب علی الأعمیّ تعلّق التکلیف بنفس المسمّی ، غایة الأمر یعلم بورود القید علی ذلک الطبیعی المسمّی ، وإذا دار أمرالقید بین الأقل والأکثر ، فما ثبت تقیید المتعلق به یؤخذ به ، ویتمسّک فی غیره بالإطلاق علی حدّ سائر الموارد التی یکون ورود الأمر فیها بشیء مطلقاً ، ثمّ یعلم بورود القید علیه ولو بخطابٍ آخر ، فإنّه یؤخذ فی القید المشکوک بإطلاق المطلق .

وبتعبیرٍ آخر : المراد الجدّی من تعلق التکلیف هو المراد الاستعمالی من المتعلّق علی مسلک الصحیحی ، وأمّا علی مسلک الأعمیّ فالمستعمل فیه للفظ الصلاة حتّی فیما ذکر فی خطاب التکلیف هو الجامع الوسیع ، غایة الأمر یعلم بورود

ص :140

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

القید علی ذلک المتعلّق ، فإذا دار القید بین کونه أقلّ أو أکثر یؤخذ بالمقدار الثابت من التقیید ویؤخذ فی غیره بالإطلاق .

وما تقدّم سابقا من تحدید الصلاة بالأرکان أو بمعظم الأجزاء والشرائط فی ناحیة الأقلّ وأن_ّه لا یوجب المجاز عند إرادة الکل فلیس المراد منه استعمال لفظ الصلاة بمجرّده فی المجموع التامّ ، بل المراد استعماله فیه بنحو تعدّد الدال والمدلول ، ولکن مع ذلک یکون تطبیق المسمّی علی التامّ کتطبیق الکلام علی ما ذکر معه من متعلّقات الفعل والفاعل حقیقة .

لا یقال : نفس العلم الإجمالی بورود القیود علی المطلق ودورانها بین القلیلة والکثیرة یوجب إجمال الخطاب ، حتّی لو بُنی علی إرادة المقیّد من المطلق بنحو تعدّد الدالّ والمدلول ، وأن_ّه لا یوجب استعمال نفس اللفظ الدالّ علی المطلق فی المقید .

فإنه یقال : العلم الإجمالی لا یوجب الإجمال فیما إذا کان المعلوم بالإجمال معلوما بوجهٍ آخر ، کما إذا علم أنّ المطلق قد ورد علیه التقیید بخطابات مستقلّة ، بحیث نحتمل أن لا یکون فی البین قید آخر غیر ما فی تلک الخطابات ، وفی مثله یرجع عند الشکّ فی قیدٍ آخر لم یقم علیه خطاب مستقلّ ، إلی إطلاق الخطاب ، ولذا یتمسّک بخطاب «أحلّ البیع» فی موارد الشکّ فی شرطیّة شیء للبیع ، مع العلم بأنّ البیع قد ورد علیه فی الشرع قیود .

وأمّا إذا لم یکن للمعلوم بالإجمال وجها معلوما ، فمجرّد العلم ببعض القیود لا یکفی لخروج الخطاب عن الإجمال ، بل عن الإهمال ، حیث إنّه مع العلم بعدم

ص :141

وقد انقدح بذلک: إنّ الرجوع إلی البراءة أو الاشتغال [1] فی موارد إجمال الخطاب أو إهماله علی القولین، فلا وجه لجعل الثمرة هو الرجوع إلی البراءة علی الشَرح:

إرادة الإطلاق وعدم نصب خطاب للقید یعلم أنّ المتکلّم لم یکن فی مقام البیان من جهة القیود ، وهذا التفصیل یختصّ بباب الإطلاق ولا یجری فی العامّ الوضعی ، حیث إنّ ظهوره فی إرادة کلّ فرد بالوضع ولا یرفع الید عن ظهور العامّ إلاّ فی الأفراد التی یعلم بعدم إرادتها ثبوتا ویؤخذ بالظهور فی غیرها .

وأمّا دعوی الإجمال فی الخطابات حتّی علی الأعمیّ ، بدعوی العلم بأنّ للشارع غرضاً واحدا من الصلاة وغیرها من العبادات ، ولا یعلم حصوله بالاکتفاء بالمتیقّن من القیود ، فواضحة الفساد فإنّ علی المتکلّم التکلّم بنحو یحصل الغرض بالإتیان بمتعلّق أمره ، ومع الإطلاق یدفع دخالة المشکوک فی غرضه ، نعم ربّما یناقش بمسألة الغرض الواحد فی الرجوع إلی أصالة البراءة فی موارد الشکّ فی الجزئیّة والشرطیّة، وهذا غیر المفروض فی المقام، فإنّ الکلام فی المقام فی التمسّک بالإطلاق ویأتی فی بحث الأقلّ والأکثر الارتباطیین عدم صحّة المناقشة المزبورة وأنّ العلم بالغرض من تعلّق الأمر لا یمنع عن الرجوع إلی أصالة البراءة الشرعیّة .

[1] یعنی بما أنّ موارد إجمال الخطاب فی ناحیة متعلّق التکلیف أو إهماله داخلة فی الشکّ فی الأقلّ والأکثر الارتباطیین ، یکون المرجع فیها أصالة البراءة أو الاشتغال علی القولین ، وأنّه لا أساس لما ذکره صاحب القوانین قدس سره من أنّ ثمرة النزاع هو الرجوع إلی البراءة علی الأعمّ وإلی الاشتغال علی الصحیح(1) .

والوجه فی ذلک ، أنّه لو قیل بانحلال التکلیف المعلوم بالإجمال فی مقام

ص :142


1- (1) قوانین الأُصول : 40 .

الأعم، والاشتغال علی الصحیح، ولذا ذهب المشهور إلی البراءة، مع ذهابهم إلی الصحیح.

وربما قیل بظهور الثمرة فی النذر أیضاً.

الشَرح:

الثبوت إمّا انحلالاً وجدانیّا أو حکمیّا یکون المرجع عند دوران أمر المتعلّق بین الأقل والأکثر هی البراءة وإذا بنی علی عدم الانحلال حقیقةً ولا حکما یکون المرجع قاعدة الاشتغال بلا فرق بین القولین .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره انتصارا لصاحب القوانین أنّ الصحیحیّ لا یمکنه الرجوع إلی البراءة عند الشکّ فی جزئیّة شیء أو شرطیّته لمتعلّق التکلیف ، بل علیه الالتزام بالاشتغال ، وذلک لأنّ الصحیحی لابدّ له من الالتزام بأخذ جامع بسیط خارج عن نفس الأجزاء والشرائط یکون ذلک الجامع معنی لفظ الصلاة مثلاً ، والجامع المزبور إمّا مأخوذ من ناحیة الأثر للأفراد الصحیحة ، أو من ناحیة عللها ، ومع أخذ ذلک الجامع فی متعلّق التکلیف یکون صدق المعنی علی الفاقد للمشکوک غیر محرز ، فلابدّ من إحراز صدق ذلک العنوان علیه لرجوع الشکّ فیه إلی الشکّ فی المحصّل _ بالکسر _ ، وما حکی عن المشهور من ذهابهم إلی البراءة فی تلک المسألة مع ذهابهم إلی القول بالصحیح فی المقام ، یحمل علی الغفلة منهم أو تخیّلهم عدم أخذ العنوان البسیط معنی ، للفظ الصلاة(1) .

أقول : لا یمکن المساعدة علی الانتصار فإنّ مجرّد کون العنوان البسیط معنی للفظ الصلاة لا یجعل المورد من موارد الشکّ فی المحصّل لیجری الاستصحاب فی ناحیة عدم حصول المحصَّل _ بالفتح _ بالاکتفاء بالأقلّ ، أو تجری قاعدة الاشتغال

ص :143


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 45 .

قلت: وإن کان تظهر فیما لو نذر لمن صلی إعطاء درهم فی البرء فیما لو أعطاه لمن صلی، ولو علم بفساد صلاته، لإخلاله بما لا یعتبر فی الاسم علی الأعم، وعدم الشَرح:

فی ناحیة التکلیف المتعلق به .

وبتعبیرٍ آخر : الموجب لجریان الاستصحاب أو قاعدة الإشتغال اختلاف متعلّق التکلیف مع المشکوک فیه وجودا ، بحیث یکون متعلّق الشکّ وجودا آخر ، مغایرا لمتعلّق التکلیف ، وإذا فرض أنّ العنوان المتعلّق به التکلیف ینطبق علی نفس المرکّب المشکوک انطباق العنوان علی معنونه والأمر الانتزاعی علی منشأه ، ففی مثل ذلک یکون المطلوب حقیقة هو ذلک المعنون لا العنوان ، کما هو الحال فی تمام موارد العنوان الانتزاعیّ ، والمعنون بما أن_ّه مردّد بین الأقل والأکثر ، فیجری الکلام فی انحلال التکلیف المتعلّق به ثبوتا ولو بعنوان انتزاعی ، وتفصیل الکلام فی بحث الأقلّ والأکثر الارتباطیّین إن شاء اللّه تعالی .

ثمّ إنّ ما تقدّم من لزوم الاحتیاط عند الشکّ فی المحصِّل _ بالکسر _ قد یقال باختصاصه بغیر المحصِّلات الشرعیّة ، وأمّا المحصِّلات الشرعیّة ، فیمکن أن یقال فیها بجواز الاقتصار علی الأقلّ المحرز من أجزائها وشرائطها فی موافقة التکلیف المتعلّق بالمحصَّل _ بالفتح _ وذلک لأنّ المحصَّل _ بالفتح _ فی حقیقته حکم شرعیّ واعتبار للشارع ، فالتکلیف لایتعلّق به وإنّما یتعلّق بما هو فعل المکلّف ، فمثلاً إذا فرض أنّ الطهارة من الخبث أمر یوجد بغسل الثوب والبدن ، ففیما إذا شکّ فی حصولها بالغسل مرّة أو مرّتین ، حیث أنّ التکلیف فی الحقیقة متعلّق بما هو الموضوع لها ، یعنی الغسل _ فلا بأس بجریان البراءة عن وجوب الغسل مرّة ثانیة ، وهذا بخلاف المحصّلات الخارجیة ، فإنّ متعلّق التکلیف فیها یعنی المسبّب _ بالفتح _ غیر مشکوک فیه والمشکوک سببه .

ص :144

البرء علی الصحیح، إلاّ أن_ّه لیس بثمرة لمثل هذه المسألة [1]، لما عرفت من أنّ ثمرة المسألة الأصولیة، هی أن تکون نتیجتها واقعة فی طریق استنباط الأحکام الفرعیة، فافهم.

الشَرح:

ولکن لا یخفی أنّ لهذا الکلام وجهاً إذا أُرید بالمحصّل الشرعی _ بالفتح _ مجرّد الحکم الشرعی الداخل فی الحکم الوضعی ، وکان ذلک متعلّق التکلیف الإلزامی ، وأمّا إذا أُرید منه الأمر الواقعیّ الذی کشف عنه الشارع أو کان ذلک المعتبر قیدا لما هو متعلّق التکلیف الإلزامی ، کما فی الأمر بالصلاة المقیّدة بالطهارة ، فلا مجال إلاّ للاشتغال وللکلام فی ذلک مقام آخر .

[1] کأنّ نظره قدس سره إلی أنّ المسألة الأُصولیّة هی التی یستنبط منها الحکم الشرعیّ الکلیّ بواسطة مسألة من المسائل، لا یوجب دخولها فی علم الأُصول إذا کان الحکم معلوماً من الخارج لا مستنبطاً من تلک المسألة، و ما نحن فیه من هذا القبیل، لأنّ وجوب الوفاء علی من نذر إعطاء درهم لمن صلّی، حکمٌ شرعیٌ فرعیّ معلوم من الخارج، و بمسألة الصحیح والأعمّ یعیّن مصداق موضوع وجوب الوفاء بهذا النذر، إذ الصلاة الباطلة صلاة علی الأعمّ، و من أتی بها فقد صلّی، فیجب علی الناذر إعطاء درهم، و لکنّ ترتّب مثل هذه الثمرة علی مسألة الصحیح والأعمّ لا یدخلها فی علم الأُصول.

ونظیر ذلک ما ورد فی الخطاب الشرعی من النهی عن صلاة الرجل وأمامه إمرأة تصلّی ، فعلی الأعمّ یحکم ببطلان صلاة الرجل أو کراهتها ، حتّی فیما کانت صلاة المرأة غیر تامّة من حیث الأجزاء والشرائط ، بخلافه علی الصحیح حیث لا یحکم ببطلان صلاته أو کراهتها ، إلاّ إذا کانت صلاتها صحیحة .

ص :145

وکیف کان، فقد استدل للصحیحی بوجوهٍ:

أحدها: التبادر، ودعوی أن المنسبق إلی الأذهان منها هو الصحیح، ولا منافاة بین دعوی ذلک [1]، وبین کون الألفاظ علی هذا القول مجملات، فإن المنافاة إنّما تکون فیما إذا لم تکن معانیها علی هذا مبیّنة بوجه، وقد عرفت کونها مبینة بغیر وجه.

ثانیها: صحة السلب عن الفاسد، بسبب الإخلال ببعض أجزائه، أو شرائطه بالمداقّة، وإن صح الإطلاق علیه بالعنایة.

الشَرح:

ولکنّ المناقشة لیست فی محلّها فإنّ مسألة الصحیح والأعمّ ، لا تکون من المسائل الأُصولیّة ؛ ولذا لم تجعل من مسائل علم الأُصول ، بل ذکرت فی مقدمة مسائل علم الأُصول ، فتکون هذه المسألة من المبادئ التصوریّة لمسائله .

بیان ذلک : أنّ مسألة التمسّک بالإطلاق فی استنباط الأحکام الشرعیّة سواء کان الشکّ فی أصل التقیید أو فی التقیید الزائد ، مسألة أُصولیّة بلا فرق بین القول بأنّ مقدّمات الحکمة توجب ظهور المطلق فی الاطلاق ، والقول بأنّ الاطلاق بحکم العقل ، وکلامنا فی المقام فی تعیین أنّ ألفاظ العبادات تعدّ من المطلق لیمکن التمسّک بإطلاقها فیما إذا وردت فی الخطاب الشرعیّ وتمّت فیه مقدّمات الحکمة ، کما هو مقتضی قول بالأعمّ أو أنّها مجملة لا تدخل فی المطلق .

فالمناسب أن یناقش بأنّ ثمرة النذر أو ثمرة صلاة الرجل لا تجعل المسألة من مبادئ المسائل الأُصولیّة ، بل تجعلها من مبادئ المسائل الفقهیّة فلاحظ وتدبر ، ولعلّ الماتن رحمه الله أشار إلی ذلک فی آخر کلامه بقوله «فافهم» .

[1] وبتعبیرٍ آخر : معنی لفظ الصلاة وإن کان مجملاً علی القول بالصحیح وغیر مبیّن من جهة أجزائها وشرائطها إلاّ أنّ هذا الإجمال لا ینافی کون معناها مبیّنا من

ص :146

ثالثها: الأخبار الظاهرة فی إثبات بعض الخواص [1] والآثار للمسمّیات مثل (الصلاة عمود الدین) أو (معراج المؤمن) و (الصوم جُنّة من النار) إلی غیر ذلک، أو نفی ماهیّتها وطبائعها، مثل (لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب) ونحوه، مما کان ظاهراً فی نفی الحقیقة، بمجرد فقد ما یعتبر فی الصحة شطراً أو شرطاً، وإرادة خصوص الصحیح من الطائفة الأولی، ونفی الصحة من الثانیة، لشیوع استعمال هذا الترکیب فی نفی مثل الصحة أو الکمال خلاف الظاهر، لا یصار إلیه مع عدم نصب قرینة علیه، واستعمال هذا الترکیب فی نفی الصفة ممکن المنع، حتی فی مثل (لا صلاة لجار المسجد إلا فی المسجد) مما یعلم أنّ المراد نفی الکمال، بدعوی استعماله فی نفی الحقیقة، فی مثله أیضاً بنحو من العنایة، لا علی الحقیقة، و إلاّ لما دل علی الشَرح:

جهة أثرها ، ویکفی فی الانسباق من اللفظ کون المعنی مبیّنا ولو من جهة ، هذا بالإضافة إلی التبادر ، وأمّا صحّة السلب ، فیکون مقتضاها عدم السعة فی معنی مثل لفظ الصلاة ، بحیث یعمّ الأفراد الفاسدة .

أقول : للمناقشة فی کلّ من التبادر وصحّة السلب مجالٌ واسعٌ کما سیأتی إن شاء الله تعالی .

[1] لا ینبغی التأمّل فی أنّ الآثار المحمولة علی العبادات لا تعمّ الأفراد الفاسدة ، إلاّ أنّ عدم شمولها إمّا لکون مسمّیاتها المعانی الصحیحة ، کما هو مقتضی القول بالصحیح ، أو بتقیید مسمّیاتها بالقیود ، کما هو مقتضی القول بالأعمّ ، فیکون المقام من صغریات ما إذا علم المراد وأُحرز أنّ الحکم الجاری علی المطلق لا یعمّ شیئا ، ودار الأمر بین خروجه عن الاطلاق بالتقیید وبین عدم کون المطلق شاملاً له بحسب معناه الوضعی ، ففی أمثال ذلک لا تجری أصالة الإطلاق أو الحقیقه وغیرها ، کما أنّ الأخبار النافیة للحقیقة عند فقدان جزءٍ أو شرط مثل قوله صلی الله علیه و آله : «لا صلاةَ إلاّ

ص :147

المبالغة، فافهم.

رابعها: دعوی القطع بأنّ طریقة الواضعین ودیدنهم، وضع الألفاظ للمرکبات التامة، کما هو قضیة الحکمة الداعیة إلیه، والحاجة وإن دعت أحیاناً إلی استعمالها فی الناقص أیضاً، إلا أن_ّه لا یقتضی أن یکون بنحو الحقیقة، بل ولو کان مسامحة، تنزیلاً للفاقد منزلة الواجد.

والظاهر أنّ الشارع غیر متخط عن هذه الطریقة.

ولا یخفی أن هذه الدعوی وإن کانت غیر بعیدة، إلا أنّها قابلة للمنع [1]، فتأمل.

الشَرح:

بفاتحة الکتاب»(1) إرشاد إلی جزئیّة القراءة فی الصلاة المأمور بها ، والأمر دائر بین کون أخذها فی متعلّق الأمر بالتقیید _ ونفی الصلاة عن فاقدها بحسب مقام الامتثال فقط _ کما هو مقتضی القول بالأعمّ وکون النفی بحسب مقام الامتثال والتسمیة کما هو مقتضی القول بالصحیح ، ولا مجال لأصالة الإطلاق أو الحقیقة أو لغیرهما من الأُصول مع العلم بالمراد ، ولعله قدس سره یشیر إلی ذلک فی آخر کلامه بقوله «فافهم» .

هذا مع الإغماض عمّا تقدّم من أنّ مثل قوله سبحانه «الصّلاة تَنْهَی عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْکَرِ»(2) أو قوله صلی الله علیه و آله : «إنّ عمود الدین الصلاة»(3) یراد به الصحیح فی مقام الامتثال لا الصحیح فی مقام التسمیة .

[1] ووجه کونها قابلة للمنع، أنّه لم یثبت أنّ الواضع یضع اللفظ ابتداءا بإزاء ذلک التامّ، بل یضع اللفظ للأعمّ منه وممّا یختلف معه فی الجملة کما تقدّم سابقا، هذا أوّلاً.

ص :148


1- (1) غوالی اللئالی : 1 / 196 ، الفصل التاسع ، الحدیث 2 .
2- (2) سورة العنکبوت : الآیة 45 .
3- (3) الوسائل : ج3 ، باب8 من أبواب أعداد الفرائض ، الحدیث : 13 / 23 .

وقد استدل للأعمّی أیضاً، بوجوه:

منها: تبادر الأعم، وفیه: أنّه قد عرفت الإشکال فی تصویر الجامع [1] الذی لابد منه، فکیف یصح معه دعوی التبادر.

ومنها: عدم صحة السلب عن الفاسد، وفیه منع، لما عرفت.

ومنها: صحة التقسیم إلی الصحیح والسقیم.

وفیه أن_ّه إنّما یشهد علی أن_ّها للأعم، لو لم تکن هناک دلالة علی کونها موضوعة للصحیح، وقد عرفتها، فلا بد أن یکون التقسیم بملاحظة ما یستعمل فیه الشَرح:

وثانیا إنّ ما ذکر إنّما یصحّ إذا کان المرکّب التامّ واحدا ، فالحکمة فی وضع الألفاظ تقتضی وضع اللفظ لذلک التامّ ؛ لکون غرض التفهیم یتعلق به غالبا ، بخلاف التامّ فی المقام ، فإنّه یختلف بحسب الحالات والأشخاص والازمان وغیرها ، وإذا أمکن وضع اللفظ للجامع المرکّب بین الأفراد فلا محالة یکون ذلک الجامع أعمّ یصدق علی التامّ والناقص ، علی ما تقدّم .

[1] قد تقدّم عدم الإشکال فی تصویر الجامع المرکّب علی الأعمّ ، فلیس فی دعوی التبادر محذور من جهة الجامع ولا من سائر الجهات ، وکذا فی دعوی عدم صحّة سلب المسمّی عن الفاسد . والمراد من صحّة التقسیم إلی الصحیح وغیره صحّته بحسب مسمّی اللفظ ، لا المسمی الذی تعلّق به التکلیف ثبوتا ، أو الذی یقوم به الغرض ، فإنّ الصحیح بمعنی ما یقوم به الملاک والغرض یصحّ سلبه حتّی عن التامّ بحسب مقام التسمیة ، والفاسد فی مقام الامتثال ، ولو لعدم قصد التقرّب فیه ، وبالجملة معنی صحّة تقسیم المسمّی إلی الصحیح والفاسد هو أنّ المعنی المتفاهم من لفظ الصلاة مثلاً إذا تحقّق فی الخارج قد یتّصف بأنّه تامّ وقد یتّصف بأنّه ناقص، فیقال: إنّ الصلاة إذا وقعت قبل وقتها تکون فاسدةً، وإذا وقعت بعده تکون صحیحة.

ص :149

اللفظ، ولو بالعنایة.

ومنها: استعمال الصلاة وغیرها فی غیر واحد من الأخبار فی الفاسدة [1]، کقوله علیه الصلاة والسلام (بنی الاسلام علی خمس: الصلاة، والزکاة، والحج، والصوم، والولایة، ولم یناد أحد بشیء کما نودی بالولایة، فأخذ الناس بأربع، وترکوا هذه، فلو أنّ أحداً صام نهاره وقام لیله، ومات بغیر ولایة، لم یقبل له صوم ولا صلاة)، فإنّ الأخذ بالأربع، لا یکون بناءً علی بطلان عبادات تارکی الولایة، إلاّ إذا کانت أسامی للأعم. وقوله علیه السلام : (دعی الصلاة أیام أقرائک) ضرورة أنّه لو لم یکن المراد منها الفاسدة، لزم عدم صحة النهی عنها، لعدم قدرة الحائض علی الصحیحة منها.

وفیه: أن الاستعمال أعم من الحقیقة، مع أنّ المراد فی الروایة الأولی، هو خصوص الصحیح بقرینة أنّها مما بنی علیها الإسلام، ولا ینافی ذلک بطلان عبادة الشَرح:

[1] قد یقال : ظاهر جملة من الأخبار ، ومنها الخبر المنقول(1) إنّ الولایة شرط لقبول العمل فی مقام إعطاء الأجر والثواب لا شرط لصحّته ، وعلیه فلا یمکن الاستدلال بالخبر لکون عبادة المخالف صلاة علی القولین .

أقول : یمکن الاستدلال بالخبر بتقریبٍ آخر وهو أنّ الصلاة التی یأتی بها المخالف محکومة بالفساد للنقص فی بعض أجزائها وشرائطها ، فإطلاق الإمام علیه السلام ذالصلاة علی عمل المخالف لایکون إلاّ بإرادة الأعمّ ، فینحصر الجواب عن ذلک بما ذکره الماتن قدس سره أخیرا ، ویمکن أن یقال : المراد بالأخذ ، الأخذ باعتقادهم فلا موجب للإلتزام باستعمال الألفاظ فی غیر الصحیح أو فی الأعمّ ، هذا مع الإغماض عمّا

ص :150


1- (1) الوسائل : ج 1 ، باب 1 من أبواب مقدمة العبادات ، الحدیث : 1 / 7 .

منکری الولایة، إذ لعل أخذهم بها إنّما کان بحسب اعتقادهم لا حقیقة، وذلک لا یقتضی استعمالها فی الفاسد أو الأعم، والاستعمال فی قوله: (فلو أن أحداً صام نهاره) إلی آخره، کان کذلک _ أی بحسب اعتقادهم _ أو للمشابهة والمشاکلة.

وفی الروایة الثانیة، الإرشاد إلی عدم القدرة علی الصلاة، وإلا کان الإتیان بالأرکان، وسائر ما یعتبر فی الصلاة، بل بما یسمی فی العرف بها، ولو أخلّ بما لایضر الإخلال به بالتسمیة عرفاً. محرماً علی الحائض ذاتاً، وإن لم تقصد به القربة.

ولا أظن أن یلتزم به المستدل بالروایة، فتأمل جیداً.

ومنها: أن_ّه لا شبهة فی صحّة تعلق النذر وشبهه بترک الصلاة فی مکان تکره الشَرح:

ذکرناه من أنّ الاستدلال بأصالة الإطلاق وأصالة الحقیقة لکشف کیفیّة الاستعمال لا یصحّ بعد معلومیة المراد .

وأمّا الاستدلال علی قول الاعمیّ بنهی الحائض عن الصلاة أیّام أقراءها(1) بدعوی أنّ النهی کالأمر لا یتعلّق بغیر المقدور ، والصلاة الصحیحة لا تتمکن منها الحائض ، لاشتراطها بالخلوّ من الحیض ، فنهیها عنها أیّام حیضها کاشف عن کون المراد بالصلاة الأعمّ ، فهو کما تری ، إذ غایة الأمر یعلم بأنّ لفظ الصلاة فی خطاب نهی الحائض مستعمل فی الأعمّ بقرینة عدم إمکان نهیها عن الصحیحة ، ولا دلالة لها علی کون الاستعمال علی نحو الحقیقة ، هذا أوّلاً .

وثانیا أنّ النهی المزبور لیس بتکلیفی لیقال إنّه لا یتعلّق بغیر المقدور ، بل إرشاد إلی عجزها عن الصلاة لاشتراطها بالخلوّ من الحیض ، ونتیجة ذلک أنّ حرمة الصلاة علی الحائض تشریعیّة ، فإذا أتت بها تعلیما لبنتها ، أو لغیر ذلک من غیر قصد

ص :151


1- (1) الوسائل : ج2 ، باب 14 من أبواب الحیض ، 1 و2 و3 .

فیه] 1]. وحصول الحنث بفعلها، ولو کانت الصلاة المنذور ترکها خصوص الصحیحة، لا یکاد یحصل به الحنث أصلاً، لفساد الصلاة المأتی بها لحرمتها، کما لا یخفی، بل یلزم المحال، فإنّ النذر حسب الفرض قد تعلق بالصحیح منها، ولا یکاد یکون معه صحیحة، وما یلزم من فرض وجوده عدمه محال.

الشَرح:

الامتثال به لم تفعل حراما .

ودعوی کون النهی الإرشادی أیضا کالأمر الإرشادی لا یتعلّق بغیر المقدور ، لا یمکن المساعدة علیها ، فإنّ الإرشادی لا یتعلّق بما أُحرز عدم إمکانه لکونه لغوا محضاً ، وأمّا تعلّقه بغیر المقدور واقعا ، إرشادا إلی عدم قدرة من یتوجّه إلیه النهی علی متعلّقه ، فهو لیس بلغوٍ ، کما فی النواهی الارشادیّة العرفیّة .

[1] لا یخفی أنّ مرادهم نذر ترک صلاة النافلة ، أو الصلاة التی تکون من قبیل الواجب الموسع ، بحیث أمکن امتثال الأمر بها بإتیانها فی غیر الحمّام ، وأمّا نذر ترک الصلاة الواجبة التی ینحصر امتثال الأمر بها بالصلاة فی الحمّام ولو کان الانحصار بسوء الاختیار ، فلا ینعقد ؛ لأنّ النذر المفروض مساوٍ لنذر ترک الواجب ، فلاینعقد .

وبتعبیرٍ آخر : نذر ترک الصلاة فی الحمّام کنذر ترک الصوم فی یوم عاشوراء یصحّ ویحصل الحنث بالصلاة فیه ، کحنث نذر ترک صوم یوم عاشوراء بالصوم فیه .

فالمذکور فی کلامهم أمران : صحّة النذر المفروض ، وحصول الحنث بالفعل ، ویستدلّ علی القول بالأعمّ بهذین الأمرین ، فإنّه علی قول الصحیحیّ لا یمکن أن یحکم بانعقاد النذر المزبور ؛ وذلک لأنّ متعلّق النذر علی ذلک القول ترک الصلاة الصحیحة فی الحمّام ، والصلاة الصحیحة من جمیع الجهات غیر مقدورة مع نذر ترکها ، فیلزم انتفاء النذر ، لأن_ّه یعتبر فی انعقاد النذر کون متعلّقه مقدورا ، کما أنّه علی قول الصحیحیّ لا یمکن الالتزام بحصول الحنث بالصلاة فی الحمّام لکون تلک

ص :152

قلت: لا یخفی أن_ّه لو صح ذلک، لا یقتضی إلاّ عدم صحة تعلق النذر بالصحیح، لا عدم وضع اللفظ له شرعاً، مع أنّ الفساد من قبل النذر لا ینافی صحة متعلقة، فلا یلزم من فرض وجودها عدمها.

ومن هنا انقدح أن حصول الحنث إنّما یکون لأجل الصحة، لولا تعلقه، نعم لو فرض تعلّقه بترک الصلاة المطلوبة بالفعل [1]، لکان منع حصول الحنث بفعلها بمکان من الإمکان.

الشَرح:

الصلاة فاسدةً ، لتعلّق النهی بها ولو بعنوان حنث النذر ویلزم من حصول الحنث بها عدم حصوله ، لأنّ المنذور ترک الصلاة الصحیحة وما یلزم من وجوده عدمه محال سواء کان نذرا أو حنثا .

والجواب عن هذا الاستدلال بأمرین :

الأوّل: أنّ ما ذکر من المحذور لا یثبت کون لفظ «الصلاة» وغیره من ألفاظ العبادات موضوعة للأعمّ ، بل غایته أنّ ما ذکر من المحذور قرینة علی أنّ الناذر یرید بالصلاة فی نذره ، معناها الأعمّ .

وهذا الجواب غیر صحیح ؛ لأنّ للمستدلّ أن یدّعی أنّ من المقطوع به أنّ الناذر یستعمل لفظ «الصلاة» فی المعنی الذی یستعمل اللفظ فیه فی غیر النذر .

والثانی: أنّ المراد بالصحیح عند الصحیحیّ ، هو التامّ من حیث الأجزاء والشرائط التی قرّرها الشارع لنفس الصلاة ، وأمّا فسادها من قبل النهی عنها ولو بعنوانٍ آخر ، فلا یضرّ بالصحّة المأخوذة فی مسمّی الصلاة ، فالمراد بالتامّ من الصلاة فی قول الناذر هو الصحیح لولا النذر ، ولذا لو صلّی الناذر فی الحمّام وأبطل صلاته فی الأثناء بالحدث أو بغیره لا یحصل الحنث بها .

[1] وحاصله ، أن_ّه إذا تعلّق النذر بترک الصلاة المطلوبة ، لتکون مطلوبة للشارع

ص :153

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بعد نذر ترکها ، فیمکن أن یقال بعدم حصول الحنث بالصلاة فی الحمّام ؛ لأنّ الصلاة الفاسدة لا تکون حنثا لذلک النذر .

وذکر فی هامش الکتاب أنّ صحّة النذر المفروض مشکل ؛ لعدم إمکان الصلاة الصحیحة المطلقة ، بأن تکون مطلوبة بعد نذر ترکها ، ویلزم من ذلک صحّة الصلاة فی الحمّام لعدم انعقاد النذر وبقاء الصلاة فی الحمّام علی حکمها الأصلی .

أقول : لا ینبغی التأمّل فی أنّ النذر یتعلّق بفعل الناذر أو ترکه ، ولا یدخل فعل الغیر فی نذره _ سواء کان فعل الشارع أو غیره _ ولو نذر ترک الصلاة فی الحمّام ، بحیث تکون تلک الصلاة مطلوبة وصحیحة حتّی بعد نذره ، بأن کان الوصف تقییدا فی الصلاة المنذور ترکها ، فالنذر محکوم بالبطلان ؛ لعدم تحقّق مثل تلک الصلاة ، نعم إذا کان وصفها بالصحّة والمطلوبیة حتّی بعد النذر بتخیّل أنّ الصلاة فی الحمّام لا تسقط عن المطلوبیة والصحّة حتّی بعد النذر المفروض ، فالنذر صحیح ویحصل الحنث بصلاته فی الحمّام ، فتدبّر .

ص :154

بقی أمور:

الأول: إنّ أسامی المعاملات، إن کانت موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع فی کونها موضوعة [1] للصحیحة أو للأعم، لعدم اتصافها بهما، کما لا یخفی، بل بالوجود تارة وبالعدم أخری، وأما إن کانت موضوعة للأسباب، فللنزاع فیه مجال، الشَرح:

الصحیح والأعم فی المعاملات

:

[1] ذکر قدس سره أن_ّه لا یجری نزاع الصحیحیّ والأعمیّ فی ألفاظ المعاملات من العقود والإیقاعات بناءً علی کونها أسامی للمسبّبات حیث أنّ المسبّب لا یکون تامّا تارةً وناقصا أُخری ، لیقع البحث فی أنّ أسامی المعاملات موضوعة لخصوص التامّ أو القدر الجامع بینه وبین الناقص ، بل المسبّب أمر بسیط یتّصف بالوجود تارةً ، وبالعدم أُخری .

نعم لو کانت الألفاظ موضوعة للأسباب ، فللنزاع المزبور مجال ، فإنّ الأسباب مرکّبات لها أجزاء وقیود تکون بمجموعها موجبة لحصول المسبّب ، فیقع النزاع فی ناحیة الموضوع له بأنّه التامّ أو القدر الجامع .

وقد یقال بأنّه لا فرق فی صحّة النزاع بین القول بأنّها موضوعة للأسباب أو المسبّبات ، فإنّ المسبّب هو الذی ینشئه الموجب أو الموجب والقابل ، ویقع مورد الإمضاء من العقلاء والشرع تارةً ، ولا یقع مورد الإمضاء من العقلاء والشرع أُخری ، أو من الشرع خاصّة ثالثةً ، فمثلاً ملکیّة المبیع للمشتری بإزاء الثمن أمر ینشئه البائع ویقع مورد الإمضاء فیما کان البائع مالکا عاقلاً رشیدا وکذا المشتری ، ولا یقع مورد الإمضاء حتّی عند العقلاء فیما کان البائع سکرانا أو صبیّا غیر ممیّز . وعلی ذلک فیمکن البحث فی أنّ الملکیة المنشأة الموضوع لها لفظ البیع هی الواقعة مورد الإمضاء من العقلاء والشرع ، أو أنّه موضوع لنفس الملکیة المزبورة التی ینشئها

ص :155

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

العاقد ولو لم تقع مورد الإمضاء ، أو أن_ّه موضوع لما تکون مورد الإمضاء من العقلاء خاصّة ، والحاصل الصحّة فی المعاملات عبارة عن التمامیّة بحسب الإمضاء ، لا من حیث الأجزاء أو الشرائط ، کما کان الأمر علیه فی العبادات ، نعم لو کانت أسامی المعاملات موضوعة للأسباب فیمکن أن تکون الصحّة فیها بمعنی التمامیّة من حیث الأجزاء والشرائط.

أقول : لا یخفی أنّه لا یمکن أن یکون الإمضاء الشرعی قیدا لمعنی البیع ، بل الإمضاء شرعا حکم شرعیّ یترتّب علی البیع بمعناه العرفی وإلاّ یکون قوله سبحانه «أحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» بمعنی إمضائه لغوا ، ولذا ذکرنا أنّه لا تحتمل الحقیقة الشرعیّة فی ألفاظ المعاملات المتداولة عند العرف والعقلاء ، نعم ربّما یکون الموضوع للحکم الشرعی البیع الممضی شرعا کما فی قوله علیه السلام : «البیّعان بالخیار حتّی یفترقا وصاحب الحیوان بالخیار ثلاثة أیام»(1) ، وهذا لا یکون استعمالاً للفظ البیع فی الممضی شرعا ، بل إرادته بنحو تعدّد الدال والمدلول ، نظیر ما تقدّم فی أسامی العبادات فیما إذا ورد فی الخطابات الأمر بها علی قول الأعمیّ .

وبالجملة الخطابات المزبورة لبیان حکم البیع بعد فرض إمضائه ، والنزاع المعقول فی المعاملات _ علی تقدیر کونها أسامی للمسبّبات _ هو أنّ الموضوع له فیها المسبب فی نظر العاقد مطلقاً ولو لم یلحق به إمضاء العقلاء ؟ أو أنّ الموضوع له خصوص ما یکون ممضی عند العقلاء ؟ نظیر ما ذکرنا فی بحث البیع من أنّ إطلاق البیع بالمعنی المصدری ینطبق علی فعل البائع إلاّ أنّ انطباقه علیه فی صورة تحقّق

ص :156


1- (1) الوسائل : ج12 ، باب 1 من أبواب الخیار ، الحدیث : 1 / 345 .

لکنّه لا یبعد دعوی کونها موضوعة للصحیحة أیضاً [1]، وإنّ الموضوع له هو العقد المؤثّر لأثر کذا شرعاً وعرفاً. والاختلاف بین الشرع والعرف فیما یعتبر فی تأثیر

الشَرح:

القبول من المشتری ، لا مطلقاً .

وذکرنا أیضاً أنّ إطلاق السبب والمسبّب فی المعاملات أمر لا أساس له ، ولیس فی المعاملات سبب ولا مسبّب ، وإنّما یکون فیها الإنشاء بالمعنی المتقدّم ؛ لأنّ الإنشاء مقوّم لعنوان المعاملة فلا یطلق البیع علی مجرّد الاعتبار النفسانی بتملیک شیءٍ بإزاء مال ، مالم یبرز ، فالإبراز مقوّم للمعاملة سواء کان عقدا أو إیقاعا ، غایة الأمر کونه معاملة فی العقود مشروط بقبول الطرف الآخر دون الإیقاع ، نعم هذا ما یسمّی عندهم بالمعاملة بمعناها المصدریّ ، وأمّا بمعناها الإسم المصدریّ فهو المعتبر المنشأ .

وعلی ذلک فلو کان فی ناحیة الإنشاء نقص فلا یکون فی البین لا معاملة بمعناها المصدری ولا بمعناها الإسم المصدریّ ، هذا بناءً علی الصحیح ، وأمّا بناءا علی أنّ ألفاظها أسامی للأعمّ فیکون فی البین مُنشأ ، ولکن فیه نقص ولو فی ناحیة إنشائه ، کما لا یخفی .

[1] ذکر قدس سره أنّه بناءً علی کون أسامی المعاملات موضوعة للأسباب ، فالموضوع له فیها _ کالموضوع له فی أسامی العبادات _ هو العقد الصحیح ، أی المؤثّر للأثر المترقّب من تلک المعاملة، بلا فرق بین استعمالات العرف والشرع، واختلاف الشرع مع العرف فی بعض القیود المعتبرة فی العقد لا یوجب اختلاف المعنی، بل المستعمل فیه عند کلّ من العرف والشرع العقد المؤثر لذلک الأثر، غایة الأمر یمکن أن یری أهل العرف العقد _ ولو مع فقد بعض القیود _ مؤثّرا، ولا یری الشرع ذلک، فیکون الاختلاف بینهما فی المحقّقات ومصادیق المعنی، ویکون نظر

ص :157

العقد، لا یوجب الإختلاف بینهما فی المعنی، بل الاختلاف فی المحققات والمصادیق، وتخطئة الشرع العرف فی تخیّل کون العقد بدون ما اعتبره فی تأثیره، محققاً لما هو المؤثّر، کما لا یخفی فافهم.

الشَرح:

الشارع من قبیل تخطئته العرف فی المصداق، حیث یری الموجود مع فقد ما یعتبر فی تأثیره شرعا مؤثّرا.

وبیان ذلک : کما أنّ لفظ الخمر موضوع لمائع خاصّ یعرف بمسکریّته ، وإذا اعتقد أحد أنّ المائع الفلانی خمر ، واعتقد الآخر أنّه خلّ فاسد ، فلا یکون اختلافهما فی معنی لفظ الخمر بل اختلافهما فی مصداقه ، حیث إنّ الموجود الخارجی مصداق للخمر عند أحدهما ولیس کذلک عند الآخر ، کذلک لفظ البیع مثلاً ، فإنّه موضوع عند العرف والشرع للعقد المؤثّر فی ملکیّة عین بعوض ، وعلیه فمثلاً الإیجاب من الصبیّ الممیّز المراهق مع القبول من الطرف الآخر لو رآه العرف بیعاً وحکم الشارع بفساده ، فمعناه أنّ الشارع لا یری عقده مصداقا للبیع وحکمه بالفساد تخطئة للعرف .

وبالجملة فألفاظ المعاملات علی تقدیر کونها أسامی للأسباب ، موضوعة للتامّ أی المؤثّر فی الأثر المترقّب عند العرف والشرع ، حیث إنّ الشارع لم یخترع للفظ البیع معنی واختلافهما من جهة بعض القیود ، إنّما هو فی المصادیق لا فی أصل المعنی .

أقول : التخطئة بمعناها المعروف لا یکون إلاّ فیما کان للشیء مصداق واقعیّ بحیث یکون انطباقه علیه قهریّا وفی مثل ذلک یمکن أن یری أحد أنّ الشیء الخارجیّ مصداق واقعیّ له ، ولا یراه الآخر کذلک ، کما مثّلنا لذلک بالخمر ، وأمّا الاعتباریّات التی یکون فیها الشیء مصداقا للمعنی بالاعتبار فمصداقیّته دائرة مدار

ص :158

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

اعتبار المعتبر ، ولا معنی لتخطئة المعتبر فیها ، حیث إنّه یمکن أن یعتبر أحد شیئا مصداقا له ولایعتبره الآخرون مصداقا له، فمثلاً یری طائفة الفعل الخاصّ تعظیماً ولا یراه الآخرون تعظیما ، ولا یکون فی الفرض اعتبار إحداهما تخطئة للأُخری ، إذ لیس فی البین واقع معیّن لیکون نظر إحداهما بالإضافة إلیه خطأً ونظر الأُخری صوابا .

لا یقال : إذا ورد فی خطاب الشارع «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» یحرز بعد تمامیّة مقدّمات الإطلاق أنّ ما هو مصداق للبیع عند العرف هو تمام المؤثّر عند الشارع أیضاً ، حیث إنّ الاستعمالات الشرعیّة فی المعاملات جاریة علی المعانی العرفیة ، کما یأتی ، فلو ورد بعد ذلک فی خطاب «لا بَیْعَ فِی المَکِیلِ إلاّ بِالْکَیْلِ» یکون هذا تخطئة ؛ لانکشاف أنّ المؤثّر عند العرف لا یکون مؤثّرا عند الشارع .

فإنّه یقال : التخطئة بهذا المعنی الذی مرجعه إلی الأخذ بالإطلاق قبل ورود خطاب التقیید ، وإلی رفع الید عنه بعد وروده ، لا یکون مختصّا بباب المعاملات ، بل یجری فی جمیع الاطلاقات ، ولعلّه قدس سره یشیر إلی ذلک فی آخر کلامه بقوله «فافهم» .

وعن المحقّق الاصفهانی قدس سره إنّ التخطئة لیست بلحاظ نفس الأمر الاعتباری لیرد أنّها لا تکون فی الاعتباریّات ، بل بلحاظ الملاک والصلاح الموجب للاعتبار ، بحیث لو انکشف الواقع یری العرف عدم الصلاح فی اعتبارهم(1) .

ولا یخفی ما فیه ، فإنّ الصلاح فی الاعتباریّات (یعنی ما کان من قبیل الوضع لا التکلیف بالفعل الخارجی) یکون فی نفس الأمر الاعتباریّ ، وهو حفظ نظام

ص :159


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 137 .

الثانی: إنّ کون ألفاظ المعاملات أسامی للصحیحة، لا یوجب إجمالها [1]،

الشَرح:

المعاش بین الناس ، ولکنّ الشارع قد یضیف إلی ذلک الصلاح فی لحاظه أمرا آخر ، فیضیف قیدا آخر فی اعتبار المعاملة لتمییز من یطیعه عمّن یعصیه ، أو لعلمه بعدم الصلاح فی اعتبار المعاملة بدونه ، فعلیه لا یکون اختلافه مع العرف فی کلّ مورد تخطئة ولو بلحاظ الملاک ، کما لا یخفی.

[1] لا ینبغی الرّیب فی عدم ثبوت الحقیقة الشرعیّة فی ألفاظ المعاملات وأنّ الشارع لم یخترع فیها اصطلاحا ، بل جعل لها بمعانیها العرفیة ، أحکاما امضاءً کما فی قوله سبحانه «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(1) ، أو تأسیساً ، مثل قوله علیه السلام «والخیار فی الحیوان ثلاثة أیام للمشتری» الحدیث(2) ، وأضاف إلیها قیودا فی إمضائها أو فی ترتّب الحکم التأسیسی علیها ، وبعد البناء علی ذلک وکون استعمالات الشارع تتبع الاستعمالات العرفیّة فیمکن التمسّک بخطاباتها عند الشکّ فی اعتبار أمرٍ آخر فی إمضاء المعاملة ، أو بیان الحکم لها ، حتّی بناءً علی کونها أسامی للصحیحة ، وذلک لعدم إجمال الصحیح عند العرف کما کانت أسماء العبادات عندهم علی الصحیحی ، وعلی ذلک فبعد إحراز مقدّمات الإطلاق کما هو الفرض ، یحرز أنّ الموضوع للإمضاء أو الحکم التأسیسیّ ، نفس تلک المعاملة عند العرف ، وإلاّ کان علی الشارع بیان القید .

ولکن مع ذلک ، قد یناقش فی التمسّک بإطلاق المعاملات عند الشکّ فی کون شیء قیدا فی إمضائها ، بدعوی عدم ورود الخطابات فی مقام إمضاء الأسباب ، بل

ص :160


1- (1) سورة البقرة : الآیة 275 .
2- (2) الوسائل : ج12 ، باب1 من أبواب الخیار ، الحدیث : 5 / 346 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

مفادها إمضاء المسبّبات ، فقوله سبحانه «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(1) ناظر إلی إمضاء المسبّب ، وأمّا أنّ سببه أیّ شیء ، فلا إطلاق له من هذه الجهة ، نعم یمکن أن یقال : إنّ قوله سبحانه «أوْفُوا بِالْعُقُودِ»(2) دالّ علی إمضاء الأسباب إلاّ أنّ التدبّر فی حکمه یقتضی صرفه إلی المسبّبات أیضاً ؛ لأنّ اعتبار البقاء یکون فی المسبّب ، وأمّا السبب فلا بقاء له لیجب الوفاء به.

أقول : لا یخفی ما فیه ، فإنّ قوله سبحانه «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(3) من القضایا الحقیقیّة الانحلالیّة ، فیکون مفاده إمضاء کلّ مسبّب فی الخارج یتعنون ویتّصف بکونه بیعا . ومن الظاهر أنّ إمضاء المسبّب کذلک ، لا ینفکّ من إمضاء السبب ، ولا یخفی أنّ هذا بناءً علی مسلک الأسباب والمسبّبات فی المعاملات وهو مسلک سخیف کما تقدّم فی بحث الإخبار والإنشاء ، ونتعرّض لذلک فی المقام بوجه أخصر.

وأمّا ما ذکر من رجوع خطاب الإمضاء إلی المسبّب ، حتّی فی مثل قوله سبحانه «أوْفُوا بِالْعُقُودِ»(4) بقرینة أنّ العقد بما هو إیجاب وقبول ، لا بقاء له لیجب الوفاء به ، بل الباقی هو المسبّب ، فیکون الوفاء به لا بالسبب ، ففیه أیضاً ما لایخفی ، فإنّ العقد له بقاء اعتبارا ولذا یتعلّق به الفسخ والإقالة ، حیث إنّ الفسخ حلّ ذلک العقد ، فیعود الملک إلی مالکه الأوّل بالسبب الناقل قبل العقد المفسوخ ، والإقالة

ص :161


1- (1) سورة البقرة : الآیة 275 .
2- (2) سورة المائدة : الآیة 1 .
3- (3) سورة البقرة : الآیة 275 .
4- (4) سورة المائدة: الآیة 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

اجتماع طرفی العقد علی فسخه ، کما فی البیعة وحلّها ، وبالجملة البقاء الاعتباریّ للعقد کإلغائه واضح لا یحتاج إلی تطویل الکلام ، وعلیه فلو کانت أسامی المعاملات للتامّ من الأسباب فلا موجب لحمل الحکم الجاری علیها فی الخطابات علی الحکم للمسببات .

وأجاب المحقّق النائینی قدس سره عن المناقشة السابقة فی التمسک بالإطلاقات عند الشکّ فی قیود الأسباب بما حاصله : أنّ الإیجاب والقبول فی العقود والإیجاب فی الإیقاعات لا تکون من قبیل الأسباب ، والأمر الاعتباری المترتّب علیها لیس من قبیل المسبّب لیکون للمسبّب وجود آخر غیر وجود السبب ، حتّی لایمکن التمسّک بخطاب الأوّل عند الشکّ فی اعتبار قید للثانی بدعوی أنّ إمضاء الأوّل لا یستلزم إمضاء الثانی ، بل العقود والإیقاعات بالإضافة إلی الأمر الاعتباری من قبیل الآلة إلی ذیها ، فکما أنّ المفتاح آلة الفتح والمؤثّر فی الفتح هو حرکة ید الفاعل ، فکذلک للمعاملات ، عند العقلاء والشرع ما هو کالآلة لها ویعبّر عنه بصیغ العقود من الإیجاب والقبول وما هو بمنزلة ذی الآلة ویعبّر عنه بالمعاملة من البیع وغیره ، فالمعاملة بمعناها الاسم المصدری وإن کانت تباین المعنی المصدری إلاّ أنّ الظاهر تعلّق الامضاء فی مثل قوله تعالی «أحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» بالجهة الصدوریة ، فیکون إمضاء البیع بمعناه المصدریّ إمضاءً للآلة التی یقصدها العاقد بتلک الآلة(1) .

وفیه ماتقدّم من أنّ الإمضاء لو کان بنحو الانحلال کماهو مفاد القضیة الحقیقیّة ، فیکون إمضاء المسبّب وذی الآلة إمضاءا للسبب والآلة لا محالة ، حیث لا یمکن

ص :162


1- (1) أجود التقریرات 1 / 49 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الحکم بحصول المسبّب وذی الآلة فی موردٍ ، مع عدم تحقّق السبب والآلة ، وإن کان مفاد الخطابات علی نحو لم یکن فیها انحلال ، لا یکون إمضاء المسبّب أو ذی الآلة مفیدا فی مورد الشکّ فی السبب أو الآلة ؛ لأنّ للآلة أیضاً وجودا غیر وجود ذی الآلة ، کما فی السبب ومسبّبه .

وقد یقال : إنّ المناقشة فی التمسّک بإطلاقات المعاملات مبنیة علی کونها من قبیل الأسباب والمسبّبات أو الآلة وذیهما ، ولکنّهما ضعیفان ، وأمّا علی المسلک الصحیح ، من کون البیع مثلاً فی حقیقته أمرا اعتباریّا یحصل بالقصد والاعتبار ، من غیر تأثیر للّفظ وبلا دخل له فی حصول ذلک بنحو السببیة أو الآلة ، بل اللفظ أو غیره یکون مبرزا ، ویطلق علی المجموع من المبرز _ بالفتح _ ومبرزه _ بالکسر _ عنوان البیع ، فیجوز التمسّک بإطلاقاتها إذ علی هذا المسلک لا یصدق البیع ولا غیره من عناوین المعاملات فی العقود والإیقاعات ، بمجرّد الاعتبار من دون الإبراز بقول أو فعل ، وعلی ذلک فمثل قوله سبحانه : «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(1) یکون إمضاءا للمرکّب من الأمر الاعتباریّ ومبرزه _ بالکسر_ فیکون دلالته علی ما سمّوه بالسبب أو الآلة بالدلالة التضمّنیة ویکون إمضاء البیع إمضاء المجموع المرکّب من المبرز _ بالکسر _ والمبرز _ بالفتح _ ومعه لا مانع من التمسّک بالإطلاق(2) .

وفیه : أنّ ما ذکر من کون الإیجاب والقبول مبرزا للمعتبَر الذی یکون إبرازه بقصد اعتباره ، ولا یکون الإبراز من قبیل السبب والآلة کما ذکرنا فی بحث الإنشاء

ص :163


1- (1) سورة البقرة : الآیة 275 .
2- (2) المحاضرات : 1 / 192 .

کألفاظ العبادات، کی لا یصح التمسک بإطلاقها عند الشک فی اعتبار شیء فی تأثیرها شرعاً، وذلک لأنّ إطلاقها _ لو کان مسوقاً فی مقام البیان [1] _ ینزل علی أن المؤثر عند الشارع، هو المؤثّر عند أهل العرف، ولم یعتبر فی تأثیره عنده. غیر الشَرح:

والخبر ، وإن کان صحیحا إلاّ أنّ المأخوذ فی معنی البیع بمعناه الإسم المصدریّ ، هو المبرز _ بالفتح _ بما هو مبرز بحیث یکون وصف المبرزیة محقّقا ومقوّما له ، وأمّا نفس المبرز _ بالکسر _ فهو غیر داخل فی معناه علی وجه الجزئیّة ، فیرد الإشکال بأنّ إمضاء المبرز _ بالفتح _ لا یلازم إمضاء مبرزه _ بالکسر _ مطلقاً ، إلاّ بنحو انحلال الخطاب ، کما تقدّم .

[1] لا یخفی أنّ التمسک بالاطلاق اللفظی فی خطابات إمضاء المعاملات ، یبتنی علی کون المراد من ألفاظ المعاملات فی تلک الخطابات الشرعیه معانیها العرفیة ، _ أی ما یعتبره العرف معاملة _ ، لما تقدّم من أنّ معانیها لیست من الأُمور الواقعیّة ، ولا من المخترعات الشرعیة ، فیکون مفاد الخطاب المتضمّن للحکم بنحو القضیة الحقیقیة ، شمول الامضاء والحکم لکلّ ما یصدق علیه عنوان المعاملة عرفا ، وعلی الشارع فی موارد إضافة قید فی إمضاء معاملة أو عدم إمضاء فرد ، بیان القید لتلک المعاملة ، أو تقییدها بغیر ذلک الفرد ، فی خطاب إمضائها ، أو بخطاب منفصل ولذلک تمسّک العلماء بخطابات المعاملات فی أبوابها .

وأما إذا بنی علی أنّ المراد من أسامی المعاملات المعانی الواقعیة منها ، کسائر الخطابات التی تتضمّن الحکم التکلیفی أو الوضعی لعنوان واقعیّ ولو بنحو القضیة الحقیقیّة ، بحیث لا توجب التخطئة فی بعض مصادیقها تقییدا فی خطاب الحکم ، کما التزم به الماتن قدس سره قبل ذلک ، فلا موجب للتمسّک بتلک الخطابات فی موارد احتمال التخطئة فی بعض المصادیق والمحقّقات لها بل لابدّ لدفع احتمال التخطئة

ص :164

ما اعتبر فیه عندهم، کما ینزل علیه إطلاق کلام غیره، حیث إن_ّه منهم، ولو اعتبر فی تأثیره ما شک فی اعتباره، کان علیه البیان ونصب القرینة علیه، وحیث لم ینصب، بان عدم اعتباره عنده أیضاً. ولذا یتمسکون بالإطلاق فی أبواب المعاملات، مع ذهابهم إلی کون ألفاظها موضوعة للصحیح.

نعم لو شک فی اعتبار شیء فیها عرفاً، فلا مجال للتمسک بإطلاقها فی عدم اعتباره، بل لا بد من اعتباره، لأصالة عدم الأثر بدونه، فتأمل جیداً.

الشَرح:

فیها من التشبث بالاطلاق المقامی ، ویُشکل إحراز هذا الاطلاق فی المعاملات التی تکون لها مصادیق متیقنة توضیحه : أنّه لو کان لمعاملةٍ _ بناءً علی کون معانیها واقعیة _ مصادیق متیقّنة ولم یحرز کون الشارع فی مقام بیان جمیع أفراد تلک المعاملة ومحقّقاتها وشکّ فی فردٍ منها فلا یجوز التمسّک بالإطلاق المقامی أیضاً ، وذلک لأنّ شرطه إحراز کون المتکلّم فی مقام البیان .

نعم إذا اُحرز ذلک فلا مانع منه ، وأمّا إذا لم یکن لها مصادیق متیقّنة فعلی هذا المبنی یصیر الخطاب مجملاً غیر قابل للتمسّک به ، کما لا یخفی .

نعم لو اُحرز فی مقام خاصّ بکون الشارع فیه متصدّیا لبیان جمیع ما یقع من أفراد المعاملة ومحقّقاتها وکان مصداق منه مورد التخطئة ، یتمسّک بالاطلاق المقامی فیه ، کما تقدّم نظیره فی العبادات علی قول الصحیحی ، بل علی الأعمیّ ، بناءً علی الإجمال فی خطابات التشریع .

وبالجملة فظاهر عبارة الماتن قدس سره جواز التمسّک بالاطلاق اللفظی فی المعاملات حیث قال: «ولو اعتبر فی تأثیره ما شک فی اعتباره کان علیه البیان ونصب القرینة علیه (أی علی اعتباره فی المعاملة) وحیث لم ینصب بأنّ عدم اعتباره عنده أیضاً ، ولذا یتمسّکون بالاطلاق فی أبواب المعاملات مع ذهابهم إلی کون ألفاظها

ص :165

الثالث: إنّ دخل شیء وجودی أو عدمی فی المأمور به [1]:

الشَرح:

موضوعة للصحیح»(1) وأنت تری أنّ هذا التمسّک لا یناسب مسلک التخطئة فی المصداق ، حیث إنّ اعتبار القید لا یکون تقییدا لإطلاق المعاملة الواقعیة ، فلاحظ وتدبّر لیس مراد صاحب الکفایة قدس سره فی المقام هو جواز التمسّک بالإطلاق اللفظی ، بل غرضه (ره) انّ استشهاد صاحب الکفایة بتمسّک المشهور فی أبواب المعاملات بالإطلاق مع ذهابهم إلی الصحیح استشهاد للإطلاق اللفظی کما لا یخفی علی المتأمل . وقوله «لو اعتبر فی تأثیره ما شکّ ... وحیث لم ینصب بانَ عدم اعتباره» ظاهر فی الإطلاق المقامی الذی هو علی القاعدة فی المقام ، فبینهما تهافت واضح ، مع أن_ّه قدس سره تمسّک بالإطلاق اللفظی فی «أحلّ اللّه البیع» و«أوفوا بالعقود» فی حاشیته علی مکاسب الشیخ قدس سره .

وعلیه ، فإن أراد قدس سره من عبارته هذه الإطلاق اللفظی واستشهد له بتمسّک المشهور فهو غیر صحیح ، إذ المقام لیس مجال الإطلاق اللفظی بل هو مجال الإطلاق المقامی لکون أسامی المعاملات المعانی الواقعیة واعتبار قید فی خطاب الشارع لا یکون تقییداً لها ، بل بیانٌ للمعاملة الواقعیة وقیودها ، وإن أراد قدس سره منها الإطلاق المقامی فلا مجال للاستشهاد بالمشهور المتمسّکین بالإطلاق اللفظی ، فتأمّل .

أنحاء الدخل فی المأمور به

:

[1] وحاصله أنّ دخل أمر وجودی أو عدمی فی متعلّق الأمر علی أنحاء :

الأوّل: أن یکون الشیء بنفسه داخلاً فی متعلّقه ، بأن یتعلق الأمر بالمرکّب منه

ص :166


1- (1) الکفایة : ص33 .

تارة: بأن یکون داخلاً فیما یأتلف منه ومن غیره، وجعل جملته متعلقاً للأمر، فیکون جزءاً له وداخلاً فی قوامه.

الشَرح:

ومن غیره ، کما فی تعلّق الأمر بالصلاة التی منها السورة ، وعلی ذلک تکون السورة جزءا منها ودخیلة فی قوامها ، بمعنی أنّ الصلاة الفاقدة لها لا تکون مصداقا لمتعلّق الأمر ، بل لا تکون صلاة علی القول بالصحیح ، ولا فرق فی ذلک بین کون الشیء أمرا وجودیا أو عدمیا .

الثانی: أن یکون نفس الشیء خارجا عن متعلّق الأمر ، ولکن تؤخذ فی متعلّقه خصوصیّة لا تحصل بدون ذلک الشیء ، کما إذا تعلّق الأمر بالصلاة المقیّدة بسبق الإقامة علیها ، أو بمقارنتها بالطهارة ، أو بتأخّر شیء عنها ، فلا تکون الإقامة أو الطهارة أو غیرهما بنفسها داخلة فی الصلاة المأمور بها ، بل یکون الداخل فیها تقیّدها بها ، ولذا یمکن أن یکون نفس ذلک الشیء أمرا غیر اختیاری للمکلف کالوقت فإنّه یکفی فی الأمر بالمقید به کون الخصوصیة اختیاریة .

وبالجملة نفس الشیء فی هذا الفرض من مقدمات المأمور به لا من مقوّماته ، ویعبّر عنه بالشرط مقابل الجزء ، هذا فی الشرط الشرعی ، وأمّا العقلی فیأتی الکلام فیه فی بحث مقدّمة الواجب وأنّ الشرط المزبور من أجزاء العلّة التامّة .

ولا یخفی أنّه یمکن أن یختصّ دخالة شیء فی متعلّق الأمر بأحد النحوین بحالة دون أُخری ، کما فی جلّ أجزاء الصلاة وشرائطها ، حیث إنّ اعتبارها مختص بحال الاختیار ، ویسقط عند الاضطرار وسائر الأعذار ، کما هو مقرّر فی محلّه .

الثالث: أن لا یکون الشّیء داخلاً فی متعلّق الأمر بنفسه ولا یتقیّد به متعلّق الأمر ، کما فی الصلاة بالإضافة إلی وقوعها فی المسجد أو أوّل الوقت ، بل تتشخّص

ص :167

وأخری: بأن یکون خارجاً عنه، لکنه کان مما لا یحصل الخصوصیة المأخوذة فیه بدونه، کما إذا أخذ شیء مسبوقاً أو ملحوقاً به أو مقارناً له، متعلقاً للأمر، فیکون من مقدماته لا مقوّماته.

الشَرح:

به الصلاة ، حیث لابدّ من وقوعها فی مکان أو زمان ، وربما یکون الشیء کذلک موجبا لمزیّة أو نقص فی الملاک الملحوظ فی متعلق الأمر ، وتکون دخالته فی المزیّة إمّا بنحو الشرطیّة کما فی مثال المسجد ، وإمّا بنحو الجزئیة بأن یکون الشیء بنفسه موجبا لمزیة الملاک فی متعلّق الأمر، کما فی القنوت علی أحد الوجهین، وتکرار ذکر الرکوع والسجود، فإنّ القنوت أو الذکر المکرّر بنفسه یوجب کمال الصلاة ومزیّتها، وممّا ذکر یظهر أنّ الاخلال بالشیء فی هذا النحو بکلا فرضیه لا یکون إخلالاً بالمأمور به ، إذ المفروض أنّه لم یؤخذ فی متعلّق الأمر لا جزءا ولا شرطا، بخلاف النحوین الأوّلین.

ثمّ إنّه قد لا یکون لشیء دخل فی متعلّق الأمر بأحد النحوین الأوّلین، ولا فی مزیّة ملاکه کما فی النحو الثالث، بل یکون الصلاح مترتّبا علی الإتیان به أثناء الواجب والمستحب أو قبلهماأو بعدهما فیکون الإتیان بالواجب أو المستحب ظرفا لامتثال الأمر به ، کما فی الأمر بالأذان أو التعقیب بعد الصلاة ، والقنوت علی ثانی الوجهین ، والأدعیة المأثورة فی نهار شهر رمضان للصائم فیه ، حیث لا یتفاوت الحال فی ناحیة الصوم وملاکه بها ، کما أنّ النوافل للفرائض الیومیة کذلک ، فإنّ لها مصالح تترتب علی الإتیان بها فیما إذا وقعت قبل الفریضة أو بعدها .

أقول : إنّ مجرّد ترتّب زیادة ملاک المأمور به علی الشیء لا یوجب کونه جزءا استحبابیا أو شرطا استحبابیا ولا ما یتشخّص متعلّق الأمر به ، فیما إذا کان له وجود ممتاز خارجا وغیر مأخوذ فی متعلّق الأمر بالمرکّب، لا بنفسه ولا بخصوصیته، کما

ص :168

وثالثة: بأن یکون مما یتشخص به المأمور به، بحیث یصدق علی المتشخص به عنوانه، وربما یحصل له بسببه مزیة أو نقیصة، ودخل هذا فیه أیضاً، طوراً بنحو الشطریّة وآخر بنحو الشرطیة، فیکون الإخلال بما له دخل بأحد النحوین فی حقیقة المأمور به وماهیته، موجباً لفساده لا محالة، بخلاف ماله الدخل فی تشخصه وتحققه مطلقاً. شطراً کان أو شرطاً، حیث لا یکون الإخلال به إلاّ إخلالاً الشَرح:

هو المفروض، فإنّه مع عدم أخذه فی متعلّق الأمر یکون الأمر به عند الإتیان بالمرکّب أمرا استحبابیا مستقلاًّ ویکون وجوده خارجا غیر متحد مع وجود متعلّق الأمر لا محالة.

والحاصل کما یأتی فی الواجب التخییری ، أنّ الوجوب التخییری بین الأقل والأکثر غیر معقول ، بل یکون الواجب هو المقدار الأقل والزائد مستحبّا ، نعم إذا کان ما یسمّی بالشرط الاستحبابی متحدا مع المأمور به خارجا وتشخصا، کما فی الصلاة فی المسجد وفی أوّل الوقت، بحیث ینطبق عنوان متعلّق الأمر علی المأتی به انطباق الکلی علی فرده، یکون الأمر بذلک الفرد إرشادا إلی کونه أفضل الأفراد، بخلاف ما إذا کان للشرط وجود آخر کالتحنّک فی الصلاة، فإنّها صلاة بضمّ عمل آخر معها فیکون الأمر بالتحنّک فیالصلاة استحبابیا نفسیا وإن کان الملاک فی الأمر به زیادة فضل الصلاة، ویترتّب علی ذلک عدم بطلان الصلاة بالریاء فی الجزء المستحبی لها أو الشرط المستحبی ممّا یکون وجودهما منحازا ولا یتّحد مع الصلاة خارجا لیکون من تشخّص الصلاة بهما، حیث إنّ الریاء فیهما لا یکون ریاءا فی طبیعیّ الصلاة المأمور بها، کما أنّ زیادتهما فی صورة الریاء فیهما لا تکون زیادة فی الصلاة؛ لأنّ المفروض عدم الإتیان بهما بقصد أنّهما جزء الطبیعی أو شرطه، وهذا بخلاف الریاء فی الجزء الواجب أو الشرط الواجب أو فی الخصوصیة التی تتحد مع الطبیعیّ

ص :169

بتلک الخصوصیة، مع تحقق الماهیة بخصوصیة أخری، غیر موجبة لتلک المزیة، بل کانت موجبة لنقصانها، کما أشرنا إلیه، کالصلاة فی الحمام.

ثمّ إنّه ربّما یکون الشیء مما یندب إلیه فیه، بلا دخل له أصلاً _ لا شطراً ولا شرطاً _ فی حقیقته، ولا فی خصوصیته وتشخصه، بل له دخل ظرفاً فی مطلوبیته، بحیث لا یکون مطلوباً إلاّ إذا وقع فی أثنائه، فیکون مطلوباً نفسیاً فی واجب أو مستحب، کما إذا کان مطلوباً کذلک، قبل أحدهما أو بعده، فلا یکون الإخلال به موجباً للإخلال به ماهیة ولا تشخصاً وخصوصیة أصلاً.

إذا عرفت هذا کلّه، فلا شبهة فی عدم دخل ما ندب إلیه فی العبادات نفسیاً فی

الشَرح:

خارجا، کالصلاة فی المسجد أو أوّل الوقت، حیث یصدق معها الریاء فی الصلاة فتبطل الصلاة. نعم الإتیان بالخصوصیة المتحدة، بداع آخر نفسانی غیر الریاء لا یبطل الصلاة، حیث لم تؤخذ فی متعلّق الأمر لیعتبر فیها قصد التقرّب ، کما لا یخفی.

ثمّ إنّ الریاء فی جزء العبادة أو شرطها _ یعنی فی التقید المأخوذ فیها _ یبطلها ولا یفید تدارکه بقصد القربة ، وهذا إنّما هو فیما کانت الزیادة مبطلة للعبادة کالصلاة، وأمّا فیما لا تبطلها الزیادة فلصحّة العمل مع التدارک وجه تعرّضنا له فی مباحث الفقه.

ص :170

التسمیة بأسامیها، وکذا فیما له دخل فی تشخصها مطلقاً، وأما ماله الدخل شرطاً فی أصل ماهیتها، فیمکن الذهاب أیضاً [1] إلی عدم دخله فی التسمیة بها، مع الذهاب إلی دخل ما له الدخل جزءاً فیها، فیکون الإخلال بالجزء مخلاً بها، دون الإخلال بالشرط، لکنک عرفت أنّ الصحیح اعتبارهما فیها.

الشَرح:

[1] یعنی کما أنّ ما له الدخل فی کمال طبیعی العبادة غیر مأخوذ فی ناحیة المسمّی ، کذلک ما له الدخل شرطا فی أصل ماهیّتها ، بأن یمکن أن یقال بعدم أخذه فی ناحیة المسمّی أیضاً ، وینبغی أن یراد بالشرط تقیّد الأجزاء بما یسمّی شرطا وإلاّ

فنفس ما یطلق علیه الشرط کالوضوء والغسل والتیمّم بالإضافة إلی الصلاة ، فخروجه عن المسمّی مقطوع به وإلاّ لانقلب جزءا .

والوجه فی خروج التقید عن المسمّی ووضع اسم العبادة لنفس الأجزاء أو بعنوان ینطبق علیها خاصّة غیر ظاهر، بناءً علی وضع أسامیها للصحیحة.

نعم، قیل: إن أخذ الشرط فی المسمّی مستحیل؛ لأنّ الشرط متأخّر عن الأجزاء رتبة، حیث إنّ الأجزاء هی المؤثّرة فی الملاک والشروط دخیلة فی فعلیّة تأثیرها.

لکن ضعفه ظاهر فإنّ تأخّر رتبة الشرط لا یوجب امتناع وضع لفظ للمجموع ولو کان بعضه متقدّما علی البعض الآخر رتبة أو زمانا ، أضف إلی ذلک ما ذکرناه من أنّ المراد بالشرط فی العبادة أو المعاملة ما یکون التقیّد به داخلاً فی متعلّق الأمر أو الموضوع للإمضاء ، ولا یرتبط بالشرط من أجزاء العلّة التامّة الذی یکون به فعلیّة تأثیر السّبب وحصول أثره.

ص :171

الحادی عشر

الحق وقوع الاشتراک، للنقل والتبادر [1]، وعدم صحة السّلب، بالنّسبة إلی

الشَرح:

الاشتراک

:

[1] الاشتراک فی اللفظ عبارة عن کونه موضوعا لأکثر من معنی واحد ، بحیث لا یکون وضعه لمعنی موجبا لهجر المعنی الآخر ، ولذا یکون عند إطلاقه مجملاً یحتاج تعیین أحد معانیه إلی القرینة المعیّنة . والمراد بالنقل فی قوله «للنقل» نقل اللغویین فإنّهم ذکروا فی بعض الألفاظ أن_ّه مشترک وأنّه من الأضداد ، کما أنّ المراد بالتبادر هو أن_ّه عند إطلاق مثل «قرء» یعلم أنّ مراد المتکلّم أحد معنییه الحیض أو الطهر ، وذلک علامة کونه حقیقة فی کلّ منهما.

أقول : لعلّ المراد بنقل اللغویین ، النقل علی نحو یوجب العلم بالصدق وإلاّ فلا دلیل علی اعتبار نقل اللغوی بالإضافة إلی ثبوت الوضع.

وقد یُنکر الاشتراک فی الألفاظ ویقال إنّه غیر جائز ، بمعنی خلاف الغرض من الوضع ، فلا یقع من الواضع الحکیم ، حیث إنّ الغرض من الوضع الدلالة علی المعنی بنفس اللفظ ومع الاشتراک لا یحصل هذا الغرض.

وفیه أنّ الدلالة علی المعنی بنفس اللفظ لا تنافی الاشتراک، غایة الأمر یحصل فی تلک الدلالة الإجمال الخاصّ؛ ولذا یحتاج استعماله إلی القرینة المعیّنة علی أنّ الإجمال فی المدلول یتعلّق به غرض المتکلم أحیانا فیذکر بلا قرینة من غیر لزوم محذور.

وممّا ذکر ، یظهر فساد ما قیل من استحالة استعمال المشترک فی القرآن المجید بدعوی أنّ الکلام مع عدم القرینة اللفظیة یکون مجملاً ومعها یکون تطویلاً بلا طائل.

ص :172

معنیین أو أکثر للفظ واحد. وإن أحاله بعض [1]، لإخلاله بالتفهم المقصود من الوضع لخفاء القرائن، لمنع الإخلال أولاً، لإمکان الاتکال علی القرائن الواضحة، ومنع کونه مخلاًّ بالحکمة ثانیاً، لتعلق الغرض بالاجمال أحیاناً، کما أن استعمال الشَرح:

وأما ما ذکر الماتن من الاتکال علی قرینة حال فلا یخفی ما فیه فإن القرآن معجزة خالدة والقرینة الحالیة تزول بزوال ذلک الحال والصحیح فی الجواب تعلق الغرض بالاجمال الخاص او الاتیان بقرینة أتت لإفادة أمر آخر کالنهی للمرأة بترک صلاتها أیام اقرائها ولا یلیق شیء منهما بکلامه (جل شأنه).

وجه الفساد : إمکان تعلّق غرضه (سبحانه) فی بعض الموارد بالإجمال والاتکال علی القرینة اللفظیّة ، فیما إذا کانت تلک القرینة لإفادة أمرٍ آخر أیضاً ، یتعلّق غرضه ببیانه فلا یکون تطویلاً بلا طائل . وأمّا ما ذکر الماتن من الاتکال علی قرینة حال فلا یخفی ما فیه فإن القرآن معجزة خالدة والقرینة الحالیة تزول بزوال ذلک الحال والصحیح فی الجواب تعلق الغرض بالاجمال الخاص أو الاتیان بقرینة أتت لإفادة أمر آخر کالنهی للمرأة بترک صلاتها أیام اقرائها.

وکیف لا یتعلّق غرض الحکیم بالإجمال وقد أخبر سبحانه بوقوع المشتبه فی کتابه العزیز ، حیث قال سبحانه : «فِیْهِ آیاتٌ مُحْکَمَاتٌ هُنَّ أُمِّ الْکِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ»(1).

[1] ذهب بعضٌ إلی امتناع الاشتراک اللفظی واستدلّ له بأنّ الوضع عبارة عن جعل الملازمة بین اللفظ والمعنی ، بحیث ینتقل الذهن إلی المعنی من سماع اللفظ ، وعلیه فإن کان الوضع الثانی متمّما للوضع الأوّل ، بأن یحصل عند سماع اللفظ

ص :173


1- (1) سورة آل عمران : الآیة 7 .

المشترک فی القرآن لیس بمحال کما توهم، لأجل لزوم التطویل بلا طائل، مع الاتکال علی القرائن والإجمال فی المقال، لولا الإتکال علیها. وکلاهما غیر لائق بکلامه (تعالی جلّ شأنه)، کما لا یخفی، وذلک لعدم لزوم التطویل، فیما کان الاتکال علی حال أو مقال أتی به لغرض آخر، ومنع کون الاجمال غیر لائق بکلامه تعالی، مع کونه مما یتعلق به الغرض، وإلا لما وقع المشتبه فی کلامه، وقد أخبر فی کتابه الکریم، بوقوعه فیه قال اللّه تعالی «فیه آیات محکمات هن أم الکتاب واخر متشابهات».

الشَرح:

الانتقال إلی مجموع المعنیین فهو خلاف المفروض فی الاشتراک ، وکذا إن کان موجبا للانتقال إلی أحد المعنیین أو المعانی بلا تعیین ، بأن یکون الموضوع له هو الجامع الاعتباریّ فهو خلاف المفروض أیضاً ، وإن کان یوجب الانتقال إلی کلّ من المعنیین أو المعانی بخصوصه ، بانتقال مستقل ، فهذا لا یمکن من غیر ترتّب . فلا محالة یکون أحد الانتقالین فی طول الآخر .

وفیه أنّ : الوضع لیس عبارة عن جعل الملازمة بین اللفظ والمعنی ؛ لأنّ الملازمة بین سماع اللفظ والانتقال إلی المعنی تحصل بسبب العلم بالوضع ، فلابدّ أن یکون الوضع غیر الملازمة الحاصلة من العلم به ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : مع الغضّ عن ذلک ، فلا ینحصر الأمر فیما ذکره من الشقوق ، فإنّه یمکن أن یکون جعل الملازمة فی موارد ذکر القرینة المعیّنة لأحد المعانی ، فمثلاً إذا لم یکن لفظ القرء موضوعاً للحیض لم ینتقل الذهن إلیه من سماع لفظ القرء ولو مع ذکر «ثلاثة أیام» ، بخلاف ما إذا کان ذکرها بعد وضعه له فیحصل الانتقال بها ، وهذا المقدار یکفی فی حصول الغرض من الوضع وخروجه عن اللغویة ، کما هو ظاهر ، وما ذکره من عدم إمکان تعدّد الانتقال المستقلّ من لفظ واحد یأتی ما فیه فی البحث

ص :174

وربّما توهم وجوب وقوع الاشتراک [1] فی اللغات، لأجل عدم تناهی المعانی، وتناهی الألفاظ المرکبات، فلا بدّ من الاشتراک فیها، وهو فاسد لوضوح امتناع الاشتراک فی هذه المعانی، لاستدعائه الأوضاع الغیر المتناهیة، ولو سلم الشَرح:

الآتی من استعمال اللفظ فی أکثر من معنی إن شاء اللّه تعالی .

[1] قیل بوجوب وقوع الاشتراک فی اللّغات ، ولو فی بعض الألفاظ المتداولة فی کلّ لغة ، بدعوی أنّ ألفاظ کل لغة متناهیة بخلاف المعانی فإنّها غیر متناهیة .

وأجاب المصنف قدس سره عن ذلک بوجهین :

الأوّل: أنّه لا یمکن الوضع لکلّ المعانی غیر المتناهیة؛ لاستلزامه أوضاعا غیر متناهیة. ولو فرض إمکان صدور الأوضاع غیر المتناهیة بفرض الواضع واجب الوجود فلا یترک علی الأوضاع غیر المتناهیة أثر فیکون لغواً وانما یجدی الوضع فی مقدار الأوضاع المتناهیة.

الثانی : أنّ المعانی الکلّیة متناهیة ، فیمکن وضع ألفاظ لتلک المعانی الکلیة بحیث لا یحصل الاشتراک فیها ، وأمّا جزئیّاتها وإن کانت غیر متناهیة ، إلاّ أنّه لا ضرورة لوضع لفظ لکلّ منها کما فی الاعلام الشخصیة ، بل یمکن فی مقام الاستعمال تفهیم الجزئیّ بالقرینة ، بنحو تعدّد الدالّ والمدلول ، أو بنحو المجاز فی الاستعمال ، فإنّ باب المجاز واسع .

أقول : ظاهر کلامه تسلیم تناهی الألفاظ ، ولکنّ الواقع لیس کذلک ، بل الألفاظ کالمعانی غیر متناهیة ، وذلک لأنّ الحروف الهجائیة وإن کانت متناهیة إلاّ أنّ المرکّب منها غیر متناه ، غایة الأمر تکون بعض الألفاظ کثیرة الحروف .

وأمّا ما ذکره قدس سره من تناهی المعانی الکلیة فإن أراد بها نظیر مفهوم الشیء

ص :175

لم یکد یجدی إلاّ فی مقدار متناه، مضافاً إلی تناهی المعانی الکلیة، وجزئیاتها وإن کانت غیر متناهیة، إلاّ أنّ وضع الألفاظ بإزاء کلیاتها، یغنی عن وضع لفظ بإزائها، کما لا یخفی، مع أنّ المجاز باب واسع، فافهم.

الشَرح:

والممکن من الکلّیات الوسیعة ، فالأمر کما ذکره وان أراد الکلّیات الضیّقة مفهوماً (أی الجزئی الإضافی بالنسبة إلی ما هو أوسع منه) التی یتعلّق الغرض بتفهیمها فی مقام التخاطب فهذه الکلّیات غیر متناهیة ویکفی فی الإذعان بذلک ملاحظة مراتب الأعداد فإنّها غیر متناهیة .

ویظهر عن سیّدنا الأُستاذ قدس سره أنّ الامتناع فی المقام بمعنی عدم الوقوع ، حیث قال ما حاصله : أن_ّه لیس فی الألفاظ ما یکون مشترکا لفظیا بل اللفظ فی الموارد المعروفة بالاشتراک یوضع للجامع بین الأمرین أو أکثر ، فمثلاً لفظ «قرء» موضوع لحالة المرأة الجامعة بین الطهر والحیض ، ولفظ «جون» موضوع للجامع بین السواد والبیاض، وخفاء الجامع أوجب الوهم بأنّ اللفظ من الأضداد، ولو لم یکن بینهما جامع لما کان بینها تقابل ، فإنّ التقابل لا یحصل من غیر جامع ، ولذا لایکون بین العلم والحجر تقابل ، فإنّ أحدهما جوهر والآخر عرض ، هذا بناءً علی عدم تفسیر الوضع فی الألفاظ بالتعهّد ، وإلاّ فکون اللفظ موضوعا للجامع لا یحتاج إلی الاستدلال(1) .

أقول : غایة ما ذکر عدم التقابل بین أمرین لا جامع بینهما ، لا أنّ اللفظ فی موارد التقابل موضوع للجامع مع أنّ لزوم الجامع فی موارد التقابل غیر صحیح ، فإنّ من التقابل تقابل الإیجاب والسلب والعدم والملکة والتضایف ، ولا یمکن الجامع فی

ص :176


1- (1) المحاضرات : 1 / 202 .

الثانی عشر

إنه قد اختلفوا فی جواز استعمال اللفظ، فی أکثر من معنی علی سبیل الانفراد والاستقلال [1]، بأن یراد منه کل واحد، کما إذا لم یستعمل إلاّ فیه، علی أقوال:

أظهرها عدم جواز الاستعمال فی الأکثر عقلاً.

الشَرح:

الأوّل وکذا فی الثانی ، حیث إنّ التقابل بین الملکة وعدمها ، هو تقابل الوجود والعدم مع اعتبار القابلیة للوجود ولو بحسب الجنس ، والتضایف اتّصاف کلّ من الأمرین بما یقتضی النسبة بینهما ، بل لا جامع فی موارد تقابل التضاد إلاّ کون الضدّین من مقولة واحدة ، ومن الظاهر أنّ اللفظ فیهما لم یوضع للمقولة وإلاّ لصحّ استعمال اللفظ فی غیرهما ، ممّا یدخل فی تلک المقولة .

استعمال اللفظ فی أکثر من معنی

:

[1] المراد باستعمال اللفظ فی أکثر من معنی، إرادة کلّ من المعنیین أو المعانی منه کما إذا لم یستعمل إلاّ فی أحدهما أو أحدها ، وقد اختار قدس سره عدم إمکان استعمال اللفظ کذلک فی أکثر من معنی ، وذکر فی وجه امتناعه لزوم الخلف أو اجتماع المتنافیین .

وتقریره : أنّ الاستعمال لیس مجرّد الإتیان بعلامة للمعنی ، بحیث یکون مبرزا لإرادته لیقال بإمکان کون شیء علامة لأُمور متعدّدة فضلاً عن أمرین ، بل هو عبارة عن جعل اللفظ باللحاظ وجها وعنوانا للمعنی ، فانیا فیه فناء الوجه فی ذی الوجه ، بل وکأنّ اللفظ عین المعنی ، وکأنّه الملقی خارجا ، کما عبّر عن ذلک بقوله «بوجهٍ ، نفسه» یعنی جعل اللفظ ولحاظه بنحو یکون عین المعنی ، والشاهد علی ذلک سرایة الحسن والقبح من المعانی إلی الألفاظ ، فیکون اللفظ مقبولاً للطباع بمقبولیّة معناه

ص :177

وبیانه: إنّ حقیقة الإستعمال لیس مجرّد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنی، بل جعله وجهاً وعنواناً له، بل بوجه نفسه کأنّه الملقی، ولذا یسری إلیه قبحه وحسنه کما لا یخفی، ولا یکاد یمکن جعل اللفظ کذلک، إلاّ لمعنی واحد، ضرورة أنّ الشَرح:

ومنفورا عندها بالتنفّر عن معناه .

وعلی ذلک یکون لحاظ اللفظ فانیا فی معنی کذلک منافیا للحاظه فی نفس الوقت فانیا فی معنیً آخر ، إذ لحاظه فانیا فی معنیً آخر یوجب عدم لحاظه فی المعنی الأوّل ، إلاّ أن یکون اللاحظ أحول العینین فیری اللفظ لفظین یمکن له لحاظ أحدهما فانیا فی أحد المعنیین والآخر فانیا فی الآخر منهما .

أقول : لا أری محذورا فی لحاظ اللفظ فانیا فی کل من المعنیین وکأنّ کلاًّ منهما وجود لذلک اللفظ ، وقد تسلّم قدس سره فی الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ بإمکان لحاظ العامّ بحیث یکون وجها وعنوانا لکلّ من أفراده وکأنّه عین کلّ منها ، وفیما نحن فیه یلاحظ اللفظ کأنّه عین کلّ من المعنیین وکلّ من المعنیین وجود له . ولذا یشار إلی النقد الرائج فی عصرنا ویقال : إنّه الدرهم والدینار اللّذان أهلکا الناس فی العصور المتتالیة .

وأمّا ما ذکر _ من أنّ لحاظ اللفظ فانیاً فی المعنی الثانی بحیث کأنّه هو الثانی ، ولازمه عدم لحاظه عین الأوّل فی ذلک الآن إذ لحاظه عین الأول فرض لاجتماع المتنافیین _ فلا یمکن المساعدة علیه ؛ وذلک لأنّ لحاظه عین الثانی یلازم عدم لحاظه فی ذلک الآن عین الأوّل ، إذا لم یمکن الجمع فی تنزیل اللفظ منزلة کلّ من الشیئین فی آنٍ واحد ومع إمکان التنزیل فلا مانع منه.

والسرّ فی ذلک أنّ التنزیل لیس من جعل الشیء شیئا آخر حقیقةً ، بل هو قسم من الوهم والخیال ولا واقعیة له لیقال إنّ الواحد حقیقة لا یکون اثنین ، وبالجملة

ص :178

لحاظه هکذا فی إرادة معنی، ینافی لحاظه کذلک فی إرادة الآخر، حیث إنّ لحاظه کذلک، لا یکاد یکون إلاّ بتبع لحاظ المعنی فانیاً فیه، فناء الوجه فی ذی الوجه، والعنوان فی المعنون، ومعه کیف یمکن إرادة معنی آخر معه کذلک فی استعمال الشَرح:

اللفظ وإن کان له وجود واحد ، وذلک الوجود وجود للفظ حقیقة ووجود للمعنی بالتنزیل ، إلاّ أنّه لا مانع من کونه وجودا تنزیلیا للمعنی الآخر أیضاً فی حین کونه وجوداً تنزیلیاً للمعنی الأوّل ، غایة الأمر أنّ ما ذکره فی الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ من أنّ العامّ یصلح وجها وعنوانا لکلّ من أفراده ، یراد به الوجهیّة والعنوانیّة الحقیقیّة ، بخلاف وجهیّة اللفظ وعنوانیّته لمعانیه ، فإنّها اعتباریة وجعلیة ، فالعنوانیة لا تنافی لحاظ المتعدّد بالعنوان الواحد ، وعلیه فلا محذور فی لحاظ معنیین بلفظٍ واحد ، فإنّه لحاظ تنزیلی ولیس من قبیل إخراج الواحد إلی المتعدّد حقیقة ، هذا أوّلاً .

وثانیا : أنّ حقیقة الاستعمال لیس ما ذکره قدس سره لحاظ اللفظ عین المعنی أو کأنّه نفس المعنی حتی یکون اللحاظ مقوّما للاستعمال ، بل الاستعمال هو الإتیان بعلامة المعنی عند إرادة تفهیمه بحیث یکون اللفظ مبرزا له ، وغفلة المتکلّم عن نفس اللفظ فی مرحلة الاستعمال بلحاظه کأنّه المعنی ناشٍ عن الأُنس بالاستعمال وعدم غرض له إلاّ فی نفس تفهیم المعنی ونقله إلی ذهن السامع ، ولذا لا یکون الاستعمال علی هذا الاسلوب فی بدایة تعلّم الإنسان لغات غیر لسانه ، وکذا فی موارد یکون المتکلّم فیها فی مقام إظهار کمال فصاحته وبلاغته .

أفلا تری أنّ غیر العربی فی أوائل تعلّمه اللسان العربیّ أو المتکلّم المتصدی لإلقاء خطبة یظهر بها بلاغته وفصاحته ملتفت إلی الألفاظ کمال الالتفات ، وهذا شاهد صدق علی کون حقیقة الاستعمال إبراز المعانی بالألفاظ وجعلها کاشفة عن

ص :179

واحد، ومع استلزامه للحاظ آخر غیر لحاظه کذلک فی هذا الحال.

وبالجملة: لا یکاد یمکن فی حال استعمال واحد، لحاظه وجهاً لمعنیین وفانیاً فی الاثنین، إلاّ أن یکون اللاحظ أحول العینین.

الشَرح:

مراداته .

وأمّا حدیث سرایة الحسن والقبح إلی الألفاظ فلا یشهد لما ذکره ، فإنّ سرایتهما من ذی العلامة إلی علامته ، ممکن وواقع ، فإنّ بعض الناس یکرهون بعض الطیور لکونها عندهم علامة الابتلاء وخراب البیوت وتشتّت الأهل ، ویحبّون بعضها الآخر بحیث یفرحون برؤیتها حیث إنّها عندهم علامة الرخاء والنعمة والرحمة .

والمتحصّل أنّه لا محذور فی استعمال اللفظ وإرادة معانٍ متعدّدة منه فی استعمال واحد وجعله علامة لإرادة کلّ منها بنحو الاستقلال ، إلاّ أنّه علی خلاف الاستعمالات المتعارفة فلا یحمل کلام المتکلّم علیه إلاّ مع القرینة علیه .

ولو ورد فی کلامه لفظ مشترک ولم تکن فی البین قرینة علی تعیین المراد من معانیه یکون الکلام مجملاً ، فلا یحمل علی إرادة جمیع المعانی لا بنحو الاشتراک المعنوی ولا بنحو استعمال العشرة فی مجموع آحادها ولا علی الاستعمال فی أکثر من معنی حتّی بناءً علی جوازه کما هو المختار .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّ استعمال اللفظ فی أکثر من معنی ممتنع ولو قیل بأنّ الاستعمال عبارة عن الإتیان بالمبرز والعلامة للمعنی ووجه الاستحالة: أنّ استعمال اللفظ فی کلّ من المعنیین یتوقف علی لحاظ کل منهما فی آن واحد بالاستقلال بأن تلاحظ النفس کلاًّ منهما بلحاظ مستقلّ فی آن واحد، وهو غیر مقدور للنفس(1).

ص :180


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 51 .

فانقدح بذلک امتناع استعمال اللفظ مطلقاً _ مفرداً کان أو غیره _ فی أکثر من معنی بنحو الحقیقة أو المجاز، ولولا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه [1] فإنّ اعتبار الوحدة فی الموضوع له واضح المنع، وکون الوضع فی حال وحدة المعنی، وتوقیفیته لا یقتضی عدم الجواز، بعد ما لم تکن الوحدة قیداً للوضع، ولا للموضوع له، کما لا یخفی.

الشَرح:

وفیه : أن_ّه لا محذور فی اجتماع اللحاظات المتعددّة من النفس فی زمان واحد وشاهده صدور أفعال مختلفة من الإنسان فی زمان واحد مع أنّ کلاًّ من الأفعال مسبوق بالإرادة ومن مبادیها اللحاظ ، وکذا یشهد لذلک صدور الحکم فإنّ الحکم یتوقّف علی لحاظ الموضوع والمحمول والنسبة فی آن الحکم .

نعم الشیء الواحد لا یلاحظ فی آن واحد بلحاظین فیما إذا لم یکن بین اللحاظین اختلاف أصلاً بأن یحضر ذلک الشیء مرّتین عند النفس فی آن واحد ، فإنّه من قبیل إحضار الحاضر بخلاف ما إذا کان اختلاف فی نحوی اللحاظ کما تقدّم فی التنزیل وجعل اللفظ عین المعنی ، وإذا قلنا بأنّ الاستعمال عبارة عن الإتیان بالمبرز فلا یحتاج إلی تعدّد اللحاظ فی ناحیة اللفظ أصلاً فإنّ کون شیء واحد علامة للمتعدّد لا مجال للمناقشة فیه ، کما تقدّم .

[1] إشارة إلی ما ذهب إلیه صاحب القوانین قدس سره من عدم جواز استعمال اللفظ فی أکثر من معنی مفردا أو غیره ، بمعنی عدم صحته من غیر أن یکون امتناع فی البین ، وذکر فی وجه عدم الجواز لغة ، أنّ الوضع فی الألفاظ توقیفی فلابدّ من رعایة الأمر الحاصل حال الوضع وهو وحدة المعنی یعنی أنّ الواضع عند وضعه اللفظ لم یلاحظ مع المعنی المفروض شیئاً من سائر المعانی ، فاللازم أن یکون استعماله فیه أیضاً علی طبق الوضع ، وعلی ذلک فلا یجوز استعمال اللفظ فی أکثر من معنی

ص :181

ثمّ لو تنزلنا عن ذلک، فلا وجه للتفصیل بالجواز علی نحو الحقیقة فی التثنیة والجمع، وعلی نحو المجاز فی المفرد [1]، مستدلاًّ علی کونه بنحو الحقیقة فیهما، لکونهما بمنزلة تکرار اللفظ وبنحو المجاز فیه، لکونه موضوعاً للمعنی بقید الوحدة، فإذا استعمل فی الأکثر لزم إلغاء قید الوحدة، فیکون مستعملاً فی جزء المعنی، بعلاقة الکلّ والجزء، فیکون مجازاً، وذلک لوضوح أن الألفاظ لا تکون

الشَرح:

حتّی فی التثنیة والجمع ، فإنّ الوضع فیهما أیضاً کان کالمفرد حال انفراد المعنی أی عدم إرادة طبیعة أُخری مع المعنی الذی تکون هیئتهما موضوعة لإفادة التعدّد من ذلک المعنی . ولا یخفی ضعف ما ذکره ، فإنّه لا اعتبار بحال الوضع فیما إذا لم یکن ذلک الحال مأخوذا فی ناحیة الموضوع له أو فی نفس الوضع ، والمفروض أنّ وحدة المعنی لم تلاحظ قیدا فی شیء منهما ولو لزم رعایة الحال حتّی مع عدم أخذه فی ناحیة شیء منهما لکان رعایة سائر الحالات أیضاً لازما بأن یستعمل اللفظ فی المعنی فی اللیل خاصة فیما إذا کان الوضع باللیل مثلاً وإلی هذا یرجع ما ذکره الماتن قدس سره من أنّ وحدة المعنی وتوقیفیة الوضع لا تقتضی عدم الجواز .

[1] یعنی لو تنزّلنا عن الإلتزام بامتناع استعمال اللفظ فی أکثر من معنی وبنینا علی جوازه ، فلا وجه للتفصیل بین التثنیة والجمع ، وبین المفرد ، وأنّ الاستعمال فیالتثنیة والجمع بنحو الحقیقة ، وفی المفرد بنحو المجاز ، کما اختار ذلک فی المعالم بدعوی أنّ المفرد موضوع للمعنی المأخوذ فیه الوحدة واستعماله فی أکثر من معنی یوجب إلغاء قید الوحدة عنه ، فیکون اللفظ الموضوع للکلّ مستعملاً فی الجزء فیکون مجازا ، بخلاف التثنیة والجمع فإنّهما بمنزلة تکرار اللفظ ، وکما أن_ّه مع تکرار اللفظ یجوز إرادة معنی من کل لفظ غیر المعنی المراد من لفظ آخر ، کذلک الحال فیما هو بمنزلته .

ص :182

موضوعة إلاّ لنفس المعانی، بلا ملاحظة قید الوحدة، وإلاّ لما جاز الاستعمال فی الأکثر، لأنّ الأکثر لیس جزء المقید بالوحدة، بل یباینه مباینة الشیء بشرط شیء، والشیء بشرط لا، کما لا یخفی، والتثنیة والجمع وإن کانا بمنزلة التکرار فی اللفظ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ اللفظ فیهما کأنه کُرّر وأرید من کل لفظ فرد من أفراد معناه، لا أن_ّه أرید منه معنی من معانیه، فإذا قیل مثلاً: (جئنی بعینین) أرید فردان من العین الجاریة، لا العین الجاریة والعین الباکیة، والتثنیة والجمع فی الأعلام، إنما هو الشَرح:

وأجاب قدس سره بأنّ الوحدة لیست جزءا من الموضوع له، فإنّه لا معنی لوحدة المعنی إلاّ انفراده وعدم انضمام معنی آخر إلیه، فیؤخذ المعنی بشرط لا بالإضافة إلی سائر المعانی واستعماله فی الأکثر استعمال للفظ فیه بشرط معنی آخر، فیکون المعنی بشرط لا، مع المعنی بشرط بشیء، متباینین لا من استعمال اللفظ الموضوع للکلّ فی جزئه.

وأمّا التثنیة والجمع فکلّ منهما یتضمّن مادة وهیئة ، فالهیئة فیهما موضوعة لإفادة التعدّد من معنی المادة ، بأن یکون معنی هیئة التثنیة فردین من الطبیعة ، وهیئة الجمع ثلاثة أو أکثر منها والجمع فی الأعلام یؤول کما فی التثنیة فیها ، بأن یراد من زید فیهما المسمّی به .

ومع الإغماض عن ذلک بأن یقال إنّ الهیئة فیهما موضوعة لإفادة مطلق التعدّد ، سواء کان بإرادة الأفراد أو المعانی الأُخر ، فلا یکون استعمال لفظ عینین فی الذهب والفضة مثلاً من استعمال اللفظ فی أکثر من معنی ، نعم لو أُرید فردان من الذهب وفردان من الفضّة لکان منه ، ولکن لا وجه معه ، للتفصیل بین المفرد وبین التثنیة والجمع بالتزام المجاز فی الأوّل ، والحقیقة فی الثانی لاستلزام الاستعمال فی کلّ منه ومنهما إلغاء قید الوحدة .

ثمّ إنّه ربّما یقال بجواز استعمال اللفظ المشترک فی أکثر من معنی ، بخلاف

ص :183

بتأویل المفرد إلی المسمی بها، مع أن_ّه لو قیل بعدم التأویل، وکفایة الاتحاد فی اللفظ، فی استعمالهما حقیقة، بحیث جاز إرادة عین جاریة وعین باکیة من تثنیة العین حقیقة، لما کان هذا من باب استعمال اللفظ فی الأکثر، لأنّ هیئتهما إنّما تدلّ علی إرادة المتعدد مما یراد من مفردهما، فیکون استعمالهما وإرادة المتعدد من معانیه، استعمالهما فی معنی واحد، کما إذا استعملا وأرید المتعدد من معنی واحد منهما، کما لا یخفی.

نعم لو أرید مثلاً من عینین، فردان من الجاریة، وفردان من الباکیة، کان من استعمال العینین فی المعنیین، إلاّ أنّ حدیث التکرار لا یکاد یجدی فی ذلک أصلاً، فإنّ فیه إلغاء قید الوحدة المعتبرة أیضاً، ضرورة أن التثنیة عنده إنّما یکون لمعنیین، أو لفردین بقید الوحدة، والفرق بینهما وبین المفرد إنّما یکون فی أن_ّه موضوع للطبیعة، وهی موضوعة لفردین منها أو معنیین، کما هو أوضح من أن یخفی.

الشَرح:

اللفظ الموضوع لمعنی واحد ، فإنّه لا یجوز استعماله فیه وفی معناه المجازی ؛ لأنّ استعماله فی معناه المجازی یقتضی نصب القرینة واستعماله فی معناه الحقیقی یقتضی عدمها ، فلا یمکن الجمع بینهما فی استعمال واحد .

والجواب أنّ عدم الحاجة إلی القرینة فی استعماله فی معناه الحقیقی إنّما هو فی حال استعماله فیه فقط ، وأمّا مع استعماله فی معناه المجازی أیضاً کما هو المفروض ، فلابدّ من نصب القرینة علی الجمع فی الاستعمال .

ص :184

وهم ودفع:

لعلّک تتوهم أنّ الأخبار الدالّة علی أن للقرآن بطوناً _ سبعة أو سبعین _ تدلّ علی وقوع استعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد [1]، فضلاً عن جوازه، ولکنک الشَرح:

[1] ربّما یختلج بالبال أنّ الأخبار(1) الواردة فی ثبوت البطون للقرآن یمکن أن یستظهر منها وقوع استعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد ووجه الاستظهار ظهور تلک الأخبار فی إرادة کلّ من البطون السبعة أو السبعین من القرآن بارادة مستقلّة ولو لم یجز استعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد لم یکن یراد من الآیة الواحدة إلاّ معنیً واحداً ولم تکن سائر المعانی المعبّر عنها بالبطن والبطون داخلة فی مدلولها لتکون بطنا لها ، والوجه فی التعبیر عنها بالبطن والبطون خفاء تلک المعانی عن غیر أولیائه الذین نزل الکتاب فی بیوتهم ، وأُمر الناس بولایتهم ، وقرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله ، صلوات اللّه وسلامه علیهم أجمعین .

وأجاب الماتن قدس سره عن ذلک بوجهین :

الأوّل: أنّه لا دلالة فی تلک الأخبار علی إرادة تلک المعانی المعبّر عنها بالبطون بنحو إرادة المعنی من اللفظ عند استعماله فیه ، بل لعلّ تلک المعانی کانت مرادة بأنفسها عند استعمال الآیة فی معناها الظاهر فیها ، وبتعبیرٍ آخر لم یستعمل کلمات الآیة فی تلک المعانی استعمال اللفظ فی المعنی ، بل کانت تلک المعانی منظورة من الآیة ومرادة منها بلا استعمال اللفظ فیها .

أقول وفیه : أنّ إرادة أمر بنفسه عند استعمال لفظ فی معنی لا یوجب کون الأوّل بطنا للثانی ، مثلاً إذا قال والد فی مقام وعده أحد أولاده : أُعطیک غدا دینارا ،

ص :185


1- (1) البحار : 92 / 78 ، الباب 8 من کتاب القرآن .

غفلت عن أن_ّه لا دلالة لها أصلاً علی أن إرادتها کان من باب إرادة المعنی من اللفظ، فلعلّه کان بإرادتها فی أنفسها حال الاستعمال فی المعنی، لا من اللفظ، کما إذا استعمل فیها، أو کان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فیه اللفظ، وإن کان أفهامنا قاصرة عن إدراکها.

الشَرح:

وکان من قصده اتفاقا إعطاء الدینار لسائر أولاده أیضاً ، فلا یکون إعطائه لهم بطنا لکلامه .

الثانی: أنّ المراد بالبطون لوازم معانیالقرآن وأنّ اللفظ یستعمل فی معنی یعبّر عنه بالمعنی الظاهر ، إلاّ أنّ لإرادة ذلک المعنی من اللفظ أو لنفس ذلک المعنی لوازم ، لخفائها وقصور أذهاننا عن الوصول إلیها أطلق علیها البواطن ، ومن البدیهی أنّ الدلالة علی اللازم أجنبیّ عن استعمال اللفظ فی أکثر من معنی بحیث یکون کلّ معنی مراداً مستقلاًّ من اللفظ .

وقد یستدلّ لهذا الوجه الثانی بروایات متواترة إجمالاً ، منها ما عن أبی جعفر علیه السلام قال : «یا خیثمة القرآن نزل أثلاثا... ولو أنّ الآیة إذا نزلت فی قوم ثمّ مات أُولئک القوم ماتت الآیة لما بقی من القرآن شیء ، ولکنّ القرآن یجری أوّله علی آخره ما دامت السموات والأرض» الحدیث(1) .

أقول : لا دلالة لهذه الطائفة من الأخبار علی أنّ بطن القرآن یکون من قبیل لازم المعنی أو من قبیل الملزوم له ، بل یحتمل أن یکون المراد بالبطن أنّ المذکور فی الآیة وإن کان من قبیل حکایة واقعة خاصّة ماضیة أو حاضرة أو بیان حکم لواقعة إلاّ أنّ واقع الآیة قضیّة ساریة کلیّة .

ص :186


1- (1) البحار : 92 / 115 ، الباب 12 من کتاب القرآن ، الحدیث 4 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

مثلاً قوله سبحانه «فَاسْئَلُوا أهْلَ الذِّکْرِ إنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُوْنَ»(1) فی واقعها بیان لعدم عذریة الجهل بترک الفحص ومخالفة الحقّ اعتقادا أو عملاً فی الأُصول والفروع ، وأنّ الشخص مع تمکّنه من الوصول إلی الحقّ _ ولو بالسؤال عمن یعلم ذلک الحقّ _ إذا ترکه ، یؤاخذه اللّه به ، وأنّ ترک السؤال ممن یعلم الحقّ _ ولو لعدم إحرازه أنّه یعلم الحقّ ، مع تمکّنه من إحراز أنّه یعلمه ولو بالفحص _ لا یکون عذرا ، ومن أظهر مصادیق هذا المعنی عدم الرجوع فی تعلّم الأحکام الشرعیة إلی الائمة (صلوات اللّه علیهم أجمعین) کما ورد فی عدّة من الروایات «نحن أهل الذکر ونحن المسؤلون أمر الناس بسؤالنا»(2) .

مع أنّ ظاهر الآیة الأمر بسؤال علماء الأدیان الأُخری عمّا یردّد علی أسماع الناس من أنّ النبوّة تناسب المَلَک لا البشر ، فینبغی أن یکون رسول ربّ العالمین ملکا لا یأکل الطعام ، وقد ذکر سبحانه(3) أنّ هذه الوسوسة لا تکون عذرا لهم فی ترک الإیمان بالنبی صلی الله علیه و آله ؛ لأنّ أنبیاء السلف کانوا رجالاً ، ویمکن تحصیل العلم بذلک بسؤال علماء الأدیان السابقة .

وبالجملة لا ینحصر البطن للقرآن بما ذکره ثانیا من لوازم معناه المستعمل فیه .

ثمّ إنّ ثبوت البطون للقرآن وقصور أذهاننا نوعا عن الوصول إلیها من غیر ورود حجّة معتبرة عن الأئمّة علیهم السلام لا یمنع عن اعتبار الکتاب المجید بالإضافة إلی

ص :187


1- (1) سورة النحل : الآیة 43؛ وسورة الأنبیاء : الآیة 7 .
2- (2) الأُصول من الکافی : 1 / 210 .
3- (3) سورة الفرقان : الآیات 7 _ 20 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ظواهره ، کیف وقد أُمرنا بالتمسّک بالکتاب العزیز والعترة الطاهرة علیهم السلام کما أُمرنا بعرض الأخبار المأثورة عنهم علیهم السلام علی الکتاب وردّ ما ینافیه مما لا یعدّ قرینة عرفیة علی ظواهره ، وکذا عرض الحدیثین المتعارضین علی الکتاب والأخذ بما یوافقه ، ولو لم یکن لظاهر الکتاب اعتبار لما صحّ الإرجاع المزبور والأمر بالعرض علیه .

وأمّا الأخذ بالبواطن فیما لا یساعده الظاهر فهو دائر مدار ورود النصّ عنهم علیهم السلام فإنّهم هم الأعرفون بظواهر الکتاب والعاملون ببواطنه ، وأمّا بیان باطنه بما لا یعدّ الظاهر قرینة علیه داخل فی تفسیر القرآن بالرأی ، وإسناد الشیء إلی اللّه سبحانه من غیر علم به ، فیکون من اتباع الظنّ وإنّ الظنّ لا یغنی من الحقِّ شیئا .

ثمّ إنّه ربّما یذکر ثمرة لهذا البحث حکم قصد المصلی فی قرأته سورة الحمد أن ینشأ الحمد بما یقرأه من قوله تعالی: «الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِیْنَ»(1) وأن ینشأ الدعاء بإدخال نفسه فی قوله تعالی: «إهْدِنا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیْمَ»(2) حیث إنّ قصده القراءة من قبیل استعمال الألفاظ فی الألفاظ النازلة إلی الرسول الأعظم من ربّ العالمین بقصد حکایتها، فتکون قراءته بقصد إنشاء الحمد بها أو بقصد الدعاء من استعمال ما یتلفّظ به فی معنی آخر أیضاً علی نحو الاستقلال. ولکن لا یخفی ما فیه.

فإنّه قد تقدّم فی بحث استعمال اللفظ فی اللفظ أنّ اللفظ لا یستعمل فیاللفظ أصلاً بل یلقی بنفسه خارجا فیکون الملقی خارجا نفس اللفظ الملحوظ إبتداءا ، فإذا لاحظ القارئ سورة الحمد وأراد قراءتها فیوجد بما یتلفّظ به عین ما لاحظه من

ص :188


1- (1) سورة الحمد : الآیة 1 .
2- (2) سورة الحمد : الآیة 6 .

الثالث عشر

إنه اختلفوا فی أن المشتق حقیقة فی خصوص ما تلبس بالمبدأ فی الحال، أو فیما یعمه وما انقضی عنه [1] علی أقوال، بعد الاتفاق علی کونه مجازاً فیما یتلبس به فی الاستقبال، وقبل الخوض فی المسألة، وتفصیل الأقوال فیها، وبیان الاستدلال الشَرح:

السورة فتکون قراءة .

ولا ینافی ذلک أن یرید من ألفاظها المعانی التی کانت للسورة عند نزولها ، وأن یقصد ما تقتضی تلک المعانی عند قراءتها من إدخال نفسه فی مدلول الضمیر ونحو ذلک ، کما لا یخفی .

المشتق

[1] الخلاف فی المشتقّ نظیر الخلاف المتقدّم فی الصحیح والأعمّ إنّما هو فی سعة معنی المشتقّ وعدم سعته بأن تکون هیئات المشتقّات موضوعة لمعانی تنطبق علی ما له المبدأ فعلاً ولا تنطبق علی ما لا یکون تلبّسه بالمبدأ حین الانطباق فعلیّا، أو أنها موضوعة للأعم بحیث تنطبق علی ما یکون تلبّسه بالمبدأ عند الانطباق فعلیا أو منقضیا.

وبتعبیر آخر: لا خلاف فی عدم سعة معنی المشتقّ بحیث ینطبق فعلاً علی ما یکون تلبّسه بالمبدأ فی المستقبل ولو اُطلق وانطبق علیه معنی المشتقّ فعلاً یکون ذلک بنحو من العنایة وإنّما الخلاف فی سعة معناه بالإضافة إلی ما انقضی عنه المبدأ وعدم سعته.

والمراد بالمشتقّ فی المقام خصوص ما یحمل معناه علی الذوات ، فالأفعال والمصادر المزید فیها وإن کان یطلق علیها المشتقّ فی اصطلاح علماء الأدب ، إلاّ أنّ

ص :189

علیها، ینبغی تقدیم أمور:

أحدها: إنّ المراد بالمشتق هاهنا لیس مطلق المشتقات، بل خصوص ما یجری منها علی الذوات، مما یکون مفهومه منتزعاً عن الذات، بملاحظة اتصافها بالمبدأ، واتحادها معه بنحو من الاتحاد، کان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور والایجاد، کأسماء الفاعلین والمفعولین والصفات المشبّهات، بل وصیغ المبالغة،

الشَرح:

النزاع فی المقام لا یعمّهما ؛ لعدم صحّة جری معانیها علی الذوات ، والمراد بالذات کل ما یتلبّس بالمبدأ بأحد أنحاء التلبّس والاتّحاد ، سواء کان بنحو الحلول کما فی الأسود والأبیض ، أو الانتزاع کما فی المالک والمملوک ، أو الصدور والإیجاد کالضارب والقاتل.

وبتعبیر آخر : لا یراد بالذات ما یقابل العرض ، بل یعم ما یکون عرضا ، کقوله : سواده شدید أو ضعیف .

وزعم صاحب الفصول قدس سره أنّ النزاع فی المقام یختصّ باسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبّهة وما یلحق بها من النسب ، کالکوفیّ والبصریّ ، والوجه فیما زعمه أن_ّه ذکر لکلّ من سائر المشتقّات معنی واعتقد أن_ّه متّفق علیه عند الکلّ ، قال : «أمّا اسم المفعول فیکون بعض صیغه لخصوص المتلبّس ، کالمملوک فإنّه إذا قیل : (هذا مملوک زید) یراد أن_ّه ملکه فعلاً ، لا أن_ّه کان ملکا له سابقا ولو صار ملک شخص آخر بالفعل ، وبعض صیغه یکون للأعمّ کما فی المکتوب ، فإنّه إذا قیل : (هذا مکتوب زید) فلا یراد أنّه یکتبه فعلاً ، وکذا غیره من المشتقّات»(1) .

وفیه أنّ المبادئ المأخوذة فی المشتقّات تختلف بحسب الفعلیة والشأنیة

ص :190


1- (1) الفصول الغرویة : ص48 .

وأسماء الأزمنة والأمکنة والآلات، کما هو ظاهر العنوانات، وصریح بعض المحقّقین، مع عدم صلاحیة ما یوجب اختصاص النزاع بالبعض إلاّ التمثیل به، وهو غیر صالح، کما هو واضح.

فلا وجه لما زعمه بعض الأجلّة، من الاختصاص باسم الفاعل وما بمعناه من

الشَرح:

والصناعة والملکة واختلافها کذلک یوجب اختلاف فعلیة التلبّس بالمبادئ ، فإن کان المبدأ أمرا فعلیا کما فی المالک والمملوک ، یکون المتلبّس بالمبدأ هو المتلبس بالمبدأ الفعلی ، وإن کان المبدأ صنعة کما فی المکتوب ، یکون المتلبّس بنحو الصنعة متلبّسا بالمبدأ ، ویلاحظ الانقضاء بالإضافة إلی الأمر الفعلی فی الأوّل وبالإضافة إلی الصنعة فی الثانی ، وهذا الاختلاف الناشئ من ناحیة المادّة لا یوجب اختلافاً فی ناحیة هیئة المشتقّ التی یبحث عن مفادها فی المقام .

وعن المحقّق النائینی قدس سره خروج أسماء الآلة عن مورد النزاع ؛ لکونها موضوعة للاستعداد والقابلیة ، ولا یعتبر فیها تلبّس الذات بالمبدأ أصلاً ، فضلاً عن اعتبار بقائه وعدم انقضائه ، مثلاً لفظ مفتاح موضوع بهیئته لما فیه استعداد الفتح به وإن لم یتلبّس بالفتح أصلاً ، وکذا لا نزاع فی المقام فی إسم المفعول ، فإنّ صیغة «مفعول» موضوعة لما یقع علیه الفعل ، والذات بعد وقوع الفعل علیها لا تنقلب إلی غیره ، والمقتول من وقع علیه القتل والشخص بعد وقوع القتل علیه لا یتصف بغیره ، وکذا مثل الممکن والممتنع والواجب والعلّة والمعلول ؛ لعدم انقضاء المبدأ عن الذات فی أمثالها ، فإنّ المبدأ فی مثل ما ذکروا إن لم یکن عین الذات إلاّ أنّه کالذاتیّات ، غیر قابل للانفکاک والانقضاء(1) .

ص :191


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 83 .

الصفات المشبهة وما یلحق بها، وخروج سائر الصفات، ولعل منشأه توهم کون ما ذکره لکل منها من المعنی، مما اتفق علیه الکل، وهو کما تری، واختلاف انحاء التلبسات حسب تفاوت مبادی المشتقات، بحسب الفعلیة والشأنیة والصناعة والملکة _ حسبما نشیر إلیه _ لا یوجب تفاوتاً فی المهم من محل النزاع ها هنا، کما لا یخفی.

الشَرح:

ولکن لا یخفی أنّ شیئا مما ذکره قدس سره لا یصلح لخروج المذکورات عن مورد الخلاف فی المقام ؛ وذلک لأنّ غایة ما أفاده أنّ المبدأ فی أسماء الآلات أُخذ بنحو الاستعداد والقابلیة لا الفعلیّة ، ولکن هذا لا یقتضی عدم وضع الهیئة للمتلبّس بالمبدأ بالمعنی المزبور ، بل الهیئة تکون موضوعة له بالفعل ، ویکون الانقضاء فیه بلحاظ انقضاء الاستعداد والقابلیة ، کما إذا انکسر بعض أسنان المفتاح بحیث لا یصلح للفتح به ، فیکون من الذات المنقضی عنها المبدأ ، وکون المبدأ فی ضمن هیئة أمرا فعلیا وعملاً خاصا لا ینافی کونه فی ضمن هیئة أُخری بمعنی استعداد ذلک الأمر والشأنیة لذلک العمل ، فلا یقال إنّ معنی لفظ (فتح) بهیئة المصدر أمر فعلی فکیف یکون فی إسم الآلة استعدادیا وأم_ّا إسم المفعول فلم یحرز أنّ الموضوع لهیئته ما وقع علیه المبدأ ، بل من المحتمل وضعه لما یقوم به المبدأ قیاما وقوعیّا ، فبعد انقضاء القیام بالوقوع علیه لا ینطبق معناه علیه إلاّ بلحاظ حال القیام وإلاّ فیجری ما ذکره فی صیغ إسم الفاعل أیضاً ، فیقال : إنّ هیئته موضوعة لذات صدر عنها الفعل ، والذات بعد صدور الفعل عنها لا تنقلب إلی غیره .

وأمّا مثل الممکن والواجب والمعلول مما لا یتصوّر فی مبدئه الانقضاء ، فقد تقدّم أنّ النزاع فی المقام فی ناحیة هیئة المشتقّات ، والهیئة فیما ذکر لم توضع مستقلّة ، بل وضعت فی ضمن وضع هیئة إسم الفاعل أو المفعول أو الصفة المشبّهة،

ص :192

ثم إنّه لا یبعد أن یراد بالمشتق فی محل النزاع، مطلق ما کان مفهومه ومعناه جاریاً علی الذات [1] ومنتزعاً عنها، بملاحظة اتصافها بعرض أو عرضی ولو کان جامداً، کالزوج والزوجة والرقّ والحرّ، وإن أبیت إلا عن اختصاص النزاع المعروف بالمشتق، کما هو قضیة الجمود علی ظاهر لفظه، فهذا القسم من الجوامد الشَرح:

وعلیه فعدم تحقّق الانقضاء فی بعض المبادئ لاینافی وضع الهیئة الداخلة علی المبدأ مطلقاً لمعنی وسیع ینطبق علی المنقضی أیضاً فی موارد إمکان الانقضاء ، کما یمکن وضعها لمعنی أضیق لا ینطبق إلاّ علی الذات المتلبّسة بالمبدأ .

[1] یجری الخلاف فی المقام فی بعض الأسماء الجامدة التی لا یصحّ إطلاق المشتقّ علیها فی اصطلاح علماء الأدب؛ لأنّ اللفظ فیها بهیئته ومادته موضوع بوضع واحد، بخلاف المشتقات بحسب اصطلاحهم التی یکون فیها لکل من الهیئة والمادة وضعا، وتلک الأسماء هی الجاریة علی الذوات ممّا تکون معانیها منتزعة عنها بملاحظة اتّصافها بأمرٍ عرضی أی اعتباری کالزوج والزوجة، والرق والحر ونحوها.

وعلی ذلک فلا یبعد أن یراد بالمشتق فی المقام ما یعمّ مثل هذه الأسماء بأن یکون المراد منه کلّ لفظ یکون معناه مأخوذا من الذات بملاحظة اتّصافها بعرض أی بمبدأ متأصّل ، کالضرب والقتل ، أو بملاحظة اتّصافها بعرضی (أی بأمر اعتباری) فتکون النسبة بین المشتق بحسب اصطلاح علماء الأدب وبین المراد فیالمقام العموم من وجه ؛ لخروج بعض ما یطلق علیه المشتق بحسب اصطلاحهم عن محلّ الکلام کالأفعال والمصادر المزید فیها ، ودخول بعض ما لا یطلق علیه المشتق بحسبه فیه کالجوامد المشار إلیها ، ولو لم یکن المراد بالمشتق ما یعم تلک الأسماء الجامدة کما هو مقتضی الجمود علی ظاهر لفظ المشتق الوارد فی عنوان الخلاف ، فلا ینبغی التأمّل فی أنّ النزاع الجاری فیه ، جار فیها أیضاً کما یشهد لذلک ما عن

ص :193

أیضاً محل النزاع.

کما یشهد به ما عن الایضاح فی باب الرضاع، فی مسألة من کانت له زوجتان کبیرتان، أرضعتا زوجته الصغیرة، ما هذا لفظه: (تحرم المرضعة الأولی والصغیرة مع الدخول بالکبیرتین، وأمّا المرضعة الأخری، ففی تحریمها خلاف، فاختار الشَرح:

الإیضاح(1) وغیره فی المسألة المعروفة فی کون المراد من الزوجة فی حرمة أمّ الزوجة ، خصوص المتلبّس بالزوجیّة أم یعمّ المنقضی عنها .

أقول : لا بأس بالتکلّم فی تلک المسألة بما یناسب المقام ، ولها صور :

الصورة الأُولی: فیما إذا أرضعت الکبیرتان زوجته الصغیرة مع الدخول بالمرضعة الأُولی فقط ، ففی هذه الصورة تحرم المرتضعة علی زوجها مؤبدا ؛ لأنّها إمّا بنته إذا کان اللبن منه ، أو ربیبته من المرضعة الأُولی المدخول بها ، إذا لم یکن اللبن منه .

وهل تحرّم المرضعة الأُولی أیضاً ؟ المشهور أنّها تحرم مؤبّدا کالمرتضعة ؛ لکونها أُمّاً لزوجته الصغیرة ، فیشملها قوله سبحانه : «وَأُمَّهاتُ نِسائِکُمْ» الآیة(2) .

ولکن قد یناقش فی حرمتها بأنّ ظاهر الآیة المبارکة حرمة من تکون أُمّاً لزوجته حال اتّصافها بالزوجیة ، بأن یجتمع کونها أُمّاً وکون بنتها زوجة فی زمانٍ واحد ، ولیس الأمر فی الفرض کذلک ، فإنّه فی زمان تحقّق أُمومة المرضعة ترتفع زوجیة المرتضعة ، فلا یجتمعان .

وقد أُجیب عن المناقشة بما حاصله : إنّ مقتضی التضایف بین الأُمومة والبنوّة

ص :194


1- (1) الإیضاح : 3 / 52 .
2- (2) سورة النساء : الآیة 23 .

والدی المصنّف رحمه الله وابن إدریس تحریمها لأنّ هذه یصدق علیها أم زوجته، لأن_ّه لا یشترط فی المشتق بقاء المشتق منه هکذا هاهنا)، وما عن المسالک فی هذه المسألة، من ابتناء الحکم فیها علی الخلاف فی مسألة المشتق.

الشَرح:

أن یکون تحقّق الأُمومة للمرضعة ، مساویا لحصول البنوّة للمرتضعة ، وبما أنّ حصول البنوّة للصغیرة علّة لارتفاع الزوجیة عنها ، فیتأخّر ارتفاع الزوجیّة رتبة عن حصول البنوّة لها وعن الأُمومة للمرضعة ، کما هو مقتضی التضایف بین الأُمومة والبنوّة وتأخّر کلّ معلول عن علّته ، وعلی ذلک تکون الصغیرة متّصفة بالزوجیة فی رتبة حصول الأُمومة للمرضعة ، فتجمع أُمومة المرضعة مع زوجیة المرتضعة فی الرتبة ، وهذا المقدار یکفی فی صدق أنّ المرضعة أُمُّ زوجته .

وفیه: أنّ ما ذکر لا یصحّح اجتماع الأُمومة للمرضعة وزوجیّة الصغیرة فی زمانٍ واحد. والمدّعی فی المناقشة ظهور الآیة المبارکة فی اجتماعهما فی الزمان، وبتعبیرٍ آخر: ارتفاع الزوجیة عن الصغیرة لصیرورتها بنتا أو ربیبة للزوج یتوقّف علی تمام الإرضاع الموجب لصیرورتها بنتا للمرضعة وصیرورة المرضعة أُمّا لها، وبتمامه ترتفع الزوجیة، فیکون حصول الأُمومة مقارنا لانحلال الزوجیة، فلا یجتمعان فی الزمان.

وأمّا ما رواه الکلینی قدس سره ، عن علی بن محمد ، عن صالح بن أبی حماد ، عن علی بن مهزیار ، عن أبی جعفر علیه السلام قال : قیل له إنّ رجلاً تزوّج بجاریة صغیرة ، فأرضعتها امرأته ، ثمّ أرضعتها إمرأة له أُخری ، فقال ابن شبرمة : حرمت علیه الجاریة وامرأتاه ، فقال أبو جعفر علیه السلام : «أخطأ ابن شبرمة ، تحرم علیه الجاریة وامرأته التی أرضعتها أوّلاً ، وأمّا الأخیرة فلم تحرم علیه ، کأنّها أرضعت ابنته»(1) ، فهو وإن کان

ص :195


1- (1) الوسائل : ج14 ، باب 14 من أبواب ما یحرم بالرضاع ، الحدیث 1 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ظاهرا فی حرمة المرضعة الأُولی ، إلاّ أنّه قد یناقش فیه بوجهین :

الأوّل: أنّ الروایة مرسلة ، فإنّ ظاهر نقل فتوی ابن شبرمة أنّ المراد بأبی جعفر هو الباقر علیه السلام ، وعلیّ بن مهزیار لم یدرک الباقر علیه السلام ، فتکون الروایة مرسلة .

ولکن لا یخفی ما فیه ، فإنّ علی بن مهزیار ظاهر نقله أنّه بالحسّ ، وهذا یکون قرینة علی أنّ المراد بأبی جعفر هو الجواد علیه السلام ، ونقل فتوی ابن شبرمة إلیه علیه السلام لا یکون قرینة علی خلاف ذلک . ولعلّ ناقل الفتوی شخص آخر قد سمعها منه مباشرة أو مع الواسطة نقلها إلی أبی جعفر الثانی علیه السلام .

الثانی: أنّ فی سند الروایة صالح بن أبی حمّاد ، ولم یثبت له توثیق لو لم نقل بثبوت ضعفه ؛ لقول النجاشی «وکان أمره ملتبسا یعرف وینکر»(1) .

أقول : هذا أیضاً لا یصلح لسقوط الروایة عن الاعتماد علیها، لا لدعوی انجبار ضعفها بعمل المشهور، لیقال أن_ّه لم یظهر استناد المشهور إلیها، بل لعلّهم استفادوا الحکم من ظاهر الآیة الشریفة کما تقدّم، بل لأنّ الروایة رواها الشیخ فی التهذیب(2) عن الکلینی قدس سره بالسند المزبور، ولکن ذکر فی فهرسته أنّ له إلی کتب علی بن مهزیار وروایاته طریقا صحیحا إلاّ نصف کتاب مثالبه(3)، وهذه تدخل فی روایات علی بن مهزیار، ویبعد کونها من روایات کتاب المثالب، مع أنّ طریقه إلی نصفه الآخر فیه إبراهیم بن مهزیار الذی قد یناقش فی ثبوت التوثیق له، لکن لا یبعد عدّه من المعاریف الذین لم

ص :196


1- (1) رجال النجاشی : ص198 ، رقم 526 ، ط جماعة المدرسین .
2- (2) التهذیب : 7 / 293 ، روایة 1232 .
3- (3) الفهرست : ص232 ، ط جامعة مشهد .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

یرد فیهم قدح، فالروایة لتبدیل أمر سندها لا مجال للمناقشة فی سندها.

وقد یقال فی المقام : إنّ تفریق فخرالمحقّقین قدس سره بین المرضعتین ، لیس لفارق بینهما فیالابتناء علی وضع المشتق لیقال بأنّ الإلتزام بحرمة المرضعة الأُولی والخلاف فی الثانیة بلا وجه ، بل الالتزام بحرمة الأُولی للإجماع والنصّ الصحیح فی موردها ، دون الثانیة ، ولذلک بنی حرمة الثانیة علی مسألة المشتق ، وأوضح الحکم فیها من طریق القاعدة . والنصّ هو صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام «لو أنّ رجلاً تزوّج بجاریةٍ رضیعة فأرضعتها امرأته فسد النکاح»(1) . وظاهرها فساد نکاح الرضیعة ، ویحتمل فساد نکاح المرضعة .

ولکن لا یخفی ما فیه ، فإنّ الکلام فی المقام فی حرمة المرضعة الأُولی مؤبّدا ولا دلالة للصحیحة علی فساد نکاحها ، فضلاً عن حرمتها ، بل ظاهرها فساد نکاح الرضیعة وحرمتها مؤبّدا ، وهذا لا کلام فیه ، کما تقدّم .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّ من المحتمل أن یکون صدق الزوجة علی الرضیعة فی زمان کافیا فی حرمة أُمّها حتّی لو کان حصول الأُمومة بعد انقضاء الزوجیة ، حیث لم یقیّد حرمة أُمّ الزوجة فی الآیة بکونها أُمّاً للزوجة الفعلیة ، بل إطلاقها یعمّ من تکون أُمّاً للزوجة الفعلیة، ومن تکون أُمّاً للزوجة السابقة ، نظیر حرمة الربیبة ، حیث لا یعتبر فی حرمة بنت الزوجة المدخول بها کونها بنتا لها حال کونها زوجة . والحاصل أنّ ما نحن فیه نظیر ما یأتی من قوله سبحانه «لا یَنَالُ عَهْدِی

ص :197


1- (1) الوسائل : ج 14 ، باب 10 من أبواب ما یحرم بالرضاع ، الحدیث 1 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الظّالِمِیْنَ»(1) من کون الظالم فی زمان لا ینال العهد إلی الأبد(2) .

وفیه أنّ ظاهر الخطاب دوران الحکم مدار بقاء العنوان ، وکون حدوث عنوان موجبا للحکم فی المعنون إلی الأبد ولو مع عدم بقاء العنوان یحتاج إلی قرینة ، مع أنّ الموضوع للحکم فی المقام أُمّهات نسائکم ، لا أُمّهات من کانت من نسائکم ، وظاهر الأوّل تحقّق الأمومة فی زمان انتساب المرأة إلی الإنسان بالزوجیة ، ولا یقاس المقام بمسألة بنت الزوجة ، فإنّ الحرمة فی الخطاب لم تتعلّق بعنوان بنت الزوجة لیقال فیه ما تقدّم فی أُمّ الزوجة ، بل تعلّقت بعنوان الربیبة ، والربیبة بنت من تزوّج بها سواء کانت بنتیّتها قبل الزواج أو بعد انقضائه .

والمتحصل أنّ العمدة فی المقام هو أنّ دلیل الحکم _ بحرمة المرضعة الأُولی کالصغیرة مؤبّدا _ ما تقدّم من الروایة التی صحّحنا سندها .

الصورة الثانیة: ما إذا أرضعت الکبیرتان الصغیرة ، مع الدخول بالمرضعة الثانیة فقط ، فتکون المرتضعة محرّمة علیه مؤبّداً بعد إرضاع الکبیرتان ؛ لما تقدّم فی الصورة الأُولی ، ویحکم بفساد نکاح المرضعة الأُولی من غیر حرمة ، ووجهه أنّها قبل تحقّق الرضاع من المرضعة الثانیة تکون أُمّا للصغیرة ، والصغیرة بنتاً لها ، وبما أنّه لا یمکن الجمع بین الأُمّ والبنت فی النکاح فیبطل نکاحهما ؛ لأنّ تعیین البطلان فی أحدهما بلا معین إلاّ أن یدعی بأن مجرّد النکاح علی البنت کافٍ فی تحریم أُمّها ، بخلاف العکس ، وعلیه تحرم المرضعة الأُولی مؤبّدا لکونها أُمّاً لزوجته .

ص :198


1- (1) سورة البقرة : الآیة 124 .
2- (2) أجود التقریرات : 1 / 55 .

فعلیه کلما کان مفهومه منتزعاً من الذات، بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتیات _ کانت عرضاً أو عرضیاً _ کالزوجیة والرقّیّة والحریة وغیرها من الاعتبارات والإضافات، کان محل النزاع وإن کان جامداً، وهذا بخلاف ما کان مفهومه منتزعاً عن مقام الذات والذاتیات [1]، فإنه لا نزاع فی کونه حقیقة فی خصوص ما إذا کانت الذات باقیة بذاتیاتها.

ثانیها: قدعرفت أنه لا وجه لتخصیص النزاع ببعض المشتقات الجاریة علی الذوات، إلاّ أنه ربما یشکل بعدم إمکان جریانه فی اسم الزمان، لأن الذات فیه وهی الزمان بنفسه ینقضی وینصرم، فکیف یمکن أن یقع النزاع فی أن الوصف الجاری علیه حقیقة فی خصوص المتلبس بالمبدأ فی الحال، أو فیما یعم المتلبس به فی المضی؟

الشَرح:

الصورة الثالثة:ما إذا أرضعت الکبیرتان زوجته الصغیرة مع الدخول بالکبیرتین وقد نقل الماتن قدس سره هذا الفرع عن الإیضاح، والحکم فیها بعینه ما تقدّم فی الصورة الأُولی .

الصورة الرابعة: ما إذا أرضعتاها بلا دخول بهما، وفی هذه الصورة لا تحرم الصغیرة ولا الکبیرتان. نعم یکون نکاح الصغیرة والمرضعة الأُولی باطلاً؛ لما تقدّم من عدم إمکان جمعهما فی النکاح، وتعیین البطلان فی أحدهما بلا معیّن، وعلی الاحتمال الآخر یبقی نکاح الصغیرة وتحرم المرضعتان مؤبّدا؛ لکون کلّ منهما أُمّاً لزوجته.

[1] المنتزع عن مقام الذات کالأنواع ، والمنتزع عن الذاتیّات کالجنس والفصل خارجان عن مورد النزاع ، فإنّه لا یطلق علی الملح المتبدّل إلیه الکلب ، أن_ّه کلب ، وعلی التراب المتبدّل إلیه الإنسان ، أنّه إنسان ، بل کان کلبا أو إنسانا ، والوجه فی ذلک أنّ شیئیة الأشیاء إنّما هی بصورها لا بالهیولی والقوة القابلة لها حتّی بنظر العرف أیضاً ، وإذا زالت الصورة انعدم الشیء ولا یمکن انطباق الشیء علی عدمه .

ص :199

ویمکن حل الإشکال بأن انحصار مفهوم عام [1] بفرد _ کما فی المقام _ لا یوجب أن یکون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام، وإلاّ لما وقع الخلاف فیما وضع له لفظ الجلالة، مع أن الواجب موضوع للمفهوم العام، مع انحصاره فیه تبارک وتعالی.

الشَرح:

[1] وقد یناقش فی جریان النزاع فی أسماء الزمان ، بأنّ زمان الفعل ینقضی وینصرم بنفسه ، فلا یکون له بقاء بعد انقضاء المبدأ لیبحث فی انطباق عنوان إسم الزمان علیه بعد انقضاء المبدأ أو عدم انطباقه .

وذکر قدس سره أنّه یمکن حلّ الإشکال بأنّ زمان الفعل وإن کان متصرّما ینقضی بنفسه ولا یمکن أن یکون له بقاء بعد انقضاء المبدأ ، إلاّ أنّ هذا لا ینافی النزاع فی أسماء الأزمنة باعتبار ما تقدّم سابقا من أنّ النزاع فی المقام یقع فی ناحیة هیئة المشتقّات ویکون البحث فی أنّها موضوعة لخصوص المتلبّس ، أو أنّ معناها عامّ شامل له وللمنقضی ، وهذا بعینه قابل لأن یجری فی اسم الزمان أیضاً بأن یکون البحث فی أنّه موضوع لخصوص المتلبس أو للأعمّ ، ولو کان وضعه للأعمّ لکان إطلاقه علی المتلبّس من قبیل إطلاق اللفظ الموضوع للکلّی علی أحد فردیه ، وامتناع فرده الآخر خارجا لا یوجب اختصاص الوضع بفرده الممکن ، کما أن_ّه وقع الخلاف فی لفظ الجلالة بأنّه علم شخصی لذات الحقّ (جلّ وعلا) أو أن_ّه إسم للکلّی وإطلاقه علیه سبحانه من إطلاق اللفظ الموضوع للکلّی علی فرده الممکن فقط ، ولو کان امتناع فرد آخر من الکلی موجبا لعدم وضع اللفظ إلاّ لخصوص فرده الممکن لما تحقّق هذا الخلاف بینهم ، وأیضاً لما کان اتفاق علی أنّ الموضوع له فی لفظ الواجب هو الکلی مع انحصار فرده بواحد .

أقول : ما ذکره قدس سره من أنّ امتناع فرد آخر من الکلی لا یوجب وضع اللفظ لفرده

ص :200

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الممکن متینٌ ، بل وضع اللفظ بإزاء کلّی لا یمکن منه حتّی فرد واحد کمعنی شریک الباری بمکان من الإمکان ، فإنّ الغرض من الوضع تفهیم المعنی ومن الظاهر أنّ قصد التفهیم کما یکون فیالمفاهیم والمعانی الممکنة ، کذلک یکون فیالممتنعة أیضاً إلاّ أنّ ما ذکره من أنّ لفظ الواجب موضوع لکلّی لا یمکن منه إلاّ فرده الواحد ، غیر تامّ ؛ وذلک لأنّ الواجب وإن کان یقیّد ویقال «الواجب بذاته وبلا علّة» ویراد منه ما لا یمکن انطباقه إلاّ علی ذات الحقّ (جلّ وعلا) وهو ما لا یمکن فرض عدمه أو فرض العلّة له ، إلاّ أنّه لم یوضع لهذا المعنی .

والذی أظنّه أنّ الإشکال فی أسماء الأزمنة لا یکون راجعا إلی امتناع وضعها للأعمّ لیجاب عنه بما ذکر ، بل یرجع إلی أنّ البحث فیها فی المقام لغو لا یترتّب علیه ثمرة ، إذ الأحکام الشرعیة الثابتة لعناوین الأسماء المذکورة ترتفع بارتفاع الزمان الواقع فیه المبدأ _ سواء قیل بوضعها لخصوص المتلبّس أو للأعمّ _ وهذا بخلاف سائر المشتقّات کاسم الفاعل ، فإنّه إذا ورد الأمر بإکرام العالم مثلاً ، فبناءً علی وضعه لخصوص المتلبّس لا یحکم باستحباب إکرام من زال عنه العلم بنسیان أو غیره ، وبناءً علی القول بوضعه للأعمّ یحکم باستحبابه أیضاً ، وهذا بخلاف إسم الزمان فإنّ الذات فیه وهو الزمان ینقضی بانقضاء المبدأ ، فلا یکون فی الخارج ذات انقضی عنها المبدأ لیثبت لها الحکم بناءً علی القول بوضعه للأعمّ .

نعم لو قیل بأنّ هیئة (مفعل) لم توضع بإزاء زمان الفعل تارة ولمکانه أُخری ، بل وضعت لمعنی واحد لهما _ ویؤیّد ذلک عدم اختلاف أسماء الزمان والمکان فی الهیئة ، بل لهما هیئة واحدة _ لکان جریان النزاع فیها بلا کلام ، حیث تترتّب الثمرة علی البحث فی معناها کما لا یخفی .

ص :201

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وقد یقال إنّ الإلتزام بأنّ هیئة مفعل ، موضوعة لمعنی ینطبق علی الزمان والمکان غیر مفید ، ووجهه أنّ تلبّس المکان بالمبدأ نحو تلبّس ، وتلبّس الزّمان به نحو آخر ، وعنوان الظرفیة والوعائیة وإن کان یطلق علی کلا التلبسین إلاّ أنّه جامع عرضیّ انتزاعیّ ، لا یمکن أخذه فی معنی إسم الزمان والمکان ، فإنّه لا یکون معنی المقتل عنوان وعاء القتل ، کما أنّ الإلتزام بأخذ ما یکون وعاءً بالحمل الشائع ، مضافاً إلی أن_ّه غیر مفید ، یوجب أن یکون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا ، فإنّ الموضوع له أشخاصه .

أقول : الوضع فی ناحیة المشتقّات أی هیئاتها یکون عامّا والموضوع له خاصّا لا محالة ؛ لأنّ الهیئة تتضمّن معنیً حرفیّاً لا محالة ، فالکلام فی أنّ هیئتی إسم الزمان وإسم المکان ، هل وضعتا لمعنی یشار إلیه ویعبّر عنه بعنوان «ما یقع فیه المبدأ» بالخصوص ، أو وضعتا لما یعبّر عنه بعنوان «ما خرج فیه ، المبدأ إلی الفعلیة» سواء بقیت فیه الفعلیة أو انقضت ؟

فإذا وضعتا بوضع واحد للأوّل ، یکون الوضع فیهما مختصّاً بالمتلبّس الفعلی ، وإذا وضعتا کذلک للثانی ، یکون الوضع للأعمّ ، وبهذا اللحاظ یجری النزاع . هذا مع أنّ للتأمّل فی اختلاف تلبّس الزمان بالمبدأ عن تلبّس المکان به مجالاً واسعا .

وأجاب المحقّق النائینی قدس سره عن الإشکال فی أسماء الزمان بأنّ الذات المأخوذة فیها یمکن أن تکون کلیة ، کالیوم العاشر من المحرّم ، وما وقع فیه الفعل کالقتل وإن کان الموجود منه فردا من أفراده وینقضی بانقضاء القتل فیه ، إلاّ أنّ الذات وهو المعنی الکلّی یکون باقیا حسب أفراده المتجدّدة بعده(1) .

ص :202


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 56 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وفیه : أنّ العامّ یعنی الکلی ، وإن کان یتکثّر بتکثّر أفراده وتسری إلیه أوصاف أفراده فیتّصف بوصف کلّ منها ، إلاّ أنّ حدوث فرد من الکلّی وارتفاعه ، وحدوث فردٍ آخر منه بعد ذلک ، لا یصحّح بقاء العامّ بذلک الوجود ، فإنّ الحادث وجود آخر والمأخوذ فی معنی إسم الزمان ولو کان عامّاً إلاّ أنّ ما هو ظرف للمبدأ وجود واحد لا بقاء له علی الفرض وحدوث فرد آخر لا یصحّح کون الکلّی بذلک الوجود متّصفا بالمبدأ ، ویتّضح ذلک بملاحظة المأخوذ من الذات فی معنی لفظ المجتهد ، فإنّه لیس خصوص زید ، بل المأخوذ فیه مطلق الذات المتّصفة بالاجتهاد ، وقیام مبدأ الاجتهاد بزید یوجب اتّصاف الإنسان بالمبدأ المفروض ، ولکن لا یوجب ذلک صدق المجتهد علی سائر أفراد الإنسان بدعوی أنّ المأخوذ فی معنی المجتهد کلی الذات المتصفة بالاجتهاد لا خصوص زید الموصوف بمبدأ الاجتهاد .

والسرّ فی ذلک أنّ لکل فرد من أفراد الإنسان وجودا ، قد یتّصف الطبیعی بوصف بعض وجوداته وینطبق علیه عنوان باعتبار بعض أفراده ولکن هذا لا یوجب بقاء الطبیعی الموصوف بوصفٍ ما ، بوجود فرده الآخر . وقد ذکر هذا الوجه لعدم جریان الاستصحاب فیالقسم الثالث من الکلی .

وربّما یقال : إنّ للزمان بقاءا اعتبارا ، فإنّ الیوم باقٍ مادام لم تغرب الشمس ، واللیل باقٍ مادام لم تطلع الشمس أو الفجر ؛ ولذا یجری استصحاب بقاء الشهر أو الیوم أو اللیل ونحو ذلک ، وهذا النحو من البقاء کافٍ فی جریان النزاع فی اسماء الزمان ، حیث إنّ الیوم العاشر من کلّ سنة وإن لم یکن مقتلاً للحسین علیه السلام إلاّ أنّ الیوم العاشر من سنة إحدی وستین یصدق علیه مقتله علیه السلام حتّی بعد الزوال أیضاً ،علی أنّ

ص :203

ثالثها: إنّه من الواضح خروج الأفعال والمصادر المزید فیها عن حریم النّزاع [1]، لکونها غیر جاریة علی الذوات، ضرورة أن المصادر المزید فیها الشَرح:

المشتقّ حقیقة فی مطلق ما تلبّس بالمبدأ وإن انقضی تلبّسه .

أقول : ما ذکر من الاعتبار فی النهار واللیل والشهر ونحوها لا ینکر ، کما فی بحث جریان الاستصحاب فی ناحیة الزّمان ، ولکن هذا لا یثمر فی جریان النزاع فی أسماء الزمان ، والوجه فی ذلک أنّ الذات المأخوذة فی معنی المشتق أو الملازم لمعناه _ کما یأتی _ مبهمة من جمیع الجهات غیر تلبّسها بالمبدأ، والعناوین الاعتباریة کالنهار واللیل ، لم یؤخذ شیء منها فی معنی إسم الزمان ، وما أُخذ فیه من المعنی المبهم إنّما ینطبق علی نفس القطعة الزمانیة التی وقع فیها الفعل ، والمفروض أنّها لا تبقی بعد انقضاء التلبّس .

نعم ، فی المقام أمرٌ ، وهو أن_ّه لو أُخذ فی بعض الخطابات الشرعیة مقتل الحسین علیه السلام ونحوه موضوعا لآداب ، یکون ذکر الآداب قرینة علی أنّ المراد به مثل ذلک الزمان لا نفسه ، ومثله وإن کان فردا آخر حقیقة إلاّ أنّ إطلاق مقتله علیه السلام علیه باعتبار أنّ أهل العرف یرون المثل عودا لنفس ذلک الزمان ولو تسامحا .

[1] المصادر المزید فیها وإن کان یطلق علیها المشتق باصطلاح علماء الأدب إلاّ أنّها کالمصادر المجرّدة لاتحمل علی الذوات ، فإنّ معانیها عبارة عن المبادئ وما تتّصف به الذوات وما یقوم بها ، ومع انقضاء التلبّس عن الذوات لا یمکن انطباقها علی عدمها ، وهکذا الأفعال فإنّها مرکبة من المبادئ والهیئات ، أمّا مبادیها فالحال فیها کالحال فی المصادر لا یمکن أن تنطبق علی عدمها ، وأمّا هیئاتها فلأنّها دالّة علی قیام تلک المبادئ بالذوات قیام صدور أو حلول أو غیر ذلک ، ومع انقضاء المبدأ عن الذات لا قیام للمبدأ بها .

ص :204

کالمجردة، فیالدّلالة علی ما یتصف به الذوات ویقوم بها _ کما لا یخفی _ وإنّ الأفعال إنّما تدلّ علی قیام المبادی بها قیام صدور أو حلول أو طلب فعلها أو ترکها منها، علی اختلافها.

إزاحة شبهة:

قد اشتهر فی ألسنة النحاة دلالة الفعل علی الزمان، حتی أخذوا الإقتران به فی تعریفه [1]. وهو اشتباه، ضرورة عدم دلالة الأمر ولا النهی علیه، بل علی إنشاء الشَرح:

[1] ذکر النحاة فی الفرق بین الإسم والفعل بعد اشتراکهما فی الدلالة علی معنیً مستقل _ أی مستقل فی اللحاظ _ أنّ ذلک المعنی المستقل بمجرده مدلول الإسم ولا یدلّ الإسم علی اقترانه بأحد الأزمنة ، بخلاف الفعل فإنّه یدلّ علی معنیً مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ، وعباراتهم فی التفرقة بین الإسم والفعل توهم دخول الزمان فی مدلول الأفعال بخلاف الأسماء ، حیث إنّ الزمان خارج عن مدالیلها فهذا الوهم فاسد جدّاً _ سواء کان مراد علماء الأدب فی تعریف الإسم والفعل هذا أو غیره _ ، فإنّ من الأفعال عندهم الأمر والنهی ولیس لهما دلالة علی الزمان ، فإنّ الأمر یدلّ علی إنشاء طلب الفعل ، والنهی علی إنشاء الزجر عنه أو طلب الترک ، غایة الأمر یکون الإنشاء حال التکلّم لا محالة ، کما هو الحال فی الإخبار ولو بالجملة الإسمیّة ، کقوله زید ابن عمرو ، أو بالجملة الفعلیة کضرب زید أو یضرب عمرو ، بل لا دلالة للفعل الماضی أو المضارع علی الزمان ؛ ولذا لا یکون عنایة وتجرید عند إسنادهما إلی الزمان والمجردات .

وبالجملة لا ینبغی التأمّل فی أنّ الزمان غیر مأخوذ فی معنی الفعل لا فی ناحیة معنی المادة ولا فی ناحیة معنی الهیئة ، نعم لمعنی هیئة الماضی والمضارع عند

ص :205

طلب الفعل أو الترک، غایة الأمر نفس الإنشاء بهما فی الحال، کما هو الحال فی الإخبار بالماضی أو المستقبل أو بغیرهما، کما لا یخفی، بل یمکن منع دلالة غیرهما من الأفعال علی الزمان إلاّ بالإطلاق والإسناد إلی الزمانیات، وإلاّ لزم القول بالمجاز والتجرید، عند الإسناد إلی غیرها من نفس الزمان والمجردات.

نعم لا یبعد أن یکون لکل من الماضی والمضارع _ بحسب المعنی _ خصوصیة أخری موجبة للدلالة علی وقوع النسبة، فی الزمان الماضی فی الماضی، وفی الحال أو الاستقبال فی المضارع، فیما کان الفاعل من الزمانیات، ویؤیده أن المضارع یکون مشترکاً معنویاً [1] بین الحال والاستقبال، ولا معنی له الشَرح:

دخولها علی المادة خصوصیة ، وتلک الخصوصیة تقتضی زمان الماضی أو الحال والاستقبال فیما کان الإسناد إلی الزمانی ، فإنّ الماضی یدلّ علی انتساب المبدأ بنحو التحقّق والمضارع علی انتسابه بغیره من الفعلیّة أو الترقّب ودلالة هیئتهما علی ذلک بنحو ما تقدّم فی معانیالحروف ، لا علی عنوان الانتساب الموصوف بالتحقّق أو الترقّب .

ثمّ إنّه لو کان فی البین قرینة علی لحاظ الترقّب أو التحقّق بالإضافة إلی زمان فلا کلام ، کما فی قوله : (یجیئنی زید بعد عامّ وقد ضرب قبله بثلاثة أیام) وکما فی قوله : (جائنی زید فی شهر کذا وهو یضحک) حیث لوحظ تحقّق الضرب فی الأوّل بالإضافة إلی زمان المجیء ، والفعلیة أو الترقّب فی الضحک بالإضافة إلی زمانه أیضاً فی الثانی ، وإلاّ یحمل التحقّق والترقّب علی أنّهما بالإضافة إلی زمان الاخبار ، وهذا هو المراد بالاطلاق فی قول الماتن قدس سره : «بل یمکن منع دلالة غیرهما علی الزمان إلاّ بالاطلاق والإسناد إلی الزمانیات» .

[1] هذا تأیید لعدم دخول الزمان فی مدلول الأفعال وأنّ الداخل فی مدلولها

ص :206

إلا أن یکون له خصوص معنی صح انطباقه علی کل منهما، إلا أنه یدل علی مفهوم زمان یعمهما، کما أنّ الجملة الاسمیة ک_ (زید ضارب) یکون لها معنی صح انطباقه علی کل واحد من الأزمنة، مع عدم دلالتها علی واحد منها أصلاً، فکانت الجملة الفعلیة مثلها.

وربما یؤید ذلک أن الزمان الماضی فی فعله، وزمان الحال أو الإستقبال فی المضارع، لا یکون ماضیاً أو مستقبلاً حقیقة لا محالة، بل ربّما یکون فی الماضی مستقبلاً حقیقة، وفی المضارع ماضیاً کذلک، وإنّما یکون ماضیاً أو مستقبلاً فی الشَرح:

خصوصیة انتساب المبدأ إلی الذات ، وتقتضی تلک الخصوصیة فیما کان الفاعل من الزمانیات أحد الأزمنة . ووجه التأیید أن_ّه لا جامع بین زمانی الحال والاستقبال إلاّ معنی لفظ الزمان ، ومفهوم الزمان معنی إسمی غیر داخل فی معنی هیئة الأفعال حتّی عند النحویین ، فإنّ ظاهر کلامهم دلالة الفعل علی معنی مقترن بمصداق الزمان ، فلابدّ من أن یکون مرادهم أیضاً أن للهیئة فی فعل المضارع خصوصیة تقتضی زمان الحال أو الاستقبال .

أقول : لم یثبت من النحویین التزامهم بالاشتراک المعنوی فی هیئة فعل المضارع بمعناه المعهود لیشکل علیهم بأنّ الهیئات لیس لها معانٍ إسمیّة حتّی یتصوّر فیها الاشتراک المعنوی، بل لعلّ مرادهم أنّ صیغة فعل المضارع تدلّ علی ما یوصف به انتساب المبدأ إلی الفاعل بکونه فی غیر الزمان الماضی من الحال أو الاستقبال، فالمراد بالاشتراک الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، کما فی الحروف وهیئات سائر الأفعال.

وغایة ما یرد علیهم أنّ خصوصیة النسبة المستفادة من هیئة الفعل الماضی أو الفعل المضارع وإن کانت تقتضی الاقتران بالأزمنة فیما کان الفاعل من الزمانیّات إلاّ أنّ اقتضاء الخصوصیة لا یوجب دخول الزمان وأخذه فی مدلوله لیلزم العنایة أو

ص :207

فعلهما بالإضافة، کما یظهر من مثل قوله: یجیئنی زید بعد عام، وقد ضرب قبله بأیّام، وقوله: جاء زید فی شهر کذا، وهو یضرب فی ذلک الوقت، أو فیما بعده مما مضی، فتأمل جیدّاً.

ثم لا بأس بصرف عنان الکلام إلی بیان ما به یمتاز الحرف عما عداه، بما یناسب المقام؛ لأجل الاطراد فی الاستطراد فی تمام الأقسام.

فاعلم أنّه وإن اشتهر بین الأعلام، أن الحرف ما دلّ علی معنی فی غیره، وقد بیناه فی الفوائد بما لا مزید علیه، إلاّ أنک عرفت فیما تقدم، عدم الفرق بینه وبین الاسم [1] الشَرح:

التجرید فی موارد الإسناد إلی الزمان أو المجرادت .

فیکون الحال فی الفعل الماضی أو المضارع مثل الجملة الإسمیّة ک_(زید ضارب) ، حیث إنّه نسب (ضارب) إلی (زید) بنسبة تحقّقیة أو بنسبة ترقّبیة ، وهذه النسبة تقتضی أحد الأزمنة الثلاثة لا محالة ؛ لکون (زید) من الزمانیّات ، والفرق أنّ تعیین کون النسبة فی (زید ضارب) تحقّقیة أو ترقّبیة یکون بالقرینة العامة أو الخاصة ، بخلاف تعیینها فی الفعل فإنّه یکون بالوضع ، حیث إنّ هیئة الفعل الماضی تدلّ علی نسبة تحقّقیة وهیئة المضارع علی نسبة ترقّبیة .

وممّا ذکر یظهر أنّ فی عبارة الماتن قدس سره تسامحا، فإنّه قدس سره ذکر أنّ للمضارع معنیً یصحّ انطباقه علی الحال والاستقبال ووجه التسامح أنّ معنی الفعل _ سواء کان ماضیا أو مضارعا _ لا ینطبق علی الزمان، بل ینطبق علی النسبة الخارجیة المقتضیة للزمان فیما کان الفاعل من الزمانیات، وکذلک الحال فی الجملة الإسمیّة ک_ (زید ضارب)، فتدبّر.

[1] ذکر قدس سره فیما تقدّم أن_ّه لیس الاختلاف بین الحرف والإسم فی نفس الموضوع له والمستعمل فیه لا بالذات ولا بالاعتبار ، بل الموضوع له والمستعمل فیه فیهما واحد وهو ما یتعلّق به اللحاظ الآلی تارة والاستقلالی أُخری ، من غیر دخل

ص :208

بحسب المعنی، وأنّه فیهما ما لم یلحظ فیه الإستقلال بالمفهومیة، ولاعدم الإستقلال بها، وإنّما الفرق هو أن_ّه وضع لیستعمل وأرید منه معناه حالة لغیره وبما هو فی الغیر، ووضع غیره لیستعمل وأرید منه معناه بما هو هو وعلیه یکون الشَرح:

للحاظین فی الموضوع له والمستعمل فیه ، والاختلاف فی کیفیة اللحاظ عند استعمالهما معتبر فی وضعهما حیث إنّ الإسم وضع لذلک المعنی الذی یکون من قبیل الکلی الطبیعی؛ لیلاحظ عند الاستعمال بما هو هو، والحرف وضع له لیستعمل فیه عند لحاظه آلیا، فالمعنی الموضوع له والمستعمل فیه فی نفسه فی کلّ منهما کلی طبیعی، وکیفیة اللحاظ عند الاستعمال لا تدخل فی المستعمل فیه لا فی الاسماء ولا فی الحروف، ولذا تکون معانی الأسماء والحروف کلّیات تنطبق علی الخارجیات، وتصدق علی کثیرین.

ولو قیّد المعنی باللحاظ ، بأن یکون واقع اللحاظ الآلی أو الاستقلالی داخلاً فی المعنی ، یکون المستعمل فیه جزئیّا ذهنیا وکلیّا عقلیا ، حیث إنّ الوجود الذهنی کالخارجی یکون شخصا لا محالة ، بحیث لو لوحظ المعنی المفروض ثانیا ، یکون اللحاظ الثانی وجودا ذهنیا آخر مثل الأوّل ، ویکون المعنی مع أنّه جزئی ذهنی _ حیث أن المقیّد بأمر ذهنی یکون ذهنیاً لا ینطبق علی الخارج _ کلیّاً عقلیّاً ، وقد ذکرنا أنّ المراد بالکلی العقلی ، مرآتیّة الملحوظ وحکایته عن کثیرین فی الخارج من غیر أن ینطبق علیها لیکون عین ما فی الخارج ، ویمکن تشبیهه بالصورة المنقوشة علی الجدار من إنسان أو غیره ، فإنّها تحکی الخارج وتشیر إلیه من غیر أن تکون عین الخارج ، وأضاف هنا إلی ما تقدّم ، التوفیق بین جزئیة المعنی الحرفی بل الإسمی وبین کلیّته _ أی کونه کلّیا طبیعیا یصدق علی کثیرین فی الخارج _ بأنّ المعنی الموضوع له والمستعمل فیه إذا قیّد بواقع اللحاظ ، یعنی الوجود الذهنی ، یکون

ص :209

کل من الاستقلال بالمفهومیة، وعدم الاستقلال بها، إنّما اعتبر فی جانب الاستعمال، لا فی المستعمل فیه، لیکون بینهما تفاوت بحسب المعنی، فلفظ (الابتداء) لو استعمل فی المعنی الآلی، ولفظة (من) فی المعنی الاستقلالی، لما کان مجازاً واستعمالاً له فی غیر ما وضع له، وإن کان بغیر ما وضع له، فالمعنی فی کلیهما فی نفسه کلّی طبیعی یصدق علی کثیرین، ومقیداً باللحاظ الاستقلالی أو الآلی کلّی عقلی، وإن کان بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهناً کان جزئیاً ذهنیاً، فإنّ الشّیء ما لم یتشخص لم یوجد، وإن کان بالوجود الذهنی، فافهم وتأمل فیما وقع فی المقام من الأعلام، من الخلط والاشتباه، وتوهم کون الموضوع له أو المستعمل فیه فی الحروف خاصاً، بخلاف ما عداه فإنّه عام.

الشَرح:

جزئیاً ذهنیا وکلیا عقلیا ، وإذا أُغمض عن اللحاظ الذی هو من کیفیّات الاستعمال ومقدّماته یکون نفس المستعمل فیه کلّیا طبیعیا یصدق علی الخارجیات .

أقول : قد تقدّم أنّ المعنی الحرفی یختلف عن المعنی الإسمی ولا اتحاد بینهما أصلاً وأنّ الاختلاف لیس بحسب اللحاظ فقط لیقال إنّ اللحاظ غیر داخل فی المستعمل فیه فیهما ، بل قد ذکرنا فی الفرق ما ملخّصه : أنّ الحرف إذا ذکر مجرّدا لا یکون له معنی ، وإذا دخل علی الإسم أو غیره دلّ علی خصوصیّة فی معنی المدخول بحسب الخارج ، فتکون تلک الخصوصیة ، نسبیة وغیر نسبیة ، مثلاً إذا قیل (سرت من البصرة إلی الکوفة) فکلمة (من) الداخلة علی (البصرة) تدلّ علی أنّها فی نسبة السیر إلیها معنونة بعنوان المبدئیة له ، بخلاف ما إذا قلنا (ابتداء السیر) ، فإنّ لفظ (الابتداء) یضاف إلی (السیر) لا إلی (المکان) فلا یدلّ علی خصوصیة المبدئیة فی النسبة لیقال إنّ المستعمل فیه فیهما أمر واحد ، وقلنا : إنّ هذا هو السرّ فی عدم استعمال أحدهما فی موضع الآخر ، لا أنّ الاختلاف بینهما یکون بمجرد اللحاظ

ص :210

ولیت شعری إن کان قصد الآلیة فیها موجباً لکون المعنی جزئیاً، فَلِمَ لا یکون قصد الاستقلالیة فیه موجباً له؟ وهل یکون ذلک إلاّ لکون هذا القصد، لیس مما یعتبر فی الموضوع له، ولا المستعمل فیه بل فی الاستعمال، فَلِمَ لا یکون فیها کذلک؟ کیف، وإلاّ لزم أن یکون معانی المتعلقات غیر منطبقة علی الجزئیات الخارجیة، لکونها علی هذا کلیات عقلیة، والکلّی العقلی لا موطن له إلاّ الذهن، فالسیر والبصرة والکوفة، فی (سرت من البصرة إلی الکوفة) لا یکاد یصدق علی السیر والبصرة والکوفة، لتقیّدها بما اعتبر فیه القصد فتصیر عقلیة، فیستحیل انطباقها علی الأمور الخارجیة.

وبما حققناه یوفق بین جزئیة المعنی الحرفی بل الاسمی، والصدق علی الکثیرین، وإنّ الجزئیة باعتبار تقیّد المعنی باللحاظ فی موارد الإستعمالات آلیاً أو استقلالیاً، وکلیته بلحاظ نفس المعنی، ومنه ظهر عدم اختصاص الإشکال والدفع بالحرف، بل یعمّ غیره، فتأمل فی المقام فإنّه دقیق ومزالّ الأقدام للأعلام، وقد سبق فی بعض الأمور بعض الکلام، والإعادة مع ذلک لما فیها من الفائدة والإفادة، فافهم.

رابعها: إن اختلاف المشتقات فی المبادئ [1]، وکون المبدأ فی بعضها حرفة الشَرح:

فراجع وتأمّل . وقد ذکرنا هناک أیضاً أنّ نفس الخصوصیة الخارجیة فی مدلول المدخول لیست هی معنی الحرف لیقال إنّ الحرف لم یستعمل فی شیء ، فی صورة الکذب فی الاخبار ، بل مدلول الحرف تلک الخصوصیة بصورتها المندکّة فی معنی المدخول ؛ ولذا لا یکون للحروف معانٍ إخطاریة ، فالاسم یدلّ علی معنیً فی نفسه ، والحرف یدلّ علی معنیً فی غیره ، والخصوصیة المدلول علیها بالحرف فی معنی الغیر ، تصحّح اتصاف معنی المدخول بعنوان إسمی کالمبدئیة .

[1] قد تقدّم أنّ النزاع فی المقام فی ما وضع له هیئات المشتقّات وأن_ّه ینطبق

ص :211

وصناعة، وفی بعضها قوة وملکة، وفی بعضها فعلیّاً، لا یوجب اختلافاً فی دلالتها بحسب الهیئة أصلاً، ولا تفاوتاً فی الجهة المبحوث عنها، کما لا یخفی، غایة الأمر إنّه یختلف التلبس به فی المضی أو الحال، فیکون التلبس به فعلاً، لو أخذ حرفة أو ملکة، ولو لم یتلبس به إلی الحال، أو انقضی عنه، ویکون مما مضی أو یأتی لو أخذ فعلیاً، فلا یتفاوت فیها أنحاء التلبسات وأنواع التعلقات، کما أشرنا إلیه.

الشَرح:

علی ما انقضی عنه المبدأ ، أو لا ینطبق إلاّ علی ما یکون تلبّسه بالمبدأ فعلیا ، ولکنّ المراد بالمبدأ فی المشتقات یختلف ، فیکون المراد بالمبدأ فی بعضها بنحو الحرفة ، وفی بعضها بنحو الصنعة ، وفی بعضها بنحو الملکة ، وفی بعضها بنحو الشأنیة أو الاستعداد ، وفی بعضها بنحو الفعلیة ، وهذا الاختلاف فی المبادئ لا یوجب اختلافا فی دلالة الهیئات ، ولا تفاوتا فی محلّ النزاع ، والفرق بین الحرفة والصناعة أنّ الأُولی لا تحتاج إلی التعلّم بخلاف الثانیة .

ثمّ إنّ اختلاف المشتقّات بحسب المبادئ لا یوجب الاشتراک اللفظی فی ناحیة المبادئ ، لإمکان إرادة الملکة أو الاستعداد أو غیرهما من المبدأ ولو بنحو المجاز .

وبذلک یظهر أنّ ما ذکر من عدم کون المبدأ موضوعا للاستعداد فلا یمکن أن یکون مستفاداً من مشتقّاته أیضاً ، کما فی الفتح والمفتاح ، فإذا لم یستعمل الفتح فی الاستعداد ، فکیف یستعمل المفتاح فی استعداد الفتح ، لا یمکن المساعدة علیه إذ الاستعداد للفتح غیر داخل فی مدلول الهیئة ، بل الهیئة قرینة علی إرادة الاستعداد من المبدأ ولو مجازا ، حیث إنّ الآلیة لشیء لا تستلزم إیجاد ذلک الشیء بها فعلاً.

ص :212

خامسها: إنّ المراد بالحال فی عنوان المسألة، هو حال التلبس [1 [لا حال النطق ضرورة أن مثل (کان زید ضارباً أمس) أو (سیکون غداً ضارباً) حقیقة إذا کان متلبساً بالضرب فی الأمس، فی المثال الأول، ومتلبساً به فی الغد فی الثانی، فجری المشتق حیث کان بلحاظ حال التلبس، وإن مضی زمانه فی أحدهما، ولم یأت بعد فی آخر، کان حقیقة بلا خلاف، ولا ینافیه الاتفاق علی أن مثل (زید ضارب غداً) مجاز، فإنّ الظاهر أنّه فیما إذا کان الجری فی الحال، کما هو قضیة الإطلاق، والغد إنّما یکون لبیان زمان التلبس، فیکون الجری والاتصاف فی الحال، والتلبس فی الاستقبال.

الشَرح:

[1] تعرّض قدس سره فی هذا الأمر لبیان المراد من الحال الوارد فی عنوان المسألة ، وظاهر کلامه أنّ المراد به فعلیّة المبدأ للذات ، حیث إنّ انطباق معنی المشتق علی الذات مع فعلیة تلبّسها بالمبدأ لیس محلّ کلام ، وإنّما الکلام فیانطباق معناه علیها مع انقضاء تلبّسها بالمبدأ ، وعلی ذلک فإن کان حمل معنی المشتق علی الذات وتطبیقه علیها مع فعلیة المبدأ لها ، کان الحمل والتطبیق حقیقیین ، سواء کانا فی الزمان الماضی أو الحال (أی زمان النطق) أو المستقبل . وأمّا لو کان حمله علیها وتطبیقه بلحاظ انقضاء الفعلیة ، فکونهما حقیقیین مبنیّ علی سعة معنی المشتق ، وعلی کل تقدیر ، فلا عبرة بزمان النطق المعبّر عنه بالزمان الحال ، نعم یحمل علیه حال الفعلیة فیما إذا لم تکن فی البین قرینة علی تعیینها فی غیره .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّ الحال یطلق علی معان ثلاثة ؛ الأوّل : زمان النطق الذی تقدّم عدم دخله فی معنی المشتق . والثانی : زمان التلبّس یعنی زمان تلبّس الذات بالمبدأ . والثالث : فعلیّة التلبّس بالمبدأ وأنّ المراد بالحال فی عنوان المسألة هو المعنی الثالث لا الثانی ، و نسب إلی کثیر من الأعلام ، منهم صاحب الکفایة قدس سره ،

ص :213

ومن هنا ظهر الحال فی مثل (زید ضارب أمس) وأن_ّه داخل فی محل الخلاف والاشکال. ولو کانت لفظة (أمس) أو (غد) قرینة علی تعیین زمان النسبة والجری أیضاً کان المثالان حقیقة.

وبالجملة: لا ینبغی الإشکال فی کون المشتق حقیقة، فیما إذا جری علی الذات، بلحاظ حال التلبس، ولو کان فی المضی أو الاستقبال، وإنّما الخلاف فی کونه حقیقة فی خصوصه، أو فیما یعم ما إذا جری علیها فی الحال بعد ما انقضی عنه التلبس، بعد الفراغ عن کونه مجازاً فیما إذا جری علیها فعلاً بلحاظ التلبس فی الإستقبال، ویؤید ذلک اتفاق أهل العربیة علی عدم دلالة الاسم علی الزمان، ومنه الصفات الجاریة علی الذوات، ولا ینافیه اشتراط العمل فی بعضها بکونه بمعنی الحال، أو الاستقبال، ضرورة أن المراد الدلالة علی أحدهما بقرینة، کیف لا؟ وقد اتفقوا علی کونه مجازاً فی الاستقبال.

لا یقال: یمکن أن یکون المراد بالحال فی العنوان زمانه، کما هو الظاهر منه الشَرح:

حیث ذکروا أنّ المراد به هو المعنی الثانی یعنی زمان التلبس(1) .

أقول : لیس فی عبارة الماتن قدس سره دلالة علی ما ذکره، بل ظاهرها أنّ المراد بالحال فعلیة المبدأ، بمعنی أنّ حمل المشتق علی ذات _ یکون تلبسها بالمبدأ فعلیّاً _ حقیقی، وحمله علی ذات _ یکون تلبّسها بالمبدأ منقضیا فی ظرف الحمل _ محلّ النزاع، ویشهد لذلک قوله قدس سره : «ویؤید ذلک اتّفاق أهل العربیة علی عدم دلالة الإسم علی الزمان»(2)، فإنّ مقتضاه خروج الزمان عن مدلول المشتق سواء کان المراد به خصوص أحد الأزمنة الثلاثة، أم زمان التلبّس الذی یعمّ الماضی والحال والاستقبال.

ص :214


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 57 .
2- (2) کفایة الأُصول : ص44 .

عند إطلاقه، وادعی أن_ّه الظاهر فی المشتقات، إما لدعوی الانسباق من الاطلاق، أو بمعونة قرینة الحکمة.

لأنا نقول: هذا الانسباق، وإن کان مما لا ینکر، إلاّ أنهم فی هذا العنوان بصدد تعیین ما وضع له المشتق، لا تعیین ما یراد بالقرینة منه.

سادسها: إنّه لا أصل فی نفس هذه المسألة یعوّل علیه [1] عند الشک، وأصالة الشَرح:

[1] إن کان المراد بالأصل ، الأصل اللفظی ، فلا ینبغی التأمّل فی أن_ّه لا بناء من العقلاء ولا من أبناء المحاورات علی کون المعنی عامّا أو خاصّا فیما إذا دار أمر الموضوع له بینهما .

نعم قد یقال : إنّ اللفظ فیما إذا استعمل فی موردین ودار أمره بین کون اللفظ موضوعا للجامع بینهما ، لیکون استعماله فی کلّ من الموردین حقیقة أو کان موضوعا لخصوص أحدهما ، لیکون استعماله فی المورد الآخر مجازا ، یرجّح الاشتراک المعنویّ لأجل غلبة الاشتراک المعنوی علی المجاز .

ولکن لا یخفی أنّ غلبة الاشتراک المعنوی علی الحقیقة والمجاز غیر محرزة ، وعلی تقدیر الغلبة ، فلا دلیل علی الترجیح بها .

ونظیر ذلک ما یدّعی من أنّ المشتقّ یستعمل کثیرا فی موارد الانقضاء، فلو لم یکن مشترکا معنویا وکان موضوعا لخصوص المتلبّس لزم المجاز فی غالب موارد استعمالاته، فلا محالة یکون مشترکا معنویا، حذرا من غلبة المجاز فی موارد استعماله.

وفیه أیضاً کما یأتی أنّ استعماله فی موارد الانقضاء بلحاظ حال التلبّس حقیقة مع أنّ غلبة المجازیة لا توجب الإلتزام بالاشتراک المعنوی أو اللفظی ، فإنّ باب المجاز فی الاستعمالات واسع .

وإن کان المراد بالأصل الأصل الشرعی _ یعنی الاستصحاب _ فلا ینبغی التأمّل فی

ص :215

عدم ملاحظة الخصوصیة، مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم، لا دلیل علی اعتبارها فی تعیین الموضوع له، وأما ترجیح الاشتراک المعنوی علی الحقیقة والمجاز. إذا دار الأمر بینهما لأجل الغلبة، فممنوع، لمنع الغلبة أولاً، ومنع نهوض حجة علی الترجیح بها ثانیاً.

الشَرح:

عدم الأصل الشرعی أیضاً؛ لأنّ استصحاب عدم لحاظ الخصوصیة فی الموضوع له _ مع عدم إثباته ظهور المشتق ووضعه للمعموم ، لعدم کون ظهوره فی العموم أمرا شرعیا مترتبا علی عدم لحاظ الخصوصیة _ معارض باستصحاب عدم لحاظ العموم والإطلاق.

وذکر الماتن قدس سره أن_ّه إذا انقضی تلبّس الذات بالمبدأ ، ثمّ جعل التکلیف للموضوع بعنوان المشتق ، سواء کان بمفاد القضیة الخارجیة أو بمفاد القضیة الحقیقیة ، فیرجع إلی البراءة عنه بالإضافة إلی الذات المذکورة ، وأمّا لو جعل الحکم قبل انقضاء التلبّس عنه ، ثمّ انقضی عنه المبدأ ، فیستصحب الحکم فیه .

وبالجملة مقتضی الأصل العملی البراءة عن التکلیف فی الأوّل، وبقاء التکلیف فی الثانی.

أقول : قد یقال بعدم الفرق بین الفرضین ، ففی کلٍّ منهما یجری استصحاب بقاء الموضوع ، وبإحراز بقائه یثبت الحکم ، بأن یقال فی الفرض الأوّل إنّ زیدا کان فی السابق عالما وبعد انقضاء تلبّسه بالمبدأ یشکّ فی بقائه عالما ؛ لاحتمال کون المشتق حقیقة فی الأعمّ ، وإذا ثبت بالاستصحاب کونه عالما یترتّب علیه الحکم الوارد فی خطاب أکرم العلماء ، فإنّه یکفی فی جریان الاستصحاب کون المستصحب موضوعا للحکم ولو فی زمان الاستصحاب (أی فی بقائه) ، وکذا الحال فیما إذا ورد الخطاب فی زمان تلبّس زید بالمبدأ ثمّ انقضی عنه المبدأ ، فإنّه یستصحب کونه عالما ، فیترتب علیه الحکم الوارد فی الخطاب .

ص :216

وأما الأصل العملی فیختلف فی الموارد، فأصالة البراءة فی مثل (أکرم کل عالم) یقتضی عدم وجوب إکرام ما انقضی عنه المبدأ قبل الإیجاب، کما أن قضیة الاستصحاب وجوبه لو کان الإیجاب قبل الانقضاء.

الشَرح:

ولکن لا یمکن المساعدة علی هذا القول المذکور ، وذلک لعدم جریان الاستصحاب فی ناحیة الموضوع فی موارد الشبهة المفهومیة ، کما هو المفروض فی المقام ، وقد تعرّضنا لذلک فی مبحث الاستصحاب ، وبیّنا أنّ ظاهر خطاب النهی عن نقض الیقین بالشکّ أن یحتمل الشخص بقاء ذلک المتیقّن الحاصل خارجا ، بأن یکون المحتمل بقاء نفس ذلک الموجود الذی علم به ، وفی الشبهات المفهومیة لا مشکوک کذلک ، فإنّه فی المثال کان یعلم أنّ الذات المتلبّسة بالمبدأ (عالم) وبقاء تلک الذات محرز ، وعدم بقاء تلبّسها بالمبدأ أیضاً محرز ، فلا یکون شیء فی الخارج مشکوکا، بل المشکوک صدق عنوان (العالم) علی الذات المزبوره مع عدم بقاء تلبّسها بالمبدأ، والاستصحاب لا یتکفّل لإثبات الإسم ومعنی اللفظ، کما هو الحال فی مسألة استصحاب بقاء النهار فیما إذا شک بانتهائه بغیبوبة القرص أو ذهاب الحمرة المشرقیة، فإنّه مع عدم الشکّ فی الخارج لا مجال للاستصحاب.

وأمّا إجراء الاستصحاب فی ناحیة الحکم ، الذی یظهر من الماتن الإلتزام به فی الفرض الثانی ، فبناءا علی جریان الاستصحاب فی الشبهة الحکمیة یختصّ جریانه بما إذا شکّ فی سعة الحکم المجهول وضیقه من حیث تخلّف بعض الحالات التی یکون ثبوت الحکم للموضوع فی تلک الحالات متیقنا ، کما إذا شکّ فی تنجّس الماء الکثیر بعد زوال تغیّره بنفسه ، حیث إنّ التغیّر فی الماء یعدّ عرفا من حالات الماء ، وإنّ الموضوع للتنجس عرفا هو الماء ، فیجری استصحاب بقاء نجاسة الماء بعد زوال تغیّره ؛ لکون التغیّر عرفا من حالات الماء لا من مقوماته .

ص :217

فإذا عرفت ما تلونا علیک، فاعلم أنّ الأقوال فی المسألة وإن کثرت، إلاّ أن_ّها حدثت بین المتأخرین، بعد ما کانت ذات قولین بین المتقدّمین، لأجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مبادیه فی المعنی، أو بتفاوت ما یعتریه من الأحوال [1]، وقد مرت الإشارة إلی أن_ّه لا یوجب التفاوت فیما نح_ن بصدده، ویأتی له مزید بیان الشَرح:

وأمّا فی الموارد التی لا یحرز فیها بقاء العنوان المقوّم للموضوع عرفاً ، کصوم نهار شهر رمضان ، فلا یجری استصحاب الحکم فیها ، إذ الموضوع لوجوب الصوم هو نهار شهر رمضان ، والنهار مقوّم لموضوع الحکم عرفا ، فإذا شکّ فی بقاء النهار بالشبهة المفهومیة ، فلا یحرز اتّحاد القضیة المتیقّنة والمشکوکة لیجری الاستصحاب فی وجوبه والأمر فی أکرم العالم کذلک فإنّ عنوان (العالم) مقوّم لموضوع استحباب الإکرام ، والذی کنّا علی یقین منه ، استحباب إکرام زید بما هو إکرام عالم ، ثمّ شککنا فی أنّ إکرامه بعد انقضاء علمه إکرام للعالم لیجب ، أم لا ؟ فالشکّ یکون فیما هو مقوّم للموضوع ، ومعه لا یجری الاستصحاب .

وبتبعیرٍ آخر : لا یجری الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة إلاّ فیما إذا کان انطباق العنوان موجبا لحدوث الحکم بنظر العرف ، ویحتمل دخالة بقائه فی بقاء الحکم ، أو کان المتخلّف من قبیل حالات الشیء عرفا ، فالأول کما فی قوله سبحانه : «لا یَنَالَ عَهْدِی الظّالِمِیْنَ»(1) ، والثانی کما فی تغیّر الماء الکثیر فی أحد أوصافه .

[1] کان الاختلاف فی معانی المشتقات بین المتقدّمین علی قولین :

أحدهما: أنّها حقیقة فی خصوص المتلبّس بالمبدأ ، ومجاز فی غیره ، بمعنی أنّ معانی هیئات المشتقات ضیقة لا تنطبق إلاّ علی الذات المتلبّسة بالمبدأ ، وهذا

ص :218


1- (1) سورة البقرة : الآیة 124 .

فی أثناء الإستدلال علی ما هو المختار، وهو اعتبار التلبس فی الحال، وفاقاً لمتأخری الأصحاب والأشاعرة، وخلافاً لمتقدمیهم والمعتزلة، ویدلّ علیه الشَرح:

القول کان لمتأخّری الأصحاب والأشاعرة .

وثانیهما: أنّ معانی المشتقات وسیعة تنطبق علی المتلبّس والمنقضی ، وکان علی هذا متقدّمی الأصحاب و المعتزلة ، ثمّ حدثت الأقوال الأُخر کالتفصیل بین ما إذا کان مبدأ المشتق لازما أو متعدّیا والإلتزام بسعة المعنی علی الثانی دون الأوّل ، کما فصّل بین تلبّس الذات بضدّ المبدأ وعدم تلبّسها به ، ففی الأوّل یعتبر عدم الانقضاء بخلاف الثانی ، وکالتفصیل بین کون المشتق محکوماً علیه فلا یعتبر التلبّس بخلاف ما إذا کان محکوما به فیعتبر التلبّس ، والأخیر تفصیل باعتبار ما یعتری المشتق من الحالات ، بخلاف الأولین فإنّهما تفصیل فی المشتق بحسب المبادئ .

وقد ذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّه لا معنی للنزاع فی المشتق بناءً علی بساطة مفهومه ، وأنّ هیئته موضوعة للدلالة علی اتّحاد المبدأ مع الذات خارجا ، بخلاف نفس المبدأ ، فإنّه لوحظ فی مقابل الذات ولذا لا یحمل علیها .

وبتعبیرٍ آخر بعد انقضاء المبدأ عن الذات وارتفاع معنی المشتق لا معنی لانطباقه علی عدمه ، بل یکون المشتق أوضح خروجا عن النزاع ، من الجوامد التی ذکر خروجها عن محلّ الکلام کالأنواع ، ووجه الأولویّة أن_ّه مع ارتفاع الصورة النوعیة فی تلک الجوامد تبقی الهیولی والمادّة القابلة للصور ، بخلاف المشتقات بناءً علی بساطة مفاهیمها .

لا یقال : کیف یستعمل المشتق ولو مجازا فی موارد الانقضاء ، أو فی موارد التلبّس فیما بعد ؟

فإنّه یقال: بما أنّ الموضوع له اتّحاد المبدأ مع الذات والذات الموصوفة بمعنی

ص :219

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

المشتق باقیة، فیکون إطلاق المشتق (الموضوع لجهة الاتحاد) علی موصوفه بنحو من المجاز والعنایة، وهذا النحو من العنایة یمکن فی معنی المبدأ أیضاً، فإنّه مع عدم إمکان انطباقه علی عدمه یمکن إطلاقه علی الذات بنحو من العنایة کقولنا: (زید عدل).

نعم، لو قیل بدخول الذات فی معنی المشتق، فللنزاع فی أنّه موضوع لخصوص المتلبّس أو للأعمّ مجال؛ إذ الرکن الوطید والثابت بناءً علی ترکّب معناه مفروض، ویمکن أن یکون تلبّسه بالمبدأ کالحیثیة التعلیلیة فی صدق المشتق بأن تکون فعلیة التلبّس فی الذات موجبة لصدق معنی المشتق علیها، ولو بعد انقضاء المبدأ عنها.

ثمّ إنّه قدس سره عدل عن هذا أیضاً وبنی علی عدم إمکان وضع المشتق للأعمّ ، حتّی بناءً علی ترکّب مفهومه ، وذکر فی وجه ذلک : أنّ الموضوع له لا یمکن أن یکون الذات بإطلاقها ، ضرورة أنّ من اللازم أخذ قید فیها ، وهذا القید لا یکون هو المبدأ ، فإنّه _ بما هو مبدأ _ أجنبی عن الذات ، بل لابدّ من لحاظ نسبة ما _ ولو کانت ناقصة _ بین المبدأ والذات ، وتکون تلک النسبة جهة اتّحاد المبدأ مع الذات ، ومن الظاهر أنّ جهة الاتّحاد لا تکون إلاّ فی مورد فعلیة التلبّس ، والذات المنقضی عنها المبدأ لا تتحد مع المبدأ إلاّ بلحاظ التلبّس وفعلیة المبدأ .

وإن شئت قلت : الذات _ بعد انقضاء المبدأ عنها _ خالیة عن المبدأ ، فکیف تتّحد معه والمبدأ فی مورد التلبّس موجود ومتحد مع الذات ، ولا یمکن وضع المشتق للجامع بینهما ، حیث لا جامع بین الوجود والعدم ، نعم یمکن تصوّر الجامع بینهما بإدخال الزمان فی معنی المشتق ، بأن یکون الموضوع له هی الذات المتحدة مع المبدأ فی غیر الزمان المستقبل ، وهذا یوجب دلالة الأسماء علی الزمان ، مع أنّ

ص :220

تبادر خصوص المتلبس بالمبدأ فی الحال [1]، وصحّة السلب مطلقاً عما انقضی الشَرح:

الزمان غیر داخل فی مدالیل الأفعال فضلاً عن الأسماء(1) .

أقول : لو أراد القائل ببساطة مفهوم المشتق ، ما ذکره قدس سره فالأمر کما ذکره ، من أن_ّه علیها لا یمکن وضعه للأعمّ ، وأمّا لو أُرید بها ما سیأتی بیانه فی البحث عن بساطة مفهومه أو ترکّبه ، فلا منافاة بین البساطة بذلک المعنی ووضعه للأعمّ .

وما ذکره ثانیا من أنّ وضع المشتق للأعمّ غیر ممکن حتّی بناءً علی ترکّب معناه لا یمکن المساعدة علیه ، فإنّه بناءً علی الترکّب یمکن أخذ قید «للذات»، بحیث ینطبق معه علی المتلبّس والمنقضی ، من غیر أخذ مفهوم الزمان أو مصداقه أصلاً ، بأن توضع هیئة فاعل مثلاً للذات الخاصّة وهی ما انتسب إلیها المبدأ بانتساب تحققی بقی الانتساب أم لا ، وهذا المعنی کما ینطبق علی المتلبّس ینطبق علی المنقضی ، وإذا لم یمکن ذلک فیمکن وضعها لإحدی الذاتین من المتلبّس والمنقضی ، فیکون الموضوع له جامعا اعتباریّا وهو عنوان أحدهما، القابل للانطباق علی المتلبّس والمنقضی ، فإنّ وضع اللفظ للجامع الاعتباری ممکن ، بل واقع ، ویزیدک وضوحاً ملاحظة الواجب التخییری علی ما ذکرنا فی محلّه.

حجیّة القول بوضع المشتق للمتلبس بالحال

:

[1] ولعلّ مراده من الحال فی المقام حال التطبیق وحمل معنی المشتق علی الذات، بحیث لو قال مخبرٌ: (زید قائم) ولم یکن فی البین قرینة علی أنّ إسناد (قائم) إلی (زید) وحمله علیه بلحاظ زمانٍ آخر ، ینصرف الکلام إلی أنّ حال الإسناد والحمل زمان النطق کما تقدّم سابقا ، ویتبادر أنّ تلبّس زید بالقیام فی حال حمل قائم وتطبیقه علیه.

ص :221


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 74؛ وفوائد الأُصول : 1 / 120 .

عنه [1]، کالمتلبس به فی الاستقبال، وذلک لوضوح أنّ مثل: القائم والضارب

الشَرح:

وبتعبیرٍ آخر لا یتبادر من المشتق معنی وسیع فحمله علی ذات لا یدلّ علی أنّ تلک الذات فی حال الحمل والتطبیق متلبس فی المبدء بأن یحتمل إنقضائه عنها فی الحال المذکور.

ویمکن أن یکون مراده بالحال فعلیة المبدأ کما ذکرنا سابقا ، ویقال إنّ المتبادر من المشتق ، ما یکون تلبّسه بالمبدأ فعلیّا فی مقابل ما یکون تلبّسه بالمبدأ منقضیا وما یکون تلبّسه بالمبدأ فیما بعد ، وکما أنّ إطلاقه علی ما یکون تلبّسه فیما بعد بنحو من العنایة ، کذلک إطلاقه علی ما انقضی عنه المبدأ یکون بالعنایة .

[1] المراد بالإطلاق _ کما یأتی بیانه _ إطلاق المسلوب ، والمراد من السلب نفی ما ارتکز فی الأذهان من معنی المشتق عن فاقد المبدأ ، وإن کان واجدا له ومتلبّسا به فیما انقضی ، ویشهد لصحّة هذا السلب أنّ الذات إذا انقضی عنها المبدأ یصدق وینطبق علیها المشتق المضاد للمشتق الذی انقضی عنها مبدئه ، کما فی صدق القاعد علی ذاتٍ انقضی عنها القیام ، مع أنّ القاعد والقائم بحسب ما ارتکز فی الأذهان من معناهما متضادان ، کما هو الحال فی مبدئهما .

وربما یقرّر تقابل التضادّ بین المشتقات التی مبادئها متضادّة دلیلاً مستقلاًّ علی کون المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس بالمبدأ فی الحال ، بأن یقال : لو لم یکن المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس بالمبدأ فی الحال لما کان بین معنی قاعد ومعنی قائم مثلاً تضاد ، بل یکونان من المتخالفین فی المعنی یصدقان علی الذات معا کما فی سائر المتخالفات فی المعنی ، فإنّه یصدق علی (زید) أن_ّه عالم وأن_ّه قاعد ، وکما لا یکون بین معنی عالم ومعنی قاعد إلاّ التخالف ، کذلک بین معنی قاعد ومعنی قائم ، بناءً علی عدم وضع المشتق لخصوص المتلبّس بالمبدأ فی

ص :222

والعالم، وما یرادفها من سائر اللغات، لا یصدق علی من لم یکن متلبساً بالمبادئ، وإن کان متلبساً بها قبل الجری والانتساب، ویصح سلبها عنه، کیف؟ وما یضادها

الشَرح:

الحال ، ضرورة أنّ التضاد علی هذا الفرض یکون بین مبدئهما فقط ، فارتکاز التقابل بینهما بنحو التضاد کما هو الحال فی مبدئهما ، یکون دلیلاً علی أنّ المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس فی الحال .

ولا یرد علی هذا التقریر بأن الاستدلال علی التضاد بین مثل معنی قاعد ومعنی قائم مصادرة ؛ لتوقّف التضاد بینهما علی إحراز کون المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس فی الحال ، ولو توقّف إحراز کونه حقیقة فی ذلک علی ثبوت التضاد لدار.

والوجه فی عدم الورود هو أنّ التضاد بین معنی قاعد وقائم ثبت بارتکاز أهل المحاورة، فلا یتوقّف علی إحراز کون المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس فی الحال.

لا یقال مجرد ارتکاز التضاد بین معنی قاعد وقائم لایکون دلیلاً علی کون المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس فی الحال ؛ إذ من المحتمل أن یکون ارتکاز المضادّة لأجل الانسباق الحاصل من اللفظ المطلق ، حیث إنّ اللفظ إذا کان له معنی کلی و کان لذلک المعنی فردان بحیث استعمل اللفظ فی أحدهما کثیرا إلی أن لا یحتاج تعیینه فی الإرادة إلی ذکر قید له ، بخلاف الآخر حیث یکون تعیینه محتاجاً إلی ذکر القید له ، فمثل هذا الانسباق لا یدلّ علی کون اللفظ حقیقة فی خصوص فرد لا یحتاج تفهیمه إلی ذکر القید له .

أقول : لو تمّ هذا الإشکال لأبطل الاستدلال علی کون المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس بالمبدأ فی الحال بتقریر التضادّ بین المشتقات التی بین مبادیها تضادّ ، وکذا الاستدلال بتبادر المتلبّس بالمبدأ فی الحال ، فإنّ التبادر الاطلاقی

ص :223

بحسب ما ارتکز من معناها فی الأذهان یصدق علیه، ضرورة صدق القاعد علیه فی حال تلبسه بالقعود، بعد انقضاء تلبسه بالقیام، مع وضوح التضاد بین القاعد والقائم بحسب ما ارتکز لهما من المعنی، کما لا یخفی.

الشَرح:

لا یثبت الوضع لخصوص الفرد المتبادر من الاطلاق وعدم ذکر القید له وإنّما یثبت الوضع بالتبادر الحاقّی (أی المستند إلی نفس اللفظ) ، ولکن لا یبطل الاستدلال بصحّة السلب ، فإنّ اللفظ لو کان موضوعا لمعنی عامّ ؛ لما أمکن سلب معناه عن فرده ، ولو کان ذلک الفرد من أفراده التی لا یستعمل فیها إلاّ نادرا ومع ذکر القید عند إرادته مثلاً لا یقال (ماء السیل لیس بماء) وإن کان المتبادر من الماء عند إطلاقه فی الاستعمالات المتعارفة غیره ، کما لا یخفی .

وبالجملة جعل المنقضی عنه موضوعا فی السالبة ، یدلّ علی عدم وضع المحمول لما یعمّه .

وأجاب الماتن قدس سره عن الإشکال: بأنّه لا مجال فی المقام لدعوی احتمال الانسباق من الإطلاق؛ وذلک لأن_ّه لو استعمل لفظ فی موردین وکان استعماله فی أحدهما نادرا وفی الآخر غالبا، فیمکن أن یدّعی أنّ تبادر المورد الثانی دون الأوّل، مستند إلی کثرة الاستعمال وإطلاقه، وأمّا إذا کان استعماله فی کلّ منهما کثیرا، أو کان استعماله فی الأوّل أکثر، کما فی المقام، حیث إنّ استعمال المشتق فی موارد الانقضاء أکثر، فلا یحتمل فیه استناد تبادر المعنی الثانی إلی الاطلاق وغیر حاق اللفظ، وعلیه فتبادر خصوص المتلبّس بالمبدأ فی الحال لا منشأ له إلاّ کون المشتق موضوعا له دون غیره.

وهمٌ ودفعٌ:

أمّا الوهم، فلعلّک تقول: لا ینحصر الانسباق الإطلاقی بما ذکر؛ إذ ربّما یکون

ص :224

وقد یقرر هذا وجهاً علی حدة، ویقال: لا ریب فی مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة، علی ما ارتکز لها من المعانی، فلو کان المشتق حقیقة فی الأعم، لما کان بینها مضادة بل مخالفة، لتصادقها فیما انقضی عنه المبدأ وتلبس بالمبدأ الآخر.

ولا یرد علی هذا التقریر ما أورده بعض الأجلّة من المعاصرین، من عدم التضاد علی القول بعدم الاشتراط، لما عرفت من ارتکازه بینها، کما فی مبادئها.

إن قلت: لعل ارتکازها لأجل الانسباق من الاطلاق، لا الاشتراط.

الشَرح:

اللفظ موضوعا للجامع ویستعمل فی کلا الموردین، من غیر أن یکون استعماله فی أحدهما نادرا ومع ذلک ینسبق أحدهما بخصوصه إلی الأذهان عند الاطلاق، ولیکن المقام من هذا القبیل مثلاً صیغة الأمر تستعمل فی مورد الوجوب النفسی وفی مورد الوجوب الغیری، ولا یکون استعمالها فی موارد الوجوب النفسی أکثر من موارد الوجوب الغیری، مع أن_ّه ینسبق إلی الأذهان عند إطلاقها الوجوب النفسی، فلا یکون الانسباق الاطلاقی مختصّا بموارد ندرة استعمال اللفظ فی أحد الموردین وشیوعه فی المورد الآخر.

أمّا الدفع ، فلأنّ تمایز الوجوب النفسی عن الوجوب الغیری بالإطلاق والتقیید ثبوتا ، فیکون فهم الوجوب الغیری فی مقام الإثبات أیضاً بالتقیید ، وأمّا الوجوب النفسی فیکفی فی تفهیمه إطلاق الطلب فی مقام الإثبات مع تمامیّة مقدّمات الإطلاق ولا یقاس ذلک بما إذا لم یکن امتیاز فرد من الجامع عن فرده الآخر إلاّ بالخصوصیّة الخارجیّة لکلّ منهما ، مع تباین تلک الخصوصیّتین ، کما فی امتیاز المتلبّس بالمبدأ فی الحال عن المنقضی عنه المبدأ ، فلا یکون انسباق المتلبّس من المشتقّ مع کثرة استعماله فی موارد الانقضاء من الانسباق الاطلاقی .

ص :225

قلت: لا یکاد یکون لذلک، لکثرة استعمال المشتق فی موارد الانقضاء، لو لم یکن بأکثر.

إن قلت: علی هذا یلزم أن یکون فی الغالب أو الأغلب مجازاً [1]، وهذا بعید، ربّما لا یلائمه حکمة الوضع.

لا یقال: کیف؟ وقد قیل: بأنّ أکثر المحاورات مجازات. فإنّ ذلک لو سلم، فإنّما هو لأجل تعدد المعانی المجازیة بالنسبة إلی المعنی الحقیقی الواحد. نعم ربما یتفق ذلک بالنسبة إلی معنی مجازی، لکثرة الحاجة إلی التعبیر عنه. لکن أین هذا مما إذا کان دائماً کذلک؟ فافهم.

الشَرح:

[1] هذا تعرّض لما یرد علی الإلتزام بأنّ المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس بالمبدأ فی الحال مع الإلتزام بأنّه یستعمل فی موارد الانقضاء کثیرا أو أنّ استعماله فیها أکثر من استعماله فی موارد التلبّس، فإنّه لابدّ من الإلتزام بأنّ غالب الاستعمالات أو أغلبها فی المشتقات بنحو المجاز ، وهذا أمر بعید لا تساعده حکمة الوضع .

لا یقال: لابأس بالإلتزام بأنّ أکثر استعمالات المشتقات تقع علی نحو المجاز ، وقد قیل بأنّ أکثر الاستعمالات فی المحاورات تقع مجازا.

فإنّه یقال : لو سلم بأنّ أکثر المحاورات مجازات ، فالمراد بذلک أنّ المعانی المجازیة بالنسبة إلی المعنی الحقیقی متعدّدة ، لا أنّ أغلب الاستعمالات اللفظیة مجازات ، نعم ربّما یتفق فی لفظ واحد أن یستعمل فی معناه المجازی کثیرا لکثرة الحاجة إلی تفهیمه ولکن من المستبعد وقوع ذلک فی تمام الألفاظ ، کما هو الحال فی المشتقات حیث إنّ استعمال کلّ منها فی موارد الانقضاء کثیر أو أکثر .

ص :226

قلت: مضافاً إلی أن مجرد الاستبعاد غیر ضائر [1] بالمراد، بعد مساعدة الوجوه المتقدمة علیه، إنّ ذلک إنّما یلزم لو لم یکن استعماله فیما انقضی بلحاظ حال التلبس، مع أنه بمکان من الإمکان، فیراد من جاء الضارب أو الشارب _ وقد انقضی عنه الضرب والشرب _ جاء الذی کان ضارباً وشارباً قبل مجیئه حال التلبس بالمبدأ، لا حینه بعد الانقضاء، کی یکون الاستعمال بلحاظ هذا الحال، وجعله معنوناً بهذا العنوان فعلاً بمجرد تلبسه قبل مجیئه، ضرورة أن_ّه لو کان للأعم لصح استعماله بلحاظ کلا الحالین.

الشَرح:

[1] أجاب قدس سره عن الاعتراض بلزوم کثرة الاستعمالات المجازیه بوجهین ؛

أحدهما : أن_ّه لا بأس بالالتزام بها بعد مساعدة ما تقدّم من الأدلة علی أنّ المشتق موضوع للمتلبّس فی الحال.

وثانیهما : أنّه یمکن أن تکون تلک الاستعمالات بنحو لا یلزم منها التجوّز بأن یطبّق معنی المشتق علی المنقضی عنه لا بلحاظ انقضاء المبدأ ، بل بلحاظ حال تلبّسه به ، فیراد من (جاء الضارب) جاء الذی کان ضاربا قبل مجیئه ، لا الضارب حال المجیء وبعد انقضائه ، کی یکون الاستعمال مجازا .

وربّما یتوهّم أن_ّه لو کان الاستعمال فی موارد الانقضاء بلحاظ حال التلبّس ، لا یمکن إثبات أنّ انسباق خصوص المتلبّس بالمبدأ فی الحال ناشٍ من حاقّ اللفظ ؛ لاحتمال کون تبادره ناشئا من استعماله المتلبّس فی الحال غالبا أو دائما .

وقد دفع قدس سره هذا التوهّم بأنّه لو کان وضع المشتق للأعمّ لما کان وجه لجعل استعماله فی خصوص المتلبّس وتطبیقه علی موارد الانقضاء بلحاظ حال التلبّس ، فإنّ ذلک یکون من قبیل الأکل من القفا ؛ إذ مع إمکان استعماله فی معناه الأعمّ وتطبیقه علی الذات المنقضی عنها المبدأ بلا محذور ، لا موجب لاستعماله فی

ص :227

وبالجملة: کثرة الاستعمال فی حال الانقضاء یمنع عن دعوی انسباق خصوص حال التلبس من الإطلاق، إذ مع عموم المعنی وقابلیة کونه حقیقة فی المورد _ ولو بالانطباق _ لا وجه لملاحظة حالة أخری، کما لا یخفی، بخلاف ما إذا لم یکن له العموم، فإن استعماله _ حینئذ _ مجازاً بلحاظ حال الانقضاء وإن کان ممکناً، إلاّ أن_ّه لما کان بلحاظ حال التلبس علی نحو الحقیقة بمکان من الإمکان، فلا وجه لاستعماله وجریه علی الذات مجازاً وبالعنایة وملاحظة العلاقة، وهذا غیر استعمال اللفظ فیما لا یصح استعماله فیه حقیقة، کما لا یخفی، فافهم.

ثمّ إنّه ربّما أورد علی الاستدلال بصحة السلب [1]، بما حاصله: إنّه إن أرید الشَرح:

المعنی الأخصّ وتطبیقه علی الذات المزبورة بلحاظ حال تلبّسها .

وبالجملة بناءً علی کون المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس فی الحال ، یمکن استعماله فی موارد الانقضاء بنحو الحقیقة أیضاً ، کمااذا أُرید من الذات المزبورة حال تلبّسها ، فیکون تطبیق معنی المشتق علیها بلحاظ ذلک الحال حقیقة ، ویمکن أن یکون استعماله فی تلک الموارد بنحو المجاز ، بأن یطبق معنی المشتق علی الذات المزبورة بلحاظ حال انقضاء المبدأ عنه مجازا ، فمع إمکان الحقیقة ، لا موجب للعدول إلی الاستعمال المجازی ، بخلاف الموارد التی لا یمکن استعمال اللفظ فیها حقیقة ، فإنّه یتعیّن فیها الالتزام بالمجاز.

[1] ذکروا أنّ علامة المجاز صحّة السلب المطلق وأمّا صحّة السلب المقیّد فلا تکون علامة المجاز ، مثلاً سلب الحیوان المقید بکونه ناطقاً عن البقر صحیح ولا یدلّ علی أنّ استعمال الحیوان وتطبیقه علی البقر مجاز ، وعلی ذلک فقد أورد علی صحّة السلب فی المقام بأنّه إن أُرید من صحته سلب المشتق عن المنقضی مطلقاً ، فالصحّة غیر محرزة ، وإن أُرید سلبه مقیّدا فلا تدلّ صحته علی المجازیة .

ص :228

بصحة السلب صحته مطلقاً، فغیر سدید، وإن أرید مقیداً، فغیر مفید، لأن علامة المجاز هی صحة السلب المطلق.

وفیه: إنّه إن أرید بالتقیید، تقیید المسلوب الذی یکون سلبه أعم من سلب المطلق _ کما هو واضح _ فصحة سلبه وإن لم تکن علامة علی کون المطلق مجازاً فیه، إلاّ أن تقییده ممنوع، وإن أرید تقیید السلب، فغیر ضائر بکونها علامة، ضرورة صدق المطلق علی أفراده علی کل حال، مع إمکان منع تقییده أیضاً، بأن یلحظ حال الانقضاء فی طرف الذات الجاری علیها المشتق، فیصح سلبه مطلقاً بلحاظ هذا الحال، کما لا یصح سلبه بلحاظ حال التلبس، فتدبر جدّاً.

الشَرح:

وقد أجاب الماتن قدس سره بأنّه إن أُرید من التقیید ، التقیید فی ناحیة المسلوب (أی المشتق) بأن یقیّد المشتق بفعلیة المبدأ ویقال إنّ المنقضی عنه الضرب مثلاً لیس هو ضارب بالضرب الفعلی ، فهذا التقیید فی ناحیة المشتق غیر مراد فی الاستدلال ، بل المسلوب هو المشتق بمعناه المرتکز عند الأذهان عند إطلاقه .

وبتعبیرٍ آخر : نسلّم بأنّ صحّة السلب بالمسلوب المقیّد أعمّ من صحة سلب المسلوب مطلقا ، فإنّه قد یصحّ سلب الشیء المقیّد عن شیء ، ولا یصحّ سلب ذلک الشیء مطلقا عنه ، کما فی مثال سلب الحیوان المقیّد عن البقر ، فلا یصحّ سلب مطلق الحیوان عنه ، وإن کان المراد من التقیید ، تقیید نفس السلب بأن یقال : إنّ زیدا لیس فی حال عدم تلبّسه بالضرب بضارب ، فصحّة هذا السلب دلیل علی أنّ المشتق حقیقة فی المتلبّس فی الحال فقط ، فإنّه لا یصح سلب الطبیعی عن فرده فی حال ، ولکنّ هذا التقیید أیضاً غیر مفروض فی الاستدلال بل المفروض هو التقیید فی ناحیة الذات المسلوب عنها المبدأ حال انقضائه فیقال إنّ زیدا حال انقضاء الضرب عنه لیس بضارب ، فإنّه لو کان معنی المشتق أعمّ لما أمکن سلبه عنه .

ص :229

ثم لا یخفی أنّه لا یتفاوت فی صحة السلب عما انقضی عنه المبدأ، بین کون المشتق لازماً وکونه متعدیاً، لصحة سلب الضارب عمن یکون فعلاً غیر متلبس بالضرب، وکان متلبساً به سابقاً، وأم_ّا إطلاقه علیه فی الحال، فإن کان بلحاظ حال التلبس، فلا إشکال کما عرفت، وإن کان بلحاظ الحال، فهو وإن کان صحیحاً إلاّ أنّه لا دلالة علی کونه بنحو الحقیقة، لکون الإستعمال أعم منها کما لا یخفی، کما لا یتفاوت فی صحة السلب عنه، بین تلبسه بضد المبدأ وعدم تلبسه، لما عرفت من وضوح صحته مع عدم التلبس _ أیضاً _ وإن کان معه أوضح، وممّا ذکرنا ظهر حال کثیر من التفاصیل، فلا نطیل بذکرها علی التفصیل.

حجة القول بعدم الإشتراط وجوه:

الأول: التبادر، وقد عرفت أنّ المتبادر هو خصوص حال التلبس.

الثّانی: عدم صحة السلب فی مضروب ومقتول، عمن انقضی عنه المبدأ [1].

الشَرح:

[1] قد یستدلّ علی کون المشتق حقیقة فی المعنی الأعمّ بحیث ینطبق علی الذات المتلبّسة بالمبدأ فی الحال وعلی المنقضی عنها بعدم صحّة سلب معنی المضروب والمقتول ، عمن ضُرِبَ أو قُتِل مع فرض انتفاء الضرب والقتل ، ونحوهما غیرهما من المحدود والمخلوق والمختار إلی غیر ذلک .

وقد أجاب الماتن قدس سره عن جمیع ذلک بما تقدّم فی بعض الأُمور من أنّ الکلام فی المقام فی معانی هیئهات المشتقات لا فی مبادئها، وأنّه قد یراد من المبادئ فی بعض المشتقات معنیً مجازی تبقی الذات متصفة به ولو بعد انقضاء المعنی الحقیقی، فتصدق تلک المشتقات علی الذوات بعد انقضاء المبدأ عنها بمعناها ما یبقی الذات علیها ولو کان الباقی المزبور من المعنی المجاز للمبدأ الحقیقی، ولکنّ هذا لا یدلّ علی أنّ هیئة المشتق موضوعة للأعمّ من المتلبّس فی الحال.

ص :230

وفیه: إن عدم صحته فی مثلهما، إنّما هو لأجل أنّه أرید من المبدأ معنی یکون التلبس به باقیاً فی الحال، ولو مجازاً.

وقد انقدح من بعض المقدمات أن_ّه لا یتفاوت الحال فیما هو المهم فی محل البحث والکلام ومورد النقض والإبرام، اختلاف ما یراد من المبدأ فی کونه حقیقة أو مجازاً، وأما لو أرید منه نفس ما وقع علی الذات، مما صدر عن الفاعل، فإنّما لا یصح السلب فیما لو کان بلحاظ حال التلبس والوقوع _ کما عرفت _ لا بلحاظ الحال أیضاً، لوضوح صحة أن یقال: إنّه لیس بمضروب الآن بل کان.

الشَرح:

وقد یناق_ش فی هذا الجواب بأنّه لا یتصوّر لمثل مبدأ الضرب معنی یقبل البقاء بعد انقضاء معناه الحقیقی، مع صحّة دعوی الجزم بأنّ ما أُرید من المبدأ فی ضمن هیئة الضارب والقاتل، هو المراد من المبدأ فی ضمن هیئة المضروب والمقتول.

وفیه أنّه قد یراد فی مثل هذه الاستعمالات المتلبّس بالمعنی الحقیقی ، وینطبق علی الذات المنقضی عنها المبدأ بلحاظ حال تلبسّها به ، فیراد من قوله (هذا هو المضروب) المضروب عند فعلیة الضرب ، وقد یراد المبدأ بنحو العلامیّة للذات ، فیراد من المضروب الذات المتلبّسة بعلامیّة الضرب أو القتل واستعمال المبدأ فی العلامیّة للذات مجاز ، کما فی قوله : (هذا المال مسروق ، وقد سُرق من فلان قبل سنوات) ، فلاحظ وتدبّر .

ص :231

الثالث: استدلال الإمام علیه السلام تأسیاً بالنبی _ صلوات اللّه علیه _ [1] کما عن غیر واحد من الأخبار بقوله (لا ینال عهدی الظالمین) علی عدم لیاقة من عبد صنماً أو وثناً لمنصب الإمامة والخلافة، تعریضاً بمن تصدی لها ممن عبد الصنم مدة مدیدة، ومن الواضح توقف ذلک علی کون المشتق موضوعاً للأعم، وإلا لما صح التعریض، لإنقضاء تلبسهم بالظلم وعبادتهم للصنم حین التصدی للخلافة، والجواب منع التوقف علی ذلک، بل یتم الإستدلال ولو کان موضوعاً لخصوص المتلبس.

الشَرح:

[1] استدلّ علی کون المشتق حقیقة فی المعنی الأعمّ باستدلال الامام علیه السلام فی عدة أخبار(1) بقوله سبحانه «لا یَنَالُ عَهْدِی الظّالِمِیْنَ»(2) علی عدم لیاقة من عبد صنما أو وثنا لمنصب الإمامة والخلافة ، تعریضا بمن تربّع علی کرسیّ الزعامة وادّعی لنفسه خلافة النبی صلی الله علیه و آله ، وکان ممّن عبدالصنم مدّة مدیدة ، فإن التعریض المزبور إنّما یتمّ بناءً علی کون المشتق حقیقة فی الأعمّ لینطبق علی من تربّع علی کرسیها ، عنوان الظالم عند تربّعه ، وإلاّ لما صحّ الاستدلال لإنقضاء تلبّسهم بالظلم وعبادتهم للصنم عند تصدّیهم للخلافة .

وما فی عبارة الماتن قدس سره : «تأسّیا بالنبی صلوات اللّه علیه وآله» إشارة إلی ما رواه الخاصة(3) والعامة(4) بأنّ النبی صلی الله علیه و آله قال : «أنا دعوة أبی إبراهیم علیه السلام » ، حیث لم یعبد هو وعلیّ صنما ووثنا .

ص :232


1- (1) تفسیر نور الثقلین : 1 / 121 .
2- (2) سورة البقرة : الآیة 124 .
3- (3) البحار: ج 25، 200 / 12؛ وتفسیر نور الثقلین: 1 / 130.
4- (4) المناقب لابن المغازلی : ص276 و322 ؛ کنز الدقائق : 2 / 139 ؛ تفسیر اللوامع : 1 / 629 ، ط لاهور .

وتوضیح ذلک یتوقف علی تمهید مقدمة، وهی: إن الأوصاف العنوانیة التی تؤخذ فی موضوعات الأحکام، تکون علی أقسام:

أحدها: أن یکون أخذ العنوان لمجرد الإشارة إلی ما هو فی الحقیقة موضوعاً للحکم، لمعهودیته بهذا العنوان، من دون دخل لاتصافه به فی الحکم أصلاً.

ثانیها: أن یکون لأجل الإشارة إلی علیّة المبدأ للحکم، مع کفایة مجرد صحة جری المشتق علیه، ولو فیما مضی.

الشَرح:

وقال صلی الله علیه و آله : «فانتهت الدعوة إلیّ وإلی أخی علی علیه السلام ، لم یسجد أحد منّا لصنمٍ قطّ ، فاتخذنی اللّه نبیّا وعلیّا وصیّا» . وفیه تعریض لغیر علیّ علیه السلام وأنّهم لعبادتهم الصنم والوثن لا ینالون الوصیة والخلافة .

وکیف کان ، فقد أجاب قدس سره عن الاستدلال المزبور بأنّ أخذ عنوان المشتق فی الموضوع علی أنحاء :

الأوّل: أن یکون المشتق لمجرّد الإشارة والمعرفیّة للموضوع ، کقول الصادق علیه السلام : «فإذا أردت حدیثنا فعلیک بهذا الجالس»(1) مشیرا إلی زرارة ، فإنّه لا دخل لجلوسه فی جواز الرجوع وتعلّم الحکم وأخذه منه .

الثانی: أن یکون لعلّیة المبدأ لثبوت الحکم وبقائه ، بأن یکون انطباق عنوان المشتق علی ذاتٍ عند تلبسها بالمبدأ ، علّة لثبوت الحکم وبقائه ، کما فی قوله علیه السلام «لا یصلّین أحدکم خلف المجذوم و... المحدود»(2) ، وقوله سبحانه : «وَحَلائِلُ أَبْنائَکُمْ»(3) .

ص :233


1- (1) الوسائل : ج 18 ، باب 11 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 19 .
2- (2) الوسائل : ج 5 ، باب 15 من أبواب صلاة الجماعة ، الحدیث 6 .
3- (3) سورة النساء : الآیة 23 .

ثالثها: أن یکون لذلک مع عدم الکفایة، بل کان الحکم دائراً مدار صحة الجری علیه، واتصافه به حدوثاً وبقاءً.

إذا عرفت هذا فنقول: إن الاستدلال بهذا الوجه إنّما یتم، لو کان أخذ العنوان فی الآیة الشریفة علی النحو الأخیر، ضرورة أن_ّه لو لم یکن المشتق للأعم، لما تم بعد عدم التلبس بالمبدأ ظاهراً حین التصدی، فلا بد أن یکون للأعم، لیکون حین التصدی حقیقة من الظالمین، ولو انقضی عنهم التلبس بالظلم.

الشَرح:

والثالث: أن یکون الحکم دائرا مدار انطباق المشتق علی الذات وجریه علیها حدوثا وبقاءا ، کما فی قوله علیه السلام : «لا أقبل شهادة فاسق»(1) ، وقوله علیه السلام : «اشهد شاهدین عدلین»(2) .

والاستدلال المزبور مبنیّ علی کون عنوان الظالم فی قوله سبحانه «لا یَنَالُ عَهْدِی الظّالِمِیْنَ»(3) من قبیل الثالث ، وأمّا إذا کان من قبیل الثانی ، کما یقتضیه عظم منصب الإمامة والخلافة ، فیتمّ تعریض الإمام علیه السلام مع کون المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس فی الحال ، حیث یکون مفاد الآیة أنّ المتقمّص بالخلافة یلزم أن لا یکون متلبّسا بالظلم ولو علی نحو الانقضاء ، بل ولو علی النحو الترقّب والاستقبال أیضاً ، ولا یتوهّم أنّ الحمل علی الوجه الثانی یوجب استعمال المشتق فی معناه الأعمّ لینطبق علی المنقضی عنه المبدأ بلحاظ حال الانقضاء أیضاً ، فإنّه کما یستعمل المشتق فی النحو الثالث فی المتلبس بالحال ، کذلک فی النحو الثانی ، وإنّما الاختلاف بینهما فی بقاء الحکم بعد زوال عنوان المشتق ، حیث إنّ موضوع

ص :234


1- (1) الوسائل : ج 18 ، باب 30 من أبواب الشهادات ، الحدیث 4 .
2- (2) الفروع من الکافی : ص 6 ، باب المراجعة لا تکون إلاّ بالمواقعة ، الحدیث 3 .
3- (3) سورة البقرة : الآیة 124 .

وأمّا إذا کان علی النحو الثانی، فلا، کما لا یخفی، ولا قرینة علی أن_ّه علی النحو الأول، لو لم نقل بنهوضها علی النحو الثانی، فإنّ الآیة الشریفة فی مقام بیان جلالة قدر الإمامة والخلافة وعظم خطرها، ورفعة محلها، وإنّ لها خصوصیة من بین المناصب الإلهیة، ومن المعلوم أنّ المناسب لذلک، هو أن لا یکون المتقمص بها متلبساً بالظلم أصلاً، کما لا یخفی.

الشَرح:

الحکم فی النحو الثانی ما انطبق علیه عنوان المشتق ولو فیما مضی ، فإنّ انطباقه علیه یکون علّة لثبوت الحکم وبقائه ، بخلاف النحو الثالث ، فإنّ بقاء الحکم فیما انطبق علیه عنوان المشتق ، دائرٌ مدار بقاء الانطباق ببقاء المبدأ فیه .

وعلی النحو الثانی یکون معنی الآیة من کان ظالما ولو آناً ما لاینال عهدی أبدا ، وإرادة هذا المعنی من الآیة لا یستلزم الاستعمال بلحاظ الانقضاء ، بل یصحّ مع إرادة خصوص المتلبّس بالمبدأ من عنوان المشتق ، کما لا یخفی .

والمتحصّل أنّه إذا أخذ عنوان المشتق فی خطاب موضوعا لحکم ولم یکن فی البین قرینة علی أنّ ذکره علی النحو الأوّل أو علی النحو الثانی ، فظاهر الخطاب أنّ حدوث عنوان المشتق، موضوع لحدوث الحکم وبقائه موضوع لبقاء الحکم، فیکون الحکم فیما انطبق علیه عنوان المشتق دائرا مدار الانطباق ، وأمّا إذا قامت قرینة عرفیة علی أن_ّه علی أحد النحوین ، یؤخذ بمقتضی القرینة ، والقرینة فی مورد الآیة المبارکة هی عظم منصب الإمامة والخلافة من اللّه (تعالی جلّ شأنه) ، فإنّ کلّ شخص لا ینال هذا المنصب، فیکون انطباق عنوان الظالم علی شخص __ ولو فی زمانٍ ما __ موجبا لعدم نیله هذا المنصب ، وهذا لا یکون استحسانا کما توهّمه بعض ، بل قرینة عرفیة ، حیث لم یرضَ الشّارع بإمامة ولد الزّنا والمحدود فی الصلاة ولو مع عدالتهما ، فکیف یعطی اللّه (سبحانه) منصب الإمامة والخلافة لمن تلبّس بالشرک

ص :235

إن قلت: نعم، ولکن الظّاهر أنّ الإمام علیه السلام إنّما استدلّ بما هو قضیة ظاهر العنوان وضعاً، لا بقرینة المقام مجازاً، فلا بد أن یکون للأعم، وإلاّ لما تم.

قلت: لو سلم، لم یکن یستلزم جری المشتق علی النحو الثانی کونه مجازاً، بل یکون حقیقة لو کان بلحاظ حال التلبس _ کما عرفت _ فیکون معنی الآیة، واللّه العالم: من کان ظالماً ولو آناً فی زمان سابق لا ینال عهدی أبداً، ومن الواضح أن إرادة هذا المعنی لا تستلزم الاستعمال، لا بلحاظ حال التلبس.

ومنه قد انقدح ما فی الاستدلال علی التفصیل بین المحکوم علیه والمحکوم به، باختیار عدم الاشتراط فی الأول، بآیة حد السارق والسارقة، والزانی والزانیة، وذلک حیث ظهر أنه لا ینافی إرادة خصوص حال التلبس دلالتها علی ثبوت القطع والجلد مطلقاً، ولو بعد انقضاء المبدأ، مضافاً إلی وضوح بطلان تعدد الوضع، حسب وقوعه محکوماً علیه أو به، کما لا یخفی.

الشَرح:

أو بغیره من الفواحش مدّة من حیاته ؟

وقد یؤیّد کون عنوان الظالم فی الآیة المبارکة مأخوذا علی النحو الثانی نفس التعبیر عن الحکم بصیغة المضارع ، الظاهر فی البقاء والاستمرار ، مع عدم تقییده بزمان ، وبفحوی ما ورد فی عدم جواز الاقتداء فی الصلاة بالمحدود وولد الزنا .

ص :236

ومن مطاوی ما ذکرنا _ ها هنا وفی المقدمات _ ظهر حال سائر الأقوال، وما ذکر لها من الاستدلال، ولا یسع المجال لتفصیلها، ومن أراد الاطلاع علیها فعلیه بالمطولات.

بقی أمور:

الأوّل: إنّ مفهوم المشتق [1]

الشَرح:

بساطة معنی المشتق

:

[1] لا ینبغی التأمّل فی أنّ معنی المشتق کما أنّ مادّته موضوعة لمعنی ، کذلک هیئته موضوعة لمعنی ، وإذا کان کذلک فاللازم فرض معنی للهیئة غیر معنی المادة الساریة فی جمیع المشتقات ، ولا یمکن أن یکون معنی الهیئة مجرد أنحاء التلبّسات ، بأن تکون کلّ هیئة من هیئات المشتقات موضوعة لنحو من أنحائها ، کما هو الحال فی هیئة الفعل الماضی المعلوم أو المجهول ، وکذا فی هیئة الفعل المضارع، وإلاّ لم یصحّ جعله محکوما علیه فی مثل قوله سبحانه «السّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما»(1) ممّا لا یکون علی موصوف ، بل لا جعله محمولاً علی الذات فی مثل قوله زید ضارب ، فإنّ ملاک الحمل فی مثله الاتحاد الخارجی ، ومن الظاهر أنّ واقع التلبّس بالضرب صدورا غیر (زید) خارجا ، لا أنّه هو هو .

وبتعبیرٍ آخر : تحقّق المبدأ فیما کان عرضا وإن کان بعین وجود موضوعه ، إلاّ أنّ وجود موضوعه غیر وجوده ، فلا وجه لما هو المعروف من أنّ الفرق بین المبدأ والمشتق هو الفرق بین بشرط لا ولا بشرط ، بمعنی أنّ المبدأ فیما إذا لوحظ فی مقابل الذات یکون مدلولاً للمصدر ، وإذا لوحظ بما أن_ّه متحد مع الذات وأن_ّه شأن

ص :237


1- (1) سورة المائدة : الآیة 38 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

من شؤونها ، یکون مدلولاً للمشتق ، فإنّ مقتضی التفرقة بین المعنیین کذلک مع قطع النظر عن الاعتبارین هو اتحادهما فی اصل المعنی مع أنّه لیس الأمر کذلک ، فإنّ المبدأ _ بأیّ نحوٍ لوحظ _ لا یتّحد مع الذات خارجا ، فلو کان المراد ببساطة معنی المشتق هذا المعنی ، لما أمکن للقائل بها أن یلتزم بوضع المشتق للمتلبس فی الحال أو للأعمّ کما ذکرنا سابقا(1) . مع أن_ّه لا مجال لدعوی الاتحاد المزبور فی ما هو غیر عرض بالإضافة إلی معروضه ، کما إذا کان المبدأ من المعقولات الثانویة الفلسفیة کالإمکان والامتناع ، أو کان عرضا ولکن لوحظ بالإضافة إلی غیر معروضه من سائر الملابسات ، کالزمان والمکان وغیرهما ، فلا محیص عن الالتزام بدخول الذات فی معنی المشتق لیکون دخولها مصحّحا لحمل معناه علی الذوات ، ولکن الذات المأخوذة فی معناه فی غایة الإبهام ، حیث لم یلاحظ فیها أیّ خصوصیة إلاّ خصوصیة التلبّس بالمبدأ .

ولیس المراد أیضاً أنّ معنی المشتق عند الإطلاق مرکّب من مفهوم الذات وتلبّسها بالمبدأ وأنّ المشتق من المرکّبات الناقصة لیدفع بأنّ ما یتبادر من المشتق لیس إلاّ معنیً واحدا وصورةً واحدة .

بل المراد أنّ المفهوم من المشتق صورة واحدة ، وتلک الصورة تنطبق علی الذات لا علی المبدأ ، وتلک الذات مبهمة من جمیع الجهات غیر جهة التلبّس بالمبدأ، وحینئذٍ فیقع الکلام فی أنّ الجهة المعیّنة فعلیة التلبّس بالمبدأ ، أو مجرد تحقّقه، وهذا یوجب انحلال تلک الصورة الواحدة إلی ما الموصولة وتعیّنها بفعلیة

ص :238


1- (1) ص 191 من هذا الکتاب .

_ علی ما حققه المحقق الشریف فی بعض حواشیه [1] _: بسیط منتزع عن الذات _ باعتبار تلبسها بالمبدأ واتصافها به _ غیر مرکب. وقد أفاد فی وجه ذلک: أن مفهوم الشیء لا یعتبر فی مفهوم الناطق مثلاً، وإلاّ لکان العرض العام داخلاً فی الفصل، ولو اعتبر فیه ما صدق علیه الشیء، انقلبت مادة الإمکان الخاص ضرورة،

الشَرح:

التلبّس فی الحال أو مطلقاً.

ودعوی أنّ الذات المبهمة المزبورة لا یمکن أن تکون مدلولاً للهیئة الطارئة علی المبدأ، باعتبار أنّ مدلول هیئة المشتق معنی حرفیّ، فلا یتضمّن معنیً إسمیا(1)، مدفوعة بأنّه لا دلیل علی کون معنی الهیئة فی المشتق الذی یطلق علیه الإسم فی الاصطلاح غیر متضمّن لمعنی الذات، وإنّما یطلق علی الهیئة أنّ معناها حرفیّ، باعتبار أنّ الحرف کما لا معنی له عند تجرّده عن المدخول، کذلک الهیئة من المشتقات التی یطلق علیها الإسم. ولعلّ ما ذکره الماتن قدس سره من تفسیر بساطة معنی المشتق بأنّه منتزع عن الذات باعتبار تلبّسها بالمبدأ، هو ما ذکرناه، وحمل قدس سره کلام المحقّق الشریف علیه، فیکون الترکّب المنفی، هو أن یتبادر من المشتق عند إطلاقه الصورة المرکّبة.

ولکنّ ظاهر کلام المحقّق الشریف یأبی هذا الحمل کما سیأتی ، فإنّ مقتضی استدلاله عدم إمکان دخول الذات فی معنی المشتق حتّی بالنحو الذی ذکرنا .

[1] ذکروا فی تعریف الفکر بأن_ّه ترتیب أُمور معلومة لتحصیل أمر مجهول ، وأورد علیه بالتعریف بالمفرد کالتعریف بالفصل وحده أو العرض الخاصّ ، فإنّه لیس فی التعریف بهما ترتیب أُمور .

وأجاب عن ذلک فی شرح المطالع : بأنّ المعرّف _ بالکسر _ إذا کان من قبیل

ص :239


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 78 .

فإنّ الشیء الذی له الضحک هو الإنسان، وثبوت الشیء لنفسه ضروری. هذا ملخص ما أفاده الشّریف، علی ما لخصه بعض الأعاظم.

وقد أورد علیه فی الفصول، بأنّه یمکن أن یختار الشق الأول، ویدفع الإشکال بأن کون الناطق _ مثلاً _ فصلاً، مبنی علی عرف المنطقیین، حیث اعتبروه مجرداً عن مفهوم الذات، وذلک لا یوجب وضعه لغة کذلک.

الشَرح:

المشتق ، کالناطق والضاحک ، یکون التعریف بأُمور ، فإنّ الناطق شیء له النطق والضاحک شیء له الضحک(1) .

وناقش فی ذلک السید الشریف بأنّه لا یکون مفهوم المشتق مرکبا ، فإنّه علی تقدیر کون معنی الناطق شیء له النطق لزم دخول العرض العامّ فی الفصل وهو ممتنع، فإنّ العرض لایکون مقوّما للذات هذا فیما لو أُرید بالشیء مفهومه وإن أُرید به مصداقه، لزم انقلاب القضیة الممکنة إلی الضروریة، فإنّ الجهة فی قولنا (الإنسان کاتب) هی الإمکان، وعلی تقدیر دخول مصداق الشیء فی معنی الکاتب یکون

مفاد القضیة (الإنسان، إنسان له الکتابة) وهذه قضیة ضروریّة؛ لأنّ ثبوت الشیء لنفسه یکون ضروریّا(2).

أقول : لازم ما ذکره المحقّق الشریف عدم دخول الذات فی معنی المشتق ، حتّی بنحو الانحلال ، حیث إنّه لو انحل إلی الذات والشیء یلزم أحد المحذورین ، إمّا دخول العرض العامّ فی الفصل ، أو انقلاب القضیة الممکنة إلی الضروریة ، فلیس السید الشریف فی تحقیقه ناظرا إلی أنّ مفهوم المشتق فی بدو الانتقال إلیه ، بسیط

ص :240


1- (1) شرح المطالع : ص11 ط کتبی ، و ص8 ط مکتبة مسجد أعظم .
2- (2) حاشیته علی شرح المطالع : ص11 .

وفیه: إنّه من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلاً بلا تصرف فی معناه أصلاً، بل بماله من المعنی، کما لا یخفی.

والتحقیق أن یقال: إن مثل الناطق لیس بفصل حقیقی، بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصه، وإنّما یکون فصلاً مشهوریاً منطقیاً یوضع مکانه إذا لم یعلم

الشَرح:

لا یدخل فیه الشیء والذات ، کما اختاره الماتن قدس سره فیما یأتی ، لیوافق ما التزم به السید الشریف ، من بساطة معنی المشتق ، وقد فسر قدس سره «البشرط لا واللابشرط» المذکورین فی الفرق بین المبدأ والمشتق بشرط لا ولا بشرط الذاتیّین .

وقد اُجیب عن مناقشة السید الشریف بوجوه :

منها ما ذکره الماتن قدس سره عن صاحب الفصول قدس سره ، وهو عدم لزوم شیء من المحذورین من دخول الذات فی معنی المشتق ، فإنّ معنی الشیء الذی یعدّ من العرض العامّ ، داخل فی معنی الناطق لغة ، وما جعل فصلاً للإنسان هو معناه الاصطلاحی ، ولزوم المحذور من دخول العرض العامّ فی معناه الاصطلاحی لا یوجب محذورا من دخوله فی معناه اللغوی الذی هو المبحوث عنه فی المقام ، وأنّه لو قیل بدخول مصداق الشیء فی معنی المشتق لا یلزم انقلاب القضیة الممکنة إلی الضروریة ، فإنّ ثبوت الإنسان للإنسان وإن کان ضروریا إلاّ أنّ الإنسان مقیّدا بأنّ له الکتابة ، لا یکون ثبوته له ضروریا ؛ لجواز أن لا یکون القید ضروریا(1) .

وقد أورد المصنف رحمه الله علی الشقّ الأوّل من الجواب المزبور ، بأنّه غیر صحیح ، سواء قیل بدخول معنی الشیء فی معنی المشتق ، أو قیل بدخول مصداقه فیه ، فانّ المقطوع به هو أنّ الناطق فی عرف المنطقیین قد اعتبر فصلاً للإنسان بما له من

ص :241


1- (1) الفصول الغرویة : ص50 .

نفسه، بل لا یکاد یعلم، کما حقق فی محله، ولذا ربما یجعل لازمان مکانه إذا کانا متساوی النسبة إلیه، کالحساس والمتحرک بالإرادة فی الحیوان، وعلیه فلا بأس بأخذ مفهوم الشیء فی مثل الناطق، فإنّه وإن کان عرضاً عاماً، لا فصلاً مقوّماً للانسان، إلاّ أنّه بعد تقییده بالنطق واتصافه به کان من أظهر خواصه.

الشَرح:

المعنی اللغوی وبلا تصرف فی معناه أصلاً .

کما أورد علی استدلال المحقّق الشریف لعدم دخول معنی الذات فی معنی المشتق ، بلزوم دخول العرض العامّ فی الفصل ، بأنّ مثل الناطق لیس بفصل حقیقی ، بل لازم الفصل وأظهر خواصّه ، فیکون فصلاً مشهوریّا منطقیا یوضع مکان الفصل الحقیقی إذا لم یعرف الحقیقی ، ولذا یجعل مکانه لازمان ، إذا کانا متساویی النسبة ، کما یذکر الحساس والمتحرک بالإرادة ، فصلاً للحیوان ، فلا یلزم من دخول معنی الشیء فی معنی الناطق إلاّ دخول العرض العامّ ، وأخذه فی خاصة الشیء التی هی من العرضیات لا فی فصله المعدود من الذاتیات فی باب الکلّیات.

وأمّا مسألة انقلاب القضیة الممکنة إلی الضروریة فهو ممّا لا محیص عنه، کما ذکر المحقّق الشریف، وذلک لأن قید «له الکتابة» لا یمکن أخذه فی المحمول إلاّ بأحد نحوین:

الأوّل: أن یکون لمجرد الإشارة إلی المحمول بلا دخل فیه أصلاً بأن یکون المحمول علی الإنسان فی قولنا (الإنسان کاتب) هو الإنسان فقط ، وقید (له الکتابة) إشارة إلی الإنسان ، وعلیه فالانقلاب ظاهر ؛ لأنّ ثبوت الإنسان للإنسان ضروری .

والثانی: أن یکون القید داخلاً فی المحمول ، بأن یکون المحمول فی قوله (الإنسان کاتب) کل من الأمرین (الإنسان) وقید (له الکتابة) فتنحلّ القضیة الواحدة وهی (الإنسان کاتب) إلی قضیتین إحداهما (الإنسان إنسان) والأُخری (الإنسان له

ص :242

وبالجملة لا یلزم من أخذ مفهوم الشیء فی معنی المشتق، إلاّ دخول العرض فی الخاصة التی هی من العرضی، لا فی الفصل الحقیقی الذی هو من الذاتی، فتدبر جیداً.

ثم قال: إنّه یمکن أن یختار الوجه الثانی أیضاً، ویجاب بأنّ المحمول لیس مصداق الشیء والذات مطلقاً، بل مقیداً بالوصف، ولیس ثبوته للموضوع حینئذ

الشَرح:

الکتابة) فالأُولی ضروریة والثانیة ممکنة .

وأمّا عدم جعل القید محمولاً مستقلاًّ ولا وصفا توضیحیّا لنفس المحمول ، بل جعله تقییدا لمصداق الذات ، بأن یضیّق دائرة معنی الإنسان فی المثال علی حدّ سائر التقییدات ، فغیر ممکن ، لأنّ معنی الإنسان وإن کان وسیعا قابلاً للتقیید والتضییق کما یقال : الإنسان الأبیض ، أو الکبیر ، أو غیر ذلک ، إلاّ أنّ المفهوم الوسیع یقبل التضییق بالإضافة إلی معنی آخر ، لا بالإضافة إلی نفسه ، مثلاً یصح أن یقال (البقر حیوان خاصّ) ولا یمکن أن یقال (الحیوان حیوان خاصّ) .

وبالجملة إذا کان الموضوع فی القضیة نفس المحمول ، أو مرادفا له ، فلا یمکن تضییق دائرة المحمول بالقید ، بل لابدّ من جعل القید وصفا توضیحیا مشیرا إلی المحمول أو محمولاً آخر بأن یؤخذ التقیید معنیً حرفیا غیر مقصود ، والمقصود بالحمل حمل ذات المقید .

وممّا ذکرنا یظهر وجه تخصیص السید الشریف الانقلاب بصورة أخذ مصداق الشیء فی معنی المشتق ، فإنّه لو کان المأخوذ مفهوم الشیء فهو باعتبار قبوله التقیید لا یکون ثبوته بعد التقیید ضروریا .

وکأنّ الماتن قدس سره أراد بقوله : «وکان القید خارجاً» عن المحمول «وإن کان التقیید داخلاً بما هو معنیً حرفیّ» ما ذکرناه من کون القید لمجرّد الإشارة إلی نفس

ص :243

بالضرورة، لجواز أن لا یکون ثبوت القید ضروریاً. انتهی.

ویمکن أن یقال: إن عدم کون ثبوت القید ضروریاً لا یضر بدعوی الإنقلاب، فإنّ المحمول إن کان ذات المقید وکان القید خارجاً، وإن کان التقیید داخلاً بما هو معنی حرفی، فالقضیة لا محالة تکون ضروریة، ضرورة ضروریة ثبوت الإنسان الشَرح:

المحمول، وعبارته فی تقریر الانحلال إلی قضیتین، بقوله: «وذلک لأنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبار، کما أنّ الأخبار بعد العلم بها تکون أوصافاً» تشیر إلی ما ذکرنا من امکان جعل قید (له الکتابة) جزء فی الخبر عن الإنسان حیث یکون قبل العلم به خبرا.

وما ذکره من انحلال عقد الحمل وأنّ الانحلال إلی القضیتین مبنی علی ذلک أی لحاظ له النطق قبل العلم به لیکون الاخبار عن الإنسان بالناطق منحلاً إلی قضیتین احداهما الإنسان إنسان والثانی الإنسان له النطق ولا یخفی أنّ هذا مع غضّ النظر عن محذور لزوم أخذ العرض فی الفصل فیما لو کان المحمول فصلاً کما مثّل به صاحب الکفایة قدس سره ، ولکن لو مثّل بدله بالإنسان ضاحک کما مثّل به المحقق الشریف لکان أفضل وأولی ، ولعلّ تمثیله بالناطق من باب ما تبناه من عدم کون الناطق فصلاً حقیقیاً بل هو فصل مشهوری منطقی.

وکیف ما کان ، فقد ظهر ممّا ذکرنا أنّ مراد المحقّق الشریف من بساطة معنی المشتق خروج الذات عن معنی المشتق مفهوما ومصداقا ، بل لا یمکن انحلال معنی المشتق إلی أحدهما .

وأورد المحقّق النائینی قدس سره علی ما ذکره السید الشریف من أنّ أخذ معنی الشیء فی مفهوم المشتق یوجب دخول العرض العامّ فی الفصل ، بأنّ الشیء بمعناه العامّ لا یکون عرضا عامّا لیلزم من دخوله فی معنی المشتق ما ذکر ، بل الشیء جنس

ص :244

الذی یکون مقیداً بالنطق للإنسان وإن کان المقید به بما هو مقید علی أن یکون القید داخلاً، فقضیة (الإنسان ناطق) تنحل فی الحقیقة إلی قضیتین إحداهما قضیة

الشَرح:

الأجناس لجمیع الماهیّات جهة جامعة بینها لا عرض عامّ لها ، حیث إنّ العرض ما یکون خاصة للجنس البعید أو للجنس القریب ، والشیئیة تکون فی جمیع الماهیّات ، ولیس ورائها أمر آخر لتکون الشیئیة خاصة ذلک الأمر وعرضا عامّا لجمیع الماهیّات .

وما یقال من أنّ الشیئیة مساویة للوجود وبما أنّه لا یکون مفهوم الوجود جنساً فیکون مفهوم الشیء الذی مرادف له کذلک ، لا یمکن المساعدة علیه فإنّ الوجود یحمل علی الشیء کما یحمل علی سائر الماهیات ، فالمراد من المساوقة مساوقتهما فی الصدق لا اتّحادهما فی المفهوم ، لیکون مفهوم الشیء کمفهوم الوجود عارضا لجمیع الماهیات.

والحاصل أنّه یلزم من دخول مفهوم الشیء فی المشتق دخول الجنس فی الفصل ، لا دخول العرض العامّ فی الفصل ، وإن کان دخول الجنس فی الفصل أیضاً باطلاً(1).

وذکر قدس سره : _ فی جواب صاحب الکفایة الذی ذهب إلی أنّ الناطق فصلٌ مشهوری لا حقیقی فیلزم من ترکّب المشتق دخول العرض العامّ فی الخاصة _ أنّ الناطق بمعنی المتکلّم ، أو المدرک للکلیات ، وان لم یکن فصلاً للانسان اذا التکلم والادراک من العرض لکن المراد به صاحب النفس الناطقة فیلزم من ترکب المشتق دخول العرض العام فی الفصل لا دخول العرض العام فی الخاصة کما ذکر قدس سره.

ص :245


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 69 .

(الإنسان انسان) وهی ضروریة، والأخری قضیة (الإنسان له النطق) وهی ممکنة، وذلک لأنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبار کما أنّ الاخبار بعد العلم تکون أوصافاً، فعقد الحمل ینحل إلی القضیة، کما أن عقد الوضع ینحل إلی قضیة مطلقة عامة الشَرح:

أقول : عنوان الشیء والذات کما یحمل علی ممکن الوجود ، کذلک یحمل علی واجب الوجود بالذات ، ومن الواضح أن الواجب بالذات لا ماهیّة له لیکون له جنس الأجناس ، وحمل الوجود علی الشیء کحمله علی الجواهر والأعراض لایدلّ علی کونه جنس الأجناس للأعراض والجواهر ، فإنّ العنوان الانتزاعیّ الاعتباریّ من کل الموجودات خارجا أو الملحوظة ذهنا ، لا یدخل فی الماهیّات المتأصّلة ، لیکون جنسا أو فصلاً أو نوعا أو یکون جوهرا أو عرضا وذلک ظاهر ، ولذلک یصدق الشیء علی المستحیلات أیضا باعتبار لحاظها وعلی الجواهر والأعراض وغیرهما .

وبالجملة ما ذکر من أنّ العرض العامّ یکون خاصّة للجنس البعید کالتحیّز بالإضافة إلی الجسم، أو خاصة للجنس القریب ، کالماشی بالإضافة إلی الحیوان ذکر المنطقیون أنّ العرض العام أمر نسبی فهو بالنسبة إلی الأجناس السافلة عام ولکن بالنسبة إلی الأجناس العالیة خاصة وتوهم المحقق النائینی قدس سره أنّها قاعدة عامّة وبها استدلّ علی کون الشیء جنساً لا عرض عام إذ لیس خاصة لا للجنس البعید ولا للجنس القریب وبما أن_ّه جهة جامعة بین الماهیات فیکون جنساً .

ولکن الظاهر أنّ ما ذکره المنطقیون إنما هو بحسب الغالب إذ الملاک فیه (أی عمومیة العرض) کونه خارجاً عن الموضوع وغیر مختص بموضوعه فربّما یوجد عرض عام ولا یکون خاصة لجنس أصلاً کالموجود فإنّه عرض عام لجمیع المقولات العشر وغیر مختص بإحدها حتّی یکون خاصة وعلیه فیکون إیراد شیخنا الاُستاذ قدس سره فی محلّه أو ذلک لا یثبت کون الشیء جنساً. والشیئیة لیست خاصّة

ص :246

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فتکون جنساً لأنّها جهة جامعة بین الماهیات ، لا یثبت أنّ عنوان الشیء جنس بمجرد کونها جهة جامعة ، کما لا یثبت أن_ّه عرضی فی باب الکلّیات الخمس ؛ لأنّ العنوان الانتزاعی الاعتباری خارج عن قسم الجوهر والعرض فی باب الکلّیات لا یخفی أنّ الذاتی والعرضی فی باب الکلیات الخمس إنما هو باعتبار الکلیات النفس الأمر به وأمّا الاُمور الاعتباریة الانتزاعیة فلیست مندرجة فی الذاتی ولا العرضی إذ هی لا من الجواهر ولا من الأعراض ، وعلیه فلو أطلق علیه العرضی فهو من باب إطلاق العرضی علی المشتقات المنتزعة الاعتباریة کالزوج والحر ونحوها لا من باب العرضی المصطلح عند المنطقیین فی باب الکلیات الخمس. فلا یکون جنساً ، وما یقال من أنّ الشیئیة مساوقة للوجود لایراد به الوجود الخارجی فحسب ؛ ولذا یحمل الوجود علی الشیء ، فالشیء عنوان انتزاعیّ اعتباریّ ، کما لا یخفی .

وأمّا ماذکر قدس سره من أنّ المراد بالناطق الذی یذکر فصلاً للإنسان هو صاحب النفس الناطقة ، فلا یمکن المساعدة علیه ، ویا لیت اقتصر علی «النفس الناطقة» فإنّ صاحب نفس الناطقة هو الإنسان ، وخصوصیات الأفراد لا دخل لها ، فیکون صاحبها هو النوع ولا یمکن دخول النوع فی الفصل ، وأمّا النفس الناطقة فلم یذکر المراد منها لیعرف کیف تکون فصلاً .

ثمّ إنّه قدس سره استدلّ علی بساطة معنی المشتق وخروج مفهوم الشیء والذات عنه بأمرین:

الأوّل: أنّه علی تقدیر دخوله ، تکون النسبة الناقصة أیضاً داخلة فیه ، حیث لا یرتبط المبدأ بالذات بدونها ، وإذا دخلت النسبة فی معناه ، لزم کون المشتقات

ص :247

عند الشیخ، وقضیة ممکنة عند الفارابی، فتأمل.

لکنه قدس سره تنظر فیما أفاده بقوله: وفیه نظر لأنّ الذات المأخوذة [1] مقیدة الشَرح:

کسائر الأسماء المتضمّنة لمعانی الحروف مبنیّات(1) .

وفیه: أنّ الموجب للبناء فی الأسماء وضعها بمادّتها وهیئتها لمعنی یتضمّن المعنی الحرفی، ولا یجری فی مثل المشتق الذی یکون لمادّته وضع ومعنی ولهیئته معنی آخر، مع أنّا لا نسلّم الملازمة بین تضمّن لفظ للمعنی الحرفی وبین کونه مبنیا دائماً.

الثانی: أنّ معنی المشتق بعینه معنی المبدأ إلاّ أنّ الهیئة فی المشتق موضوعة لقلب المبدأ عن بشرط لا ، إلی اللابشرط ، ومعه یتّحد المبدأ مع الذات ، فإنّ وجود العرض بما هو عرض عین وجود المعروض ، لا وجود آخر(2) .

وفیه : أوّلاً: أنّ وجودالمبدأ زائد علی وجود الذات ، فکیف یتّحد معها ؟

وثانیا: إنّ المبدأ قد لا یکون عرضا ، بل حکما شرعیا کالحلال والحرام ، أو اعتبارا عقلیا کالواجب والممکن، أو عقلائیا کالحسن والقبیح إلی غیر ذلک، فلا یمکن الالتزام باتحاد الموضوع والحکم ، وقد لا یکون المبدأ عرضا بالإضافة إلی الذات المتلبّسة به ، کما فی إسم الزمان والمکان والآلة وغیر ذلک مما لا یمکن الإلتزام فیها بالاتحاد ، بل فی صحّة الحکم علی عنوان المشتق فی الخطاب بلا اعتماده علی موصوف کفایة للجزم بأنّ معنی الهیئة فی جمیع المشتقات یتضمّن الذات المبهمة علی ما تقدّم .

[1] هذا تقریب من صاحب الفصول قدس سره لدعوی انقلاب القضیة الممکنة إلی

ص :248


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 65 .
2- (2) أجود التقریرات : 1 / 66 .

بالوصف قوة أو فعلاً، إن کانت مقیدة به واقعاً صدق الإیجاب بالضرورة وإلاّ صدق السلب بالضرورة، مثلاً: لا یصدق زید کاتب بالضرورة لکن یصدق زید الکاتب بالقوة أو بالفعل کاتب بالضرورة. انتهی.

ولا یذهب علیک أنّ صدق الإیجاب بالضرورة، بشرط کونه مقیداً به واقعاً لا یصحح دعوی الإنقلاب إلی الضروریة، ضرورة صدق الإیجاب بالضرورة بشرط المحمول فی کل قضیة ولو کانت ممکنة، کما لا یکاد یضر بها صدق السلب کذلک، بشرط عدم کونه مقیداً به واقعاً، لضرورة السلب بهذا الشرط، وذلک لوضوح أنّ المناط فی الجهات ومواد القضایا، إنّما هو بملاحظة أنّ نسبة هذا المحمول إلی ذلک الموضوع موجهة بأیّ جهة منها، ومع أیة منها فی نفسها صادقة، لا بملاحظة ثبوتها له واقعاً أو عدم ثبوتها له کذلک، وإلاّ کانت الجهة الشَرح:

الضروریة ، وحاصل تقریبه : أنّه لو کان معنی قولنا : الإنسان کاتب ، الإنسان إنسان له الکتابة، بأن کانت الذات المأخوذة فی المحمول عین الموضوع، فإن کان الموضوع فی القضیة مقیّدا بقید الکتابة واقعا وفی نفس الأمر ، صدق الإیجاب بالضرورة ، فإنّ ثبوت إنسان له الکتابة للإنسان المفروض له الکتابة ضروری ، وإن لم یکن الموضوع مقیّدا بها بحسب الواقع، بأن کان فاقدا لها، صدق السلب بالضرورة ، فلا تکون فی البین قضیة ممکنة ، فتتمّ دعوی انقلاب النسبة(1) .

وقد أورد الماتن قدس سره علی هذا التقریب بأنّ القضیة إنّما تکون موجّهة بإحدی الجهات من الإمکان والضرورة والدوام وغیرها ، فیما إذا لوحظت نسبة المحمول إلی الموضوع المفروض فی القضیة ، لا ذلک الموضوع مقیّدا بثبوت المحمول له

ص :249


1- (1) الفصول الغرویة : ص50 .

منحصرة بالضرورة، ضرورة صیرورة الإیجاب أو السلب _ بلحاظ الثبوت وعدمه _ واقعاً ضروریاً، ویکون من باب الضرورة بشرط المحمول.

وبالجملة: الدعوی هو انقلاب مادة الإمکان بالضرورة، فیما لیست مادته واقعاً فی نفسه وبلا شرط غیر الإمکان.

وقد انقدح بذلک عدم نهوض ما أفاده رحمه الله [1] بإبطال الوجه الأول، کما زعمه قدس سره ، فإن لحوق مفهوم الشیء والذات لمصادیقهما، إنما یکون ضروریاً مع الشَرح:

واقعا ، أو عدم ثبوته له کذلک .

وإن شئت قلت : ثبوت المحمول للموضوع واقعا ، أو عدم ثبوته له واقعا ، مناط صدق القضیة وکذبها وهو غیر مأخوذ فی موضوع القضیة قیدا ، وإلاّ لانحصرت القضایا بالضروریة ؛ إذ الموضوع بشرط المحمول أی مع أخذ المحمول فیه قیدا ، یستلزم ضروریّة ثبوت المحمول له ، حتّی فی القضیة الممکنه ، سواء قیل بعدم دخول الذات فی معنی المشتق وبساطته ، أو قیل بترکبّه .

وأمّا دعوی السید الشریف فهی لزوم انقلاب القضیة الملحوظ فیها نسبة المحمول إلی نفس الموضوع ، من الممکنة إلی الضروریة ، لا انقلاب القضیة إلی الضروریة بشرط تقیّد الموضوع بالمحمول ، فإنّه أجنبی عن دعواه ، ولا یمکن توجیه دعواه بما تنظّر به .

[1] زعم صاحب الفصول قدس سره أنّه یمکن إبطال الوجه الأوّل _ أی احتمال دخول مفهوم الشیء فی معنی المشتق _ بلزوم الانقلاب أیضاً ، بأن یقال : لو أخذ مفهوم الشیء فی معنی المشتق لزم انقلاب القضیة الممکنة إلی الضروریة(1) .

ص :250


1- (1) الفصول الغرویة : ص50 .

إطلاقهما، لا مطلقاً، ولو مع التقید إلاّ بشرط تقید المصادیق به أیضاً، وقد عرفت حال الشرط، فافهم.

ثم إنّه لو جعل التالی فی الشرطیة الثانیة لزوم أخذ النوع فی الفصل، ضرورة أن مصداق الشیء الذی له النطق هو الإنسان، کان ألیق بالشرطیة الأولی، بل کان أولی لفساده مطلقاً، ولو لم یکن مثل الناطق بفصل حقیقی، ضرورة بطلان أخذ الشیء فی لازمه وخاصته، فتأمل جیداً.

ثم إنّه یمکن أن یستدلّ علی البساطة، بضرورة عدم تکرار الموصوف فی مثل زید الکاتب، ولزومه من الترکب، وأخذ الشیء مصداقاً أو مفهوماً فی مفهومه.

الشَرح:

وأجاب عنه الماتن قدس سره بعدم لزوم الانقلاب من ذلک ؛ لأنّ صدق عنوان الشیء علی مصداقه وإن کان ضروریا ، إلاّ أنّ الضرورة إنّما هی مع إطلاق مفهومه وعدم تقییده _ أی تضییقه بقید _ وأمّا مع التضییق فلا ، حیث یمکن أن یکون ثبوته مع التقیید ممتنعا فضلاً عن الضرورة ، کما إذا قیل : الإنسان شیء یتمکّن من الجمع بین النقیضین . نعم لو کان أخذ القید ولحاظه فی ناحیة الموضوع أیضاً ، بأن کانت القضیة بشرط المحمول ، لکانت ضروریة ، ولکن قد تقدّم أنّ القید لا یؤخذ فی طرف الموضوع أصلاً .

ثمّ إنّ الماتن قدس سره استدلّ علی بساطة المشتق وعدم دخول مصداق الشیء فی معناه ، بلزوم أخذ النوع فی الفصل ، وقال إنّ السید الشریف لو جعل التالی فی الشرطیة الثانیة «لزوم دخول النوع فیالفصل» کان ألیق بالشرطیة الأُولی ، وکان الاستدلال تامّا ، سواء جعل الناطق فصلاً حقیقیا أو عرضا خاصا أُقیم مقام الفصل ، أمّا علی تقدیر کونه فصلاً حقیقیا ، فللزوم دخول النوع فی الفصل فیما إذا قیل : (الإنسان ناطق) ، ومن المعلوم أنّ الناطق جزءالنوع ، فکیف یکون النوع جزءا منه ؟

ص :251

إرشاد:

لا یخفی أن معنی البساطة _ بحسب المفهوم _ وحدته إدراکاً وتصوراً [1]، بحیث لا یتصور عند تصوره إلاّ شیء واحد لا شیئان، وإن انحل بتعمّل من العقل إلی شیئین، کانحلال مفهوم الشجر والحجر إلی شیء له الحجریة أو الشجریة، مع وضوح بساطة مفهومهما.

وبالجملة: لا ینثلم بالانحلال إلی الاثنینیة _ بالتعمّل العقلی _ وحدة المعنی وبساطة المفهوم کما لا یخفی، وإلی ذلک یرجع الإجمال والتفصیل الفارقان بین المحدود والحد، مع ما هما علیه من الاتحاد ذاتاً، فالعقل بالتعمّل یحلل النوع، الشَرح:

وأمّا علی تقدیر کونه خاصّة ؛ فلأنّ الخاصّة خارجة عن الذات وذاتیاتها کما فی سائر العرضیّات ، فکیف تکون الذات بذاتیاتها داخلة فیها ؟

واستدل أیضاً علی بساطة معنی المشتق بمعنی عدم دخول الشیء فی معناه مفهوما ومصداقا ، بضرورة عدم تکرار الموصوف فی مثل زید الکاتب ، مع أن_ّه یلزم التکرار من دخول الشیء فی معنی الکاتب مفهوما أو مصداقا ، ولکن لا یخفی أنّ لزوم التکرار فی المثال وما شابهه إنّما هو علی تقدیر أخذ مصداق الشیء فی معنی المشتق ، وأمّا بناءً علی أخذ مفهومه فیه ، فالشیء المقید بأنّ له الکتابة لیس تکرارا للإنسان ، نعم یلزم التکرار فی مثل قول القائل «الماء شیء بارد بالطبع» کما لا یخفی .

[1] أقول : لا ریب فی إمکان انحلال معنی المشتق بحسب التحلیل العقلی ، فإنّه لا یقلّ عن مبدئه وعن سائر الجوامد کالانسان والحجر وغیرهما ممّا هو قابل للتحلیل العقلی ، وإنّما الکلام فی انحلال معنی المشتق إلی مفهوم الشیء أو مصداقه ، بحیث یکون مفهومه أو مصداقه جزءا لما ینحلّ إلیه معناه . وأمّا من ذهب إلی بساطة معناه واستدلّ علیه بما تقدّم من المحقّق الشریف ، أو بأنّ الشیء معنیً

ص :252

ویفصله إلی جنس وفصل، بعد ما کان أمراً واحداً إدراکاً، وشیئاً فارداً تصوراً، فالتحلیل یوجب فتق ما هو علیه من الجمع والرتق.

الثانی: الفرق بین المشتق ومبدئه مفهوماً، أن_ّه بمفهومه لا یأبی عن الحمل علی ما تلبس بالمبدأ [1]، ولا یعصی عن الجری علیه، لما هما علیه من نحو من الاتحاد، بخلاف المبدأ، فإنّه بمعناه یأبی عن ذلک، بل إذا قیس ونسب إلیه کان الشَرح:

إسمی فلا یدخل فی معنی الهیئة لأن معناها حرفی وقد تقدّم التصریح عن المحقّق النائینی قدس سره بأنّ الفرق بین المشتق ومبدئه أنّ معنی المشتق بعینه معنی المبدأ ، إلاّ أنّ الهیئة فی المشتق تدلّ علی جهة اتّحاده مع الذات فهو لا یمکنه الالتزام بانحلال معناه البسیط إلی الذات مفهوما ومصداقا ، فکیف ینحلّ معناه بالتحلیل العقلی إلیه ؟ مع أنّ الانحلال عبارة عن : فتق معنی اللفظ ، کانحلال الإنسان إلی حیوان ناطق ، وکذا انحلال سائر الأنواع إلی الجنس والفصل .

لا یقال: کیف ینحلّ الإنسان إلی ما له الإنسانیة ، والحجر إلی ما له الحجریة ، وکذا غیرهما من الأنواع ، مع أنّ مفهوم ما والشیء واحد ؟

فإنّه یقال : لو أُرید بالشیء الإشارة الی الهیولی والمادّة القابلة للصور فهو صحیح ، فإنّ الأنواع من الجواهر ، لها أجزاء خارجیة هی الهیولی والصورة ، وأجزاء عقلیة هی الجنس والفصل ، ولو أُرید أنّ مفهوم الشیء بنفسه یدخل فی معنی الأنواع، فهو غیر ممکن؛ لأنّ المفهوم والعنوان العرضی لا یکون مقوما للذات .

نعم معنی المشتق عنوان عرضی فلا مانع من دخول مفهوم الشیء والذات فیه ، وذلک هو المصحّح لحمل المشتق علی الذات .

[1] کأنّ مراده قدس سره أنّ للمشتق معنیً ، وذلک المعنی باعتبار اتّحاده مع الذات

ص :253

غیره، لا هو هو، وملاک الحمل والجری إنما هو نحو من الاتحاد والهوهویة، وإلی هذا یرجع ما ذکره أهل المعقول فی الفرق بینهما، من أنّ المشتق یکون لا بشرط والمبدأ یکون بشرط لا، أی یکون مفهوم المشتق غیر آبٍ عن الحمل، ومفهوم المبدأ یکون آبیاً عنه، وصاحب الفصول رحمه الله _ حیث توهم أن مرادهم إنّما هو بیان الشَرح:

بنحو من الاتّحاد ، لا یأبی عن الحمل علیها ، بخلاف المبدأ ، فإنّ له معنیً غیر معنی المشتق ، ویکون فی نفسه آبیا عن حمله علی الذات ؛ لعدم اتّحاده معها بوجهٍ ، بل إذا قیس معناه إلی الذات یری أنه غیرها مفهوما وخارجا ، وملاک الحمل هو الاتّحاد فی موطنٍ ما ، من ذهنٍ أو خارجٍ .

وهذا هو مراد أهل المعقول ممّا ذکروه فی مقام التفرقة بین المشتق ومبدئه ، من أنّ المشتق مفهومه لا بشرط ، بخلاف المبدأ فإنّه بشرط لا ، ومرادهم لا بشرط وبشرط لا بالإضافة إلی الحمل ، لا أنّ کلیهما موضوع لمعنیً واحد ، غایة الأمر لوحظ ذلک المعنی فی أحدهما لا بشرط وفی الآخر بشرط لا لیکون تغایر المعنیین بالعرض لا بالذات .

ولکن زعم صاحب الفصول قدس سره أنّ أهل المعقول یرون اتّحاد المشتق ومبدئه بالذات ویفرّقون بینهما بلا بشرط وبشرط لا بالعرض ، فالتفرقة بینهما عرضی وأنّهم یقولون بأنّ مفهوم المشتق بعینه مفهوم المبدأ لا أن_ّه مفهوم آخر ، فأورد علیهم بأنّ مفهوم العلم مثلاً غیر قابل للحمل علی الذوات حتّی وإن لوحظ لا بشرط بالإضافة إلی ما هو خارج عنه(1).

ولم یتفطّن إلی أنّ مرادهم هو عین ما ذکره من أنّ معنی المشتق فی نفسه، غیر

ص :254


1- (1) الفصول الغرویة : ص50 .

التفرقة بهذین الاعتبارین، بلحاظ الطوارئ والعوارض الخارجیة مع حفظ مفهوم واحد _ أورد علیهم بعدم استقامة الفرق بذلک، لأجل امتناع حمل العلم والحرکة علی الذات، وإن اعتبرا لا بشرط، وغفل عن أن المراد ما ذکرنا، کما یظهر منهم من بیان الفرق بین الجنس والفصل، وبین المادة والصورة، فراجع.

الشَرح:

معنی المبدأ، وذلک المعنی قابل للحمل علی الذوات بخلاف معنی المبدأ فإنّه معنی آخر فی نفسه وعاص عن الحمل، فاعتبار اللابشرطیة الذاتیة فی معنی المشتق والبشرط لا الذاتیة فی معنی الذات إنّما هو بالإضافة إلی الحمل علی الذات کما لا یخفی. ویتّضح ذلک بملاحظة کلام أهل المعقول فی الفرق بین الجنس والمادة وبین الفصل والصورة، بأنّ الجنس والفصل لا بشرط، فیحمل أحدهما علی الآخر وعلی النوع، بخلاف الهیولی والصورة فإنّهما بشرط لا، فلا یحمل أحدهما علی الآخر.

وبیان ذلک علی الاختصار أنّ العقل یلاحظ الشیء تارةً ویقایسه إلی سائر الأشیاء ، فیری أنّ له معها جهة اشتراک یکشفها اشتراکها فی بعض الآثار فتکون الجهة المشترکة بینها جنسا ، کما یری أنّ له جهة امتیاز عن غیره ، فیکون ذلک فصلاً ، وأُخری یلاحظ الشیء بحسب مراتب وجوده وسیره بصوره النوعیة ، فیری أنّ فی جمیع المراتب جهة باقیة إلی المرتبة التالیة ، لا أنّ الشیء ینعدم من أصله وتحصل المرتبة التالیة من العدم المحض ، فتلک الجهة الباقیة یعبّر عنها بالهیولی والقوّة القابلة وتکون فعلیّتها بأمرٍ آخر یعبّر عنه بالصورة ، فالصورة والهیولی جزءان خارجیان للجسم بحسب ملاحظة مراتب وجوده .

والجنس والفصل جزءان له _ بحسب التحلیل العقلی _ فی مقام مقایسته إلی سائر الأشیاء ، ویصح حمل الجنس علی الفصل وبالعکس ، وحمل کلّ منهما علی النوع ، فیکون کلّ منهما بالإضافة إلی الحمل لا بشرط ، بخلاف الهیولی والصورة ،

ص :255

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فإنّه لا یصحّ حمل أحدهما علی الآخر ، بل وحتّی حمل کلّ منهما علی الجسم الخارجی ، فیکون کلّ منهما بالإضافة إلی الحمل بشرط لا ، ولیس مراد أهل المعقول أنّ الجنس بعینه هو الهیولی والفرق بینهما بالاعتبار ، وکذلک الفصل مع الصورة .

والحاصل أنّ کلاًّ من الهیولی _ أی المادة القابلة _ والصورة متقابلان بالذات ، فلایحمل أحدهما علی الآخر ، بخلاف الجنس والفصل ، فإنّ کلاًّ منهما أخذ للشیء بلحاظ مقابلته مع سائر الأنواع ، فیکون کلّ منهما بالإضافة إلی الآخر لا بشرط ذاتا ، فیحمل أحدهما علی الآخر لاتّحادهما خارجا .

وذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره بعد قوله «فإن قلت : فما وجه حمل الجنس علی الفصل والفصل علی الجنس ، مع أنّ طبیعة الجنس فی الخارج غیر طبیعة الفصل ؟ وهل المصحّح إلاّ الاعتبار اللابشرطی» ، ما حاصله : أنّ الترکیب بین الجنس والفصل اتحادی لا انضمامی ؛ لأنّ المرکبات الحقیقیة لابدّ لها من جهة وحدة حقیقیة ، وإلاّ کان المرکّب اعتباریا والوحدة الحقیقیة لا تکون الاّ إذا کان أحد الجزئین بالقوة والآخر بالفعل ، فإنّه لو کان کلّ منهما فعلیا ، لکانت کلّ فعلیّة تأبی عن الأُخری .

وإذا کان أحد الجزئین بالفعل والآخر بالقوة لم یکن فی البین إلاّ جعل واحد ، فیکون الجزئین بجعل واحد ، فإنّه لو فرض أنّ کلاًّ من الجزئین مجعول مستقلّ لما کان فی المرکّب وحدة حقیقیة ، وإذا کان الجزءان مجعولین بجعلٍ واحد ، لکان أحد الجزئین _ أی الأصل _ مجعولاً بالذات والآخر بالتبع ، حتّی تصحّ نسبة الجعل إلی الجزئین مع فرض وحدة الجعل حقیقة ، وعلی ذلک یکون مرور الفیض _ أی فیض الوجود _ من الأصل إلی التابع _ أی من الصورة إلی المادة أو من الفصل إلی الجنس _ .

ثمّ ذکر قدس سره أنّه بذلک تبیّن الفرق بین الجنس والفصل ، وبین العرض ومعروضه ،

ص :256

الثالث: ملاک الحمل _ کما أشرنا إلیه _ هو الهوهویة والاتحاد [1] من وجه، الشَرح:

فإنّ الترکیب فی الثانی اعتباری فیکون کل من العرض والمعروض بالإضافة إلی الآخر بشرط لا ذاتا ، بخلاف الجنس والفصل ، کما تبیّن معنی اتحاد الجنس والمادة واتحاد الفصل والصورة ذاتا واختلافهما بالاعتبار ، حیث إنّ مبدأ الجنس الطبیعی إذا لوحظ بما له من الوجود الساری یکون مادة ولم یحمل علی الفصل ، وإذا لوحظ اتّحادهما فی الوجود الساری یکون جنسا ویصح الحمل علیه . انتهی ما أردنا إیراده من کلامه قدس سره فی المقام(1) .

أقول : ظاهر کلامه اتّحاد الجنس مع المادة ذاتا ، وکذا اتّحاد الفصل مع الصورة ، وإنّما یکون الاختلاف بینهما بالاعتبار ، فإنّه إذا لوحظ مبدأ الجنس الطبیعی بما له من الوجود الساری ، یکون مادّة لا یحمل علیه الفصل ، کما أن_ّه إذا لوحظ اتّحادهما فیالوجود الساری صحّ الحمل وکان جنسا ، ولکن قد تقدّم أنّ کون شیء جنسا لطبیعیّ وشیء آخر فصلاً له ، أمر یدرکه العقل بالإضافة إلی الطبائع الأُخر ، بخلاف کون شیء مادة له خارجا ، وشیء آخر صورة له ، فإنّه بملاحظة مراتب وجود الطبیعی ، فکلّ منهما غیر الآخر ذاتا ، ولکن مع ذلک ظاهر کلام أهل المعقول فی المشتق ، وکذا فی التفرقة بین الجنس والمادة ، والفصل والصورة ، هو عدم الاختلاف الذاتی ، وکلام بعضهم کالصریح فی أنّ الجنس هو المادة عیناً والاختلاف بالاعتبار ، کما تقدّم فی کلام المحقّق الأصفهانی قدس سره .

[1] ذکر صاحب الفصول قدس سره أنّ مصحّح الحمل إما اتّحاد الموضوع والمحمول حقیقة وتغایرهما اعتبارا ، کما فی (الإنسان حیوان ناطق) ، وإمّا تغایرهما حقیقة

ص :257


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 228 .

والمغایرة من وجه آخر، کما یکون بین المشتقات والذوات، ولا یعتبر معه ملاحظة الترکیب بین المتغایرین، واعتبار کون مجموعهما _ بما هو کذلک _ واحداً، بل یکون لحاظ ذلک مخلاً، لاستلزامه المغایرة بالجزئیة والکلّیة.

الشَرح:

واتّحادهما اعتبارا ، کما فی قولنا : (الإنسان ناطق) أو (الإنسان جسم) فإنّ الإنسان لایتّحد مع الجسم أو الناطق مفهوما کما هو واضح ، ولا وجودا فلابدّ فی مثل ذلک من ملاحظة الترکیب واعتباره فی ناحیة الموضوع ، بأن یراد من الموضوع مجموع أمرین یصدق علی ذلک المجموع ، المحمول الملحوظ بنحو لا بشرط(1) .

وأورد علی ذلک الماتن قدس سره بأنّه فی موارد الحمل یکون الموضوع والمحمول متّحدین حقیقة ، ومختلفین بالاعتبار ، کما فی المشتقات بالإضافة إلی الذوات ، وحتّی فی مثل (الإنسان جسم) أو (ناطق) حیث إنّ الإنسان خارجا هو الجسم أو الناطق کما تقدّم فی الأمر السابق ، ومع هذا الاتحاد لا موجب لملاحظة الترکیب فی ناحیة الموضوع ، بل یکون لحاظه مخلاًّ بالحمل ؛ لأن_ّه یوجب المغایرة بین الموضوع ومحموله بالکلّ والجزء ، بأن یکون الموضوع مثلاً مجموع الجسم والروح ویحمل علیه الناطق لا بشرط ، مع أنّ من الواضح عدم ملاحظة الترکیب فی موضوعات القضایا المستعملة فی مقام التحدید بالفصل أو الخاصة وغیرها ، ضرورة أنّه لا یلاحظ فی القضایا فی طرف الموضوعات إلاّ مفاهیمها ، کما هو الحال فی ناحیة المحمولات ، وإنّما یحمل المحمول علی الموضوع لاتّحادهما من وجه مع تغایرهما بنحو من الاعتبار .

وبعبارةٍ أُخری : یعتبر فی حمل شیءٍ علی شیء أمران :

ص :258


1- (1) الفصول الغرویة : ص50 .

ومن الواضح أنّ ملاک الحمل لحاظ نحو اتحاد بین الموضوع والمحمول، مع وضوح عدم لحاظ ذلک فی التحدیدات وسائر القضایا فی طرف الموضوعات، بل لا یلحظ فی طرفها إلاّ نفس معانیها، کما هو الحال فی طرف المحمولات، ولا یکون حملها علیها إلاّ بملاحظة ما هما علیه من نحو من الاتحاد، مع ما هما علیه من المغایرة ولو بنحو من الاعتبار.

الشَرح:

الاوّل: أن یکون بین الموضوع والمحمول مغایرة ما ، لئلاّ یلزم حمل الشیء علی نفسه أو قیام النسبة بین الشیء ونفسه ، فالحمل یقتضی التغایر بین الموضوع والمحمول لیکون هذا موضوعا وذاک محمولاً .

والثانی: أن یکون بینهما نحو من الاتّحاد لیصحّ حمل الثانی علی الأوّل ، وعلی ذلک فقد یکون الاتحاد والتغایر کلاهما فی مقام الذات والمفهوم ، کتحدید الإنسان بأنّه حیوان ناطق ، حیث إنّ التغایر بین الموضوع والمحمول بالإجمال والتفصیل مع اتّحادهما ذاتا ومفهوما ، فیکون الحمل أولیّا ذاتیّا ، وقد یکون التغایر بالمفهوم ، والاتحاد بحسب الوجود ، فالحمل فیه شائع صناعی ، کما فی حمل الناطق أو الجسم علی الإنسان الخارجی ، ومن هذا القبیل حمل المشتق علی الذات ، مثل (الإنسان کاتب) أو (زید ضارب) ، فلو کان بین الشیئین تغایر بحسب الذات والمفهوم ، وبحسب الوجود مطلقا ، ذهنا وخارجا ، لم یکن للحمل مصحّحٌ ، کما فی قولنا : (زید علم) أو (أن_ّه ضرب) أو غیر ذلک .

وقد أضاف صاحب الفصول قدس سره علی ملاک الحمل أمرا آخر، وهو أن یکون بین الموضوع والمحمول تغایر ذاتا ووجودا، واتّحاد اعتبارا، ومثّل لذلک بقوله (الإنسان ناطق) أو (جسم)(1)، وعبارة الماتن قدس سره فی الأمر الثالث: «ولا یعتبر معه ملاحظة

ص :259


1- (1) الفصول الغرویة : ص50 .

فانقدح بذلک فساد ما جعله فی الفصول تحقیقاً للمقام. وفی کلامه موارد للنظر، تظهر بالتأمل وإمعان النظر.

الرابع: لا ریب فی کفایة مغایرة المبدأ مع ما یجری المشتق علیه مفهوماً [1]، الشَرح:

الترکیب بین المتغایرین واعتبار کون مجموعهما بما هو کذلک واحدا»(1) ناظرة إلی الجواب عنه، وأنّه بعد ما ثبت أنّ اتّحاد الفصل مع الجنس فی الخارج حقیقی لا انضمامی، فلا موجب لملاحظة الترکیب فی مثل (الإنسان ناطق) أو (جسم) أو غیر ذلک.

[1] الصفات الجاریة علی الواجب (جلّ وعلا) المسمّاة بصفات الذات ، فیها جهتان من الإشکال :

الأُولی: أنّ الذات المأخوذة فی معنی المشتق علی القول بالترکیب ، والخارجة عنه علی القول الآخر ، زائدة علی المبدأ ، فیلزم کون المبدأ زائدا علی ما یحمل علیه معنی المشتق ، لینطبق علیه معنی المشتق باعتبار المبدأ ، مع أنّ عنوانی العالم والقادر یحملان علی ذات الحق (جلّ وعلا) ومبادئها لیست زائدة علی ذاته المقدّسة علی مذهب الحق .

والثانیة: أنّ المعتبر فی معنی المشتق، انتساب المبدأ إلی الذات وقیامه بها، والعلم والقدرة لیسا کذلک فی ذاته المقدّسة، فإنّهما لیسا بعرضین لیقوما به، وعلی ذلک یقع الکلام فی أن_ّه کیف تحمل هذه العناوین المشتقّة علی ذاته تعالی؟

وأجاب الماتن قدس سره عن الجهة الاولی فی هذا الأمر، وعن الجهة الثانیة فی الأمر الآتی، وحاصل ما ذکره فی الجهة الأُولی: أنّه لا یعتبر فیما یجری علیه عنوان المشتق، إلاّ تغایره مع المبدأ مفهوما لا تغایره معه وجودا، وبما أنّ مفهوم العلم

ص :260


1- (1) الکفایة : ص56 .

وإن اتحدا عیناً وخارجاً، فصدق الصفات _ مثل: العالم، والقادر، والرحیم، والکریم، إلی غیر ذلک من صفات الکمال والجلال _ علیه تعالی، علی ما ذهب إلیه أهل الحق من عینیة صفاته، یکون علی الحقیقة، فإنّ المبدأ فیها وإن کان عین ذاته تعالی خارجاً، إلاّ أنّه غیر ذاته تعالی مفهوماً.

ومنه قد انقدح ما فی الفصول، من الإلتزام بالنقل أو التجوز فی ألفاظ الصفات الشَرح:

والقدرة مغایر لذات الحق (جل وعلا) فلا إشکال فی حمل عنوان العالم والقادر علیه سبحانه.

وما فی الفصول من أنّ الصفات الجاریة علیه (سبحانه) منقولة عن معانیها الأوّلیّة ، أو مستعملة فی غیرها مجازا ، وبتلک المعانی المنقولة إلیها أو المجازیة تحمل علیه (سبحانه)(1) لا یمکن المساعدة علیه ، حیث لا ملزم لما التزم به ، بعد عدم مغایرة المبدأ مع الذات وجودا .

أقول : لا یعتبر فی صدق المشتق وحمله علی الذات مغایرتها مع المبدأ حتّی مفهوما، وآیة ذلک صدق المنیر علی النور، والموجود علی الوجود ونحوهما، والوجه فی ذلک أنّ الذات المأخوذة فی معنی المشتق أمرٌ مبهم سیّال حتّی فی نفس المبدأ.

والحاصل : أنّه لا یعتبر فی حمل المشتق تغایر المبدأ مع الذات المحمول علیها حتّی مفهوما ، بل ولا تغایره مع معنی المشتق ولو اعتبارا .

وقد یورد علی ما ذکرنا _ من عدم اعتبار المغایرة وأنّ الذات المأخوذة فی معنی المشتق مبهمة تصدق علی نفس المبدأ _ بأنّه یلزم صدق الضارب علی الضرب ، والقاتل علی القتل ، إلی غیر ذلک ، مع أنّ قول القائل (الضرب ضارب)

ص :261


1- (1) الفصول الغرویة : ص50 .

الجاریة علیه تعالی، بناءً علی الحق من العینیة، لعدم المغایرة المعتبرة بالإتفاق، وذلک لما عرفت من کفایة المغایرة مفهوماً، ولا اتفاق علی اعتبار غیرها، إن لم نقل بحصول الإتفاق علی عدم اعتباره، کمالا یخفی، وقد عرفت ثبوت المغایرة کذلک بین الذات ومبادئ الصفات.

الشَرح:

غلط فاحش ، ولکن لا یخفی أنّ الذات المبهمة لیست تمام المدلول بحیث ینطبق معناه علی نفس المبدأ فی کلّ مورد ، بل یعتبر فی بعض المشتقات _ بمقتضی مبادئها _ التلبّس بنحوٍ خاصّ ، أی صدورا أو نحوه ، والذات المأخوذة بهذه الخصوصیة لا تنطبق علی الضرب والقتل ونحوهما .

ولکن یرد علی الماتن قدس سره بأنّ ما ذکره فی هذا الأمر إبطال لما تقدّم منه سابقا فی الفرق بین المشتق ومبدئه ، من کون الأوّل لا بشرط بالإضافة إلی الحمل ، والثانی بشرط لا ، فإنّ مقتضی ذلک عدم صحّة حمل العلم والقدرة والح_یاة علی ذات الح_ق (جلّ علا) ، مع أن_ّه قد ذکر فی هذا الأمر أنّ اتّحاد المبدأ فی القادر والعالم مع ذات الحق (عزّ وجلّ) حقیقی ، والتغایر اعتباری ، ولازم ذلک صحّة حمل ذات المبدأ علی ذاته سبحانه ، وهذا یتنافی مع کونه بشرط لا بالإضافة إلی الحمل علی الذات .

اللهم إلاّ أنّ یراد من بشرط لا ، عدم أخذ الذات فی معنی المبدأ ، فلا یتّحد مع الذات فی کلّ مورد یتّحد معه مفهوم المشتق مع الذات .

ثمّ لا یخفی أنّ الإشکال فی المقام والجواب عنه یجریان فی خصوص صفات الذات ، ولا یعمّان مثل الرحیم والکریم ونحوهما من صفات الأفعال ، فلا موجب فیها بالالتزام باتّحاد المبدأ مع الذات عینا وتغایرهما مفهوما ، کما هو ظاهر الماتن قدس سره ، حیث جعل صفات الذات (المعبّر عنها بصفات الکمال) مع صفات

ص :262

الخامس: إنّه وقع الخلاف بعد الاتفاق علی اعتبار المغایرة [1] _ کما عرفت _ بین المبدأ وما یجری علیه المشتق، فی اعتبار قیام المبدأ به، فی صدقه علی نحو الحقیقة، وقد استدلّ من قال بعدم الإعتبار، بصدق الضارب والمؤلم، مع قیام الضرب والألم بالمضروب والمؤلم _ بالفتح _ .

الشَرح:

الأفعال (المعبّر عنها بصفات الجمال) سواء فی الإشکال والجواب .

[1] حاصل ما ذکره قدس سره فی المقام أنّه بعد الاتفاق علی لزوم المغایرة بین المبدأ وما یحمل علیه المشتق مفهوما، یقع الکلام فی أنّه هل یعتبر فی حمل المشتق علی الذات قیام المبدأ بها، لیکون صدق المشتق علیها علی نحو الحقیقة، أو لا یعتبر ذلک؟

وقد استدلّ من قال بعدم الاعتبار بصدق الضارب والمؤلم علی الذات مع قیام الضرب والألم بالمضروب .

ولکن لا ینبغی التأمّل فی اعتبار تلبّس الذات بالمبدأ فی صدق المشتق علیها حقیقة ، إلاّ أنّ التلبّس لا ینحصر بقیام المبدأ بالذات قیام العرض بمعروضه ، بل للتلبّس أنحاءٌ ، والقیام بها أحد أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارةً ، واختلاف الهیئات أُخری من القیام صدورا ، أو حلولاً ، أو وقوعا علیه ، أو فیه ، وانتزاع المبدأ عن الذات مفهوما مع اتّحاده معها خارجا من أحد أنحاء التلبّس ، حیث إنّ العینیة الخارجیّة نحو من أنحاء التلبّس ، ضرورة أنّ کون الشیء واجدا لنفسه أقوی من کونه واجدا لغیره ، وأیضاً من أنحاء التلبّس ما إذا کانت الذات متّصفة بالمبدأ خارجا ، ولکن لم یکن فی الخارج بإزاء المبدأ وجود ، بأن یکون المبدأ أمرا اعتباریا عقلیا أو عقلائیا، کما فی حمل الواجب والممکن علی الذات خارجا أو حمل الزوج والزوجة علیها ، فیکون من خارج المحمول فی مقابل المحمول بالضمیمة الذی یکون بإزاءه وجود ، کما فی حمل الأبیض أو الأحمر علی الجسم الخارجی .

ص :263

والتحقیق: إنّه لا ینبغی أن یرتاب من کان من أولی الألباب، فی أنّه یعتبر فی صدق المشتق علی الذات وجریه علیها، من التلبس بالمبدأ بنحو خاص، علی اختلاف أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارة، واختلاف الهیئات أخری، من القیام صدوراً أو حلولاً أو وقوعاً علیه أو فیه، أو انتزاعه عنه مفهوماً مع اتحاده معه خارجاً، کما فی صفاته تعالی، علی ما أشرنا إلیه آنفاً، أو مع عدم تحققٍ إلاّ للمنتزع عنه، کما فی الإضافات والإعتبارات التی لا تحقق لها، ولا یکون بحذائها فی الشَرح:

وعلی ذلک فلا یبقی إشکال فی صفات الذات الجاریة علی ذات الحق (جلّ وعلا) ، حیث یکون المبدأ مغایرا له (سبحانه) مفهوما ، ومتحدا معه عینا ، وقد تقدّم أنّ هذا أحد أنحاء التلبّس ، فیکون حمل العالم والقادر علیه (سبحانه) حقیقة ، حیث لم یعتبر فی صدقها إلاّ التلبّس بمبدأ العلم والقدرة ، لا التلبّس بهما بنحو قیام العرض بمعروضه ، وعدم اطلاع العرف علی التلبّس العینی لا یضرّ بکون انطباقهما علیه (تعالی) بنحو الحقیقة ، فإنّ نظر العرف متبع فی تشخیص معنی اللفظ ، وأمّا أنّ انطباقه علی مورد بنحو الحقیقة ، بعد وضوح المفهوم ، فالمتبع فیه نظر العقل .

أقول : کان ینبغی للماتن قدس سره أن یضیف إلی اختلاف أنحاء التلبّس اختلاف الذوات ، فإنّ اختلافها کاختلاف المبادئ والهیئات .

ثمّ ذکر قدس سره أن_ّه لا مجال لدعوی صاحب الفصول قدس سره أنّ الصفات الجاریة علیه (سبحانه) منقولة ، أو مستعملة فی غیر معانیها اللغویة مجازا ؛ ولذا لا تصدق علی غیره (سبحانه) وتکون أسمائه تعالی توقیفیة .

والوجه فیه ، مضافا إلی ما ذکر من صدقها علیه (سبحانه) بما لها من المعانی لغة ، أنّ النقل أو التجوّز یوجب کون تلک الألفاظ مجرّد لقلقة وألفاظا بلا إرادة المعنی ، فإنّ معانیها المنقولة إلیها ، أو المستعملة فیها مجازا ، مجهولة لنا .

ص :264

الخارج شیء، وتکون من الخارج المحمول، لا المحمول بالضمیمة، ففی صفاته الجاریة علیه تعالی یکون المبدأ مغایراً له تعالی مفهوماً، وقائماً به عیناً، لکنه بنحو من القیام، لا بأن یکون هناک اثنینیة، وکان ما بحذائه غیر الذات، بل بنحو الاتحاد والعینیة، وکان ما بحذائه عین الذات، وعدم اطلاع العرف علی مثل هذا التلبس من الأمور الخفیة لا یضر بصدقها علیه تعالی علی نحو الحقیقة، إذا کان لها مفهوم صادق علیه تعالی حقیقة، ولو بتأمل وتعمّل من العقل. والعرف إنما یکون مرجعاً فی تعیین المفاهیم، لا فی تطبیقها علی مصادیقها.

وبالجملة: یکون مثل العالم، والعادل، وغیرهما _ من الصفات الجاریة علیه تعالی وعلی غیره _ جاریة علیهما بمفهوم واحد ومعنی فارد، وإن اختلفا فیما یعتبر فی الجری من الاتحاد، وکیفیة التلبس بالمبدأ، حیث إن_ّه بنحو العینیة فیه الشَرح:

والعجب أنّه جعل نقل الصفات أو التجوّز فیها علّة لعدم جواز إطلاقها علی غیره (سبحانه) ، مع أنّ إطلاق عالم وقادر وحیّ علی غیره (سبحانه) شائع .

أقول : قد تقدّم فی الأمر السابق عدم اعتبار مغایرة المبدأ مع الذات المحمول علیها عنوان المشتق حتّی مفهوما ، ولو کانت العینیة الخارجیة مصحّحة للتلبّس المعتبر فی معنی العالم والقادر لانطبق معناهما علی نفس القدرة والعلم ، ولصحّ قول القائل (علمه عالم) و(قدرته قادرة) وعدم مقبولیة هذا الحمل فی أذهان العامة لم ینشأ إلاّ من عدم التفاتهم إلی التلبّس بنحو العینیة .

ولا نرید بذلک أنّ عنوانا من العناوین إذا کان محکوما بحکم شرعی یثبت ذلک الحکم لکلّ ما یراه العقل مصداقا له ، وإن لم یکن مصداقا بنظر العرف ، فإنّ الخطابات الشرعیة متوجّهة إلی العرف ، فما یفهمه العرف من الموضوعات الواردة فیها یکون هو المراد منها .

ص :265

تعالی، وبنحو الحلول أو الصدور فی غیره، فلا وجه لما التزم به فی الفصول، من نقل الصفات الجاریة علیه تعالی عما هی علیها من المعنی، کما لا یخفی، کیف؟ ولو کانت بغیر معانیها العامة جاریة علیه تعالی کانت صرف لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنی، فإن غیر تلک المفاهیم العامة الجاریة علی غیره تعالی غیر مفهوم ولا معلوم إلاّ بما یقابلها، ففی مثل ما إذا قلنا: إنّه تعالی عالم، إما أن نعنی أنّه من ینکشف لدیه الشیء فهو ذاک المعنی العام، أو أنّه مصداق لما یقابل ذاک المعنی، فتعالی عن ذلک علواً کبیراً، وإمّا أن لا نعنی شیئاً، فتکون کما قلناه من کونها صرف اللقلقة، وکونها بلا معنی، کما لا یخفی.

والعجب أنّه جعل ذلک علة لعدم صدقها فی حق غیره، وهو کما تری، وبالتأمل فیما ذکرنا، ظهر الخلل فیما استدلّ من الجانبین والمحاکمة بین الطرفین، فتأمل.

السادس: الظاهر أن_ّه لا یعتبر فی صدق المشتق وجریه علی الذات حقیقة، التلبس بالمبدأ [1]

الشَرح:

وأمّا ما ذکره الماتن قدس سره _ من الاستدلال علی عدم النقل والتجوّز من أن_ّه لو کانت الصفات الجاریة علیه (سبحانه) منقولة ، أو مستعملة فی غیر معانیها الأصلیة لکانت لقلقة اللسان وألفاظا بلا معنی _ فلا یمکن المساعدة علیه ، فإنّ کون تلک المعانی معلومة بالإجمال یکفی فی خروجها عن مجرد لقلقة اللسان ، وکون تلک الصفات عین ذات الواجب (جلّ وعلا) مما یوجب الإشارة إلی معانیها ولو بالإجمال .

[1] وحاصله أنّ استعمال المشتق فی معناه أمرٌ ، وتطبیق ذلک المعنی علی شیء أمرٌ آخر ، وفیما کان الشیء غیر متلبّس بالمبدأ حقیقة ، بل کان التلبّس فی غیره حقیقة یکون المجاز فی تطبیق معنی المشتق وإسناده إلی الشیء الأوّل لا فی

ص :266

حقیقة وبلا واسطة فی العروض، کما فی الماء الجاری، بل یکفی التلبس به ولو مجازاً، ومع هذه الواسطة، کما فی المیزاب الجاری، فاسناد الجریان إلی المیزاب، وإن کان إسناداً إلی غیر ما هو له وبالمجاز، إلاّ أن_ّه فی الاسناد، لا فی الکلمة، فالمشتق فی مثل المثال، بما هو مشتق قد استعمل فی معناه الحقیقی، وإن کان مبدؤه مسنداً إلی المیزاب بالإسناد المجازی، ولا منافاة بینهما أصلاً، کما لا یخفی، ولکن ظاهر الفصول بل صریحه، اعتبار الإسناد الحقیقی فی صدق المشتق حقیقة، وکأنّه من باب الخلط بین المجاز فی الإسناد والمجاز فی الکلمة، وهذا _ هاهنا _ محل الکلام بین الأعلام، والحمد للّه، وهو خیر ختام.

الشَرح:

استعمال المشتق فی معناه ، کما فی قوله (المیزاب جارٍ) .

وبتعبیرٍ آخر : یکون المجاز فی الإسناد لا فی الکلمة ، فإنّ المجاز فی الکلمة عبارة عن استعمالها فی غیر ما وضعت له ، والمشتق فی موارد المجاز فی الإسناد لا یستعمل فی غیر معناه الموضوع له ، بل یکون تطبیق ذلک المعنی الموضوع له علیه بالعنایة ، فما عن صاحب الفصول قدس سره من اشتراط تلبّس الذات بالمبدأ فی استعمال المشتق حقیقة(1) غیر صحیح .

أقول : عبارة الماتن لا تخلو عن التعقید والاضطراب ، والمراد ما ذکرنا ، فإنّ المراد من قوله «حقیقة» لیس قیدا للصدق والجری ، بل قید للمشتق ، أی لا یعتبر فی حمل المشتق بمعناه الحقیقی علی الذات ، تلبّس تلک الذات بالمبدأ حقیقة ، بل یکفی تلبّسها بالعنایة ، فیکون الإسناد مجازیا .

ص :267


1- (1) الفصول الغرویة : ص50 .

ص :268

المقصد الأوّل: فی الأوامر

اشارة

ص :269

الفصل الأوّل: مادة الأوامر

اشارة

وفیه فصول:

الأول: فیما یتعلّق بمادة الأمر من الجهات، وهی عدیدة:

الأولی: إنّه قد ذکر للفظ الأمر معانٍ متعددة [1]، منها الطلب، کما یقال، أمره بکذا.

ومنها الشأن، کما یقال: شغله أمر کذا.

ومنها الفعل، کما فی قوله تعالی: «وما أمر فرعون برشید».

ومنها الفعل العجیب، کما فی قوله تعالی: «فلما جاء أمرنا».

ومنها الشیء، کما تقول: رأیت الیوم أمراً عجیباً.

ومنها الحادثة، ومنها الغرض، کما تقول: جاء زید لأمر کذا.

الشَرح:

معنی مادة الأمر

[1] ذکر للفظ «الأمر» معانٍ عدیدة :

منها : الطلب ، فیقال : أمره فلان بکذا.

ومنها : الشأن والمراد به الحال مطلقاً، أو فیما کان خطیرا فیقال: (شغله أمر کذا).

ومنها : الفعل ، کما فی قوله سبحانه «وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِیْدٍ»(1) .

ص :270


1- (1) سورة هود : الآیة 97 .

ولا یخفی أن عدّ بعضها من معانیه من اشتباه المصداق بالمفهوم، ضرورة أنّ الأمر فی (جاء زید لأمر) ما استعمل فی معنی الغرض، بل اللام قد دلّ علی الغرض، نعم یکون مدخوله مصداقه، فافهم، وهکذا الحال فی قوله تعالی «فلما جاء

الشَرح:

ومنها : الفعل العجیب ، کما فی قوله سبحانه «فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنا»(1) .

ومنها : الشیء ، کقولک : (رأیت أمرا عجیبا).

ومنها : الحادثة ، کقوله : (فلما وقع الأمر).

ومنها : الغرض ، کقوله (جئتک لأمرٍ).

وذکر الماتن قدس سره أنّ الظاهر عدم استعمال لفظ «أمر» فی جمیع هذه المعانی، بل عدّ بعضها من معانیه من قبیل اشتباه المصداق بالمفهوم؛ وذلک لأنّ لفظ «أمر» فی قولک (جاء زید لأمر کذا) استعمل فی معنی الشیء، واللاّم الداخلة علیه تدلّ علی أنّ الشیء المزبور مصداق للغرض، لا أنّ مدخول اللام استعمل فی معنی الغرض ومفهومه، وکذا استعمل فی قوله سبحانه «فَلَمّا جَاءَ أَمْرُنَا» فی معنی الشیء، لا فی معنی التعجّب. غایة الأمر أنّ الشیء المزبور مصداق للعجیب، وکذا الحال فی الحادثة والشأن.

فما عن صاحب الفصول قدس سره من أنّ لفظ «أمر» حقیقة فی المعنیین الأوّلین یعنی الطلب والشأن(2) غیر سدید ، حیث إنّ عدّ الشأن من معانیه من اشتباه المصداق بالمفهوم أیضاً ، فلا یبعد أن یکون مشترکا لفظا بین الطلب فی الجملة _ علی تفصیل یأتی _ وبین معنی الشیء .

ص :271


1- (1) سورة هود : الآیة 58 .
2- (2) الفصول الغرویة : ص51 .

أمرنا» یکون مصداقاً للتعجب، لا مستعملاً فی مفهومه، وکذا فی الحادثة والشأن.

وبذلک ظهر ما فی دعوی الفصول، من کون لفظ الأمر حقیقة فی المعنیین الأولین، ولا یبعد دعوی کونه حقیقة فی الطلب فی الجملة والشیء، هذا بحسب العرف واللغة.

الشَرح:

وذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّه لا إشکال فی کون لفظ «أمر» حقیقة فی الطلب ، وأمّا بقیة المعانی فکلّها راجعة إلی معنیً واحد ، وهی الواقعة التی لها أهمیة ، وهذا المعنی ینطبق علی الحادثة والغرض وغیرهما من المعانی(1).

ولکن فیه ؛ أوّلاً : أن_ّه لم یؤخذ فی معناه الأهمیة ، بل قد یوصف بعدم الأهمیة ، فیقال : (لا یهمّه الأمر الفلانی ، أو إن الأمر الفلانی لا أهمیّة له) ، ولو کان قید الأهمیة مأخوذا فی معناه ؛ لکان توصیفه بعدمها من توصیف الشیء بعدمه.

وثانیاً : أنّ الأمر یجمع علی نحوین ، فیصح إطلاق أحدهما علی الطلب ، ولا یصح إطلاق الآخر علیه، فمثلاً یطلق علی الطلب المتعدّد أوامر، ولا یطلق علیه الأمور، وکذا العکس. وأیضاً یصح الاشتقاق منه بمعنی الطلب، ولا یصح منه الاشتقاق بمعناه الآخر فلا یمکن أن یقال إنّ جمیع معانیه ترجع إلی معنیً واحد ، حتّی یکون مشترکا معنویا.

وعن السیّد الأُستاذ (رضوان اللّه تعالی علیه) أن_ّه مشترک بین الطلب فی الجملة وبین الفعل، الذی یعبّر عنه باللغة الفارسیة بلفظ (کار)، واختلاف جمعه باعتبار المعنیین، فإنّه بمعنی الطلب یجمع علی أوامر، وبمعنی الفعل یج_مع علی أُمور(2).

ص :272


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 86 .
2- (2) نهایة الأُصول : 1 / 75 .

وأما بحسب الإصطلاح، فقد نقل الإتفاق علی أنه حقیقة فی القول المخصوص [1]، ومجاز فی غیره، ولا یخفی أنه علیه لا یمکن منه الإشتقاق، فإن معناه _ حینئذ _ لا یکون معنی حدثیاً، مع أن الإشتقاقات منه _ ظاهراً _ تکون بذلک المعنی المصطلح علیه بینهم، لا بالمعنی الآخر، فتدبر.

الشَرح:

أقول : هذا الکلام أیضاً لا یمکن المساعدة علیه ، فإنّ لفظ «أمر» قد یستعمل فی موارد لا یصلح لشیء ممّا ذُکر ، کما یقال (البیاض أمر خارجی ، بخلاف الإمکان فإنّه أمر عقلی) کما أنّ ما ذکر فی الکفایة أیضاً غیر تامّ ، فإنّه لا یصحّ فی مثل قوله (سبحانه) «وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِیْدٍ» وضع لفظ الشیء مکانه.

فالحق فی المقام هو أنّه لایبعد کونه مشترکا فی کلّ من الطلب ، والشیء ، والعمل ، بنحو الاشتراک اللفظی ویعیّن المراد بالقرائن فی موارد الاستعمال.

وما یقال من أنّ الأمر لا یطلق علی الجواهر کما عن السید الاُستاذ (رضوان اللّه تعالی علیه)(1) ، لا یمکن المساعدة علیه أیضاً ؛ فإنّه یقال : (مفهوم الإنسان أمر ذهنی وواقعه أمر خارجی) .

[1] وحاصله أنّ لفظ «أمر» بحسب اصطلاح الاصولیین ، حقیقة فی المعنی الأوّل من المعانی المتقدّمة ، وهو الطلب فی الجملة ، وما ذکروا فی تعریفه بیان للمعنی الأوّل ، وعلیه فیرد علیهم أنّ القول المخصوص لعدم کونه معنی حدثیّا غیر قابل للاشتقاق منه، مع أنّ الاشتقاقات منه بلحاظ معناه الاصطلاحی (أی بلحاظ المعنی الأوّل من المعانی المتقدمة)، فلا یبعد أن یکون مرادهم فی التعریف _ من القول المخصوص _ الطلب بالقول المخصوص، لیمکن الاشتقاق منه . نعم لو ثبت أنّ

ص :273


1- (1) نهایة الاُصول : 1 / 75 .

ویمکن أن یکون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه تعبیراً عنه بما یدل علیه، نعم القول المخصوص _ أی صیغة الأمر [1] _ إذا أراد العالی بها الطلب یکون من مصادیق الأمر، لکنّه بما هو طلب مطلق أو مخصوص.

الشَرح:

لهم فیه اصطلاح خاصّ، بأن یکون لفظ الأمر فی اصطلاحهم منقولاً عن المعنی اللغوی وموضوعا للقول المخصوص، فلا مشاحّة فیه، وعلیه فتکون الاشتقاقات منه بلحاظ المعنی اللغوی، أی الطلب فی الجملة، لا معناه الاصطلاحی، أی القول المخصوص.

أقول : لم یظهر وجه اشتقاق المشتقات من المعنی الاصطلاحی لتتمّ المناقشة فی تعریفهم ، وظاهر القول المخصوص فی کلامهم هو المقول المخصوص ، کصیغة إفعل ، حیث لا خصوصیة للقول بمعناه المصدری إلاّ الجهر والإخفات ، وأمّا سائر الخصوصیات _ ککونه صیغة الأمر ونحوها _ فهی أوصاف المقول ، والمقول _ باعتبار جموده _ غیر قابل للاشتقاق منه .

لا یقال : ما ذکره قدس سره من أنّ مرادهم بالقول المخصوص الطلب لیکون قابلاً للاشتقاق منه ، غیر تامّ ، فإنّ الأمر بهذا المعنی أیضاً غیر قابل للإنشاء ، والقابل للإنشاء هو نفس الطلب ، لا الطلب بالقول .

فإنّه یقال : تقیید الطلب بالقول المخصوص للإشارة إلی الحصة الخاصة منه ، حیث إنّ فی الطلب المنشأ ضیق ذاتی ، نظیر ضیق المعلول من ناحیة علّته ، ویکون المدلول بمادة الأمر أو بصیغته هی الحصّة من الطلب فی مقابل حصّته الأُخری ، یعنی الطلب الحقیقی الذی لا یکون قابلاً للإنشاء .

[1] هذا بیان أنّ تعریف الأمر فی کلماتهم بالقول المخصوص غیر صحیح ، فإنّ القول المخصوص لا یکون مساویا لمعنی الأمر والطلب .

نعم القول المخصوص کصیغة الأمر عند استعمالها ، یکون باعتبار مدلوله

ص :274

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

مصداقا لعنوان الطلب ، لا بما هو قول مخصوص ، بل من حیث مدلوله من کونه طلبا مطلقا أو مخصوصا کما فی صیغة (بعت) ، فإنّها باعتبار المنشأ بها (أی الملکیة) تکون مصداقا للبیع ، لا بما هی لفظ وقول مخصوص وکما لا یصحّ تعریف البیع بأنّه القول المخصوص فکذلک الأمر کما لا یخفی .

وذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره أنّ القول المخصوص بنفسه قابل للاشتقاق منه ، حیث إنّ القول المخصوص صنف من الکیف المسموع وعرض قائم بالإنسان ، وعلیه فإن لوحظ بنفسه من دون لحاظ صدوره وقیامه بالإنسان _ مثلاً _ فهو المبدأ الساری فی جمیع المشتقات ، وإن لوحظ قیامه به بنحو الحدوث فهو المعنی المصدری ، وإن لوحظ انتسابه إلیه فی الحال أو الاستقبال فهو المعنی المضارعی ، وإن لوحظ انتسابه إلیه فی الماضی فهو المعنی الماضوی إلی غیر ذلک .

والحاصل أنّ هیئة «إفعل» لا تکون من الجواهر کالحجر الذی لا یکون له قیام بالغیر ولا یمکن فیه اللحاظ بالأنحاء المتقدمة لیکون مبدأً أو مصدرا أو ماضیا أو مستقبلاً إلی غیر ذلک . وعلیه فلفظ (أمَرَ) بصیغة الماضی ، موضوع للصیغة المنتسبة إلی الفاعل بانتساب تحقّقی فی الماضی ولفظ (یأمر) موضوع لها بالانتساب المتحقّق فی الحال أو الاستقبال ، وصیغة الأمر موضوعة للدلالة علی طلب إیجاد الفعل من الفاعل(1) .

أقول : مجرّد کون شیء عرضا خارجا لا یصحّح جعله مبدأ اشتقاق ، إذ معنی العرض ومعنی الجوهر فی ذلک علی حدٍّ سواء ، بل لابدّ فی الاشتقاق من تضمّن

ص :275


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 254 .

وکیف کان، فالأمر سهل لو ثبت النقل، ولا مشاحة فی الاصطلاح، وإنما المهم بیان ما هو معناه عرفاً ولغة، لیحمل علیه فیما إذا ورد بلا قرینة، وقد استعمل فی غیر واحد من المعانی فی الکتاب والسنّة [1]، ولا حجة علی أن_ّه علی نحو الاشتراک اللفظی أو المعنوی أو الحقیقة والمجاز.

وما ذکر فی الترجیح، عند تعارض هذه الأحوال، لو سلم، ولم یعارض بمثله، الشَرح:

معنی حدثی لیکون إظهار فعلیّته علی نحو التحقّق ماضیا وعلی نحو الترقّب مضارعا إلی غیر ذلک ، ولیس وجه عدم الاشتقاق من معنی الجوهر کونه جوهرا وعدم قیامه بالغیر خارجا ، بل الوجه عدم تضمّنه المعنی الحدثی .

والحاصل أنّ القول المخصوص بمعناه المصدری (أی التلفّظ به) قابل للاشتقاق منه ولکن مادة (أ _ م _ ر) لم توضع له، ولا یقال لمن تلفّظ بمادة الأمر أو بصیغة الطلب بدون قصد إنشاء الطلب: إنّه قد أمر، بل الأمر من مقولة المعنی (أی المعنی الانشائی) علی نسق ما ذکر فی البیع والوکالة والوضع وغیرها من الإنشائیات.

وعلیه ، فاللازم فی صدق الأمر من فرض الطلب وإنشائه بصیغة (إفعل) أو غیرها من فعل أو قول لیقال علی المنشأ بلحاظ إنشائه أمرا ، وأمّا القول المخصوص (أی ما هو ملفوظ) مع قطع النظر عن الإنشاء به ، فغیر قابل للاشتقاق .

[1] لا أری وجها تامّا لهذا الکلام بعد اختیاره قدس سره أنّ لفظ الأمر حقیقة فی الطلب فی الجملة والشّیء ، فإنّه مع فرض کونه حقیقة فیهما علی نحو الاشتراک اللفظی ، لم یکن مورد لقوله إنّ لفظ الأمر قد استعمل فی الکتاب والسنّة فی معانٍ ، ولا حجّة علی کونه من الاشتراک لفظا أو معنیً ، أو أنّه بالحقیقة والمجاز ، کما لا وجه لما ذکر فی آخر کلامه من ظهوره فی المعنی الأوّل (أی الطلب) ، للانسباق من الإطلاق ، فإنّ مفهوم الشیء مع مفهوم الطلب لا یشتبه ، ولیس استعماله فی أحدهما کثیرا وفی

ص :276

فلا دلیل علی الترجیح به، فلا بد مع التعارض من الرجوع إلی الأصل فی مقام العمل، نعم لو علم ظهوره فی أحد معانیة، ولو احتمل أنه کان للإنسباق من الإطلاق، فلیحمل علیه، وإن لم یعلم أنه حقیقة فیه بالخصوص أو فیما یعمه، کما لا یبعد أن یکون کذلک فی المعنی الأول.

الجهة الثانیة: الظاهر اعتبار العلو فی معنی الأمر[1] فلا یکون الطلب من السافل أو المساوی أمراً، ولو أطلق علیه کان بنحو من العنایة، کما أن الظاهر عدم اعتبار الإستعلاء فیکون الطلب من العالی أمراً ولو کان مستخفضاً لجناحه.

وأمّا احتمال اعتبار أحدهما فضعیف، وتقبیح الطالب السافل من العالی المستعلی علیه، وتوبیخه بمثل: إنک لِمَ تأمره، إنّما هو علی استعلائه، لا علی

الشَرح:

الآخر نادرا حتّی یحمل فی موارد الدوران علی المعنی الغالب ، باعتبار أنّ إرادة المعنی النادر یحتاج إلی القرینة دون المعنی الغالبی .

اعتبار العلوّ فی الآمر

:

[1] قیل یعتبر فی معنی الأمر وصدقه علی الطلب علوّ الطالب ، أو استعلائه ، ویستدلّ علیه بتقبیح طلب السافل المستعلی فإنّ توبیخه بمثل (لیس لک أن تأمره) دلیلٌ علی أنّ الصادر من المستعلی أمر ، ولو کان المعتبر هو العلوّ فقط ، لما أمکن صدوره من السافل لیتوجّه علیه التوبیخ .

والجواب : أنّ التوبیخ لا یکون لطلبه حقیقة ، بل لاستعلائه ورؤیة نفسه عالیا ، وإطلاق الأمر علی طلبه بلحاظ نظر المستعلی حیث یری نفسه عالیا وطلبه أمرا ، ولذا یمکن سلب الأمر عن طلبه فیقال : إنّه لیس بأمر ، ولکنّه لغروره یری نفسه عالیا ، ولو کان الاستعلاء کافیا فی کون الطلب أمرا لما صحّ هذا السلب .

ص :277

أمره حقیقة بعد استعلائه، وإنّما یکون إطلاق الأمر علی طلبه بحسب ما هو قضیة استعلائه، وکیف کان، ففی صحة سلب الأمر عن طلب السافل، ولو کان مستعلیاً کفایة.

الجهة الثالثة: لا یبعد کون لفظ الأمر حقیقة فی الوجوب [1]، لإنسباقه عنه

الشَرح:

دلالة مادة الأمر علی الطلب الوجوبی

:

[1] لا یخفی أنّ لزوم الحذر یختص بمحالفة الأمر الوجوبی ، والطلب الندبی خارج عن المراد من الأمر فی الآیة الکریمة یقینا ، ولکن یدور الأمر بین أن یکون خروجه عنه بالتخصّص کما إذا کان الأمر حقیقة فی الطلب الوجوبی فقط ، أو یکون خروجه عنه بالتقیید ، کما إذا کان حقیقة فی الأعمّ ، ولا معیّن للخروج بالنحو الأوّل ، فإنّ أصالة عدم التقیید غیر جاریة فی موارد العلم بالمراد ، من ثَمّ جعل قدس سره الآیة مؤیّدة لا دلیلاً .

وممّا ذکر یظهر وجه المناقشة فی الاستدلال بقوله صلی الله علیه و آله : «لولا أشقّ علی أُمّتی لأمرتهم بالسواک مع کلّ صلاة»(1) فإنّه لو لم یکن الأمر حقیقة فی خصوص الطلب الوجوبی ، لزم التقیید فی الروایة بأن یراد لأمرتهم وجوبا بالسواک ، وقد تقدّم أنّه لا اعتبار بأصالة الإطلاق فی مثل ذلک مما علم المراد .

وأما روایة بریرة(2) فلم یظهر أنّها سألت رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن الطلب الوجوبی لیستظهر أنّ لفظ الأمر حقیقة فی الوجوب ، بل لعلّ السؤال عن أصل الطلب المولوی ، فلا وجه لعدّ الروایة مؤیّدة أیضاً .

ص :278


1- (1) الوسائل : 1 / 355 ، باب 5 من أبواب السواک ، الحدیث 3 .
2- (2) الفروع من الکافی : 5 / 485 ، باب الامة تکون تحت المملوک ، الحدیث 1 .

عند إطلاقه، ویؤید قوله تعال «فلیحذر الذین یخالفون عن أمره» وقوله صلی الله علیه و آله : (لولا أن أشق علی أمتی لأمرتهم بالسواک) وقوله صلی الله علیه و آله : _ لبریرة بعد قولها: أتأمرنی یا رسول اللّه؟ _ : (لا، بل إنّما أنا شافع) إلی غیر ذلک، وصحة الإحتجاج علی العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره، وتوبیخه علی مجرد مخالفته، کما فی قوله تعالی

الشَرح:

نعم، صحّة الاحتجاج علی العبد، ومؤاخذته علی مخالفته وتوبیخه علیها، فیما إذا قال إنی آمرک بکذا فخالف، دلیل قطعیّ علی ظهور مادة الأمر فی الطلب الوجوبی.

لکن یبقی الکلام فی أنّ هذا الظهور وضعی أو إطلاقی یثبت مع عدم ثبوت الترخیص فی الترک.

فنقول : الصحیح أنّ مادة الأمر بنفسها دالة علی الطلب الوجوبی ، بخلاف صیغة الأمر ، فإنّ دلالتها علی الطلب الوجوبی بالإطلاق ؛ وذلک لأنّه لا فرق فی المستعمل فیه للصیغة ، بین کون الطالب عالیا أم لا ، مثلاً نفرض أنّ أحد الموالی طلب من عبده وعبد غیره قراءة القرآن ، بأن قال لکلٍّ منهما : (إقرء القرآن) فإنّا لا نجد فی أنفسنا فرقا فی المستعمل فیه للصیغة بین الموردین ، ولکن یصدق الأمر علی الطلب من العبد الأوّل ، ولا یصدق علی الطلب من العبد الثانی ، فتکون خصوصیة علوّ الطالب مأخوذةً فی صدق الأمر علی الطلب ، وهذا العلوّ غیر مأخوذ فی معنی صیغة (إفعل) .

المائز بین الوجوب والندب

:

وکذلک فی موارد کون الطلب وجوبیا أو استحبابیا ، فإنّا لا نجد فرقاً بین المستعمل فیه للصیغة ، فی موارد کون الطلب وجوبیا أو استحبابیا ، کما لو ورد فی قول الشارع (إغتسل للجمعة ومِن مسّ المیت) وإن کان الطلب بالإضافة إلی الأوّل

ص :279

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

استحبابیا وبالإضافة إلی الثانی وجوبیا ، فإنّ افتراق الوجوب عن الندب ، بثبوت الترخیص فی الثانی دون الأوّل.

وبتعبیرٍ آخر : أنّه إذا لم یکن فی البین ترخیص فی الترک ، ینتزع عنوان الوجوب ، وفیما إذا ثبت ، ینتزع عنوان الندب ، فإنّ المنشأ _ بالفتح _ بصیغة (إفعل) هوالنسبة الطلبیة ، فمع کون المنشاَء _ بالکسر _ فی مقام البیان وعدم ترخیصه فی الترک ، یستفاد الوجوب ، وهذا بخلاف مادة الأمر ، فإنّها _ بمقتضی وضعها _ تنفی الترخیص فی الترک ، کما یجد ذلک کلّ من لاحظ مرادف مادة الأمر بمعنی الطلب فی سائر اللغات کلفظة (فرمان) فی اللغة الفارسیة وصحّة سلب عنوان الأمر و(فرمان) عن الطلب الاستحبابی .

وبالجملة دلالة صیغة الأمر علی الوجوب إنّما هو بمقتضی إطلاقها الوارد فی مقام البیان، بخلاف مادة الأمر، فإنّه بمقتضی وضعها له، وذلک لأنّ الفرق بین الوجوب والاستحباب لا یکون بشدّة الطلب وضعفه ، کما علیه الماتن قدس سره.

لکن لا من أجل أنّ الوجوب والندب أمران اعتباریّان والشدّة والضعف لا یکونان فی الأُمور الاعتباریة ، وذلک لثبوتهما فی بعض الأُمور الاعتباریة کالتعظیم والتحقیر وغیرهما ، فیکون الفعل الفلانی أقوی تعظیما من الفعل الآخر.

بل لأنّا نری بالوجدان أنّ الطلب لا یکون شدیداً فی موارد الوجوب وضعیفاً فی موارد الاستحباب . وأمّا شدّة الشوق وضعفه ، فهو خارج عن الحکم ومدلول صیغة الأمر ومادّته.

کما أنّ الفرق بین الوجوب والاستحباب لا یکون بترکّب الوجوب من طلب

ص :280

«ما منعک ألا تسجد إذ أمرتک».

وتقسیمه إلی الإیجاب والإستحباب، إنّما یکون قرینة علی إرادة المعنی الأعم منه فی مقام تقسیمه، وصحة الإستعمال فی معنی أعمّ من کونه علی نحو الحقیقة، کما لا یخفی، وأمّا ما أفید من أن الإستعمال فیهما ثابت، فلو لم یکن الشَرح:

الفعل والمنع عن ترکه ، والاستحباب طلب الفعل مع الترخیص فی ترکه کما علیه القدماء ، بل الفرق بینهما فی إطلاق الطلب ، فإنّه لا یکون فی موارد الوجوب ترخیص فی ترک الفعل ، بخلاف موارد الندب فإنّ الطلب فیها موصوف بثبوت الترخیص فی الترک ، ولذا یکون مجرد الطلب مع عدم الترخیص کافیا فی استقلال العقل بلزوم اتّباعه ولا یحتاج إلی إحراز المنع عن ترکه .

وممّا ذکرنا یظهر أنّ ما یذکر فی امتیاز الوجوب عن الندب بکون مصلحة الفعل فی الأوّل تامّة وفی الثانی ناقصة لا یمکن المساعدة علیه ، فإنّ المائز بین الطلب الوجوبی والندبی هو ما ذکرناه ، حتّی بناءً علی إنکار المصالح والمفاسد فی المتعلقات ، نعم المصلحة غیر الملزمة توجب الترخیص فی الترک بخلاف الملزمة .

ولا یخفی أنّ الطلب لو کان مستفادا من مادة الأمر ، فجمیع مشتقاتها تدلّ علی الطلب بلا فرق بینها ، دون ما إذا کان مستفادا من صیغة الأمر فحسب ، حیث إنّ الهیئة تکون دالّة علی الطلب ، والمادة تدلّ علی متعلق النسبة الطلبیة .

وعن المحقّق النائینی قدس سره أنّ کلاًّ من الوجوب والندب من حکم العقل ولیسا من المدالیل اللفظیة ، فإنّ العقل یری بمقتضی العبودیة والرقّیة لزوم الخروج عن عهدة ما أمر به المولی ، ولا معنی للوجوب إلاّ إدراک العقل لابدّیة الخروج عن عهدة الفعل ، وذکر أیضاً أنّ المنشأ بمادة الأمر أو بصیغته کون المادة فی عالم التشریع علی

ص :281

موضوعاً للقدر المشترک بینهما لزم الإشتراک أو المجاز، فهو غیر مفید، لما مرت الإشارة إلیه فی الجهة الأولی، وفی تعارض الأحوال، فراجع.

والاستدلال بأنّ فعل المندوب طاعة، وکل طاعة فهو فعل المأمور به، فیه ما لا یخفی من منع الکبری، لو أرید من المأمور به معناه الحقیقی، وإلاّ لا یفید المدعی.

الشَرح:

المکلف وإیقاعها علیه(1) .

أقول : لا أظن أنّ أحدا لا یلتزم بحکم العقل فی موارد طلب الفعل وإیجابه علی المکلّف ، ولکنّ حکم العقل بلا بدّیة الفعل یختص بصورة وصول التکلیف المجعول علی المکلف مع عدم وصول الترخیص فی الترک ، کما أنّ العقل مع وصول الطلب وترخیص المولی فی الترک لا یحکم باللابدّیة ، بل یحکم بکون المکلّف علی خیار ، إلاّ أنّ الکلام فی المقام فی منشأ هذا الحکم .

وقد ذکرنا أنّ منشأه إطلاق الطلب أو اقترانه بالترخیص کما ذکرنا أنّ مادة الأمر بمقتضی وضعها تثبت الطلب المطلق بلا حاجة إلی ضمّ مقدّمات الاطلاق ، بخلاف صیغة (إفعل) فإنّ ظهورها فی الطلب المطلق بمقدمات الحکمة لا بالوضع ، وهذا کما یقال فی الفرق بین العامّ الوضعی والاطلاق الشمولی أو غیره .

وأمّا ما ذکره قدس سره من أنّ المنشأ والمعتبر ، فی موارد استعمال الصیغة أو مادة الأمر ، کون المادة علی المکلّف ، کما هو ظاهر الإیقاع علیه ، فیدفعه شهادة الوجدان علی أنّ السامع لا یجد فرقا فی المستعمل فیه للصیغة بین موارد الطلب الوجوبی والطلب الندبی ، فلو کان المستعمل فیه لصیغة الأمر إیقاع المادة علی المکلّف ،

ص :282


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 95 .

الجهة الرابعة: الظاهر أن الطلب الذی یکون هو معنی الأمر [1]، لیس هو الطلب الحقیقی الذی یکون طلباً بالحمل الشائع الصناعی، بل الطلب الإنشائی الذی

الشَرح:

لکان هو المستعمل فیه فی کلا الموردین ، والحال أنّه لم یکن مستعملاً فیه فی الندب بالضرورة ، فلم یکن فی الوجوب أیضاً کذلک . نعم اعتبار المولی الفعل علی عهدة المکلف داخل فی عنوان الإیجاب ، فیما إذا کان بداعی صدور الفعل من المکلف ، إلاّ أنّ هذا لیس بالمعنی الموضوع له والمستعمل فیه للصیغة ، بل المتبادر منها فی موارد استعمالها ، البعث إلی المادة وتحریک المخاطب نحو صدور الفعل عنه ، غایة الأمر البعث والتحریک اعتباری ، فإذا کان مطلقا اتّصف بالإیجاب ، وإذا کان مقترنا بالترخیص فی الترک ، اتّصف بالندب ، کما ذُکر .

وأمّا ما فی الکلمات من أنّ الوجوب بمعنی الثبوت ، فلا یدلّ علی أنّ معنی الثبوت هو الثبوت علی الذمة ، بل الثبوت بالمعنی اللغوی یعمّ الندب أیضاً ، لثبوت الطلب بالإضافة إلی المندوبات أیضاً .

الطلب والإرادة

[1] حاصله أنّ للطلب نحوین من التحقّق:

النحو الأول: الطلب الاعتباری الذی یوجد وینشأ باستعمال اللفظ ویحمل علیه الطلب بالحمل الأوّلی ، بناءً علی انحصار الحمل الشائع الصناعی بحمل الطبیعی علی فرده العینی ، علی ما ذکره بعض فی بحث الوجود الذهنی ، ولفظ الأمر موضوع لهذا النحو من الطلب سواء کان إنشائه بصیغة الأمر أو بمادّته أو بمادة الطلب، فإنّه إذا قیل: أمر فلان فلانا، یفهم منه أنّه طلب منه طلبا إنشائیا.

والنحو الثانی: الطلب الحقیقی الذی هو أمر نفسانی یحمل علیه عنوان الطلب

ص :283

لا یکون بهذا الحمل طلباً مطلقاً، بل طلباً إنشائیاً، سواء أنشئ بصیغة إفعل، أو بمادّة الطلب، أو بمادّة الأمر، أو بغیرها، ولو أبیت إلاّ عن کونه موضوعاً للطلب فلا أقل من کونه منصرفاً إلی الإنشائی منه عند إطلاقه کما هو الحال فی لفظ الطلب أیضاً، وذلک لکثرة الإستعمال فی الطلب الإنشائی، کما أنّ الأمر فی لفظ الإرادة علی عکس لفظ الطلب، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقیقیة واختلافهما فی ذلک ألجأ بعض أصحابنا إلی المیل إلی ما ذهب إلیه الأشاعرة، من المغایرة بین الطلب والإرادة، خلافاً لقاطبة أهل الحق والمعتزلة، من اتحادهما، فلا بأس بصرف عنان الکلام إلی بیان ما هو الحق فی المقام، وإن حققناه فی بعض فوائدنا إلاّ أنّ الحوالة لمّا لم تکن عن المحذور خالیة، والإعادة بلا فائدة ولا إفادة، کان المناسب هو التعرض ها هنا أیضاً.

الشَرح:

بالحمل الشائع ، وإن أبیت إلاّ عن کون لفظ الأمر موضوعا لمطلق الطلب ، فلا أقلّ من کونه منصرفا عند إطلاقه إلی الانشائی منه ، لما ذکرنا من تبادره منه ، فیکون لفظ الأمر حاله حال لفظ الطلب ، فإنّ لفظ الطلب مع کونه موضوعا لمطلق الطلب ینصرف عند إطلاقه إلی الإنشائی منه ، وکذلک للإرادة نحوین من الوجود : حقیقی واعتباری ، وعند إطلاقها تنصرف إلی الحقیقی منهما الذی هو عین الطلب الحقیقی ، عکس لفظ الأمر والطلب ، فلفظ الإرادة ولفظ الطلب مترادفان ومتحدان مفهوما ومصداقا ، ومختلفان فی المعنی المنصرف إلیه ، حیث إنّ الأوّل ینصرف إلی الحقیقی منه ، والثانی إلی الإنشائی منه .

ولا یبقی مجال لتوهم أنّ فی النفس غیر الإرادة ومقدّماتها صفة أُخری قائمة بها تکون طلبا ، کما التزم به أبوالحسن الأشعری ، وسمّاه بالکلام النفسی ، الذی یکون فی موارد الأمر ، والوجه فی عدم المجال لذلک أنّ مراجعة الإنسان وجدانه کافیة فی

ص :284

فاعلم، أنّ الحق کما علیه أهله _ وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشاعرة _ هو اتحاد الطلب والإرادة، بمعنی أن لفظیهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد وما بإزاء أحدهما فی الخارج یکون بإزاء الآخر، والطلب المنشأ بلفظه أو بغیره عین الإرادة الإنشائیة، وبالجملة هما متحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجاً، لا أنّ الطلب الإنشائی الذی هو المنصرف إلیه إطلاقه _ کما عرفت _ متحد مع الإرادة الحقیقیة التی ینصرف إلیها إطلاقها أیضاً، ضرورة أن المغایرة بینهما أظهر من الشمس وأبین من الأمس. فإذا عرفت المراد من حدیث العینیة والاتحاد، ففی مراجعة الوجدان عند طلب شیء والأمر به حقیقة کفایة، فلا یحتاج إلی مزید بیان وإقامة برهان، فإن الإنسان لا یجد غیر الإرادة القائمة بالنفس صفة أخری قائمة بها، یکون هو الطلب غیرها، سوی ما هو مقدمة تحققها، عند خطور الشیء والمیل وهیجان الرغبة إلیه، والتصدیق لفائدته، وهو الجزم بدفع ما یوجب توقفه عن طلبه لأجلها.

الشَرح:

أن یحصل له الیقین بأنّه عند طلب الفعل ولو من الغیر لا یجد من نفسه شیئاً غیر الإرادة ، أی الشوق المؤکّد المستتبع لتحریک عضلاته فی موارد إرادة الفعل بالمباشرة ، أو المستتبع لأمر عبده فی موارد إرادته لا بالمباشرة ، ولا توجد صفة أُخری لتکون حقیقة الطلب ، بل لا توجد فی النفس مع الإرادة إلاّ مقدّماتها التی تتحقّق عند خطور الشیء علی قلبه والمیل إلیه أی هیجان رغبته إلیه ، والتصدیق بفائدته ، وهی الجزم بدفع ما یوجب توقّفه عن طلب الفعل وإرادته لأجل تلک الفائدة . وبتعبیرٍ آخر : الجزم المزبور فی الحقیقة هو الجزء الأخیر من مبادئ الإرادة ، وتحصل الإرادة عندخطور الفعل _ أی حضوره فی الذهن _ والمیل إلیه والتصدیق لفائدته والجزم بعدم المانع عن إرادته .

ثمّ إنّه قدس سره قد تعرّض لحال سائر الصیغ الإنشائیة والجمل الخبریة ، وذکر أنّ فی

ص :285

وبالجملة: لا یکاد یکون غیر الصفات المعروفة والإرادة هناک صفة أخری قائمة بها یکون هو الطلب، فلا محیص عن اتحاد الإرادة والطلب، وأن یکون ذلک الشوق المؤکد المستتبع لتحریک العضلات فی إرادة فعله بالمباشرة، أو المستتبع لأمر عبیده به فیما لو أراده لا کذلک، مسمّی بالطلب والإرادة کما یعبر به تارة وبها أخری، کما لا یخفی.

وکذا الحال فی سائر الصیغ الانشائیة، والجمل الخبریة، فإنّه لا یکون غیر الصفات المعروفة القائمة بالنفس، من الترجی والتمنی والعلم إلی غیر ذلک، صفة أخری کانت قائمة بالنفس، وقد دلّ اللفظ علیها، کما قیل:

إنّ الکلام لفی الفؤاد وإنّما جعل اللسان علی الفؤاد دلیلاً

وقد انقدح بما حققناه، ما فی استدلال الأشاعرة علی المغایرة بالأمر مع عدم الإرادة، کما فی صورتی الاختبار والاعتذار من الخلل، فإنّه کما لا إرادة حقیقة فی الصورتین، لا طلب کذلک فیهما، والذی یکون فیهما إنّما هو الطلب الإنشائی الإیقاعی، الذی هو مدلول الصیغة أو المادة، ولم یکن بیّناً ولا مبیّناً فی الإستدلال مغایرته مع الإرادة الإنشائیة.

الشَرح:

موارد إنشاء الترجّی والتمنّی مثلاً لا یکون فی النفس غیر الترجّی وغیر التمنّی وفی مورد الإخبار غیر العلم بثبوت النسبة أو لا ثبوتها ، صفات أُخری تکون تلک الصفات حقیقة التمنّی والترجی وحقیقة الإخبار ، کما التزم به الأشعری وسمّاها بالکلام النفسی ، وزعم أنّ الکلام اللفظی دالّ علیه ، کما یشیر إلیه ما قیل :

«إنّ الکلام لفی الفؤاد وإنّما جُعل اللسان علی الفؤاد دلیلاً»

وعمدة ما استدلّ به الأشاعرة علی مغایرة الطلب مع الإرادة هو أمر المولی عبده بفعلٍ لا یریده منه ، کما فی موارد الاختبار والاعتذار _ والمراد بالاعتذار أن

ص :286

وبالجملة: الذی یتکفّله الدلیل، لیس إلاّ الانفکاک بین الإرادة الحقیقیة، والطلب المنشأ بالصیغة الکاشف عن مغایرتهما. وهو ممّا لا محیص عن الإلتزام به، کما عرفت، ولکنه لا یضرّ بدعوی الاتحاد أصلاً، لمکان هذه المغایرة والانفکاک بین الطلب الحقیقی والإنشائی، کما لا یخفی.

ثمّ إنّه یمکن _ مما حققناه _ أن یقع الصلح بین الطرفین، ولم یکن نزاع فی البین، بأن یکون المراد بحدیث الاتحاد ما عرفت من العینیة مفهوماً ووجوداً حقیقیاً وإنشائیاً، ویکون المراد بالمغایرة والاثنینیة هو اثنینیة الإنشائی من الطلب، کما هو کثیراً ما یراد من إطلاق لفظه، والحقیقی من الإرادة، کما هو المراد غالباً منها حین إطلاقها، فیرجع النزاع لفظیاً، فافهم.

الشَرح:

یکون غرض المولی من أمره عصیان العبد ، لیعتذر عن توبیخه وعقابه علی مخالفته _ ففی موردهما یجد الآمر من نفسه حقیقة أمره وطلبه ، مع أن_ّه لا یرید فعله ، وهذا شاهد لکون الطلب غیر الإرادة کما استدلّ علی ثبوت الکلام النفسی بثبوت المدلول فی مقامات الاخبار کذبا أو تردّدا(1) .

ولکن لا یخفی ما فیه ، فإنّه کما لا إرادة فی موارد الاختبار والاعتذار ، کذلک لا طلب حقیقیّ فی مواردهما ، بل الموجود الطلب الإنشائی ، وقد یعبّر عنه بالإرادة الإنشائیة ، وإنّما الاختلاف بین الإرادة والطلب ، کما تقدّم فی المعنی المنصرف إلیه منهما .

وذکر قدس سره أنّه یمکن أن یقع التصالح بین الطرفین ویرتفع النزاع فی البین بأن یکون مراد الأشعری من المغایرة مغایرة الطلب الإنشائی مع الإرادة الحقیقیة ، ومراد معظم

ص :287


1- (1) شرح تجرید الاعتقاد للقوشجی : ص246 .

دفع وهم: لا یخفی أنّه لیس غرض الأصحاب والمعتزلة، من نفی غیر الصّفات المشهورة، وأنّه لیس صفة أخری قائمة بالنفس کانت کلاماً نفسیاً مدلولاً للکلام اللفظی، کما یقول به الأشاعرة، إن هذه الصفات المشهورة مدلولات للکلام.

إن قلت: فماذا یکون مدلولاً علیه عند الأصحاب والمعتزلة؟

الشَرح:

الأصحاب والمعتزلة من الاتحاد اتّحاد الطلب الحقیقی مع الإرادة الحقیقیة .

أقول : لا یمکن ان یکون النزاع بین الطرفین لفظیا ، فإنّ الأشعری یلتزم بالکلام النفسی ، ویجعله من صفات الحقّ (جلّ وعلا) وأن_ّه غیر العلم والإرادة ، ویقول بأنّ الکلام اللفظی کاشف عنه وطریق الوصول إلیه ، وعلیه فلابدّ من فرض صفة زائدة علی العلم والإرادة ، حیث إنّه سبحانه کما یوصف بأنّه عالم ومرید ، یوصف بأنّه متکلّم ، ولعلّه إلی ذلک أشار فی آخر کلامه بقوله «فافهم» .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره ما حاصله : أنّ قضیة الکلام النفسی علی ما التزم به الأشعری وإن کان أمرا موهوما _ إذ لیس فی النفس غیر الإرادة ومبادئها ، وغیر العلم بثبوت النسبة أو لا ثبوتها ، وغیر تصور النسبة بأطرافها ، أمر آخر یکون کلاماً نفسیاً ، والإرادة الخارجیة وإن لم تکن مدلولاً للأمر لا بمادّته ولا بصیغته ولا بغیرهما ، کما لا یکون مدلول الجملة الخبریة العلم بثبوت النسبة أو لا ثبوتها ؛ إذ دلالتها علی تصوّر المتکلم لمدلول الکلام عقلیة ، والعلم بتحقّق النسبة خارجا یستفاد من أمرٍ آخر غیر نفس الکلام _ إلاّ أنّه مع ذلک کلّه لا یکون الطلب حقیقة عین الإرادة ، فإنّ الطلب هو الاشتغال بتحقیق المطلوب والوصول إلیه بالشروع فی فعل أو أفعال یترتّب علیه أو علیها ذلک المقصود جزما أو احتمالاً ، ولذا یطلق علی من یجتهد فی تحصیل متاع الدنیا وغرورها أن_ّه طالبها ، وللحاضر فی المجالس العلمیة بغرض التعلّم أن_ّه طالب العلم ، وعلی السائر فی مظانّ الوصول إلی الضالّة بغرض الوصول إلیها أن_ّه طالبها ،

ص :288

قلت: أم_ّا الجمل الخبریة، فهی دالّة علی ثبوت النسبة بین طرفیها، أو نفیها فی نفس الأمر من ذهن أو خارج، کالإنسان نوع أو کاتب.

وأمّا الصیغ الإنشائیة، فهی _ علی ما حققناه فی بعض فوائدنا _ موجدة لمعانیها فی نفس الأمر، أی قصد ثبوت معانیها وتحققها بها، وهذا نحو من الوجود، وربّما یکون هذا منشأ لانتزاع اعتبارٍ مترتب علیه شرعاً وعرفاً آثار، کما هو الحال فی صیغ العقود والإیقاعات.

الشَرح:

والطلب فی هذه الموارد حقیقی ، وهو کما تری غیر الشوق المؤکّد المحرّک للعضلات نحو الفعل ، فلا یکون مجرّد الاشتیاق طلبا مهما کان بالغا وشدیدا ، وإنّما الطلب هو التصدّی لتحصیل المطلوب بالاشتغال بالفعل والشروع فیه .

وبالجلمة إن کان المدّعی أنّ المفهوم من لفظ الطلب عین المفهوم من لفظ الإرادة ، فلم یقم علی ذلک دلیل ، إلاّ مجرّد دعوی الوجدان ، ولعلّه لم یذهب إلیه غیر صاحب الکفایة قدس سره ، والقائلون بالاتّحاد یریدون الاتّحاد عینا ، واستشهدوا بالوجدان علی هذا الاتحاد ، مع أنّ صدق الإرادة دون الطلب فیما إذا لم یتصدّ لتحصیل المطلوب کافٍ فی الإذعان باختلافهما مفهوما وخارجا ، حیث إنّ الإرادة من الکیف النفسانی ، والطلب من مقولة الفعل .

وعلی ذلک فتصدّی المولی لتحصیل مقصوده بأمر الغیر بإتیان المطلوب یکون طلبا ، فیکون الأمر بمادة الأمر أو بصیغته أو بغیرهما مصداقا للطلب ، لا أنّ المستعمل فیه فی الموارد المذکورة معنی لفظ الطلب ومفهومه ، کما هو ظاهر الکفایة ، بل المستعمل فیه فی جمیع ذلک إیقاع المادة علی الغیر تشریعا واعتبار کون الفعل علی عهدته ، کما تقدّم (1) .

ص :289


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 88 .

نعم لا مضایقة فی دلالة مثل صیغة الطلب والإستفهام والترجی والتمنی _ بالدلالة الإلتزامیة _ علی ثبوت هذه الصفات حقیقة، إمّا لأجل وضعها لإیقاعها، فیما إذا کان الداعی إلیه ثبوت هذه الصفات، أو انصراف إطلاقها إلی هذه الصورة، فلو لم تکن هناک قرینة، کان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غیرهما بصیغتها، لأجل کون الطلب والإستفهام وغیرهما قائمة بالنفس، وضعاً أو إطلاقاً.

الشَرح:

أقول : ما ذکره قدس سره من أنّ الطلب غیر الإرادة فهو صحیحٌ ، سواء قیل بأنّ الإرادة هی الشوق المؤکّد المحرّک للعضلات نحو الفعل ، أو قیل بأنّ الإرادة غیر الشوق المزبور، کما سیأتی ، بل هی عبارة عن اختیار أحد طرفی الشیء من الفعل أو الترک ، فإنّ الطلب لا یطلق علی شیءٍ منهما ، بل هو عنوان للحرکة نحو الفعل والتصدّی لحصوله .

إلاّ أنّ ما ذکره قدس سره من أنّ المُنشأ بمادة الأمر وبصیغته أو بغیرهما هو النسبة الإیقاعیة، ویکون المُنشأ بعد إنشائه واعتباره مصداقا للطلب، حیث إنّ الطلب تصدّی المولی للوصول إلی مقصوده وهو فعل العبد، لا یمکن المساعدة علیه؛ إذ تقدّم أنّ الوجدان فی موارد إیجاب الفعل وندبه شاهدٌ علی أنّ المستعمل فیه للصیغة أمرٌ واحد، مع أنّه لا یکون للمکلّف عهدة فی موارد الندب، فلابدّ من أن یکون «کون الفعل علی العهدة» خارجا عن المستعمل فیه، ولا منافاة بین أن یکون المنشأ فیها عنوان الطلب، ویکون المنشأ بعد إنشائه مصداقا للطلب، فلاحظ قول البائع: بعت مالی بکذا، فإنّه إنشاء لعنوان البیع، ویکون المنشأ بعد إنشائه مصداقا للبیع.

نعم لا ینحصر مصداق الطلب بإنشاء عنوانه ، بل یحصل ذلک العنوان باعتبار الفعل علی عهدة العبد وإبرازه بمبرزٍ ، مثل قوله : علیک أو علیه هذا العمل ، فیما إذا کان القصد انبعاثه إلی ذلک العمل أو لرجاء الانبعاث ، إلاّ أنّ ذلک لیس معنی

ص :290

إشکال ودفع: أمّا الإشکال [1]، فهو إنّه یلزم بناءً علی اتحاد الطلب والإرادة، فی تکلیف الکفار بالایمان، بل مطلق أهل العصیان فی العمل بالأرکان، إمّا أن لا یکون هناک تکلیف جدّی، إن لم یکن هناک إرادة، حیث إن_ّه لا یکون حینئذ طلب حقیقی، واعتباره فی الطلب الجدّی ربما یکون من البدیهی، وإن کان هناک إرادة، فکیف تتخلف عن المراد؟ ولا تکاد تتخلف، إذا أراد اللّه شیئاً یقول له: کن فیکون.

الشَرح:

الصیغة ، کما تقدّم .

ثمّ إنّه قد یراد من الإرادة معنی الطلب ، أی التصدّی لتحصیل الشیء والوصول إلیه ، کما یقال لمن یفحص عن ضالّته بالمشی أو بغیره : إنّه یرید ضالّته ، أی یطلبها ، ویقال : یرید اللّه (عزّ وجلّ) من العباد ، یعنی یطلب منهم ، إلی غیر ذلک . إلاّ أنّ الکلام فی ظهور الإرادة ومعناها الانسباقی وهو غیر الطلب ، لا فی جواز استعمال کلّ منهما فی الآخر مع القرینة .

بیان مسلک الجبر وشبه الجبر وإبطالهما

:

[1] یعنی بناءً علی أنّ الإرادة عین الطلب الحقیقی ، ففی موارد تکلیف الکفّار بالإیمان بل فی تکلیف العصاة بالواجبات وترک المحرّمات إمّا أن لا یکون تکلیف جدّی بأن یکون التکلیف بالإضافة إلیهم صوریا وإنشائیا محضا بأن لا تکون فی البین إرادة من اللّه سبحانه بالإضافة إلی عملهم ، وإمّا أن یلزم تخلّف إرادته تعالی عن مراده فیما إذا کان التکلیف جدّیا ، وهذا کما ذکرنا مبنیّ علی اتّحاد الطلب الحقیقی والإرادة ، وأمّا بناءً علی تغایرهما وتعدّدهما خارجا فالتکلیف والطلب الحقیقی یثبت فی حقّ الکفار والعصاة کما یثبت فی حقّ أهل الإیمان والطاعة ، فلا یلزم محذور عدم ثبوت التکلیف الجدّی .

ص :291

وأمّا الدفع، فهو أن استحالة التخلف إنّما تکون فی الإرادة التکوینیة وهی العلم بالنظام علی النحو الکامل التام، دون الإرادة التشریعیة، وهی العلم بالمصلحة فی فعل المکلّف. وما لا محیص عنه فی التکلیف إنّما هو هذه الإرادة التشریعیة لا التکوینیة، فإذا توافقتا فلا بد من الإطاعة والایمان، وإذا تخالفتا، فلا محیص عن أن یختار الکفر والعصیان.

إن قلت: إذا کان الکفر والعصیان والإطاعة والإیمان، بإرادته تعالی التی الشَرح:

وأجاب قدس سره بثبوت التکلیف الجدّی فی حقّ الکفار والعصاة بثبوت الإرادة فی موارد التکلیف ، حتّی بالإضافة إلیهما ، ولا یلزم تخلّف إرادة اللّه (عزّ وجلّ) عن مراده ؛ لأنّ الثابت فی موارد التکلیف هی الإرادة التشریعیة ، وتخلّف هذه الإرادة لا محذور فیه ، وإنّما المحذور فی تخلّف الإرادة التکوینیة عن المراد ، ولا یلزم فی موارد التکالیف ثبوت الإرادة التکوینیة علی وفاق الإرادة التشریعیة .

وتوضیح ذلک علی ما ذکره قدس سره أنّ الإرادة التکوینیة التی هی من صفات الذات للّه (جلّ وعلا) هی العلم بالنظام علی النحو الکامل التام(1) ، وهذه الإرادة لا یمکن أن تتخلّف عن المراد . وأمّا الإرادة التشریعیة فهی العلم بالصلاح فی فعل العبد وهذه الإرادة التی لابدّ منها فی التکلیف یمکن أن تتخلّف ، وعلی ذلک فإن توافقت الإرادة التشریعیة والتکوینیة بأن کان العلم بالصلاح داخلاً فی العلم بالنظام علی النحو الکامل التامّ ، فلابدّ من الإطاعة والإیمان ، وإذا لم یدخل فیه فلابدّ من أن یختار العبد الکفر والعصیان حیث إنّ ما لم یرد بالإرادة التکوینیة لا یکاد یوجد .

ص :292


1- (1) کشف المراد : 314؛ الأسفار : 6 / 360؛ شرح المنظومة : 184 . هذا التفسیر للإرادة هو المعروف والمشهور عند الفلاسفة وعندهم أنّها من صفات الذات لا من صفات الأفعال .

لا تکاد تتخلف عن المراد، فلا یصح أن یتعلق بها التکلیف، لکونها خارجة عن الاختیار المعتبر فیه عقلاً.

قلت: إن_ّما یخرج بذلک عن الاختیار، لو لم یکن تعلق الإرادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختیاریة، وإلاّ فلا بد من صدورها بالاختیار، وإلاّ لَزِم تخلف إرادته عن مراده، تعالی عن ذلک علواً کبیراً.

الشَرح:

ومن هنا ینفتح باب المناقشة فی اختیار العباد فی أفعالهم بأنّه إذا کان الکفر والعصیان والإطاعة والإیمان بإرادته (تعالی) التی لا یمکن تخلّفها عن المراد ، فکیف یمکن تعلّق التکلیف بأفعالهم الخارجة عن اختیارهم ؟ مع أنّ الاختیار یعتبر فی التکلیف عقلاً .

وأجاب الماتن قدس سره عن الإشکال بما حاصله : أنّ الإرادة التکوینیة تعلّقت بالکفر والعصیان أو الإیمان والطاعة الناشئ کلّ منها عن إرادة العبد واختیاره ، وهذا التعلّق لا یوجب خروج أفعالهم عن اختیارهم لئلاّ یصحّ التکلیف بها ، ولو خرجت بذلک عن اختیارهم لزم تخلّف إرادة اللّه (تعالی) عن مراده ، حیث إنّ المراد هو الکفر والعصیان والإیمان والطاعة الصادرة من العباد عن اختیارهم ، وما تقدّم من أن_ّه إذا توافقتا فلا محیص عن الطاعة والإیمان فالمراد أنّه لا محیص عن الطاعة والإیمان الاختیاریین ، کما أنّ المراد من قولنا : (فلا محیص عن الکفر والعصیان) هو أنّه لا محیص عن اختیارهما .

ولکن لا یخفی أنّ المناقشة فی کون أفعال العباد اختیاریة لهم ، لا تنتهی بما ذکره ، وإلی ذلک أشار بقوله «إن قلت : إنّ الکفر والعصیان من الکافر والعاصی ولو کانا مسبوقین... إلخ» وحاصلها أنّ الکفر والعصیان وإن کانا ناشئین عن إرادة العبد واختیاره ، إلاّ أنّ إرادة العبد واختیاره ناشٍ عن مبادٍ غیر اختیاریّة وحاصلة بإرادة اللّه

ص :293

إن قلت: إنّ الکفر والعصیان من الکافر والعاصی ولو کانا مسبوقین بإرادتهما، إلاّ أنّهما منتهیان إلی ما لا بالاختیار، کیف؟ وقد سبقهما الإرادة الأزلیّة والمشیّة الإلهیّة، ومعه کیف تصح المؤاخذة علی ما یکون بالآخرة بلا اختیار؟.

قلت: العقاب إنّما بتبعة الکفر والعصیان التابعین للاختیار الناشئ عن الشَرح:

(تعالی) ومشیّته ، حیث إنّ خطور الفعل والتصدیق بفائدته والمیل (أی هیجان الرغبة) والجزم بعدم المانع لا یکون من واجب الوجود حتّی لا یحتاج إلی علّة ، ولا یکون حصولها بإرادة العبد وإلاّ لزم التسلسل ، فلابدّ من أن یؤثّر فیها إرادة اللّه (تعالی) ومشیّته ، فتکون النتیجة أنّ العقاب والمؤاخذه تکون علی ما یکون بالمآل بلا اختیار ، وهذا فی الحقیقة مذهب الجبریة ، وهو أنّ المؤثّر فی فعل العبد إرادة اللّه (تعالی) ومشیّته .

وأجاب عن ذلک أنّ العقاب یکون علی الکفر والعصیان ، وبتعبیرٍ آخر : استحقاق العقاب یتبع الکفر والعصیان (أی یلزمهما) والکفر والعصیان یتبعان إرادتهما ، وإرادتهما ناشئة عن مبادئها الناشئة عن الشقاوة الذاتیة للکافر والعاصی ، واللازم الذاتی لایحتاج إلی الجعل والعلّة ، فإنّ «السعید سعید فی بطن أُمّه ، والشقیّ شقیّ فی بطن أُمّه»(1) ، و«النّاس معادن کمعادن الذهب والفضة»(2) کما فی الخبر . وعلیه فالإطاعة والإیمان من المؤمن والمطیع تتبع إرادتهما الناشئة من مبادئها الناشئة عن السعادة الذاتیة اللازمة لخصوص الذات ، ونتیجة کلّ ذلک ، بما أنّ لوازم الذات لا یتعلق بها الجعل ، فلا تکون مبادئ إرادة الطاعة والإیمان أو الکفر والعصیان

ص :294


1- (1) التوحید للصدوق رحمه الله : ص356 ، الباب 58 ، الحدیث 3 .
2- (2) الروضة من الکافی : 8 / 177 ، الحدیث 197؛ مسند أحمد بن حنبل : 2 / 539 .

مقدماته، الناشئة عن شقاوتهما الذاتیة اللازمة لخصوص ذاتهما، فإن (السعید سعید فی بطن أمه، والشقی شقی فی بطن أمه) و (الناس معادن کمعادن الذهب والفضة)، کما فی الخبر، والذاتی لا یعلّل، فانقطع سؤال: إنّه لِمَ جعل السعید سعیداً الشَرح:

حاصلة بإرادة الحقّ (جلّ وعلا) ، کما هو مقتضی مذهب الجبریة . وقوله : «قلم اینجا رسید سر بشکست» کنایة عن انقطاع السؤال بلم .

حقیقة الإرادة من اللّه (سبحانه) ومن العبد

:

أقول : ما ذکره فی المقام وإن کان غیر مذهب الجبریة الملتزمین بأنّ تعلّق الإرادة الازلیة بفعل العبد ، هو الموجب لحصول الفعل منه بالإرادة ، وأنّ إرادة العبد مغلوبة لإرادة اللّه (تعالی) وإرادة اللّه هو الموجب للفعل ، إلاّ أنّ ما ذکره شبه الجبر فی نفی الاختیار حقیقة عن العباد فی أفعالهم ، فإنّ أفعالهم وإن کانت بإرادتهم ، وإرادتهم هی الموجبة لحصولها ، إلاّ أنّ سلسلة صدور الفعل ینتهی إلی ما لا یکون باختیار العباد ، وهی المبادئ المنتهیة إلی شقاوة الذوات وسعادتها.

فینبغی فی المقام التعرّض لما یظهر من کلام الماتن قدس سره وجوابه ، وبسط الکلام عن إرادة اللّه (عزّ وجل) وإرادة العبد بما یسع المجال فی هذا المختصر ، فنقول وعلیه التکلان:

إنّه یمکن تلخیص ما ذکره ضمن أُمور:

الأوّل: إن المنشأ بالأمر حتّی فی الخطابات الإلهیة هو الطلب الإنشائی ، والطلب الإنشائی یکون منبعثا من الطلب الحقیقی ، والطلب الحقیقی من اللّه (سبحانه) هو علمه بصلاح الفعل الصادر عن المکلف دون الإرادة التکوینیة منه (تعالی) التی هی العلم بالنظام الکامل التامّ . نعم ربّما توافقت الإرادة التکوینیة

ص :295

والشقی شقیاً؟ فإن السعید سعید بنفسه والشقی شقی کذلک، وإنّما أوجدهما اللّه تعالی (قلم اینجا رسید سر بشکست)، قد إنتهی الکلام فی المقام إلی ما ربّما لا یسعه کثیر من الافهام، ومن اللّه الرّشد والهدایة وبه الإعتصام.

وهم ودفع: لعلّک تقول: إذا کانت الإرادة التشریعیة منه تعالی عین علمه بصلاح الفعل، لزم _ بناءً علی أن تکون عین الطلب _ کون المنشأ بالصیغة فی الشَرح:

والطلب الحقیقی المعبّر عنه بالإرادة التشریعیة ، فلا محیص عن اختیار الطاعة والإیمان ، وربّما تخالفتا فلا محیص عن اختیار الکفر والعصیان .

الثانی: أنّ لزوم الطاعة والإیمان عند توافق الإرادتین واختیار الکفر والإیمان عند تخالفهما لا یوجب خروج الفعل عن اختیار العبد وصدوره عنه بإرادته ، وأنّ المؤثّر فی حصول الفعل هی إرادة العبد التی فسّرها فی کلماته _ تبعا للقوم _ بالشوق المؤکّد المحرّک للعضلات .

الثالث: أنّ إرادة العبد المتعلّقة بالطاعة والإیمان أو بالکفر والعصیان ، وإن افتقرت فی تحقّقها إلی المؤثّر لعدم کونها ضروریة وواجبة حتّی تستغنی عن العلّة وإنّ مبادئها عند اجتماعها هی المؤثّرة فی تحقّق الارادة ، إلاّ أنّ حصول تلک المبادئ غیر مستندٍ إلی إرادة اللّه (سبحانه) ، بل تستند إلی ما هو لازم الذات من السعادة والشقاوة ، وشیء منهما لا یعلّل ، حیث إنّ اللازم للذات لا یحتاج إلی علّة ، بل یوجد بتبع وجود الشیء لا محالة .

وأساس هذه الأُمور الثلاثة ، هو الالتزام بأمرین :

أحدهما: إنّ إرادة اللّه (سبحانه) من صفات الذات ، وعلیه تکون إرادته تعالی عین علمه ، سواء کانت الإرادة تکوینیة أو تشریعیة ، وبذلک صرّح فی کلامه قدس سره فی

ص :296

الخطابات الإلهیة هو العلم، وهو بمکان من البطلان.

لکنّک غفلت عن أنّ اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح، إنّما یکون خارجاً لا مفهوماً، وقد عرفت أن المنشأ لیس إلاّ المفهوم، لا الطلب الخارجی، ولا غرو أصلاً فی اتحاد الإرادة والعلم عیناً وخارجاً، بل لا محیص عنه فی جمیع صفاته تعالی، لرجوع الصفات إلی ذاته المقدسة، قال أمیر المؤمنین (صلوات اللّه وسلامه علیه): (وکمال توحیده الإخلاص له، وکمال الإخلاص له نفی الصفات عنه).

الشَرح:

«وهمٌ ودفعٌ» فذکر أنّ المنشأ فی الخطابات الإلهیة لیس هو العلم ، إذ العلم بالصلاح یتحد مع الارادة خارجا ، لا مفهوما . وقد عرفت أنّ المنشأ لیس إلاّ المفهوم لا الطلب الخارجی ، ولا غرو أصلاً فی اتّحاد الإرادة والعلم عینا وخارجا ، بل لا محیص عنه فی جمیع صفاته (تعالی) لرجوع الصفات إلی ذاته المقدّسة ، قال أمیرالمؤمنین علیه السلام : «وکمال توحیده الاخلاص له ، وکمال الاخلاص له نفی الصفات عنه»(1) .

ثانیهما: أنّ الممکن لا یوجد إلاّ مع تمامیّة علّته علی ما هو المعروف بینهم من «أنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد»(2)، بلا فرق بین الأفعال وغیرها، إرادیة کانت أو غیر إرادیة.

أقول : أمّا الأمر الأوّل وهو ما ذکره قدس سره من أنّ إرادة اللّه (سبحانه) من صفات الذات وعین العلم بالنظام علی النحو التامّ الکامل ، وإرادته التشریعیة عین العلم بمصلحة الفعل ، فقد أورد علیه المحقّق الاصفهانی قدس سره فی تعلیقته بأنّ صفات الذات تختلف کلّ منها مع الصفات الأُخری مفهوماً ، وإنّما یکون مطابقها _ بالفتح _ واحداً

ص :297


1- (1) نهج البلاغة : الخطبة 1 / 39 .
2- (2) الأسفار : 1 / 221 ، الفصل 15 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

خارجاً ؛ لأن_ّه تعالی بذاته صرف القدرة وصرف العلم وصرف الإرادة ، ولکن کلّ منها غیر الآخر مفهوما ، وعلی ذلک فلا یصحّ تحدید إرادته (سبحانه) بالعلم بالنظام الکامل التامّ والعلم بالصلاح ؛ ولذا قال أکابر القوم(1) : إنّ الإرادة فی ذات الحق (جلّ وعلا) هو الابتهاج والرضا وما یقاربهما فی المعنی ، لا العلم بالنظام أو الصلاح فی الفعل . نعم الإرادة فینا هی الشوق المؤکّد .

والسرّ فی الاختلاف وتحدید الإرادة منّا بالشوق المؤکّد وفی ذات الحق (جلّ وعلا) بصرف الابتهاج الذاتی والرضا هو إنّا لمکان إمکاننا وقصور فاعلیّتنا حیث نحتاج _ فی ظهور هذه الفاعلیة إلی الفعلیة _ إلی مقدماتٍ زائدة علی ذاتنا من تصور الفعل والتصدیق بالفائدة ، فبالشوق الأکید تصیر القوة الفاعلیة فعلیّة ومحرّکة للعضلات ، بخلاف ذات الحقّ (جلّ وعلا) ، فإنّه خالٍ عن جهات القوّة والنقص وعدم الفعلیة ، فإنّه فاعل بذاته المریدة ، حیث إنّ ذاته بذاته مبتهجة أتمّ الابتهاج وینبعث عن الابتهاج الذاتی الإرادة الفعلیة ، کما وردت الأخبار بذلک عن الأئمّة الأطهار (صلوات اللّه وسلامه علیهم) ، إنتهی ما أردنا إیراده من کلامه قدس سره (2) .

ولکن لا یخفی أنّ الشوق المؤکّد منّا لا یطلق علیه الإرادة ، فإنّ الإرادة تطلق علی أحد أمرین :

أحدهما: القصد إلی الفعل والعزم والبناء علی العمل .

ثانیهما: بمعنی الاختیار ، وهو صَرف القدرة فی أحد طرفی الشیء من الفعل

ص :298


1- (1) القبسات للسید میرداماد : ص 322 .
2- (2) نهایة الدرایة : 1 / 278 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

أو إبقائه علی عدمه ، والشوق المؤکّد غیر هذین الأمرین ، والشاهد علی عدم کون الشوق المؤکّد علّة لصدور الفعل منّا فضلاً عن کونه علّة تامّة هو صدور بعض الأفعال عن الإنسان باختیاره بلا اشتیاق منه إلی الفعل المفروض ، فضلاً عن کونه مؤکّدا ، کما إذا أصابت عضو الإنسان آفة ، یتوقّف دفع سرایتها إلی سائر بدنه والتحفّظ علی حیاته علی قطع ذلک العضو، فإنّ تصدّیه لقطعه بالمباشرة أو بغیرها یکون بلا اشتیاق منه إلی القطع ، بل ربّما لا یحبّ الحیاة بدون ذلک العضو المقطوع ، ولکن یقطعه امتثالاً لما هو الواجب علیه شرعا تخلّصاً من عذاب مخالفة التکلیف ، وأیضاً الشوق المؤکّد قد یتعلّق بفعل لا یتمکّن منه ویعلم بعدم الوصول إلیه ، مع أنّ العاقل لا یرید غیر المقدور له ، وکلّ من الأمرین شاهد قطعی علی أنّ الشوق المؤکّد غیر الإرادة التی لا تتعلّق بغیر المقدور مع الالتفات إلی أن_ّه غیر مقدور ، نعم قد یکون الاشتیاق _ مؤکّدا أو غیر مؤکّد _ داعیا له إلی إرادة المشتاق إلیه أو إرادة الإتیان بأعمال یترتّب علیها ذلک المشتاق إلیه جزما أو احتمالاً ، وهذا أمر نتعرّض له إن شاء اللّه تعالی .

هذا بالإضافة إلینا ، وأمّا بالإضافة إلی ذات الحق (جلّ وعلا) فلا دلیل علی أنّ إرادة اللّه (سبحانه) من صفات الذات حتّی تفسّر بالعلم أو بالابتهاج الذاتی والرضا ، بل قام الدلیل علی أنّها من صفات الأفعال ، کما أنّ الرضا والسخط أیضاً من صفات الأفعال ، ولا یرتبطان بصفات الذات ، کالقدرة والعلم والحیاة .

فقد ورد فی صحیحة عاصم بن حمید عن أبی عبداللّه علیه السلام قال قلت : لم یزل اللّه مریدا ، قال : لا یکون المرید إلاّ لمراد معه ، لم یزل اللّه عالما قادرا ثمّ أراد(1) .

ص :299


1- (1) الکافی : 1 / 109 ، باب الإرادة أنّها من صفات الفعل ، الحدیث 1 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وفی صحیحة صفوان بن یحیی قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : أخبرنی عن الإرادة من اللّه ومن الخلق ؟ فقال : الإرادة من الخلق الضمیر وما یبدو لهم بعد ذلک من الفعل ، وأمّا من اللّه تعالی فإرادته إحداثه لا غیر ذلک ؛ لأن_ّه لا یروّی ولا یهمّ ولا یتفکّر ، وهذه الصفات منفیة عنه وهی صفات الخلق ، فإرادة اللّه الفعل لا غیر ، یقول له کن فیکون ، بلا لفظٍ ولا نطقٍ بلسان ، ولا همّةٍ ولا تفکّر ، ولا کیف لذلک ، کما أن_ّه لا کیف له(1) ، وظاهر نفی الکیف نفی الابتهاج .

والوجدان أکبر شاهدٍ علی أنّ أفعال العباد من الطاعة والعصیان والإیمان والکفر ، کلّها خارجة عن إرادة اللّه ومشیتّه ، بل إرادته ومشیّته (جلّت عظمته) قد تعلّقت بتشریع تلک الأفعال علی العباد ، وجعل الدنیا دار الابتلاء والامتحان لهم ؛ لیتمیّز الخبیث من الطیّب ، ومن یستمع قول الحقّ ویتّبعه عمّن یعرض عنه وینسی ربَّه ویومَ الحساب ، ویشتغل بالدنیا وغرورها . نعم بما أنّ أفعال العباد تصدر عنهم بحول اللّه وقوّته ، یعنی بالقدرة التی أعطاها ربّ العباد إیّاهم ، وأرشدهم إلی ما فیه الرشد والهدایة وسعادة دنیاهم وعقباهم ، یصحّ أن یسند اللّه (سبحانه) أفعال الخیر إلی نفسه ، کما فی قوله سبحانه : «وَما رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَلکِنَّ اللّهَ رَمَی» الآیة(2) ، وقوله سبحانه : «وَما تَشاءُوْنَ إِلاّ أنْ یَشاءَ اللّهُ»(3) ، حیث إنّ کلّ ما یصدر عنّا هو من قبیل تحریک العضلات ، ولکن معطی قوة الحرکة ونفس العضلات هو اللّه (سبحانه) ، وإذا أمسک قوّتها فلا نتمکّن من الفعل ، فیکون صدور الفعل عنّا باختیارنا وإرادتنا ،

ص :300


1- (1) الکافی : 1 / 109 ، باب الإرادة أنّها من صفات الفعل ، الحدیث 3 .
2- (2) سورة الأنفال : الآیة 17 .
3- (3) سورة الإنسان : الآیة 30 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

علی تقدیر إعطاء اللّه وعدم إنهاء ما بذله ، فیصحّ أن یقول اللّه (سبحانه) : لا یصدر عنک فعل إلاّ بمشیّتی ، وإذا لاحظت مثل هذه الأُمور کما إذا أوجد شخص أمراً تکون تمام آلاته ومعدّاته بید الغیر وکانت بإعطائه ، تجد من نفسک أنّه یصحّ للغیر أن یقول : أنا أوجدت الأمر وفعلک ذلک کان بمشیّتی ، فکذلک یصحّ أن یقال إنّ أفعال العباد تکون بمشیّة اللّه (عزّ وجلّ) ، وربما یضاف إلی صحّة الإسناد إلی اللّه (عزّ وجلّ) ملاحظة لطفه وتأییده وعنایته (سبحانه) إلی العبد .

فی قاعدة «الشیء ما لم یجب لم یوجد» وموردها

:

وأمّا الأمر الثانی إنّ ما بنی علیه الماتن قدس سره _ تبعا لأهل المعقول من «أنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد»(1) وأنّ فعل العبد ما لم یکن بالغا حدّ الوجوب لم یتحقّق خارجا ، بدعوی أنّ هذا لازم إمکان الشیء بلا فرق بین الأفعال وغیرها ، ولذلک التزموا بأنّ الإرادة بالمعنی الذی فسّروها به من الشوق المؤکّد علّة للفعل ، وذلک الشوق أیضاً یوجد بمبادئه المترتّبة علی حسن الذات وسعادتها أو خبثها وشقاوتها ، والسعادة والشقاوة من لوازم الذات لا تحتاج إلی علّة ؛ لأن_ّها توجد بالعلّة الموجدة لنفس الذات _ فممّا لا یمکن المساعدة علیه، إذ لو کان الأمر کما ذکره، فکون أفعال العباد اختیاریة لهم، مجرد تسمیة لا واقع لها، ولا یکون فی البین من حقیقة الاختیار شیء.

کما أنّ ما تقدّم منه قدس سره ، من تعلّق إرادة اللّه (عزّ وجل) التکوینیة بالأفعال الصادرة عن العباد باختیارهم ، إن کان المراد منه أن_ّه علی تقدیر صدور الفعل عن العباد بإرادتهم ، فذلک الفعل متعلق إرادة اللّه (عزّ وجلّ) ، فهذا من قبیل إرادة ما هو

ص :301


1- (1) الأسفار : 1 / 221 ، الفصل 15 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الحاصل . وإن کان المراد أن_ّه لا محیص عن صدور الفعل المذکور ، فیکون مقتضی إرادة اللّه حصول مبادئ الإرادة للعبد ، وهو یقتضی لابدّیة صدور الفعل ، فهذا أیضاً یساوی مسلک الجبر ؛ إذ مع حصول مبادئ الإرادة تکون إرادة العبد واجبة الوجود والمفروض أنّ إرادة العبد علّة تامّة لصدور الفعل عنه ، فأین الاختیار ، وکیف یصحّ التکلیف ، وکیف یصحّ عقابه علی مخالفة التکلیف ؟ مع أنّ العبد البائس المسکین لا یتمکّن من ترک المخالفة مع حصول مبادئ الإرادة بتبع شقاوة ذاته ، أو بإرادة اللّه (عزّ وجل) ، ومعه کیف یصحّ التوبیخ بمثل قوله سبحانه «قُلْ هُوَ الَّذِی أنْشَأَکُمْ وَجَعَلَ لَکُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِیْلاً مّا تَشْکُرُوْنَ»(1) .

مع أنّ للعبد المسکین أن یجیب بأنّی لا أتمکّن من الشکر لک ، فأنت الذی أوجدت مبادئ إرادة الکفر والطغیان فی نفسی ، أو إنّ لی ذاتا لازمها الشقاوة المستتبعة لمبادئ الکفر والنفاق والطغیان ، ولا حیلة لی بغیرها ، فکیف یصح عقابه ؟ وفی الصحیح عن یونس بن عبدالرحمن ، عن عدة ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال له رجل : جعلت فداک أجَبَرَ اللّه العباد علی المعاصی ؟ فقال : اللّه أعدل من أن یجبرهم علی المعاصی ، ثمّ یعذبهم علیها ، فقال له : جعلت فداک ، ففوّض اللّه إلی العباد ؟ فقال : لو فوّض إلیهم لم یحصرهم بالأمر والنهی ، فقال له : جعلت فداک ، فبینهما منزلة ؟ قال فقال : نعم ، أوسع ما بین السماء والأرض(2) .

ص :302


1- (1) سورة الملک : الآیة 23 .
2- (2) الأُصول من الکافی : 1 / 159 باب الجبر والقدر ، الحدیث 11 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الملاک فی اختیاریة افعال العباد

:

وبالجملة ما ذکروه من قاعدة «عدم إمکان حدوث شیء إلاّ عن علّة تامّة» و«أنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد» لا تجری فی الأفعال الاختیاریة ، حیث إنّ المعلول وجوده ترشحی، أو انفعال بالخاصیّة ، بخلاف الفعل الاختیاری ، فإنّ قدرة الفاعل علی أمر لا تتحقّق إلاّ إذا تساوی طرفاه من الفعل أو الترک بالإضافة إلی الفاعل ، فلو لم یکن الفاعل متمکّناً علی کلّ من إیجاده وترکه قبل أن یصدر منه الفعل ، لما کان فی البین قدرة ، بل کان جبر واضطرار ، حتّی بالإضافة إلی الواجب (جلّ علا) ، حیث إنّه بقدرته الذاتیة یختار کون الشیء فیوجد ، بلا فرق بین تعلّق إرادته بالوجود عن طریق المقدمات الإعدادیة أو بدونها .

والحاصل إمکان صدور الفعل عن الفاعل بالاختیار لا یحتاج إلی غیر قدرته علیه ، نعم العاقل لا یصرف قدرته فیما لا یعنیه و ما لیس له فیه صلاح ، بل یصرفها علی أحد طرفی الشیء لغرض ، من غیر أن یکون ترتّب الغرض علی ذلک الطرف موجبا لسلب قدرته عن الطرف الآخر ، وبتعبیرٍ آخر : یکون ترتّب الغرض علی أحد طرفی الشیء مرجّحا لذلک الطرف علی الآخر ؛ ولذا یسمّی إعمال القدرة وصرفها فی أحد طرفی الشیء اختیارا؛ لأنّ الإنسان یأخذ بما فیه الخیر، وقد اعترف الماتن قدس سره فی بحث التجرّی(1) ببعض ما ذکرناه _ من کون اختیاریة الفعل بالتمکّن من عدمه _ حیث ذکر أنّ بعض مبادئ اختیار الفعل اختیاریة ، لتمکّنه من عدمه بالتأمّل فیما یترتّب علیه ، فراجع .

ص :303


1- (1) کفایة الأُصول: ص260.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

إن قلت : أفلا یکون مقتضی التوحید والاعتراف بوحدانیة الخالق ، هو الالتزام بأنّ ما یحصل فی الکون _ ومنها أفعال العباد _ مخلوقة للّه (سبحانه) ، لئلاّ یکون مؤثّراً فی الوجود وخالقاً للکون إلاّ هو وإنّما یصحّ العقاب حینئذٍ علی فعل العبد ، فلأجل أنّ الفعل فی الحقیقة وإن کان بإرادة اللّه ، إلاّ أنّ اللّه تعالی یرید فعل العبد ، إذا تعلّقت إرادة العبد به ، فیکون المؤثّر فی ذلک إرادة اللّه ، والعبد أیضاً أراد تحقیقه وإیجاده ، ولکن إرادته لا تؤثّر فی الواقع شیئا ، ویعبّر عن إرادة العبد کذلک بالکسب ، فیکون العقاب علی کسب العبد ، وإن شئت فلاحظ من أراد رفع حجر عن مکان ، باعتقاد أنّه متمکّن من رفعه ، ولکن عند تصدّیه للرفع یظهر عدم تمکّنه منه ، فیضع شخص آخر أقوی منه یده تحت ذلک الحجر ویرفعه ، فارتفاع الحجر عن مکانه یکون برفع هذا الشخص الثانی خاصّة ، ویستند الرفع إلیه دون الأوّل ، إلاّ أنّ سبب رفع الثانی للحجر هو تعلّق إرادة الأوّل برفعه ، ولأجله لا مانع من إسناد الرفع إلی المرید خاصّة .

قلت : إنّ ما ذکر لا فی تصحیح العقاب یجدی ولا فی التحفّظ علی وحدة الخالق والمؤثّر فی الکون ومنه أفعال العباد .

أمّا الأوّل؛ فلأنّه لا یصحّ عند العقل أن یذمّ رافع الحجر حقیقة، مریدَ الرفع خاصّة ویوبّخه علی الرفع؛ لأنّه لم یرفعه، بل أراد رفعه فحسب، فالتوبیخ والذمّ یرد علی رافع الحجر حقیقة الذی هو الشخص الثانی. نعم یصحّ توبیخ الأوّل علی إرادة الرفع لا علی نفس الرفع، وإذا فرض أنّ إرادته أیضاً فعل مخلوق یکون المؤثّر فیه إرادة اللّه (سبحانه) فلا یصحّ عقابه ولا توبیخه علی الإرادة المخلوقة، وإن قیل بأنّ إرادة المرید ناشئة عن مبادیها، ومبادیها ناشئة عن خبث السریرة والشقاوة الذاتیّة

ص :304

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

کما تقدّم فی کلام الماتن قدس سره ثبت أیضاً أنّه لا مصحّح للعقوبة علی ارادته ولا علی فعله.

وأمّا الثانی فیظهر جوابه ممّا أجبنا آنفا عن مقالة الفلاسفة فی قاعدة «أنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد» فراجع.

فتحصّل أنّ ما ذکره الفلاسفة من قاعدة «أنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد» لا یجری فی الفاعل بالاختیار ، فإنّه بعد لحاظ الشیء والتصدیق بفائدته والمیل إلیه والجزم بعدم المانع ، یبقی الفاعل المختار قادرا علی اختیار کلّ من الفعل والترک ، والمبادی لا تجعل الفعل من قبیل واجب الوجود ، بل إنّها مرجّحة لاختیاره طرف الفعل ، حیث إنّ الفاعل الحکیم لا یختار الفعل إلاّ مع الصلاح فی شخصه أو المزیة فی الجامع بینه وبین فعلٍ آخر ، کما إذا لم تکن مزیّة فی خصوص أحد الفعلین بالإضافة إلی الآخر ، فإنّ قیام المزیّة فی الجامع کافٍ فی کون اختیار الفعل بالحکمة ، ویدلّک علی ذلک أنّ الهارب یختار أحد الطریقین مع عدم المزیة لأحدهما بالإضافة إلی الآخر .

وحکی عن الفخر الرازی(1) استدلاله علی ذلک بأنّه لا مرجّح لحرکة الشمس من المشرق إلی المغرب ، وقد طعن علیه صدرالمتألّهین فی شرحه علی أُصول الکافی(2) ، ولم یأت فی الردّ علیه إلاّ بالطعن والشتم .

ولکن لا یخفی ما فی المحکی ، حیث إنّ حرکة الأرض حول نفسها ، أو حرکتها

ص :305


1- (1) المباحث المشرقیة .
2- (2) شرح أُصول الکافی لصدرالمتألهین .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

حول الشمس ، لیست من الأفعال الاختیاریة لها ، فلابدّ من خصوصیة خارجیة تقتضی تعین تلک الحرکة . نعم خلق الشمس أو الأرض بتلک الخصوصیة من فعل اللّه (سبحانه) ، ولا سبیل لنا إلی الجزم بأنّ الخلق بتلک الخصوصیة کان لمرجّح فی الجامع بین الخصوصتین.

ونظیر ما ذکره الفلاسفة بالإضافة إلی الأفعال _ من دعوی اقتضاء التوحید ونفی الشرک فی الخلق _ الالتزام بأنّ أفعال العباد مخلوقة للّه (سبحانه) تمسّکا ببعض الآیات:

مثل قوله (سبحانه) : «وَاللّهُ خَلَقَکُمْ وَما تَعْمَلُوْنَ»(1) .

وقوله (سبحانه) : «وَما تَشاءُونَ إِلاّ أَنْ یَشاءَ اللّهُ»(2) .

وقوله (سبحانه) : «وَلاتَقُولَنَّ لِشَیْءٍ إِنِّی فَاعِلٌ ذلِکَ غَدَا إِلاّ أَنْ یَشَاءَ اللّهُ»(3) .

وقوله (سبحانه) : «وَما کانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إلاّ بِإِذْنِ اللّهِ»(4) .

وقوله (سبحانه) : «الَّذِی لَهُ مُلْکُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ یَتَّخِذَ وَلَدَا وَلَمْ یَکُنْ لَهُ شَرِیْکٌ فِی المُلْکِ»(5) أی الخلق . إلی غیر ذلک .

والجواب عنها : أنّ الآیات المذکورة ونحوها إذا لوحظت فی مقابل مثل قوله (سبحانه) : «إِنَّ اللّهَ لا یَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإنْ تَکُ حَسَنَةً یُضاعِفُها وَیُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً

ص :306


1- (1) سورة الصافات : الآیة 96 .
2- (2) سورة الإنسان : الآیة 30 .
3- (3) سورة الکهف : الآیة 23 .
4- (4) سورة یونس : الآیة 100 .
5- (5) سورة الفرقان : الآیة 2 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

عَظِیْماً»(1) .

وقوله (سبحانه) : «وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرا وَلا یَظْلِمُ رَبُّکَ أَحَدَا»(2) .

وقوله (سبحانه) : «إِنَّا هَدَیْناهُ السَّبِیْلَ إِمّا شاکِرا وَإِمَّا کَفُوْرَاً»(3) .

ومثل قوله (سبحانه) حکایة عن أهل النار : «قالُوا بَلی قَدْ جائَنَا نَذِیْرٌ فَکَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللّهُ مِنْ شَیْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إلاّ فِی ضَلالٍ کَبِیْرٍ وَقالُوا لَوْ کُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما کُنَّا فِی أَصْحابِ السَّعِیْرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقَا لأَصْحابِ السَّعِیْرِ»(4) ونحوها ، یتّضح کمال الوضوح أنّ إسناد الأفعال إلی اللّه (سبحانه) فی مثل الحسنات والأفعال الحسنة ، إنّما هو باعتبار أنّ القدرة علی العمل والمعدات التی یتوقّف علیها العمل کلّها من اللّه (سبحانه) ، ولذا لن تجد موردا فی کتاب اللّه (سبحانه) أو غیره أُسند فیه العمل القبیح الصادر عن العبد إلیه (تعالی) ؛ ولذا ذکرنا أنّ التوحید لا یقتضی إسناد الظلم إلی اللّه (تعالی) بأن تکون إرادته المشار إلیها فی قوله تعالی : «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئَا»(5) متعلّقة بأفعال العباد الاختیاریة التی یتعلق بها التشریع ، بل تلک الإرادة تعلّقت بکونهم مختارین ، حیث إنّ الدنیا دار الفتنة والامتحان . وأمّا قولنا : أراد اللّه أن نصلّی ونصوم ، فمعناه أن_ّه سبحانه طلب منّا العمل وأمرنا أن نفعل .

فتلخّص من جمیع ما ذکرنا أن_ّه إذا لوحظ صحّة تکلیف العباد وجواز

ص :307


1- (1) سورة النساء : الآیة 40 .
2- (2) سورة الکهف : الآیة 49 .
3- (3) سورة الإنسان : الآیة 3 .
4- (4) سورة الملک : الآیة 9 _ 11 .
5- (5) سورة یس : الآیة 82 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

مؤاخذتهم علی ما ارتکبوا من المعاصی ، ولوحظت الآیات الواردة فی أمر العاصین بالتوبة والاستغفار وأمر المؤمنین بالاستقامة فی الدین، ولوحظ ما ورد من الآیات من کون العاصین ظالمی أنفسهم ، تجد أنّ إسناد بعض الأفعال إلی اللّه (سبحانه) لیس بمعنی نفی اختیار العبد فیها ، بل بمعنی أنّ القدرة علیها بمشیّة اللّه وإرادته ، وربما یلقی (سبحانه) حبّ العمل والشوق إلیه فی أنفسهم ، فیکون ذلک تأییدا للعبد علی الاستقامة ونیل الثواب ، بعد علمه (سبحانه) أنّ العبد یهمّ بالطاعة والاجتناب عن السیّئات ما أمکن .

ویظهر من ذلک بطلان توهّم علّیّة سوء السریرة ، أو حسنها لحصول المبادی التی من قبیل العلّة التامّة لحصول الإرادة _ یعنی الشوق المؤکّد المحرّک للعضلات _ ، وکذا بطلان توهّم أنّ اختیاریة فعل العبد ینافی مسلک التوحید الأفعالی ، والالتزام بالملک المطلق للّه (سبحانه) .

إبطال مسلک التفویض

:

وأمّا مسلک التفویض المقابل للجبر ، فقد یقال إنّه مبنی علی مسلک استغناء الممکن فی بقائه عن العلة .

ولکن لا یخفی سخافة هذا البناء والمبنی ، وذلک لأنّ بقاء الممکن بلا علّة ، کحدوثه بلا علة فی الامتناع ، حیث إنّ اختلاف الأشیاء الممکنة فی البقاء والزوال ، واختلافها فی طول البقاء وقصره ، یکون مستندا إلی أمر لا محالة ، ولو کان مجرّد العلّة لحدوث شیء کافیا فی بقائه مع استواء البقاء والزوال بالإضافة إلیه لأمکن تحققه کذلک فی الآن الأوّل أیضاً بعین وجه تحقّقه فی الآن الثانی . وبالجملة فما فی

ص :308

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الکون من الممکنات تحتاج فی بقائها ، کحدوثها إلی الموجب .

وینبغی أن یُبتنی مسلک التفویض علی أمرٍ آخر، وهو أنّ الممکن وإن کان محتاجا فی بقائه إلی العلّة ، إلاّ أنّ حاجة الکائنات ومنها الإنسان إلی ذات الباری (عزّ وجلّ) من قبیل حاجة المنفعل والمصنوع إلی الفاعل والصانع ، فتکوین الإنسان وسائر الکائنات وإن حصل بإرادة اللّه (عزّ وجلّ) ومشیّته التی بها تکوّنت الأشیاء وظهرت من ظلمات الماهیات إلی نور الوجود إلاّ أنّ بقائها مستند إلی موجبات البقاء فیها من الخصوصیات والاستعدادات المکنونة فی بعض الأشیاء واستمداد بعضها من البعض الآخر نظیر البناء ، فإنّه وإن احتاج فی حدوثه إلی البنّاء ، ولکن بقائه مستند إلی القوة والاستعداد فی الأجزاء المستعملة فی البناء .

واللّه (سبحانه) خلق الأشیاء وکوّنها بإرادته ومشیّته، بما فیها من الخصوصیّات والاستعدادات ، ولکن تلک الخصوصیّات والاستعدادات الحادثة بعد حدوث المَثَل أو قبله تنتهی وتفنی ، وإذا انتهی بعض ما فی الکون الظاهر لنا من الخصوصیّات والاستعدادات یظهر أنّ کلّ شیء منه فان ویبقی وجه ربک ذو الجلال والإکرام ، وعلی ذلک فالإنسان المخلوق فی الکون والباقی منه الموجود بتولید المثل یکون کلّ ما یفعله بإرادته واختیاره من نفسه ، ولا یستند شیء منها إلی الخالق (سبحانه) لعدم استناده فی البقاء إلیه .

ولکن لا یخفی سخافة هذا الوجه أیضاً ، فإنّ الکائنات فی العالم لا تقاس بالبناء الحاصل من فعل البنّاء ، فإنّ خالق الکائنات حیّ قیّوم له ملک السموات والأرض ، إذا أراد شیئا یکون ، وإذا أراد عدمه فلا یکون ، بلا فرق فی ذلک بین الأشیاء الحاصلة بالعلل المادیة أو من أفعال الإنسان أو غیره .

ص :309

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ولیس المراد أنّ العلّیة بین المعلولات وعللها باطلة وإنّما جرت عادة اللّه (سبحانه) أن یخلق بعض الأشیاء بعد خلق بعضها الآخر کما یقول به القائل بالجبر تحفّظا علی التوحید .

بل المراد أنّ بقاء الشیء المستند إلی علّته المبقیة _ لیصیر علّة لوجود شیء آخر إنّما ینشأ من عدم تعلّق إرادة اللّه بإفنائه کما أنّ حصول شیء من شیء آخر موقوف علی تعلّق إرادة اللّه بحصوله منه ، وإلاّ فإن تعلّقت إرادته (جلّت قدرته) بأن لا یوجد فلا یوجد ، إمّا بإرادة زوال العلّة أو بخلق المزاحم للتأثیر والعلّیة «وَکانَ اللّهُ بِکُلِّ شَیْءٍ مُحِیْطا»(1) .

وقد تقدّم أنّ مشیّته (جلّت عظمته) قد تعلّقت بکون الإنسان قادرا متمکّنا من الأفعال ، ومنها الأفعال التی تعلّق بها طلبه وإرادته بمعنی الإیجاب والندب ، وما تعلّق به زجره ومنعه ، کی یتمیّز المطیع من العاصی ، والکافر من المؤمن ، والصالح من الطالح ، «وَاللّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِیْطٌ»(2) ، «وَاللّهُ بِما یَعْمَلُوْنَ مُحِیْطٌ»(3) ، «وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوْهُ فَذَرْهُمْ وَما یَفْتَرُوْنَ»(4) ، «وَلَوْ شاءَ رَبُّکَ لاَآمَنَ مَنْ فِی الأَرْضِ کُلُّهُمْ جَمِیْعا»(5) ، «وَلَوْ شِئْنا لاَآتَیْنا کُلُّ نَفْسٍ هُداها»(6) .

ص :310


1- (1) سورة النساء : الآیة 126 .
2- (2) سورة البروج : الآیة 20 .
3- (3) سورة الأنفال : الآیة 47 .
4- (4) سورة الأنعام : الآیة 137 .
5- (5) سورة یونس : الآیة 99 .
6- (6) سورة السجدة : الآیة 13 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ومع کون العباد وأفعالهم محاطاً بهم «وَکانَ اللّهُ عَلَی کُلِّ شَیْءٍ رَقِیْبا»(1) قد تصیب رحمته ورأفته العبد ویؤیّده حتّی یجتنب الحرام ، أو یفعل الطاعة ، قال (عزّ من قائل) : «وَمَنْ یُؤْمِنْ بِاللّهِ یَهْدِ قَلْبَهُ»(2) ، «فَاعْلَمُوا أنَّ اللّهَ یَحُوْلُ بَیْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ»(3) ، وقال سبحانه : «اللّهُ خالِقُ کُلِّ شَیْءٍ وَهُوَ عَلی کُلِّ شَیْءٍ وَکِیْلٍ»(4) ، «قَالَتِ الْیَهُودُ یَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَیْدِیْهِمْ وَلُعِنُوا بِما قَالُوا»(5) ، إلی غیر ذلک من الآیات الواضحة فی أنّه (تعالی) هو القاهر فوق کلّ شیء ، وأنّه یحیی ویمیت ، وینزل الغیث ، ویرزقکم من السماء، وبیده ملکوت کلّ شیء.

والبرهان العقلی علی ذات الحقّ (جلّ وعلا) مقتضاه أیضاً ما ذکر ، والتعرّض له لا یناسب المقام ، ومن اللّه الهدایة والرشاد .

ص :311


1- (1) سورة الأحزاب : الآیة 52 .
2- (2) سورة التغابن : الآیة 11 .
3- (3) سورة الأنفال : الآیة 24 .
4- (4) سورة الزمر : الآیة 62 .
5- (5) سورة المائدة : الآیة 64 .

ص :312

الفصل الثانی فیما یتعلق بصیغة الأمر

اشارة

وفیه مباحث:

الأول: إنّه ربّما یذکر للصیغة معان قد استعملت فیها [1]، وقد عدّ منها: الترجی، والتمنی، والتهدید، والإنذار، والإهانة، والإحتقار، والتعجیز، والتسخیر، إلی غیر ذلک، وهذا کما تری، ضرورة أن الصیغة ما استعملت فی واحد منها، بل لم الشَرح:

معنی صیغة الأمر

:

[1] ذکر قدس سره أن_ّه قد یذکر لصیغة الأمر معانٍ استعملت فیها ویعد منها الترجّی والتمنّی والتهدید والإنذار والإهانة والاحتقار والتعجیز والتسخیر ، إلی غیر ذلک ممّا أنهاها بعضهم إلی خمسة عشر معنی ، فیقع الکلام فی أنّ استعمال صیغة الأمر فی الموارد المزبورة هل هو من قبیل استعمال اللفظ فی معانیه المتعدّدة کما ذکر ، فمثلاً أنّ قول القائل : (یا ربّ تب علی) مرادف لقوله : (لعل اللّه یغفر لی) ، وقوله : (لیت ربّی یرجعنی) مرادف لقوله : (یاربّ ارجعنی) إلی غیر ذلک ، أو أنّ المستعمل فیه للصیغة فی جمیع الموارد أمرٌ واحد وهو إنشاء الطلب المتعلّق بالمادة، إلاّ أنّ الداعی

ص :313

یستعمل إلا فی إنشاء الطلب، إلاّ أن الداعی إلی ذلک، کما یکون تارة هو البعث والتحریک نحو المطلوب الواقعی، یکون أخری أحد هذه الأمور، کما لا یخفی.

قصاری ما یمکن أن یدعی، أن تکون الصیغة موضوعة لإنشاء الطلب، فیما إذا کان بداعی البعث والتحریک، لا بداعٍ آخر منها، فیکون إنشاء الطلب بها بعثاً حقیقة، وإنشاؤه بها تهدیداً مجازاً، وهذا غیر کونها مستعملة فی التهدید وغیره، فلا تغفل.

الشَرح:

إلی إنشائه یختلف ، فتارة یکون الغرض إرادة حصول داعی الإنبعاث لدی المطلوب منه فیکون الطلب المنشأ بعثا وتکلیفا ، وأُخری یکون الداعی إلی إنشائه ترجی المادّة أو تمنّیها ، وثالثة إظهار عجز المطلوب منه ، ورابعة إظهار وهنه فیکون تحقیرا ، وإلی غیر ذلک .

والذی یشهد به الوجدان فی موارد استعمالات الصیغة ، هو أن المستعمل فیه إنشاء طلب المادّة ممّن یتوجه إلیه الطلب ، والاختلاف إنّما هو فی ناحیة الدواعی إلی إنشائه .

وغایة ما یمکن أن یقال إنه اشترط فی وضع صیغة الأمر لإنشاء الطلب ، کون الداعی والغرض حصول ما یمکن أن ینبعث به المطلوب منه نحو الفعل وإیجاد المادة ، وهذا نظیر اشتراط قصد الإنشاء والإخبار ، أو قصد اللحاظ الآلی والاستقلالی فی وضع الحروف والأسماء .

وبالجملة فاختلاف الدواعی فی إنشاء الطلب أمر واختلاف المستعمل فیه لصیغة الأمر أمر آخر، وقد اشتبه أحدهما بالآخر، وعلی ما ذکرنا یکون استعمالها فی غیر موارد البعث والتحریک من استعمال اللفظ فی معناه، ولکن بغیر الوضع، فیکون مجازا.

وقد یقال : إنّ الصیغة فی موارد الطلب تستعمل لإبراز کون المادة علی عهدة

ص :314

إیقاظ: لا یخفی أن ما ذکرناه فی صیغة الأمر، جار فی سائر الصیغ الإنشائیة [1]، فکما یکون الداعی إلی إنشاء التمنی أو الترجی أو الإستفهام بصیغها، تارة هو ثبوت هذه الصفات حقیقة، یکون الداعی غیرها أخری، فلا وجه للإلتزام بانسلاخ صیغها عنها، واستعمالها فی غیرها، إذا وقعت فی کلامه تعالی، لاستحالة مثل هذه المعانی فی حقه تبارک وتعالی، ممّا لازمه العجز أو الجهل، وأنّه الشَرح:

الغیر ، وأمّا إذا استعملت فی غیر مقام الطلب ، یکون المستعمل فیه أمرا آخر ، وکون استعمالها فی معنی واحد فی جمیع المقامات _ مع الإختلاف فی الدواعی کما ذکر _ مبنی علی کون الإنشاء إیجادا للمعنی باللفظ لا إبرازا للاعتبار الحاصل بالنفس .

أقول : الظاهر عدم الفرق بین القول بأنّ الإنشاء عبارة عن قصد إیجاد عنوان اعتباری بالتلفّظ، أو أنّه إبراز لأمرٍ اعتباری حاصل من النفس مع قطع النظر عن الإبراز بالتلفّظ ، حیث إنّ اعتبار الفعل علی عهدة الغیر وإبرازه قد یکون لغرض التصدّی إلی حصول الفعل منه خارجا، وأُخری لغرض إظهار عجزه عنه أو وهنه وحقارته، إلی غیر ذلک، هذا وقد تقدّم عدم کون مدلول الصیغة اعتبار الفعل علی العهدة.

نعم هذا الاعتبار إذا حصل وأُبرز ممّن له ولایة الطلب علی الغیر فهو یعتبر إیجابا وطلبا منه ، إلاّ أنّ الصیغة لم توضع له ، ویشهد له عدم اختلاف معنی الصیغة فی موارد استعمال العالی والدانی ، وموارد الإیجاب والاستحباب ، علی ما تقدّم .

[1] مراده : کما أنّ صیغة الأمر تستعمل فی إنشاء الطلب ویکون الاختلاف فی الدواعی لإنشائه ، کذلک فی التمنّی والترجّی والاستفهام ، فإنّ صیغة کلّ واحدة منها وضعت لإنشاء الترجّی أو غیره ، غایة الأمر تارةً یکون الداعی إلی إنشاء الترجّی مثلاً ثبوت الترجّی الحقیقی فی النفس ، وأُخری یکون الداعی إلی إنشائه حصول طلب الفعل والبعث إلیه ، وفی أداة الاستفهام یکون المستعمل فیه إنشاء طلب الفهم ،

ص :315

لا وجه له، فإنّ المستحیل إنّما هو الحقیقی منها لا الإنشائی الإیقاعی، الذی یکون بمجرد قصد حصوله بالصیغة، کما عرفت، ففی کلامه تعالی قد استعملت فی معانیها الإیقاعیة الإنشائیة أیضاً، لا لإظهار ثبوتها حقیقة، بل لأمر آخر حسب ما یقتضیه الحال من إظهار المحبة أو الإنکار أو التقریر إلی غیر ذلک، ومنه ظهر أن ما ذکر من المعانی الکثیرة لصیغة الإستفهام لیس کما ینبغی أیضاً.

الشَرح:

والداعی إلی إنشائه قد یکون قصد الفهم ، فیکون استفهاما حقیقیا ، وقد یکون حصول الإقرار ممّن توجّه إلیه طلبه أو الإنکار أو غیر ذلک ، فیکون إقرارا أو استفهاما إنکاریا أو غیر ذاک ، وعلیه فلا وجه للإلتزام بأنّ هذه الصیغ إذا استعملت فی کلامه (تعالی) تنسلخ عن معانیها الموضوعة لها ؛ لاستحالة مثل هذه المعانی فی حقّه (تبارک وتعالی) التی تستلزم العجز والجهل ؛ وذلک لأنّ الصیغ لم توضع للحقیقی من معانیها ، بل الموضوع له فیها الإنشائی منها ، غایة الأمر الداعی إلی إنشائها قد یکون غیر ثبوتها حقیقة حسب ما یقتضیه الحال .

أقول: یمکن أن یقال: إنّ أداة التمنّی والترجّی وُضعت لإظهار الصفة النفسانیة (أی إظهار ثبوتها) وأنّ التمنّی یطلق علی هذا الإظهار، إلاّ أنّ إبراز ثبوتها قد یکون لثبوتها واقعا، فیکون تمنّیا وترجّیا حقیقة، وقد یکون الإظهار لغرضٍ آخر من طلب الفعل ونحوه.

وإن شئت التوضیح فلاحظ الجمل الخبریة فی موارد الکنایات، فإنّها موضوعة لإظهار ثبوت محمولاتها لموضوعاتها ولکنّ الإظهار تارة یکون لحکایة الثبوت الواقعی، وأُخری لثبوت أمرٍ آخر، حیث إنّ قول القائل (زید کثیر الرماد) لا یکون لغرض الحکایة عن ثبوت مدلول الجملة واقعا، بل لغرض ثبوت ما یلازم مدلولها.

ص :316

المبحث الثانی: فی أنّ الصیغة حقیقة فی الوجوب [1]، أو فی الندب، أو فیهما، أو فی المشترک بینهما، وجوه بل أقوال، لا یبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرینة، ویؤیده عدم صحة الإعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة

الشَرح:

وبالجملة الممتنع فی حقّ الباری (جلّ وعلا) الثبوت الواقعی للتمنّی أو الترجّی أو الاستفهام لا إظهار ثبوتها لغرضٍ آخر غیر ثبوت معانیها الحقیقیة المستحیلة فی حقّه (تعالی).

دلالة صیغة الأمر علی الوجوب

[1] المراد بالوجوب کما تقدّم إطلاق الطلب ، ویقابله اقتران الطلب واتصافه بثبوت الترخیص فی ترک الفعل ، وأمّا حکم العقل بلزوم الإتیان بالمأمور به ، بمعنی استحقاق العقوبة علی المخالفة ، فهو یترتّب علی وصول الطلب إلی المطلوب منه صغری وکبری ، ولکن اتّصاف الطلب بالوجوب والندب إنّما هو قبل ملاحظة الوصول إلیه ، کما تقدّم.

والحاصل أنّ إطلاق الطلب أو اتّصافه بثبوت الترخیص فی الترک خارجان عن المدلول الوضعی للصیغة وهما وصفان للطلب الصادر عمّن له ولایة الحکم وإذا تمّت مقدّمات الاطلاق فی ناحیة الطلب، یکون ظهور الصیغة بملاحظة حال منشأ الطلب ظهورا إطلاقیا فی وجوب الفعل، ومع ثبوت الترخیص ینتفی عنها الظهور فی الوجوب، ویشهد لخروج الوصفین عن المدلول الوضعی للصیغة عدم الفرق فی المعنی المتفاهم عرفا من نفس الصیغة بین موردی الوجوب والندب، وهذا بخلاف ما تقدّم فی مادة الأمر، فإنّها بنفسها دالّة علی تعنون الطلب بعنوان الوجوب، ولذا یصحّ أن نقول ما أمرنا بصلاة اللیل وأمرنا بالصلوات الیومیة. وبالجملة إطلاق الطلب من العالی یکون وجوبا،

ص :317

الندب، مع الاعتراف بعدم دلالته علیه بحال أو مقال، وکثرة الإستعمال فیه[1] فی الکتاب والسنة وغیرهما لا یوجب نقله إلیه أو حمله علیه، لکثرة استعماله فیالوجوب أیضاً، مع أن الاستعمال وإن کثر فیه، إلاّ أن_ّه کان مع القرینة المصحوبة، وکثرة الاستعمال کذلک فی المعنی المجازی لا یوجب صیرورته مشهوراً فیه، لیرجح أو یتوقف، علی الخلاف فی المجاز المشهور، کیف؟ وقد کثر استعمال العام فی الخاص، حتّی قیل: (ما من عام إلاّ وقد خص) ولم ینثلم به ظهوره فی العموم، بل یحمل علیه ما لم تقم قرینة بالخصوص علی إرادة الخصوص.

الشَرح:

ومع ثبوت ترخیصه یکون ندبا، وإذا لم یؤخذ فی مدلول الصیغة خصوصیة الطالب، فکیف یکون الوجوب أو الندب داخلاً فی المدلول الوضعی للصغیة مع أنّهما فرع علوّ الطالب، وما ذکره قدس سره من عدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب، لا یکون دلیلاً علی أنّ الظهور وضعی لا إطلاقی، ولعله لذلک عدّه مؤیّدا.

[1] هذا شروع فی الردّ علی صاحب المعالم قدس سره ، حیث ذکر عدم ظهور الصیغة فی الوجوب ، معلّلاً بکثرة استعمالها فیالندب فی الأخبار المرویة عن الأئمّة علیهم السلام فیشکل الحکم بوجوب فعلٍ بمجرّد ورود الأمر به بالصیغة .

وحاصل الدفع أنّ استعمال الصیغة فی الاستحباب وإن کان کثیرا، إلاّ أنّ کثرة الاستعمال إذا کانت بالقرینة المتصلة فی أکثر الموارد لا توجب انقلاب ظهور اللفظ أو إجماله، وإنّما توجب ذلک إذا کانت مع القرینة المنفصلة، فإنّه فی هذه الصورة یحصل للذهن أُنس بین اللفظ ومعناه المجازی، فیوجب انقلابه أو إجماله، ألا تری أنّ صیغ العموم الوضعی أو أداته قد استعملت فی الخصوص عند صاحب المعالم قدس سره کثیرا، بحیث قیل: ما من عامّ إلاّ وقد خصّ، إلاّ أنّ الکثرة بما أنهّا تکون مع المخصّص المتصل، لا توجب انقلاب ظهورها.

ص :318

المبحث الثالث: هل الجمل الخبریة التی تستعمل فی مقام الطلب والبعث _ مثل: یغتسل، ویتوضأ، ویعید _ ظاهرة فی الوجوب أو لا؟ لتعدد المجازات [1[ فیها، ولیس الوجوب بأقواها، بعد تعذر حملها علی معناها من الأخبار، بثبوت النسبة والحکایة عن وقوعها.

الظاهر الأول، بل تکون أظهر من الصیغة، ولکنّه لا یخفی أن_ّه لیست الجمل الخبریة الواقعة فی ذلک المقام __ أی الطلب __ مستعملة فی غیر معناها، بل تکون مستعملة فیه، إلاّ أن_ّه لیس بداعی الإعلام، بل بداعی البعث بنحو آکد، حیث إن_ّه أخبر بوقوع مطلوبه فی مقام طلبه، إظهاراً بأن_ّه لا یرضی إلاّ بوقوعه، فیکون آکد فی البعث من الصیغة، کما هو الحال فی الصیغ الإنشائیة، علی ما عرفت من أن_ّها أبداً تستعمل فی معانیها الإیقاعیة لکن بدواعی أخر، کما مر.

الشَرح:

مدلول الجملة الخبریة المستعملة فی مقام الإنشاء

:

[1] وجه لعدم ظهور تلک الجمل فی الوجوب ، والظاهر أنّ المراد بالمجازات الوجوب والندب ومطلق الطلب ، فیقال إنّه بعد قیام القرینة علی عدم استعمال الجملة الخبریة فی الاخبار والحکایة ، لا یکون لها ظهور فی خصوص الوجوب لتعدّد المجازات وعدم کون الوجوب أظهر المعانی المجازیّة وأقواها .

وذکر الماتن قدس سره بأنّ الجملة الخبریة المستعملة فی مقام الطلب ، تکون ظاهرة فی وجوب الفعل ، بل تکون دلالتها علیه أظهر وأقوی من دلالة الصیغة علیه ، والوجه فی ذلک أنّ الجملة الخبریة فی ذلک المقام لا تستعمل فی غیر معناها ، بل تکون مستعملة فی حکایة حصول الشیء خارجا فی المستقبل ، إلاّ أنّ الداعی إلی الحکایة لیس ثبوت الشیء خارجا ، بل بداعی البعث والطلب بنحوٍ آکد ، حیث إنّ

ص :319

لا یقال: کیف؟ ویلزم الکذب کثیراً، لکثرة عدم وقوع المطلوب کذلک فی الخارج، تعالی اللّه وأولیاؤه عن ذلک علواً کبیراً.

فإنّه یقال: إنّما یلزم الکذب، إذا أتی بها بداعی الإخبار والإعلام، لا لداعی البعث، کیف؟ وإلاّ یلزم الکذب فی غالب الکنایات، فمثل (زید کثیر الرماد) أو (مهزول الفصیل) لا یکون کذباً، إذا قیل کنایة عن جوده، ولو لم یکن له رماد أو فصیل أصلاً، وإنما یکون کذباً إذا لم یکن بجواد، فیکون الطلب بالخبر فی مقام التأکید أبلغ، فإنّه مقال بمقتضی الحال.

هذا مع أن_ّه إذا أتی بها فی مقام البیان، فمقدمات الحکمة [1] مقتضیة لحملها علی الوجوب، فإن تلک النکتة إن لم تکن موجبة لظهورها فیه، فلا أقل من کونها موجبة لتعینه من بین محتملات ما هو بصدده، فإنّ شدة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب، موجبة لتعیّن إرادته إذا کان بصدد البیان، مع عدم نصب قرینة خاصة علی غیره، فافهم.

الشَرح:

المستعمل حکی وقوع الشیء خارجا فی مقام طلبه لإظهار أنّه لا یرضی بعدم وقوعه ، فالجمل الخبریّة تستعمل فی قصد الحکایة عن ثبوت الشیء أو لا ثبوت ، ولکن بداعی الطلب ، وهذا نظیر ما تقدّم فی الصیغ الإنشائیّة من أنّها تستعمل دائما فی معانیها الإنشائیّة ، ولکن بدواعٍ مختلفة .

[1] یعنی لو نوقش فیما ذکره من أنّ الإخبار بوقوع شیء مستقبلاً بداعی البعث والطلب یدلّ علی شدّة الطلب وعدم الرضا إلاّ بوقوع الفعل فلا ینبغی التأمّل فی أنّه لو کان الطالب فی مقام البیان وأخبر بوقوع الفعل مستقبلاً بداعی الطلب یکون الطلب بالإخبار المزبور متعیّنا فی الوجوب بمقتضی مقدّمات الحکمة ؛ لأنّ شدّة مناسبة الإخبار بوقوع الفعل مع الطلب الوجوبی موجبة لتعیّن إرادته إذا کان الطالب

ص :320

المبحث الرابع: إن_ّه إذا سلم أنّ الصیغة لا تکون حقیقة فی الوجوب، هل لا تکون ظاهرة فیه أیضاً أو تکون؟ قیل بظهورها فیه، إمّا لغلبة الاستعمال فیه، أو لغلبة وجوده أو أکملیته، والکلّ کما تری، ضرورة أنّ الاستعمال فی الندب وکذا وجوده، لیس بأقل لو لم یکن بأکثر. وأم_ّا الأکملیة فغیر موجبة للظهور، إذ الظهور لا یکاد یکون إلاّ لشدة أنس اللفظ بالمعنی، بحیث یصیر وجهاً له، ومجرد الأکملیة لا یوجبه، کما لا یخفی، نعم فیما کان الأمر بصدد البیان، فقضیة مقدمات الحکمة هو الحمل علی الوجوب، فإنّ الندب کأن_ّه یحتاج إلی مؤونة بیان التحدید والتقیید بعدم المنع من الترک، بخلاف الوجوب، فإنّه لا تحدید فیه للطلب ولا تقیید، الشَرح:

فی مقام الطلب ولم ینصب قرینة علی غیر الطلب الوجوبی .

والفرق بین هذه الدعوی ودعوی الظهور المتقدّم هو أنّ هذا الظهور إطلاقی موقوف علی جریان مقدّمات الحکمة ، بخلاف الظهور السابق ، فإنّه ظهور انصرافی ولا حاجة فی الظهور الإنصرافی إلی إجراء مقدّمات الحکمة .

أقول : الصحیح عدم الفرق بین الظهور فی صیغة الأمر ، والظهور فی الجملة الخبریة التی تستعمل فی مقام الطلب ، فی أنّ کلاًّ من الظهورین إطلاقی ، حیث إنّ تفهیم المولی عبدَه طلب الفعل _ سواء کان بإنشائه بالصغیة أو بغیره _ مع عدم ثبوت الترخیص منه فی ترکه ، مصحّح لمؤاخذته علی المخالفة ، کما تقدّم فی بیان دلالة الصیغة علی الطلب الوجوبی .

ویؤید ذلک استعمال الجملة الخبریة فی موردی الوجوب والاستحباب ، وعدم الفرق فی المستعمل فیه بینهما ، کما فی قوله علیه السلام فیمن وجد فی إنائه فأرة وتوضّأ منه مراراً وصلّی : «یعید وضوئه وصلاته»(1) ، فإنّ الإعادة بالإضافة إلی

ص :321


1- (1) الوسائل : ج 1 ، الباب 4 من أبواب الماء المطلق ، الحدیث 1 .

فإطلاق اللفظ وعدم تقییده مع کون المطلق فی مقام البیان، کافٍ فی بیانه، فافهم.

المبحث الخامس: إنّ إطلاق الصیغة هل یقتضی کون الوجوب توصلیاً [1]، فیجزی إتیانه مطلقاً، ولو بدون قصد القربة، أو لا؟ فلا بدّ من الرجوع فیما شک فی تعبدیته وتوصلیته إلی الأصل.

لابدّ فی تحقیق ذلک من تمهید مقدمات:

الشَرح:

الوضوء استحبابی ، وبالإضافة إلی الصلاة وجوبی ، وکذا نظائره .

التعبدی والتوصلی

[1] لا یخفی أنّ قصد التقرب بأیّ معنی فُرض لا یکون قیدا للوجوب ، بأن یکون الوجوب بالإضافة إلیه مطلقاً أو مشروطا ، بل القصد المزبور علی تقدیر کونه قیدا فهو قید للواجب ، یعنی مأخوذا فیه ، فالمبحوث عنه فی المقام إطلاق المادة وعدم إطلاقها بالإضافة إلیه ، لا إطلاق الهیئة ، وحینئذٍ یبحث فی أنّ إطلاق المادّة هل یدلّ علی کون الواجب توصّلیا أو أنّ إطلاقها لا یکشف عن ذلک.

نعم قد یطلق التعبّدی والتوصّلی علی الواجب بمعنی آخر علی ما ذکره المحقّق النائینی قدس سره وهو أنّ التکلیف التعبدی ما لا یسقط عن المکلف بفعل غیره ، أو بفرد غیر اختیاری صادر بلا قصد والتفات ، أو بفرد محرّم لا یعمّه الترخیص فی التطبیق ، والتکلیف التوصلی یسقط عن المکلّف به بفعل غیره أو بالفرد غیر الاختیاری أو بالفرد المحرّم والتوصلی بهذا المعنی ربما یکون تعبّدیا بالمعنی الأوّل ، نظیر سقوط التکلیف بقضاء ما علی المیت من الصلاة والصوم عن الولد الأکبر بفعل الآخرین ، ومقتضی إطلاق الهیئة ثبوت التکلیف وعدم سقوطه بفعل الغیر أو الإتیان بالفرد غیر الاختیاری أو المحرّم ، کما یأتی.

ص :322

إحداها: الوجوب التوصلی، هو ما کان الغرض منه یحصل بمجرد حصول الواجب، ویسقط بمجرد وجوده، بخلاف التعبدی، فإنّ الغرض منه لا یکاد یحصل بذلک، بل لابدّ _ فی سقوطه وحصول غرضه _ من الاتیان به متقرباً به منه تعالی.

ثانیتها: إن التقرب المعتبر فی التعبدی [1]، إن کان بمعنی قصد الإمتثال والإتیان بالواجب بداعی أمره، کان ممّا یعتبر فی الطاعة عقلاً، لا ممّا أخذ فی نفس العبادة شرعاً، وذلک لاستحالة أخذ ما لا یکاد یتأتی إلاّ من قبل الأمر بشیء فی متعلق ذاک الأمر مطلقاً شرطاً أو شطراً، فما لم تکن نفس الصلاة متعلقة للأمر، لا یکاد یمکن إتیانها بقصد امتثال أمرها.

الشَرح:

أنحاء قیود المتعلّق

:

[1] القیود المأخوذة فی صحّة العمل بحیث لا یسقط التکلیف إلاّ مع الإتیان بالمتعلق معها علی نحوین :

الأوّل: ما لا یمکن تحقیق ذلک القید فی الخارج ولحاظه تفصیلاً إلاّ بعد الأمر بالعمل وتعلّق الطلب بالفعل .

الثانی: ما یمکن تحقیقه خارجا ولحاظه تفصیلاً قبل الأمر بالعمل ، کما فی الطهارة من الحدث المأخوذة فی الصلاة ، فإنّ التوضّئ ولحاظه التفصیلی قبل الأمر بالصلاة المشروطة به أمرٌ ممکن ، وهذا النحو من القید یمکن للآمر أخذه فی متعلق الوجوب ثبوتا وإثباتا ، ومع عدم أخذه فی متعلّق التکلیف فی خطابه وعدم وروده فی خطابٍ آخر أیضاً یؤخذ بإطلاق متعلّق التکلیف فی الخطاب مع تمامیة مقدمات الإطلاق ، فیثبت عدم اعتباره فی متعلق التکلیف ثبوتا أیضاً .

أمّا القسم الأوّل من القیود ، فلا یمکن للآمر أخذها فی متعلّق التکلیف بالعمل لا ثبوتا ولا إثباتا ، فإنّ أخذها فی متعلق التکلیف یکون بلحاظها حین لحاظ المتعلق

ص :323

وتوهم إمکان تعلّق الأمر [1] بفعل الصلاة بداعی الأمر، وإمکان الاتیان بها بهذا الداعی، ضرورة إمکان تصور الأمر بها مقیدة، والتمکن من إتیانها کذلک، بعد تعلّق الأمر بها، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلاً فی صحة الأمر إنّما هو فی حال الإمتثال لا حال الأمر، واضح الفساد؛ ضرورة أن_ّه وإن کان تصورها کذلک بمکان من الإمکان، إلاّ أنّه لا یکاد یمکن الإتیان بها بداعی أمرها، لعدم الأمر بها، فإنّ الأمر حسب الفرض تعلّق بها مقیدة بداعی الأمر، ولا یکاد یدعو الأمر إلاّ إلی ما تعلّق به، لا إلی غیره.

الشَرح:

عند اعتبار الوجوب ، والمفروض عدم إمکان لحاظها إلاّ بعد الأمر ، وعلی ذلک فلا یکون عدم أخذها فی المتعلق فی خطاب التکلیف کاشفا ودلیلاً علی صحّة العمل بدونه ، وکذلک عدم ذکرها فی الخطاب المتکفّل لبیان متعلّق ذلک الوجوب من حیث أجزائه وقیوده المتعلق بها التکلیف لا یکون کاشفاً .

ثمّ إنّ قصد التقرّب والامتثال بمعنی داعویة الأمر للمکلّف إلی الإتیان بمتعلقه من القسم الأول ، حیث إنّ داعویة الأمر إنّما تکون بعد تحقّق الأمر ، کما أنّ لحاظ داعویة شخص ذلک الأمر إلی الإتیان بمتعلقه یکون بعد الأمر به ، وقوله قدس سره : «لاستحالة أخذ ما لا یکاد یتأتّی إلاّ من قبل الأمر» إشارةٌ إلی القسم الأوّل من القیود ، وإلی کون قصد الامتثال منها ، فیکون قصد الامتثال مما یعتبر فی صحّة العمل عقلاً فیما إذا کان الغرض والملاک ممّا لا یحصل بمجرّد الإتیان بذات متعلق الأمر خارجا ، حیث إنّ العقل مستقلّ بلزوم الإتیان بالعمل بنحو یحصل غرض المولی من الأمر .

[1] وقد یقال إنّ قصد الامتثال یمکن أخذه فی متعلق الأمر ، حیث یمکن للشارع أن یأمر ثبوتا بالصلاة الخاصة مثلاً ، وهی الصلاة التی أُرید بها امتثال الأمر ، وبعد الأمر بالصلاة الخاصة یمکن للمکلف الإتیان بها کذلک ؛ لأنّ القدرة المعتبرة فی

ص :324

إن قلت: نعم، ولکن نفس الصلاة أیضاً صارت مأمورة بها بالأمر بها مقیدة [1].

قلت: کلاّ، لأنّ ذات المقید لا یکون مأموراً بها، فإن الجزء التحلیلی العقلی لا یتصف بالوجوب أصلاً، فإنّه لیس إلاّ وجود واحد واجب بالوجوب النفسی، کما ربما یأتی فی باب المقدمة.

الشَرح:

التکلیف هی القدرة علی متعلقه فی ظرف الامتثال ، لا القدرة حال الأمر ، فإنّ الموجب لخروج التکلیف عن اللغویة هو الأوّل دون الثانی ، وتوقّف لحاظ قصد شخص الأمر وتصوّره تفصیلاً علی تحقّق الأمر ، لا یوجب عدم إمکان لحاظه بنحو الکلی أو بالعنوان المشیر إلی الشخص الموجود بالأمر فیما بعد ، فلا محذور فی أخذ قصد الامتثال فی متعلّق الأمر لا للمولی ولا للعبد فی ظرف الامتثال .

ودَفَع قدس سره هذا التوهّم : بأنّ تصوّر الصلاة الخاصة فی مقام الأمر وإن کان ممکنا ، إلاّ أن_ّه مع تعلّق الأمر بتلک الصلاة لا یتمکّن المکلف من الصلاة بداعویة الأمر بها حتّی فی ظرف الامتثال ، حیث إنّ قصد الامتثال عبارة عن الإتیان بالعمل بداعویة الأمر بذلک العمل ، والمفروض أنّ الأمر لم یتعلّق بنفس الصلاة (أی بذات العمل) لیمکن للمکلّف الإتیان به بداعویته إلی الإتیان ، بل تعلّق بالصلاة الخاصّة ، ومن الظاهر أنّ الأمر لا یکاد یدعو إلاّ إلی متعلّقه لا إلی غیره ، وداعویة الأمر المفروض إلی نفس الصلاة من داعویة الأمر إلی غیر متعلّقه .

[1] وحاصل الإشکال أنّ تعلّق الأمر بالصلاة المقیدة بقصد امتثال الأمر لا یوجب عدم تمکّن المکلف من الإتیان بها بداعویة الأمر بها ، فإنّ ذات المقیّد _ یعنی نفس الصلاة _ تکون متعلّقة للأمر المتعلّق بالصلاة المقیدة .

ص :325

إن قلت: نعم، لکنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطاً، وأما إذا أخذ شطراً، فلا محالة نفس الفعل الذی تعلق الوجوب به مع هذا القصد، یکون متعلقاً للوجوب، إذ المرکب لیس إلاّ نفس الأجزاء بالأسر، ویکون تعلقه بکل بعین تعلقه بالکل، ویصح أن یؤتی به بداعی ذاک الوجوب، ضرورة صحة الإتیان بأجزاء الواجب بداعی وجوبه.

قلت: مع امتناع اعتباره کذلک، فإنّه یوجب تعلّق الوجوب بأمر غیر اختیاری، فإن الفعل وإن کان بالإرادة اختیاریاً، إلاّ أن إرادته _ حیث لا تکون بإرادة أخری، وإلاّ لتسلسلت _ لیست باختیاریة، کما لا یخفی. إنّما یصح الإتیان بجزء الواجب بداعی وجوبه فی ضمن إتیانه بهذا الداعی، ولا یکاد یمکن الإتیان بالمرکب عن قصد الإمتثال، بداعی امتثال أمره.

الشَرح:

وأجاب قدس سره عن ذلک بأنّ الأمر المتعلّق بالمقید لا یکون أمرا بذات المقید ، حیث إنّ انحلال المقید إلی الذات والتقیید عقلی ، فإنّ المقیّد بما هو مقیّد له وجود واحد تعلّق به وجوب نفسی واحد .

لکن قد یقال : إنّ عدم تعلّق الأمر بنفس الصلاة مثلاً إنّما یصحّ فیما إذا أُخذ قصد الامتثال فی متعلّق الأمر بنحو القید والاشتراط ، وأمّا إذا أُخذ فی متعلّق التکلیف جزءا بأن یکون متعلّق الأمر الکلّ المرکّب من ذات العمل وقصد امتثال أمره ، کانت نفس الصلاة متعلّقا للأمر الضمنی لا محالة ، إذ لیس الکلّ إلاّ نفس الأجزاء ، فیمکن للمکلّف الإتیان بنفس الصلاة بداعویة الأمر المتعلّق بها ضمنا .

وأجاب قدس سره عن ذلک بوجهین :

الوجه الأوّل: إنّ الفعل وإن کان بالإرادة والقصد اختیاریّا ، إلاّ أنّ نفس الإرادة والقصد غیر اختیاری لعدم کونه بإرادةٍ أُخری وإلاّ تسلسل ، فالقصد بما أن_ّه غیر اختیاری لا یتعلّق به التکلیف ، وعلیه فلا یکون قصد الامتثال جزءا من متعلّق الأمر .

ص :326

إن قلت: نعم، لکن هذا کلّه إذا کان اعتباره فی المأمور به بأمر واحد [1]، وأم_ّا إذا کان بأمرین: تعلّق أحدهما بذات الفعل، وثانیهما بإتیانه بداعی أمره، فلا محذور أصلاً، کما لا یخفی. فللآمر أن یتوسل بذلک فی الوصلة إلی تمام غرضه ومقصده، بلا منعة.

قلت: _ مضافاً إلی القطع بأنه لیس فی العبادات إلاّ أمر واحد، کغیرها من الشَرح:

الوجه الثانی: أنّ داعویة الأمر الضمنی إلی الإتیان بالجزء إنّما هی فی ضمن داعویة الأمر بالکلّ إلی الإتیان بالکلّ ، وفیما نحن فیه لابدّ من افتراض داعویة الأمر الضمنی بالصلاة داعویة مستقلّة ؛ إذ لا یحصل المرکّب من قصد الإمتثال وغیره ، بقصد امتثال الأمر بذلک المرکّب ، فإنّ لازمه أن یتعلّق الأمر بقصد الامتثال نفسه، ومن الواضح أنّ الأمر یحدث منه الداعویة لا أنّه یتعلّق بداعویة نفسه.

[1] وتقریره أنّ لزوم المحذور من أخذ قصد الامتثال فی متعلّق التکلیف إنّما هو فیما إذا کان التکلیف واحدا وقد أُخذ فی متعلّقه قصد الامتثال جزءا ، وأمّا إذا کان فی البین تکلیفان مولویان ، أحدهما یتعلّق بنفس الصلاة ، وثانیهما بالإتیان بها بقصد امتثال الأوّل ، فلا یلزم محذور أصلاً ، غایة الأمر تفترق الواجبات التعبدیة عن التوصلیة ، بأنّ التکلیف المولوی فی التوصلیات واحد یتعلّق بنفس العمل ، وفی التعبدیات یثبت فی کلّ منها تکلیفان یتعلّق أحدهما بذات العمل ، والآخر بالإتیان به بداعویة الأمر الأوّل ، فلا یدعو شیء من التکلیفین إلاّ إلی الإتیان بمتعلّقة ، لا إلی قصد امتثال نفسه ، کما کان علیه الحال مع فرض وحدة التکلیف فان لزوم قصد الإمتثال فی الأمر لا یکون بتعلق ذلک الأمر بقصد امتثال نفسه.

وأجاب قدس سره عن ذلک : بأنّ من المقطوع به عدم الفرق بین التعبدی والتوصلی بثبوت تکلیفین مولویین فی الأوّل وتکلیف مولوی واحد فی الثانی ، هذا أوّلاً .

ص :327

الواجبات والمستحبات، غایة الأمر یدور مدار الإمتثال وجوداً وعدماً فیها المثوبات والعقوبات، بخلاف ما عداها، فیدور فیه خصوص المثوبات، وأم_ّا العقوبة فمترتبة علی ترک الطاعة ومطلق الموافقة _ أنّ الأمر الأوّل إن کان الشَرح:

وثانیا : إذا فُرض کون الأمر الأوّل المتعلّق بنفس العمل مولویا ، کما هو الفرض ، فإن کان یسقط بمجرّد الإتیان بذات العمل ولو لم یقصد به الامتثال الذی یقتضیه الأمر الثانی ، فلا یبقی مجال لموافقة الأمر الثانی ؛ لانتفاء موضوعه فلم یصل المولی إلی غرضه بجعل تکلیفین ، وإن لم یسقط التکلیف الأوّل بالإتیان بنفس المتعلّق ، فلابدّ من أن یکون عدم سقوطه لعدم حصول غرضه من أمره ، ولو سقط التکلیف بلا حصول غرضه لم یکن الغرض موجبا لحدوثه ، ومع عدم سقوطه لعدم حصول غرضه ، لا حاجة إلی التکلیف الثانی ، لاستقلال العقل بلزوم الإتیان بالمتعلّق علی نحو یحصل غرض المولی والآمر ، فلا یکون فی التکلیف المولوی الثانی ملاک .

والحاصل : إنّ تعلّق أمر بفعل وتعلّق أمر آخر باستناد ذلک الفعل إلی داعویة الأمر الأوّل _ فیما إذا کانا من قبیل الأمرین النفسیین _ یوجب أحد المحذورین : إمّا سقوط الأمرین معا بالإتیان بذات الفعل ؛ لسقوط أحدهما بهذا الإتیان ، والثانی لارتفاع موضوعه ، وإمّا أن لا یکون للأمر الثانی ملاک المولویة ، کما إذا لم یسقط الأمر الأوّل بالإتیان بذات الفعل .

أقول : یمکن إفتراض أمر واحد یکون لمتعلّقه جزئان ، أحدهما ذات الفعل ، والآخر استناد ذلک الفعل إلی داعویة أمره الضمنی بأن یکون أحد الضمنیین متعلّقاً بذات الفعل ، والضمنی الآخر متعلّقاً بداعویة الضمنی الأوّل إلی متعلّقه ، ولا یلزم من ذلک محذور ؛ لأنّ داعویة الأمر الضمنی بذات الفعل ، بداعویة الضمنی الآخر الذی دعی إلی متعلّقه ، وهو استناد الفعل إلی الأمر الضمنی به .

ص :328

یسقط بمجرد موافقته، ولو لم یقصد به الإمتثال، کما هو قضیة الأمر الثانی، فلا یبقی مجال لموافقة الثانی مع موافقة الأوّل بدون قصد امتثاله، فلا یتوسل الآمر إلی غرضه بهذه الحیلة والوسیلة، وإن لم یکد یسقط بذلک، فلا یکاد یکون له وجه، الشَرح:

وما تقدّم فی کلامه من أنّ داعویة الأمر الضمنی إلی متعلقه إنّما هی فی ضمن داعویة الأمر بالمرکب إلی المرکّب ولا تکون داعویته مستقلة ، فإنّما یصحّ لو کان کلّ من جزئی المرکّب تعبدیا ، أو لم یحصل الجزء الآخر بمجرّد امتثال الأمر الضمنی ، وبما أنّ المفروض فی المقام أنّ الضمنی الآخر قد تعلّق باستناد الفعل إلی داعویة الضمنی الأوّل ، فبقصد امتثال الأمر الضمنی الأوّل یحصل کلا جزئی المرکّب .

والحاصل : أنّه لم یتعلّق شیء من الأمرین الضمنیین بداعویة نفسه إلی متعلّقه لیقال إنّ الأمر لا یتعلّق بداعویة نفسه لأنه من قبیل کون الشیء علّة لعلّیّة نفسه ، بل تعلّق أحدهما بذات العمل والثانی بداعویة الأوّل إلی متعلّقه .

وممّا ذکرنا ظهر أن_ّه لا موجب للالتزام بثبوت أمرین مستقلّین فی التعبدیات یتعلّق أحدهما بذات العمل والثانی بداعویة الأمر الأوّل إلی متعلّقه لیقال إنّ من المقطوع به عدم الفرق بین التوصلیات والتعبدیات بثبوت الأمر المولوی الواحد فی الأوّل وثبوت أمرین مولویین فی الثانی .

لا یقال : لا یمکن التبعیض فی الأمر الواحد المتعلّق بالمرکب فی الجعل إذ لو کان استناد الفعل إلی الأمر الضمنی المتعلّق بذاته ، متعلّقاً للأمر الضمنی الآخر ، لزم فرض حصول الأمر الضمنی بذات العمل قبل حصول الأمر الضمنی المتعلّق بقصد التقرب ، مع أنّ التبعیض فی حصول الأمرین الضمنیین غیر ممکن .

فإنّه یقال : الملحوظ فی متعلّق الأمر الضمنی الثانی ، طبیعی الأمر الضمنی المتعلّق بذات العمل ، لا الضمنی الموجود وذلک الطبیعی یحصل بالأمر الواحد

ص :329

إلاّ عدم حصول غرضه بذلک من أمره، لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله، وإلاّ لما کان موجباً لحدوثه، وعلیه فلا حاجة فی الوصول إلی غرضه إلی وسیلة تعدد الأمر، لاستقلال العقل، مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الأمر بوجوب الموافقة علی نحو یحصل به غرضه، فیسقط أمره.

هذا کلّه إذا کان التقرب المعتبر فی العبادة بمعنی قصد الامتثال.

الشَرح:

بالمرکب .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره فی استحالة أخذ قصد التقرب فی متعلّق الأمر وجها آخر وهو أن_ّه لابدّ فی تقیید المتعلّق بقصد الأمر من أخذ الأمر بالفعل مفروض الوجود کما هو مقتضی کلّ قید غیر اختیاری مأخوذ فی الواجب ، فإنّه یؤخذ فی الواجب مفروض الوجود ، ولذا لا یکون الأمر بالواجب المزبور إلاّ علی هذا التقدیر ، وبما أنّ الأمر بالفعل الذی یتمکّن المکلّف من الإتیان به بقصد امتثال أمره ، خارج عن اختیار المکلف فلا بد فی الأمر بالفعل ، من فرض وجود ذلک الأمر بعینه ، وهذا معنی اتحاد الحکم والموضوع فی مرحلة الجعل ، بل لا یمکن فعلیة ذلک الأمر أیضاً ، إلاّ بوجه دائر لأنّ فعلیة الحکم بفعلیة موضوعة ، وحیث إنّ الحکم مأخوذ فی ناحیة الموضوع ومفروض وجوده ، تکون فعلیّة الحکم موقوفة علی فعلیة نفسه ، کما هو مقتضی کون الموضوع هو نفس حکمه(1) .

وقال قدس سره إنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید تقابل العدم والملکة فیعتبر فی الاطلاق إمکان التقیید ، وإذا لم یمکن تقیید متعلّق الأمر بقصد التقرب (بمعنی العمل بداعویة الأمر به) لما تقدّم من المحذور _ یعنی اتحاد الحکم والموضوع _

ص :330


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 108؛ وفوائد الأُصول : 1 / 149 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فلا یکون لمتعلق الأمر إطلاق لیثبت به کونه توصلیا ، ویتبع مقام الإثبات مقام الثبوت(1) .

وقد ظهر أنّ المحذور فی أخذ قصد التقرّب فی متعلّق الأمر غیر ناشٍ من ناحیة عدم تمکّن المکلف من الإتیان به بداعویة الأمر به کما ذکر صاحب الکفایة قدس سره ، بل الامتناع من ناحیة عدم إمکان الأمر بالنحو المذکور ، فیکون جعل الحکم وفعلیته دوریا .

وذکر أیضاً أنّ العمل بقصد التقرّب (أی الإتیان بمتعلّق الأمر بداعویته) من الانقسامات اللاحقة لمتعلّق الأمر ، بعد الأمر به ، کما أنّ کون المکلف عالما أو جاهلاً بالحکم من الانقسامات اللاحقة لموضوع الحکم بعد جعله ، ولو کان الغرض المفروض فی البین فی متعلّق الأمر علی نحو یعمّ العالم بالحکم والجاهل به ، فعلی الآمر أن یُنشأ خطابا آخر یکون مفاده تعمیم الحکم فی حقّهما ، کما أن_ّه لو کان غرضه فی خصوص العالم به فاللازم أن یکون مفاد الخطاب الآخر نفی البأس عن الجاهل فی ترک العمل بالخطاب الأوّل ، کما دلّ علی ذلک ما ورد فیالتمام فی موضع القصر ، أو الجهر فی موضع الإخفات وبالعکس ، وورد فی غیر ذلک ما یقتضی اشتراک العالمین والجاهلین فی أحکام الشرع ، کالأدلّة الدالّة علی وجوب تعلّم الأحکام ، وعدم کون الجهل بها عذرا ، وکذلک فیما یکون الغرض مختصّا بصورة الإتیان بمتعلّق الأمر بقصد التقرّب ، فإنّه لابدّ من خطابٍ آخر یتضمن الأمر بذلک الفعل مع قصد التقرّب (أی الإتیان بمتعلق الأمر الأوّل بداعویته) بخلاف ما لو

ص :331


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 113 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

کان توصلیا ، فإنّه لا یحتاج إلی الخطاب الآخر ، بل یکون عدم ورود الخطاب الثانی مع إحراز أنّ المولی فی مقام إظهار تمام ما له الدخل فی غرضه ، من الإطلاق المقامی المقتضی للتوصلیة .

والحاصل ، تمتاز التعبدیات عن التوصلیات بثبوت أمرین فی التعبدی ، وأمر واحد فی التوصلی ، وما فیالکفایة من ثبوت أمر واحد _ بلا فرق بین التعبدی والتوصلی ، بدعوی أنّ العقل یستقلّ بلزوم رعایة قصد التقرّب مع إحراز دخله أو احتمال دخله فی حصول الغرض _ غیر صحیح ، فإنّ شأن العقل الإدراک لا الإلزام والحکم فی مقابل حکومة الشرع ، فإلزام المکلف بقصد التقرب لا یکون إلاّ من قبل الشارع ، ولکن کلا الأمرین فی التعبدی لا یکونان من الأمرین النفسیین ، کوجوب صلاة الظهر ونذر الإتیان بها جماعة ، أو فی المسجد ، بأن یکون لکلّ منهما ملاک ملزم وإن لم یکن لامتثال وجوب الوفاء بالنذر مجال بعد الإتیان بالصلاة فرادی أو فی غیر المسجد بل کلا الأمرین فی المقام ناشئان عن ملاک ملزم واحد ، قائم بالفعل القربی ویحتال الآمر وبجعل الأمرین وسیلة إلی بعث المکلف إلی ما فیه غرضه ، فیکونان متساویین فی الثبوت والسقوط ، ونظیر ذلک ، الأمر باغتسال الجنب لیلاً والأمر بالصوم بناءً علی أنّ وجوب الصوم مقیَّد بطلوع الفجر فإنّ الأمرین فی حکم أمر واحد ، ولهما ملاک واحد ، وإنّما جُعلا وسیلة لبعث المکلف إلی ما فیه الغرض ، یعنی الصوم المقید بالطهارة(1) .

أقول : یستفاد من کلامه أُمور ثلاثة :

ص :332


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 105 ؛ وفوائد الأُصول : 1 / 161 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الأوّل: أنّ أخذ قصد التقرب _ بمعنی الإتیان بالمتعلّق بداعویة الأمر _ فی متعلّق ذلک الأمر ، یوجب اتّحاد الموضوع والحکم فی مقام الجعل وکون فعلیته دوریّا .

الثانی: أنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید فی مقام الثبوت کالاطلاق والتقیید فی مقام الإثبات ، تقابل العدم والملکة ، ولا یتحقّق إطلاق فیما لم یمکن تقییده ؛ ولذا لا یکون فی ناحیة الموضوع للحکم ، أو المتعلّق للأمر ، إطلاق بالإضافة إلی الانقسامات المترتّبة علی جعل الحکم وثبوت الأمر .

الثالث: أنّه لابدّ فی موارد الانقسامات اللاحقة من متمّم الجعل ، وفی مورد الأمر التعبّدی لابدّ من ثبوت أمرٍ آخر بإتیان العمل بداعویة الأمر الأوّل ، وفی مورد التوصلی لا حاجة إلی ذلک ؛ للإطلاق المقامی _ أی عدم الأمر بالفعل بقصد التقرّب _ علی ما تقدّم .

لا یقال : الوجدان حاکم بأنّ الشارع لو أخبر بعد الأمر بفعل ، أنّ الغرض الملحوظ عندی لا یحصل بغیر قصد التقرب ، یکفی هذا الإخبار فی تعبدیة الأمر الأوّل ، فلا یحتاج إلی الحکم المولوی الثانی .

فإنّه یقال : الإخبار بعدم حصول الغرض ، بداعی البعث إلی الإتیان بالفعل بقصد التقرّب ، بنفسه یعتبر أمرا آخر .

أمّا الأمر الأوّل ففیه: أنّ الوجه فیأخذ قیود الواجب غیر الاختیاریة مفروضة الوجود فی مقام الجعل هو عدم إمکان التکلیف فی فرض عدم تلک القیود، حیث یکون التکلیف مع فرض عدمها من قبیل التکلیف بغیر المقدور، ویختص ذلک بماکان فی البین صورتان صورة وجود القید وصورة عدمه، وحیث إنّ التکلیف فی

ص :333

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

إحدی الصورتین من قبیل التکلیف بما لا یطاق، فاللازم تقیید موضوع التکلیف بصورة أُخری، وهی صورة حصول القید، وأمّا إذا کان القید غیر الاختیاری یحصل بنفس اعتبار التکلیف، کما هو الفرض فی المقام، حیث إنّ قصد التقرب یکون بالأمر وهذا الأمر غیر الاختیاری یحصل بنفس اعتبار التکلیف فلا موجب لفرض وجوده.

ثمّ إنّ فرض وجود القید لا ینحصر بما إذا کان القید أمرا غیر اختیاری ، بل یمکن فرض وجود أمر اختیاری أیضاً إذا کان الملاک الملزم فی متعلّق التکلیف متوقّفا علی اتّفاق وجوده ، فیعتبر فی التکلیف مفروض الوجود ، کما یأتی توضیحه فی بحث الواجب المعلّق والمشروط ، هذا فی التکالیف الوجوبیة .

وأمّا التکالیف التحریمیة التی یکون الملاک فیها مفسدة الفعل ، فلا موجب لأخذ قیود الموضوع بتمامها مفروضة الوجود بحیث لا تکون الحرمة فعلیة قبل حصول القید ، کما فی تحریم شرب الخمر والمیتة وغیرهما ، فإنّ مثل هذه التکالیف مما یتمکّن المکلف من إیجاد الموضوع لها ، کصنع الخمر أو جعل الحیوان میتة ونحوهما ، فیکون التحریم فعلیا ، حیث یمکن للمکلف ترک شرب الخمر ولو بترک صنع الخمر ، ویمکن له ترک أکل المیتة ولو بعدم جعل الحیوان میتة ونحو ذلک .

وأمّا الأمر الثانی: یعنی کون التقابل بین الإطلاق والتقیید بحسب مقام الثبوت، تقابل العدم والملکة، وإذا لم یمکن التقیید فی متعلّق الحکم أو موضوعه یکون الإطلاق أیضاً ممتنعا ، فلا یمکن المساعدة علیه ، فإنّه إذا لم یمکن أخذ قید فی الموضوع أو المتعلّق یکون إطلاقه الذاتی (أی عدم أخذ ذلک القید فی الموضوع أو المتعلّق) ضروریا ؛ ولذا التزم قدس سره بأنّ متعلّق الأمر الأوّل فی الواجبات التعبدیة هو

ص :334

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ذات الفعل ، ویتعلّق الأمر الثانی بالإتیان به بداعویة الأمر المتعلّق بنفس الفعل ، وإذا لم یکن ذلک المتعلّق مطلقا ، فکیف یقصد الإتیان بالعمل بداعویة الأمر المتعلّق بنفس ذلک العمل؟

ومن هنا ظهر أن_ّه لو لم یمکن تقیید موضوع الحکم بالعالم به ، یکون الإطلاق الذاتی فی موضوع ذلک الحکم ضروریا ، وبالجملة الإطلاق الذاتی فی متعلّق الأمر مما لابدّ من الالتزام به .

غایة الأمر لا یستفاد منه أنّ الغرض الملزم لجعل التکلیف قائم بذات المتعلّق ، أو قائم بالفعل بقصد التقرب ، وإذا لم یرد بعد الأمر الأوّل أمر ثان بالإتیان بمتعلّق الأمر الأوّل بداعویته ، یکون الطلب الأوّل متّصفا بالتوصلیة ، نظیر ما ذکرنا من أنّ إطلاق صیغة الأمر (أی طلب فعل) وعدم ورود الترخیص فی الترک یوجب اتّصاف الطلب بالوجوب ، وکما أنّ إطلاق الصیغة هناک _ بمعنی عدم ورود الترخیص فی الفعل _ یکون مقتضیا لکون الطلب وجوبیا ، کذلک إطلاق الأمر بمعنی عدم ورود أمر ثان بالإتیان بالعمل بداعویة الأمر الأوّل یقتضی کونه توصلّیاً ، وکما أنّ الإطلاق الأوّل لفظی ، کذلک الإطلاق فیما نحن فیه ، غایة الأمر أنّ الإطلاق لیس فی ناحیة المتعلّق ، بل فی ناحیة نفس الأمر والطلب .

وأمّا ما ذکره ثالثا: من جعل الأمرین فی مورد کون الوجوب تعبّدیا، فقد تقدّم إمکان قصد التقرّب فی متعلّق الأمر الأوّل، ومعه لا تصل النوبة إلی الاحتیال بأمرین.

لا یقال: ما الفرق بین ما ذکره صاحب الکفایة قدس سره من عدم إمکان أخذ التقرب فی متعلّق الأمر الأوّل وأنّ دخله فی حصول الغرض یکون موجبا لحکم العقل

ص :335

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

برعایته فی امتثال الأمر المتعلّق بذات العمل، وبین ما ذکره المحقّق النائینی قدس سره من أنّ شأن العقل الإدراک لا التشریع والإلزام وفی موارد دخله فی الغرض، علی الشارع أن یأمر ثانیا بالإتیان بمتعلّق الأمر الأوّل بداعویته، مع أنّ إخبار الشارع بعدم حصول غرضه بالإتیان بذات العمل کافٍ فی لزوم قصد التقرّب بلا حاجة الی الأمر المولوی الثانی؟

فإنّه یقال : نفس الإخبار بعدم حصول غرضه ، بداعی البعث إلی قصد التقرب أمر ثان بالإتیان به بداعویة الأمر الأوّل ، ویظهر الفرق بین المسلکین فی الرجوع إلی الأصل العملی ، فإنّه علی ما سلکه المصنف قدس سره یکون المورد من موارد الاشتغال ، للشکّ فی سقوط التکلیف بخلاف ما سلکه المحقّق النائینی قدس سره ، فإنّ مقتضی البراءة الشرعیة عن الوجوب الثانی هو الاکتفاء بذات العمل ، نظیر البراءة الشرعیة فی موارد دوران أمر الواجب بین الأقل والأکثر ، وکما أنّه مع جریان البراءة عن تعلّق الوجوب بالأکثر تکون أصالة البراءة واردة علی قاعدة الاشتغال ، من جهة العلم بأصل التکلیف والشک فی سقوطه مع الاقتصار علی الأقل ، کذلک جریان البراءة فی ناحیة الوجوب الثانی تکون واردة علی قاعدة الاشتغال من جهة احتمال بقاء الأمر الأوّل ، وعدم سقوطه بالإتیان بذات العمل ، فتدبّر جیّداً .

ص :336

وأما إذا کان بمعنی الاتیان بالفعل بداعی حسنه، أو کونه ذا مصلحة أو له تعالی [1]، فاعتباره فی متعلق الأمر وإن کان بمکان من الإمکان، إلاّ أنه غیر معتبر فیه قطعاً، لکفایة الإقتصار علی قصد الإمتثال، الذی عرفت عدم إمکان أخذه فیه بدیهة.

الشَرح:

أنحاء قصد التقرب

:

[1] قد یقال : إنّ قصد التقرب فی العبادة لا ینحصر بالإتیان بالعمل بداعویة الأمر بذلک العمل ، لیقال إنّ قصد التقرب بهذا المعنی لا یمکن أخذه فی متعلّق الأمر لما تقدّم من المحاذیر ، بل یکون قصد التقرب فی العمل بالإتیان به بداعویة حسنه أو بداعویة مصلحته أو قصد کونه للّه (سبحانه) ، فیمکن للشارع الأمر بالصلاة أو غیرها بشرط أن یُؤتی بها للّه أو لحسنها ومصلحتها ، ولا یلزم من أخذ شیء من ذلک فی متعلّق الأمر أیّ محذور.

وأجاب قدس سره عن ذلک بأنّ أخذ ما ذکر فی متعلّق الأمر وإن کان ممکنا إلاّ أنّ شیئا منها غیر معتبر فی متعلّق الأمر فی العبادات قطعا ، لأن_ّه یکفی فی صحّة العمل عبادةً الإتیان بقصد التقرب بالمعنی المتقدّم ، ولازم صحّة العمل بقصد التقرب _ بالمعنی المتقدّم _ أن یتعلّق الأمر بذات العمل ، بأن لا یؤخذ فی متعلّق الأمر شیء ممّا ذکر .

أقول : یمکن ان یؤخذ جامع قصد التقرب فی متعلّق الأمر بالصلاة وغیرها من العبادات جزءا ، ففی هذه الصورة ، کفایة قصد التقرّب بالمعنی المتقدّم یکشف عن عدم اعتبار خصوص غیره، ولا ینافی اعتبار الجامع بین أنحاء التقرّب وهو أن یکون عند العمل قصد یکون معه العمل للّه ، نظیر قوله (سبحانه) : «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةِ لِلّهِ»(1) .

ص :337


1- (1) سورة البقرة : الآیة 196 .

تأمل فیما ذکرناه فی المقام، تعرف حقیقة المرام، کیلا تقع فیما وقع فیه من الاشتباه بعض الأعلام.

الشَرح:

وبتعبیرٍ آخر : لا یکون ذلک الجامع قیدا لمتعلّق التکلیف بنحو الشرطیة ، لیقال إنّ متعلّق الأمر یصیر حصة من الصلاة لا نفس الصلاة ، وإنّ الأجزاء التحلیلیة لا تتصف بالوجوب ، بل یکون الجامع جزءا من المرکّب علی نحو ما تقدّم ، فیمکن للمکلف الإتیان بذات العمل بداعویة الأمر الضمنی المتعلّق بنفس العمل ، کما یمکن له الإتیان بالمرکب من الصلاة وقصد الإتیان بها ، لصلاحها أو لتحصیل رضا الربّ بها .

لا یقال : إذا فرض أخذ الجامع بین أنحاء التقرّب فذلک الجامع لا یمکن أن یعمّ الإتیان بداعویة الأمر بالعمل .

فإنّه یقال : إذا فرض حصول فرد للتقرب المأخوذ فی متعلّق الأمر ، یصح الإتیان بذات الفعل مع ذلک الفرد من التقرب ، حیث إنّ الفعل مع ذلک الفرد من التقرب یکون مصداقا للمجموع المتعلّق به الأمر ، وسرایة الحکم إلی الفرد ، من الطبیعی الحاصل بعد الحکم لا محذور فیه ، نظیر قولک : (خیر الکلام ما قلّ ودلّ) فإنّ الحکم المذکور فیه یشمل نفسه .

وبالجملة لو فرض امتناع أخذ التقرب _ بمعنی داعویة الأمر إلی العمل _ فی متعلّق الأمر بذلک العمل ، لما تقدّم من لزوم اتحاد الحکم والموضوع ، فهذا الوجه یختصّ بأخذ خصوص التقرب المزبور لا جامع التقرب ، فإنّ أخذ جامع التقرب لا یتوقف علی فرض وجود الأمر بالفعل فی مقام جعل الحکم ، حیث إنّ الإطلاق _ کما تقدّم _ عبارة عن رفض القیود وعدم دخالتها فی متعلّق الحکم ، ولا یکون شیء من خصوصیات أنحاء التقرب مأخوذا فی متعلّق الأمر ، فلا یلزم من أخذ الجامع لها

ص :338

ثالثتها: إنّه إذا عرفت بما لا مزید علیه، عدم إمکان أخذ قصد الإمتثال فی المأمور به أصلاً، فلا مجال للإستدلال بإطلاقه _ ولو کان مسوقاً فی مقام البیان _

الشَرح:

محذور اتّحاد الحکم والموضوع .

نعم قد یقال _ کما عن المحقّق النائینی قدس سره _ : أن_ّه کما لا یمکن أخذ قصد التقرب _ بمعنی قصد الفعل بداعی الأمر المتعلّق به _ فی المتعلّق ، کذلک لا یمکن أخذ سائر وجوه القربة فی متعلّق الأمر ؛ وذلک لأنّ الدواعی کلّها فی عرضٍ واحد ، بمعنی کونها فی مرتبة سابقة علی إرادة الفعل وتنشأ منها إرادة الفعل ، وإذا کان الأمر کذلک ، فیستحیل تعلّق الأمر بالفعل بداعٍ خاصّ منها ، أو بالجامع بینها ، وذلک لأنّ إرادة العبد الناشئة من داعٍ ما تتعلّق بالفعل ولا تتعلّق بالداعی ، وإذا استحال تعلّق الإرادة التکوینیة بشیءٍ ، استحال تعلّق الإرادة التشریعیة به ، فإنّ ما تتعلّق به الإرادة التکوینیة من العبد یتعلّق به أمر المولی ، ومن الظاهر أنّ إرادة العبد تتعلق بنفس العمل لا بالداعی الموجب لإرادة العمل ، حیث إنّ الإرادة متأخّرة عن الداعی ، فکیف تتعلّق الإرادة المتأخّرة بالداعی المتقدم علیها ؟ وإذا کان الأمر فی الإرادة التکوینیة کذلک ، فالإرادة التشریعیة _ یعنی أمر المولی _ أیضاً کذلک فإنّها تتعلّق بنفس ما تتعلّق به إرادة العبد لا بالداعی الموجب لإرادته(1) .

ولکن لا یخفی ما فیه ، فإنّ الداعی الموجب لإرادة الفعل واختیاره لا یدخل فی متعلّق تلک الإرادة والاختیار ، وأمّا تعلّق إرادة واختیار أُخری بذلک الداعی فلا محذور فیه ، ولو کان فی ذلک محذور لما أمکن للمحقّق النائینی قدس سره الإلتزام بتعلّق الأمر الثانی فی العبادات باستناد الإتیان بالعمل إلی داعویة الأمر الأوّل المتعلّق

ص :339


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 109 .

علی عدم اعتباره [1]، کما هو أوضح من أن یخفی، فلا یکاد یصح التمسک به إلاّ فیما یمکن اعتباره فیه.

الشَرح:

بذات العمل ، فإنّه من تعلّق الأمر الثانی بالداعی الموجب لإرادة الفعل . وبتعبیرٍ آخر : یمکن للعبد أن یختار ویرید الداعی الموجب لإرادته العمل .

ثمّ إنّه لو أُغمض عن کلّ ما ذکرنا إلی الآن ، فنقول : لا مانع عن تعلّق أمر الشارع بالصلاة الخالیة عن إرادتها بالدواعی النفسانیة ولو بنحو التقیید ، بأن یکون متعلّق الأمر الصلاة الخاصّة وهی الصلاة التی تعلّقت بها إرادة غیر ناشئة عن الدواعی النفسانیة ، وهذا الوصف یستلزم قصد التقرب ، فقصد التقرب بنفسه غیر مأخوذ فی متعلّق الأمر بالصلاة لا شرطا و لا جزءا ، بل متعلّق الأمر نفس الصلاة الخالیة عن الإرادة الناشئة من الدواعی النفسانیة ، وعلیه یتمکّن المکلّف من الإتیان بالصلاة المتعلّق بها الأمر ، فإنّه مع فرض الإتیان بها بداعویة الأمر بها تکون تلک الصلاة هی الصلاة التی تعلّق بها الأمر ، فتدبر . ولعلّ هذا هو المراد ممّا حکی عن بعض تقریرات العلاّمة الشیرازی قدس سره ، فلا یرد علیه شیء ممّا ذکر حوله(1) .

استظهار التوصلیة من إطلاق صیغة الأمر

:

[1] قد تقدّم أن_ّه قدس سره بنی علی عدم إمکان أخذ التقرب فی مقام الثبوت فی متعلّق الوجوب وأنّ الوجوب ثبوتا یتعلّق بذات الفعل ، سواء کان من قبیل الواجب التعبدی أو التوصلّی ، وإنّما الفرق بینهما فی ناحیة الغرض والملاک الملحوظ بنظر الشارع ، فإن کان ذلک الملاک والغرض فی ذات الفعل ، یسقط الوجوب المتعلّق به بالإتیان بنفس المتعلّق ، بخلاف التعبدی فإنّ الملاک والغرض لایحصل إلاّ بوقوع

ص :340


1- (1) حکی عنه قدس سره فی أجود التقریرات : 1 / 111 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

المتعلّق علی نحو العبادة وقصد التقرب بالعمل ، وحیث إنّ سقوط التکلیف تابع لحصول الملاک وتأمین الغرض فلا یسقط التکلیف فی التعبدیات بمجرد الإتیان بنفس متعلّق الوجوب ، وعلی ذلک فإن تعلّق التکلیف فی خطابه بفعل وکان المولی فی مقام بیان متعلّق التکلیف فی مقام الثبوت ، فلا یمکن التشبّث بإطلاق ذلک المتعلّق فی مقام الإثبات (یعنی الخطاب) وإثبات أنّ الوجوب ثبوتا توصلی ، لما تقدّم من عدم الفرق فی مقام الثبوت بین متعلّق التکلیف فی التوصلیات والتعبدیات ، وأنّ المتعلّق علی کلا التقدیرین نفس الفعل ، والمفروض أنّ الخطاب یکون کاشفا عن التکلیف ومتعلقه وموضوعه فی مقام الثبوت .

هذا کلّه _ کما ذکرنا _ مبنی علی عدم إمکان أخذ قصد التقرب فی متعلّق التکلیف ولو بجعل وجوبین علی ما سلکه وأمّا بناءً علی إمکان أخذ قصد التقرب فی متعلّق التکلیف وأنّ الواجب التعبدی والتوصلی یفترقان ثبوتا فی ناحیة متعلّق الوجوب فیؤخذ قصد التقرب فی متعلّق الوجوب الواقعی جزءا أو وصفاً بنحو التخلیة عن الدواعی النفسانیة کما ذکرناه أخیرا ، فلا مانع عن التمسّک بإطلاق المتعلّق فی مقام الإثبات ، وکشف أنّ الواجب ثبوتا توصلی بمقتضی تطابق مقام الإثبات مع الثبوت ، فیکون الإطلاق المتمسّک به إطلاقا فی ناحیة المتعلّق بخلاف ما إذا بنینا علی تعین أخذ قصد التقرب فی المتعلّق بالأمر المولوی الثانی کما التزم به المحقّق النائینی قدس سره فلا یمکن التمسّک بإطلاق المتعلّق وإنّما جواز التمسک بإطلاق الوجوب المتعلّق بذات الفعل فی الأمر الأوّل ، حیث إنّ عدم تعقّبه بالأمر الثانی المتعلّق بالإتیان بالأوّل بنحو التعبّد یقتضی التوصلیة ، نظیر عدم تعقب الترخیص فی الترک للطلب فکما أن الإطلاق المستفاد من صیغة الأمر أو غیرها یقتضی کون

ص :341

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الطلب وجوبیا ، کذلک إطلاق الوجوب المتعلّق بذات الفعل وعدم تعقّبه بالوجوب الثانی یقتضی التوصلیة ، فلا یحتاج فی إثبات التوصلیة إلی إحراز الإطلاق المقامی ، لیقال إنّ إحراز الإطلاق المقامی بالإضافة إلی قصد التقرب غیر ممکن ؛ لأنّ احتمال التعبدیة فی الواجبات الشرعیة لیس ممّا یغفل عنه العامة حتّی یحتاج إلی التنبیه ، کما سیأتی ذلک فی اعتبار قصد الوجه والتمییز فی التعلیقة اللاحقة .

وبالجملة فإن أُحرز فی مورد أنّ الشارع فی مقام بیان تمام ما له الدخل فی متعلّق التکلیف جزءا أو شرطا أو مانعا فلا یصحّ للمصنّف قدس سره التمسک بهذا الاطلاق المقامی ، حیث إنّ قصد التقرّب لیس ممّا یمکن أخذه فی متعلّق التکلیف ، بخلاف ما إذا بنینا علی إمکان أخذه فی متعلّق التکلیف ولو بأمرین ، فإنّه یجوز التمسک بهذا الاطلاق المقامی ؛ لأنّ قصد التقرب مثل سائر الأجزاء والشروط .

نعم إذا کان الشارع فی مقام بیان تمام ما له الدخل فی حصول غرضه لا تکلیفه ومع ذلک سکت فیه عن بیان اعتبار قصد التقرب یستکشف من هذا الاطلاق المقامی التوصلیة حتّی بناءً علی مسلک الماتن قدس سره .

وإذا فرض عدم الإطلاق اللفظی وعدم الاطلاق المقامی ووصلت النوبة إلی الأصل العملی یکون مقتضی أدلّة البراءة الشرعیة عدم جزئیة قصد التقرب وعدم شرطیته بناءً علی إمکان أخذ قصد التقرب فی متعلّق الأمر ولو بأمرین ، حیث إنّ تعلّق الأمر بقصد التقرّب أو ثبوت الأمر الثانی مما لا یعلمون ، فهو مرفوع کالرفع فی سائر الأجزاء والشرائط ، ومعها لا تصل النوبة إلی قاعدة الاشتغال کما هو مقرر فی بحث دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین .

ص :342

فانقدح بذلک أنّه لا وجه لاستظهار التوصلیة من إطلاق الصیغة بمادتها، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه مما هو ناشیء من قبل الآمر، من إطلاق المادة فی العبادة [1] لو شک فی اعتباره فیها، نعم إذا کان الأمر فی مقام بصدد بیان تمام ماله دخل فی حصول غرضه، وإن لم یکن له دخل فی متعلّق أمره، ومعه سکت فی المقام، ولم ینصب دلالة علی دخل قصد الإمتثال فی حصوله، کان هذا قرینة علی عدم دخله فی غرضه، وإلاّ لکان سکوته نقضاً له وخلاف الحکمة، فلا بدّ عند الشک وعدم إحراز هذا المقام، من الرجوع إلی ما یقتضیه الأصل ویستقل به العقل.

الشَرح:

نعم بناءً علی ما اختاره الماتن قدس سره لا یکون المورد إلاّ من موارد قاعدة الاشتغال ؛ لأنّ لزوم قصد التقرب لیس مجعولاً شرعیا حتّی تجری البراءة فی ناحیته لمکان الجهل بذلک المجعول الشرعی ، بل یکون عقلیا ، والمفروض استقلال العقل بلزوم الطاعة بنحو یحصل الغرض ویسقط التکلیف المتعلّق بالفعل ، کما لا یخفی .

قصد الوجه والتمییز

:

[1] ما ذکره قدس سره فی ناحیة عدم إمکان أخذ قصد التقرب فی متعلّق الأمر أجراه فی ناحیة أخذ قصد الوجه والتمییز أیضاً والتزم بأنّ کلّ قصد ناشٍ من قبل الأمر بفعل ، لا یمکن أخذه فی متعلّق ذلک الأمر لعینِ ما تقدّم فی وجه امتناع أخذ قصد التقرب ، وعلیه فلو شکّ عند الأمر بفعلٍ فی لزوم قصد الوجه والتمییز فی حصول الغرض وسقوط التکلیف به ، فالعقل یستقل بالرعایة حتّی یحرز سقوط التکلیف وحصول الغرض ، إلاّ أنّ الإطلاق المقامی المشار إلیه فی التعلیقة السابقة بالإضافة إلی قصد الوجه والتمییز ثابت ، حیث إنّ احتمال دخلهما فی سقوط التکلیف وحصول الغرض ممّا یغفل عنه عامة الناس ، ولو کان شیء منهما أو کلاهما دخیلاً فی غرض الشارع فی العبادات لتعرّض إلی اعتبارهما فی المتعلّق ولو فی بعض

ص :343

فاعلم: أنّه لا مجال _ ها هنا _ إلاّ لأصالة الإشتغال، ولو قیل بأصالة البراءة فیما إذا دار الأمر بین الأقل والأکثر الإرتباطیین، وذلک لان الشک ها هنا فی الخروج عن عهدة التکلیف المعلوم، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها، فلا یکون العقاب _ مع الشک وعدم إحراز الخروج _ عقاباً بلا بیان، والمؤاخذة علیه بلا برهان،

الشَرح:

الخطابات ، مع أنّه لم یرد التعرّض لهما فی شیء منها ، ومن ذلک یعلم عدم دخلهما وإلاّ کان سکوت الشارع والتعویل علی حکم العقل فیها من نقض الغرض .

أقول : أخذ قصد التمییز فی موارد الشبهات الموضوعیة فی متعلّق التکلیف لا محذور فیه بأن یأمر الشارع بالصلاة إلی جهة یعلم عند الإتیان بأنّها القبلة ، أو یأمر بصلاة یعلم أنّها مع الطهارة ونحو ذلک ، فلا یرد فیه شیء من محذور أخذ قصد التقرب . وکذا الحال فی قصد الوجه والتمییز إذا أُرید بهما توصیف العمل بالوجوب والندب عند الإتیان.

نعم إذا أُرید من قصد الوجه الإتیان بالعمل بداعویة وجوبه أو ندبه ومن قصد التمییز کون وجوبه داعیا إلی الإتیان به لا احتمال وجوبه ، لجری فیها ما تقدّم فی قصد التقرب.

فی التعبدی بمعنی عدم سقوط التکلیف بفعل الغیر

:

ثمّ إنّه یبقی الکلام فی کون الواجب تعبدیا أو توصلیا بالمعنی الآخر کما أشرنا إلیه فی أوّل البحث ، وهو أنّ التکلیف المتوجّه إلی المکلف إن کان یسقط بفعل الغیر یکون التکلیف توصلیا ، وإن لم یسقط یکون تعبدیا ، وکذا إن کان یسقط بالإتیان بالفرد غیر الاختیاری أو حتّی بالفرد المحرّم یکون توصلیا ، ومع عدم سقوطه کذلک یکون تعبدیّا ، فالکلام یقع فی مقامات ثلاثة :

ص :344

ضرورة أنّه بالعلم بالتکلیف تصح المؤاخذة علی المخالفة، وعدم الخروج عن العهدة، لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة، وهکذا الحال فی کل ماشک دخله فی الطاعة، والخروج به عن العهدة، مما لا یمکن اعتباره فی المأمور الشَرح:

المقام الأوّل: ما إذا شک فی سقوط التکلیف بفعل الغیر ، فنقول : مقتضی إطلاق إیجاب فعل علی مکلّف ، هو مباشرته فی الإتیان به ، حیث إنّ مقتضی إطلاق الوجوب ثبوته حتّی علی تقدیر إتیان الغیر به أیضاً ، کما یأتی فی بیان أنّ إطلاق الوجوب یقتضی کونه عینیا لا کفائیا ، ثمّ لو لم یکن فی البین إطلاق ووصلت النوبة إلی الأصل العملی ، فإن کان إتیان الغیر بالفعل قبل توجّه التکلیف إلی المکلف فالمرجع هی البراءة عن التکلیف به، إلاّ إذا کان فی البین أصل محرز لبقاء موضوع التکلیف، کما إذا کان الولد الأکبر حین فوت أبیه صغیرا، أو قد قضی ما علی أبیه صغیر آخر وبعد البلوغ شکّ فی إجزاء فعل ذلک الصبی أو بقاء ما کان علی أبیه علی عهدته، ففی مثل ذلک لا بأس باستصحاب بقاء ما کان علی أبیه، ویثبت وجوب القضاء علیه فیکون مقتضاه التعبدیة، وکذا فیما کان توجه التکلیف بالفعل إلیه قبل فعل الغیر، ولا یخفی أنّ هذا کله فیما کان الفعل بحیث لا یستند عرفا إلاّ إلی المباشر.

وأمّا إذا کان بحیث یستند إلی المباشر وغیر المباشر مع تسبیبه ، کما إذا شکّ فی أنّ التقصیر أو الذبح الواجب فی الحج یعمّ ما کان بالتسبیب أو یعتبر فیه المباشرة ، فقد یقال : إنّ مثل ذلک یدخل فی دوران التکلیف بین التعیین والتخییر ، ویکون مقتضی الأصل التخییر ، حیث إنّ ما دلّ علی البراءة من حدیث الرفع ینفی خصوصیة التعیین .

ویورد علیه بأنّ التکلیف لا یکاد یتعلّق بفعل الغیر ، حیث إنّ فعل الغیر خارج عن قدرة المکلّف واختیاره ، وإذا لم یمکن تعلّق التکلیف بفعل الغیر ، فلا یتعلّق

ص :345

به کالوجه والتمییز.

نعم: یمکن أن یقال: إنّ کل ما ربما یحتمل بدواً دخله فی الإمتثال، أمراً کان ممّا یغفل عنه غالباً العامة، کان علی الآمر بیانه، ونصب قرینة علی دخله واقعاً، الشَرح:

بالجامع بین فعل نفسه وفعل الغیر .

نعم یمکن تعلّقه بالجامع بین فعلیه من المباشرة أو نفس التسبیب ، إلاّ أنّ لازم ذلک سقوط التکلیف بنفس التسبیب ، وعلی ذلک فمرجع الشک فی کفایة صدور الفعل تسبیبا إلی الشک فی اشتراط التکلیف بعدم حصوله من الغیر أیضاً ، ومقتضی الاستصحاب بقاء التکلیف وعدم سقوطه بفعل الآخر ، بل لو أُغمض النظر عن الاستصحاب لکون الشبهة حکمیة وقلنا بعدم جریانه فی تلک الشبهة ، یتعیّن الرجوع إلی قاعدة الاشتغال ولا مجری لأدلّة البراءة الشرعیة فی مثل المقام ، فإنّه لا مجال لدعوی أنّ ثبوت التکلیف بعد صدور الفعل عن الآخر تسبیبا فی هذا الفرض وبغیر تسبیب فی الفرض السابق ، غیر محرز ، ومقتضی حدیث الرفع عدم وضعه .

والوجه فی عدم المجال انصراف حدیث الرفع إلی الجهل بثبوت التکلیف فلا یجری فی موارد الشکّ فی سقوطه بعد حدوثه، نظیر انصرافه عن موارد الجهل بالتکلیف للشکّ فی القدرة علی المتعلّق.

والحاصل أنّ کلّ ما تقدّم فی الشکّ فی سقوط التکلیف بفعل الغیر مع عدم استناده إلی المکلف بتسبیبه یجری فی الشکّ فی سقوطه بفعل الغیر مع استناده إلیه بالتسبیب.

أقول : الصحیح التفرقة بین ما إذا کان فعل الغیر لا یستند إلی المکلف ولو مع تسبیبه ، کما إذا استأجر الولد الأکبر لقضاء ما علی أبیه من الصیام ، فإنّ فعل الأجیر لا یستند إلی المستأجر فلا یقال صام الولد عن أبیه ، وبین ما إذا استند الفعل الصادر

ص :346

وإلاّ لأخل بما هو همّه وغرضه، أم_ّا إذا لم ینصب دلالة علی دخله، کشف عن عدم دخله، وبذلک یمکن القطع بعدم دخل الوجه والتمییز فی الطاعة بالعبادة، حیث لیس منهما عین ولا أثر فی الأخبار والآثار، وکانا مما یغفل عنه العامة، وإن احتمل اعتباره بعض الخاصة، فتدبر جیّداً.

الشَرح:

عن الغیر إلیه مع التسبیب ، ففی موارد عدم الاستناد یکون سقوط التکلیف بفعل الغیر باشتراط بقاء التکلیف بعدم حصوله لا محالة ، ومع إطلاق التکلیف فی خطابه وعدم ثبوت القرینة علی الاشتراط یحکم بتعبّدیته .

ولو وصلت النوبة إلی الاصل العملی فلابدّ من التفصیل _ کما تقدّم _ بین تحقّق فعل الغیر قبل توجه التکلیف إلیه ، فیرجع إلی البراءة ، وبین ما إذا کان فعله بعد توجّه التکلیف إلیه ، فیرجع إلی الاستصحاب فی ناحیة بقاء التکلیف ، ومع الغمض عن الاستصحاب لکون الشبهة حکمیة ، یرجع إلی أصالة الاشتغال ، بناءً علی أنّ أصالة البراءة لا تجری فی موارد الشکّ فی سقوط التکلیف ، وأمّا فی موارد استناد فعل الغیر إلی المکلف بالتسبیب ، فلا بأس مع الخطاب بالتمسّک بإطلاق المتعلّق فیه ، فیحکم بکفایة تحقّق الفعل ولو تسبیبا . وبتعبیرٍ آخر : مقتضی الاطلاق فی الأمر بالتقصیر أو الحلق ونحوهما التوصیلة فی وجوبهما .

ودعوی _ أنّ الإطلاق لا یعمّ الفعل التسبیبی لأنّه من فعل الغیر وفعل الغیر خارج عن قدرة المکلّف واختیاره فلا یمکن تعلّق التکلیف به، ولو کان فعل الغیر مجزیا لکان عدم حصوله شرطا فی بقاء التکلیف لا محالة، کما فی الفرض الأوّل، وإطلاق التکلیف یدفع هذا الشرط _ لا یمکن المساعدة علیها؛ لأنّ المکلّف به فی الحقیقة فی موارد الاستناد إلی الشخص ولو بالتسبیب، إیجاد استناد الفعل إلی نفسه، وهذا الإیجاد یکون بالفعل مباشرة وبالتسبیب فی فرض خصوص الفعل عن

ص :347

ثمّ إنّه لا أظنک أن تتوهم وتقول: إنّ أدلّة البراءة الشرعیة مقتضیة لعدم الإعتبار، وإن کان قضیة الإشتغال عقلاً هو الإعتبار، لوضوح أنّه لابدّ فی عمومها من شیء قابل للرفع والوضع شرعاً، ولیس ها هنا، فإن دخل قصد القربة ونحوها فی الغرض لیس بشرعی، بل واقعی. ودخل الجزء والشرط فیه وإن کان کذلک، إلاّ أنّهما قابلان للوضع والرفع شرعاً، فبدلیل الرفع _ ولو کان أصلاً _ یکشف أنّه لیس هناک أمر فعلی بما یعتبر فیه المشکوک، یجب الخروج عن عهدته عقلاً، بخلاف المقام، فإنّه علم بثبوت الأمر الفعلی، کما عرفت، فافهم.

الشَرح:

الآخر، نظیر نذر بیع متاعه، فإنّ متعلّق النذر یحصل بالمباشرة فی بیعه أو بالتسبیب، ولا یکون مقتضی وجوب الوفاء بنذره فیما إذا قال: (للّه علّی أن أبیع متاعی هذا) بیعه بالمباشرة ولا تخییره بین بیعه بالمباشرة أو أمر الغیر ببیعه ولو مع عدم حصول البیع.

وممّا ذکرنا یظهر أنّه مع عدم الإطلاق ووصول النوبة إلی الأصل العملی یکون المورد من موارد دوران متعلّق الوجوب بین کونه خصوص الفعل مباشرة أو إیجاد الاستناد فی تحقّقه إلی نفسه الحاصل بالفعل مباشرة أو بالتسبیب، ومقتضی أصالة البراءة عن تعین المباشرة الاکتفاء بالتسبیب؛ لأنّ الرفع فی ناحیة تعلّق التکلیف بالاستناد إلیه فی تحقّقه خلاف الامتنان، حیث إنّ فی هذا التعلّق توسعة علی المکلّف.

فی التعبدی بمعنی سقوط التکلیف بالفرد غیر العمدی

:

المقام الثانی: ما إذا شک فی سقوط التکلیف بالفرد غیر العمدی ، أی ما یکون تحقّقه مع الغفلة وعدم الالتفات ، فقد یقال بعدم السقوط لانصراف الأفعال إلی

ص :348

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

صورة التعمّد والاختیار ، وتکون دعوی الانصراف فی ناحیة المواد تارة وفی ناحیة الهیئات أُخری.

وناقش المحقّق النائینی قدس سره فی دعوی الانصراف سواء کانت فی ناحیة موادّها أو هیئاتها بأنّ معنی المادة هو الطبیعی الذی یکون صدقه علی تمام افراده بالتواطی ء، والهیئات دالّة علی انتساب المواد إلی الذوات وقیامها بها ، ویشترک فی ذلک الانتساب التعمدی وغیره ، ولذا ذکر الفقهاء الضمان فی إتلاف مال الغیر غفلة وبلا التفات أخذا بعموم قاعدة «من أتلف» ، وذکروا عدم حکومة حدیث الرفع علی ما بیّن فی محلّه ، ولم ینکر ذلک أحد منهم ، بدعوی انصراف الاتلاف إلی صورة التعمّد ، نعم العناوین القصدیة التی لا تتحقّق إلاّ بالاعتبار والإنشاء تتوقّف علی قصدها ، لا لانصراف الفعل إلی التعمّد ، بل لعدم الفعل مع عدم القصد ، حیث إنّ الإنشاء والاعتبار مقوّمهما القصد .

هذا بالإضافة إلی الاختیار بمعنی التعمّد والالتفات ، وأمّا الاختیار المقابل للجبر والقهر فلا یبعد دعوی انصراف الفعل إلیه کما ذکر الشیخ قدس سره فی بحث خیار المجلس بأنّ تفریق المتبایعین بالقهر والجبر لا یوجب سقوط الخیار لانصراف الافتراق المأخوذ غایة له فی الروایات إلی ما کان بالاختیار .

ثمّ إنّه قدس سره قد ذکر وجهین للانصراف فی خصوص صیغة الأمر وما بمعناها بالإضافة إلی التعمّد بمعنی الالتفات وبالإضافة إلی الاختیار بالمعنی المقابل للقهر والجبر.

الأوّل: اعتبار الحسن الفاعلی فی تعلّق الأمر والطلب بالمادة ، ومن الظاهر أنّ

ص :349

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الحسن الفاعلی لا یکون من دون القصد والالتفات ، وبتعبیرٍ آخر : تعلّق الطلب بالمادة قرینة علی کون متعلّقه خصوص الحصة الاختیاریة ، ومقتضی مذهب أهل الحقّ عدم تعلّق أمر الشارع إلاّ بما فیه صلاح العباد ، وکون الفعل کذلک یوجب استحقاق فاعله المدح مع القصد والالتفات لا مطلقاً .

وبالجملة الحسن الفعلی تابع للملاک فی الفعل ولا یتوقف علی الإرادة والاختیار ، ولکنّ الحسن الفاعلی لا یکون إلاّ مع العمد والالتفات .

الثانی: أنّ مفاد الهیئة فی صیغة الأمر وما بمعناها هو البعث والتحریک ، وهذا البعث والتحریک لا یکون إلاّ نحو الفعل الإرادی .

وعلیه فسقوط التکلیف بالفرد غیر الاختیاری یکون من جهة عدم تقیید الوجوب والطلب بحصول الواجب عن التفات ، لا لشمول الطلب له أیضاً ، وإذا کان الأمر کذلک فإطلاق الوجوب وعدم ورود القید علیه مع کونه فی مقام البیان ، مقتضاه التعبدیة وعدم إجزاء الفرد غیر العمدی والاختیاری ، بل الأمر کذلک حتّی لو وصلت النوبة إلی الأصل العملی فإنّ استصحاب بقاء الموضوع أو الحکم ولا أقلّ من قاعدة الاشتغال ، مقتضاه بقاء التکلیف ولزوم إحراز سقوط التکلیف(1) .

وفیه : أمّا الوجه الأوّل ، فالحقّ أنّه لا موجب لاعتبار الحسن الفاعلی فی کون فرد مصداقا لمتعلّق التکلیف ، فإنّه لو کان فیه الملاک الموجود فی سائر الأفراد لعمّه الطبیعی المطلوب صرف وجوده ، نعم إذا کان الطبیعی عنوانا قصدیا فلا یکون ما هو بغیر العمد والقصد فردا للطبیعی ، کما أن_ّه لو کان الواجب تعبدیا لا یسقط إلاّ مع

ص :350


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 100 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الإتیان بقصد امتثال الأمر ، فلا یکون المغفول عنه وغیر المقصود فردا أو واقعا بنحو العبادة ، وهذا خارج عن محلّ الکلام علی أنّ الحسن الفاعلی لا یتحقّق بمجرد التعمّد والالتفات ، بل لابدّ من حصول الفعل بقصد التقرّب ، وهذا یوجب أن تکون جمیع الواجبات تعبدیة .

وأمّا الوجه الثانی ، وهو تعلّق البعث والتحریک بخصوص الحصّة المقدورة وعدم إمکان تعلّقهما بالطبیعی بجمیع وجوداته مع فرض خروج بعضها عن الاختیار ، فیرد علیه :

أوّلاً: إنّه ینافی ما ذکره قدس سره فی بحث الضد(1) من جواز التمسّک بإطلاق الطبیعی المتعلّق به التکلیف لإثبات الملاک فی فرده غیر المقدور والمزاحم ، حیث إنّه بعد فرض کون متعلّق التکلیف فی نفسه الحصة المقدورة کیف یمکن التمسّک بإطلاقه .

وثانیا: أنّ الإطلاق فی المتعلّق هو رفض القیود عنه ، فیمکن تعلّق التکلیف بطلب صرف الوجود من الطبیعی الملغی عنه القیود وخصوصیتها ، فیما کان فرد منه مقدورا ، اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ الترخیص کالبعث والطلب لا یتعلق بالحصة الخارجة عن الاختیار أو المغفول عنها ، وعلیه فلا یتمّ الإطلاق فی ناحیة المتعلّق بالإضافة إلیها ، فإنّ وجود الملاک فی کلّ فرد من الطبیعی یستفاد من الترخیص فی التطبیق علیه ، الملازم لإطلاق المتعلّق ، ومع احتمال اختصاص الملاک بفرده الاختیاری یحتمل اکتفاء الآمر فی بیان ذلک باعتماده علی التکلیف بالطبیعی ، حیث لا یعمّ معه الترخیص فی تطبیقه إلاّ أفراده المقدورة وغیر المغفول عنها .

ص :351


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 269 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وممّا ذکرنا یظهر ضعف ما عن سیّدنا الأستاذ قدس سره فیالمقام من أنّ معنی صیغة إفعل لیس البعث والطلب ، بل معناها اعتبار المبدأ علی عهدة المکلف والاعتبار علی العهدة لا یوجب تقییدا فی المعتبر ، بأن یکون ما علی ذمته الحصة المقدورة ، لیقال إنّ إجزاء غیر المقدورة یحتاج إلی التقیید فی التکلیف ، ومع عدم ثبوته یکون مقتضی إطلاق البعث والإیجاب عدم الإجزاء ، ومع وصول النوبة إلی الأصل العملی یکون مقتضی استصحاب التکلیف أو قاعدة الاشتغال لزوم رعایة احتمال بقاء التکلیف .

وبالجملة إذا کان ما علی العهدة نفس الطبیعی بلا تقیید ، یستقل العقل بإفراغها ولو مع تمکّنه من فرد ، ولا مجال لدعوی أنّ تحریک المولی یتعلّق بما یقدر العبد علی التحرّک نحوه ، لما ذکر من عدم کون مفاد صیغة الأمر تحریکا وبعثا .

لا یقال : ما فائدة اعتبار الطبیعی علی العهدة دون الحصة المقدورة ؟

فإنّه یقال : فائدة ذلک الإعلام بوجود الملاک فی الطبیعی کیفما تحقّق ، وعلی ذلک فیکون مقتضی الأصل العملی أیضاً عند حصول الفرد غیر الاختیاری البراءة عن التکلیف(1) .

أقول : لازم هذا الکلام الإلتزام بالإجزاء حتّی فیما إذا کان الطبیعی یحصل بفعل الغیر ، فإنّ المادة موضوعة لنفس الطبیعی ، وهیئة إفعل دالّة علی کون ذلک الطبیعی علی عهدته ، فعلیه الإتیان به مباشرة أو تسبیبا .

هذا مضافاً إلی أن_ّه قدس سره قد التزم بأنّ إطلاق متعلّق التکلیف یستتبع شمول

ص :352


1- (1) المحاضرات : 2 / 149 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الترخیص فی التطبیق لجمیع أفراد الطبیعة ، ولکن لو کان الأمر کما ذهب إلیه قدس سره أی عدم إیجاب اعتبار الفعل علی الذمة للتقیید فی المتعلّق . لما کان إطلاق المتعلّق مستلزماً للإطلاق الشمولی فی التطبیق بحیث یشمل جمیع الأفراد حتّی غیر المقدورة ، إذ اعتبار الفعل علی الذمّة وإن کان لا یوجب تقیید المتعلّق إلا أنّ الترخیص فی التطبیق یقیّد لا محالة ، وعلیه فإطلاق المتعلّق لم یکن کاشفاً عن إطلاق الترخیص فی التطبیق .

وقد تقدّم أنّ المتفاهم العرفی من هیئة صیغة الأمر هو الطلب المعبّر عنه ب(فرمان) فی اللغة الفارسیة ، والاعتبار فی الذمة إذا کان بداعی الطلب یکون کنایة عن الطلب ، وإذا کان بداعٍ آخر کما فی موارد المعاملات والاجارة ، فهذا شیء آخر لا یرتبط بالأمر والتکلیف ، کما لا یخفی .

فی التعبدی بمعنی عدم سقوط التکلیف بالفرد المحرّم

:

وأمّا المقام الثالث: وهو سقوط التکلیف بالفرد المحرّم ، فلا ینبغی التأمّل فی أنّ حرمة فرد توجب تقیید متعلّق التکلیف بغیره ، فالحکم بسقوط التکلیف مع الإتیان به یحتاج إلی إحراز اشتماله علی ملاک سائر الأفراد ، إذ مع خروجه عن خطاب الأمر بالتقیید _ لمنافاة حرمته مع الترخیص فی التطبیق _ لا یکون فی البین کاشفاً عن الملاک فیه ، ومقتضی إطلاق الأمر بالطبیعی المقید بغیره لزوم الإتیان بغیره حتّی لو وصلت النوبة إلی الأصل العملی ، فمقتضی قاعدة الاشتغال علی ما هو المعروف عندهم لزوم إحراز سقوط التکلیف .

وإن قیل بأنّ حرمة فرد لا یوجب تقیید متعلّق التکلیف بغیره ، وأنّه یجوز

ص :353

المبحث السادس: قضیة إطلاق الصیغة، کون الوجوب نفسیاً تعیّنیاً عینیاً[1]، لکون کل واحد مما یقابلها یکون فیه تقیید الوجوب وتضیق دائرته، فإذا کان فی مقام البیان، ولم ینصب قرینة علیه، فالحکمة تقتضی کونه مطلقاً، وجب هناک شیء آخر أو لا، أتی بشیء آخر أو لا، أتی به آخر أو لا، کما هو واضح لا یخفی.

الشَرح:

اجتماع الأمر والنهی، یکون الإتیان بالفرد المحرم کالإتیان بسائر الأفراد فی سقوط التکلیف به. نعم إذا کان المتعلّق مما یعتبر الإتیان به علی نحو العبادة، فربّما یحکم بفساده لعدم حصول قصد التقرّب مع حرمة الفرد ووقوعه مبغوضا، بخلاف موارد سقوط النهی، أو کونه معذورا لجهة، فیحکم بصحّته عبادةً.

ثمّ لا یخفی أنّه لا وجه لتقیید خطاب الأمر بخطاب النهی إذا کان الأمر إرشادیا ، کما فی الأمر بغسل الثوب ، فإنّه إرشاد إلی کون طهارته بالغسل ، فیعمّ الغسل بالماء المباح والمغصوب ، ولا ینافیه النهی عن الغصب .

مقتضی إطلاق صیغة الأمر

:

[1] الظاهر أنّ مراده قدس سره من الإطلاق ، إطلاق نفس الدال علی الوجوب وهو هیئة إفعل حیث إنّ الوجوب مستفاد منها ، وذکر قدس سره أنّ للوجوب فی کلّ واحدٍ ممّا یقابلها تقیّد وتضییق لدائرته ، وکأنّه فی مقابل الأوّل یتقیّد بفعلیة وجوب فعلٍ آخر ، وفی مقابل الثانی بترک الفعل الآخر ، وفی مقابل الثالث بما إذا لم یأتِ به شخص آخر ، فإذا کان الآمر بصدد البیان ولم یذکر دالاًّ علی ذلک التقیید والتضییق یکون مقتضی الاطلاق کونه نفسیا تعیینیّا عینیا .

أقول : لا یکون فی موارد الوجوب التخییری وجوب الفعل مقیدا بترک فعلٍ آخر ، حیث إنّ لازم هذا التقیید فعلیّة الوجوبین مع ترک متعلّقها بأن یعاقب المکلّف بعقابین لترکه کلاًّ من الفعلین .

ص :354

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

مع أنّ الغرض الملزم إذا کان حاصلاً بأحد الفعلین ، فلا موجب لتعدّد الأمر والوجوب ، بل یصحّ الأمر بالجامع بینهما ، ولو کان ذلک الجامع أمرا انتزاعیا اعتباریا .

وعلی ذلک یکون إثبات کون الوجوب تعیینیا بإطلاق متعلّقه بمعنی عدم ذکر العدل له فإنّه لو کان تخییریا لذکر فی الخطاب تقیّد متعلّقه بفعلٍ آخر ، بعطفه علیه بلفظة «أو» لیکون کاشفا عن تعلّقه ثبوتا بالجامع بینهما .

نعم ، لا مانع فی الواجب الکفائی من تقید مدلول الهیئة بما إذا لم یتحقّق طبیعی الفعل من الآخرین ، وأنّ کلّ واحد ممن اعتبر الوجوب فی حقّه یستحقّ العقاب فیما إذا ترکوا الفعل .

وإذا کان المتکلّم فی مقام البیان ولم یذکر فی خطابه تقیید للأمر بذلک ، یکون مقتضاه کون الوجوب عینیّا .

وأمّا الوجوب النفسی ، فإنّ ظاهر الأمر بفعلٍ هو کونه بداع البعث لا الإرشاد إلی دخله فی متعلّق تکلیف آخر شرطا أو شطرا ، وهذا الظهور ناشٍ من عدم تقیّد الأمر بإرادة الإتیان بمتعلّق تکلیفٍ آخر ، کما فی آیة الوضوء ، وعلی ذلک فالصحیح أن یقال : إنّ إطلاق الأمر بفعل وعدم تقییده بإرادة الإتیان بمتعلّق تکلیف آخر ، مقتضاه کون وجوبه نفسیا .

وکذا عدم تقید وجوب فعل بما إذا وجب فعل آخر ، فإنّ إثبات الوجوب الغیری بتقیید الأمر بفعل ، بما إذا وجب فعل آخر وإن کان غیر صحیح ؛ لإمکان کونهما نفسیین فی وقتٍ واحد ، کالأمر بالإقامة عند وجوب الصلاة ، إلاّ أنّ عدم التقیید کذلک کاشف عن کون وجوب الفعل نفسیا .

ص :355

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وبتعبیرٍ آخر : لا یکفی فی إثبات الغیریة مجرد تقیید وجوب الفعل بما إذا وجب الآخر ، حیث إنّ الوجوب الغیری إضافة إلی تقیّده بما إذا وجب الفعل الآخر ، لابدّ أن یکون متعلّقه مأخوذا فی ذلک الفعل الآخر فیکون شرطا له ، أو یکون الفعل الآخر ممّا یتوقّف علیه خارجا فیکون مقدمة له، ولذا یکون وجوبه غیریّا، فمجرّد التقیید کذلک لا یکفی لإثبات الغیریّة، إلاّ أنّ عدم التقیید کذلک یکشف عن نفسیة الوجوب.

ولا یخفی أن_ّه یمکن إثبات کون وجوب الفعل نفسیا بإطلاق متعلّق الوجوب الآخر ، فإنّ مقتضی إطلاقه عدم أخذ المشکوک فی نفسیّة وجوبه فی ذلک المتعلّق ، فیکون وجوب المشکوک نفسیا ، لجواز إثبات اللوازم بالأُصول اللفظیة .

وقال المحقّق الأصفهانی قدس سره فی ذیل کلام المصنف قدس سره : لا یخفی أنّ لکلٍّ من الوجوب النفسی والغیری قیدا ، ضرورة خروج الوجوب عن الإهمال بالقید ، ولکن القید فی الوجوب النفسی وما یماثله لا یخرج عن طبیعة الطلب عرفا .

ثمّ قال : التحقیق أنّ لکلٍّ من الوجوبین قیدا ، ولکن القید فی الوجوب الغیری أمر وجودی وهو نشوء وجوب فعل وانبعاثه عن وجوب فعلٍ آخر ، والوجوب النفسی قیده عدمی ، وهو عدم انبعاث وجوبه عن وجوب فعل آخر ، لا أنّ للوجوب النفسی قیدا وجودیا هو أن_ّه یجب ، وجب هناک شیء آخر أم لا ، کما هو ظاهر المصنّف قدس سره ضرورة أنّ مجرد اقتران وجوب شیء بوجوب شیء آخر لا یوجب کون وجوبه غیریا ، بل الوجوب الغیری نشوء وجوب فعل عن وجوب فعلٍ آخر ، وإذا ثبت بمقدّمات الحکمة عدم بیان هذا القید الوجودی یثبت النفسیة فی وجوبه ؛ لکون القید فیه عدمیا ولیس مقتضی الإطلاق ثبوت وجوب ، سواء کان ناشئا عن وجوب فعل آخر أم لا ، فإنّ إطلاق الوجوب بهذا المعنی غیر معقول . وکذا الحال فی

ص :356

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الوجوب التعیینی والتخییری فإنّ التخییری هو الوجوب المشوب بجواز ترک الفعل إلی بدل ، والتعیینی هو الوجوب الذی لا یکون کذلک ، لا الوجوب المقترن بجواز الترک وعدمه.

ثمّ قال : وتوهّم أنّ الحکمة لا تقتضی کون الوجوب تعیینیا لا تخییریّا ، حیث لا یلزم من عدم بیان فرد آخر من الوجوب نقض الغرض فاسد ، فإنّ الغرض بیان نحو وجوب الفعل وکیفیة وجوبه وعدم ذکر القید یکون نقضا لهذا الغرض ، ولیس المراد من الغرض ، الغرض الباعث إلی التکلیف ، مع أنّه یلزم نقض هذا الغرض أیضاً فیما إذا تعذّر ما اکتفی ببیان التکلیف به(1).

وذکر بعض الأعاظم أنّ الأمر بالشیء یحمل علی کون وجوبه نفسیا تعیینیا عینیّا ، إلاّ أنّ هذا الحمل لمجرد بناء العقلاء واستمرار سیرتهم علی ذلک من غیر أن یدخل فی الدلالة اللفظیة _ وضعیّة کانت أو انصرافیة أو کشف العقلاء عن الإطلاق _ فإنّ أمر المولی وبعثه بفعل تمام الموضوع لاحتجاجه علی العبد ولا یجوز له التقاعد عن موافقة مطلق بعثه ، سواء کان باحتمال إرادة الندب أو العدول إلی الفعل الآخر باحتمال التخییر أو الترک مع إتیان شخص آخر بالفعل ، لاحتمال الکفائیة أو عدم الإتیان به عند عدم التکلیف بالفعل الآخر ، لاحتمال الغیریة ، فإنّ علی ذلک سیرتهم وبنائهم وإن لم یتبیّن لنا وجه هذا البناء ، ولیس لأمر راجع علی دلالة اللفظ ؛ ولذا یجری فی الموارد التی یکون فیها البعث بنحو الإشارة أیضاً(2).

ص :357


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 353 .
2- (2) تهذیب الأُصول : 1 / 127 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

أمّا ما ذکر فی الکفایة من استفادة الوجوب النفسی والتعیینی والعینی من إطلاق الهیئة ، فلا یمکن المساعدة علیه ، کما لا یمکن المساعدة علی ما ذکره المحقّق الاصفهانی قدس سره فی تعلیقته من أنّ القید فی کلٍّ من النفسی والتعیینی والعینی عدمی ، بخلاف الغیری والتخییری والکفائی فإنّ قیدها وجودی فیکفی فی بیان النفسیة عدم بیان قید الغیری ، وکذا الحال فی التعیینی والعینی ، أمّا الأوّل فلأنّه علی القول بوضع الهیئة لمطلق الطلب یکون نتیجة الإطلاق هو مطلق البعث المشترک بین النفسی والغیری حیث إنّ میزان الإطلاق هو أن یکون ما یؤخذ فی الخطاب ویراد بیانه تمام الموضوع للحکم ولابدّ أن یکون فی المقام هوالجامع ، ولکن الإطلاق کذلک مع کونه خلاف الغرض حیث إنّ المزبور استفادة الوجوب النفسی لا الجامع ممتنع ، لأنّ الحروف وما یشابهها ومنها صیغة إفعل لایتصوّر الجامع الحقیقی بین معانیها .

والحاصل یلزم أن یکون لکلٍّ من الوجوب النفسی والغیری قید ، إمّا وجودی أو عدمی ضرورة صحّة تقسیم الوجوب إلیها ، ویلزم أن یکون لذلک القید دالّ آخر .

وأمّا ما ذکره المحقّق الاصفهانی قدس سره من أنّ النفسیة فی الوجوب عبارة عن عدم الوجوب للغیر ، فهذا بیّن البطلان ، فإنّه إن کان المراد عدم الوجوب للغیر بنحو السالبة المحصلة الصادقة مع انتفاء الوجوب _ کما هو ظاهر کلامه _ فهو کما تری .

وإن کان المراد العدم بنحو السالبة بانتفاء المحمول أو السلب العدولی ، فیحتاج بیان کون الوجوب لا لغیره ، إلی بیانٍ ودالٍّ آخر زائدا علی الدالّ علی أصل وجوبه ، علی أنّ الوجوب لنفسه هو الوجوب لذاته وتفسیره بلا لغیره ، تفسیر بلازمه .

ص :358

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ودعوی أنّ أحد القسمین أی الوجوب النفسی عین المقسم فی نظر العرف ، کما هو ظاهر قوله «بأن الوجوب النفسی وما یماثله لا یخرج عن طبیعة الطلب عرفا وإن کان غیره فی نظر العقل» ، لا تخرج عن صرف الادعاء ، بل الوجدان علی خلافها . فإنّه یصحّ عرفا تقسیم الطلب إلی النفسی والغیری من غیر أن یلزم بنظرهم محذور تقسیم الشیء إلی نفسه وغیره ، فکلّ من الوجوب النفسی والغیری بنظرهم نفس الطبیعة مع قید زائد وجودی أو عدمی .

أقول : یظهر ما فی کلام المحقّق وبعض الأعاظم ممّا ذکرناه فی ذیل کلام الماتن قدس سره ، فإنّه لیس الکلام فی المقام فی الفارق الثبوتی بین الوجوب النفسی والوجوب الغیری لیقال إنّ لکلٍّ منهما خصوصیة وقیدا زائدا علی أصل الطلب وأنّ الطلب فی الأوّل ینشأ عمّا فی متعلّقه من الملاک والغرض ، بخلاف الغیری فإنّ ملاک الطلب فیه ترشحی عن الملاک والغرض فی الفعل الآخر .

وقد ذکر الماتن قدس سره ذلک فی بحث الواجب النفسی والغیری ، بل الکلام فی مقام الإثبات وأنّ بیان کون الوجوب فی الواقع نفسیا یکفی فیه عدم ذکر ما یدلّ علی أنّ طلب الفعل غیری فیما إذا کان المولی فی مقام بیان کیفیة الوجوب ونحوه، وأنّ بیان کون الطلب المتعلّق بالفعل غیری یکون بتقیید الطلب بما إذا أراد الإتیان بفعلٍ آخر کما فی آیة الوضوء، أو بما إذا کان طلب الفعل الآخر فعلی، وإذا لم یذکره وکان فی مقام بیان کیفیة الوجوب بأن تعلّق الطلب فی الخطاب بالفعل یکون الإطلاق أی عدم ذکر ما یدلّ علی قید الوجوب الغیری دلیلاً علی أنّ الوجوب نفسی؛ لأنّ کون الوجوب مهملاً ثبوتا غیر ممکن من المولی الملتفت ، کما أنّ ثبوت کلا الوجوبین خلاف الفرض، حتّی لو فرض تحمّل فعل واحد لوجوبین أحدهما نفسی والآخر غیری.

ص :359

المبحث السابع: إنه اختلف القائلون بظهور صیغة الأمر فی الوجوب وضعاً أو إطلاقاً فیما إذا وقع عقیب الحظر أو فی مقام توهمه [1] علی أقوال: نسب إلی المشهور ظهورها فی الإباحة. وإلی بعض العامة ظهورها فی الوجوب، وإلی بعضٍ تبعیته لما قبل النهی، إن عُلّق الأمر بزوال علّة النهی، إلی غیر ذلک.

والتحقیق: إنّه لا مجال للتشبث بموارد الإستعمال، فإنّه قلّ مورد منها یکون خالیاً عن قرینة علی الوجوب، أو الإباحة، أو التبعیة، ومع فرض التجرید عنها، لم

الشَرح:

وعلیه إذا أُحرز عدم الوجوب الغیری ثبوتا تعیّن کونه نفسیا ، والوجه فی إحراز عدم کونه ثبوتا غیریا عدم بیان القید اللازم فی الدلالة علی کونه غیریّا ، کما هو الفرض فی المقام ، وهذا معنی قولنا عدم الدلالة علی کون الوجوب غیریّا فی مقام بیان کیفیة الوجوب دلیل علی نفسیته ، ویعبّر عن عدم الدالّ علی غیریّة الوجوب فی مقام بیان کیفیة الوجوب بالإطلاق ، وهذا غیر الإطلاق فی موضوع الحکم المقتضی لتسریته إلی جمیع أفراده کما فی قوله سبحانه : «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» وقوله سبحانه : «َحَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَیْسِرَ» إلی غیر ذلک ، ممّا یحتاج إرادة بعض الأفراد إلی قرینة دالّة علی خصوصیة الأفراد المقصودة ثبوتا .

ونظیر الإطلاق فی المقام ، ما تقدّم فی دلالة صیغة الأمر علی کون الطلب وجوبیا بالإطلاق ، وهذا الإطلاق داخل فی الدلالة اللفظیة ، حیث إنّه مدلول لعدم ذکر القید الدالّ علی الحکم الآخر کما تقدّم ، مع احتیاجه فی مقام البیان إلی ذکره لو کان هو المراد .

مدلول صیغة الأمر بعد الحظر

:

[1] قد یقال : إن ورود صیغة الأمر بعد الحظر أو فی مقام توهّم الحظر یوجب ظهورها فی الترخیص والإذن ، وقد ینسب ذلک إلی المشهور .

ص :360

یظهر بعدُ کون عقیب الحظر موجباً لظهورها فی غیر ما تکون ظاهرة فیه.

غایة الأمر یکون موجباً لإجمالها، غیر ظاهرة فی واحد منها إلاّ بقرینة أخری، کما أشرنا.

الشَرح:

ونسب إلی بعض العامّة القول بعدم الفرق بین ورود صیغة الأمر فی هذا المقام و بین ورودها فی غیره فی ظهورها فی وجوب الفعل. کما نسب إلی بعض القول بظهورها فی ما کان الفعل علیه قبل النهی عنه إذا علق الأمر بزوال موجب النهی ، کما فی قوله سبحانه : «فَإِذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِکِیْنَ»(1).

وقد استدلّ کلّ فریق علی ما ذهب إلیه ببعض استعمالاتها ، ولکن القرینة فی تلک الموارد علی إرادة الترخیص والاذن أو الوجوب أو الرجوع إلی ما قبل الحظر موجودة ، ومع قطع النظر عن تلک القرائن لم یظهر أنّ وقوعها عقیب الحظر یوجب ظهورها فی غیر ما کانت ظاهرة فیه قبل الحظر ، بل وقوعها کذلک یوجب إجمالها وعدم الظهور فی شیء منها بخصوصه .

لا یقال : قد تقدّم أنّ دلالة الصیغة علی وجوب الفعل بالإطلاق وعدم الترخیص فی ترک متعلّق الطلب ، وتعلّق الطلب به مع ورود صیغة الأمر محرز ، وإذا لم یبیّن الترخیص فی ترکه یکون مقتضاه الوجوب ، کما تقدّم.

فإنّه یقال : إنّما یتمسّک بإطلاق الطلب فیما إذا کان تعلّق الطلب بالفعل بداعی البعث نحوه محرزا ، إمّا بالوضع أو بالانصراف ، وفی المقام لم یحرز کون تعلّق الطلب بالفعل بداعی البعث حتّی یحمل علی الوجوب ، لاقتران الخطاب بما یصلح قرینة علی أن_ّه بداعی الترخیص فیه ، وبیان عدم الحظر أو ارتفاعه ، کما لا یخفی.

ص :361


1- (1) سورة التوبة : الآیة 5 .

المبحث الثامن: الحق أن صیغة الأمر مطلقاً، لا دلالة لها علی المرة ولا التکرار [1]، فإن المنصرف عنها، لیس إلاّ طلب إیجاد الطبیعة المأمور بها، فلا دلالة لها علی أحدهما، لا بهیئتها ولا بمادتها، والإکتفاء بالمرّة، فإنّما هو لحصول الامتثال بها فی الأمر بالطبیعة، کما لا یخفی.

ثم لا یذهب علیک: أن الإتفاق علی أن المصدر المجرّد عن اللام والتنوین، لا

الشَرح:

دلالة صیغة الأمر علی المرة أو التکرار

:

[1] المراد أنّ صیغة الأمر لا دلالة لها بمادّتها ولا بهیئتها علی خصوصیة المرّة أو التکرار ، حیث إنّ مادّتها لا تکون دالّة إلاّ علی الطبیعی ، وهیئتها لا تکون دالّة إلاّ علی البعث نحوه وطلب وجوده .

وبتعبیرٍ آخر : یلاحظ الطبیعی تارةً فی وجوداته الانحلالیة ، وأُخری بوجوده الخاصّ ، ککونه متعقبا بوجوده الآخر أو غیر متعقّب ، أو مقترناً بوجوده الآخر أو غیر مقترن إلی غیر ذلک ، وثالثةً یلاحظ وجوده فی مقابل عدمه ، فلا یلاحظ السریان ولا وجوده الخاصّ . ولا یستفاد من صیغة الأمر إلاّ المعنی الأخیر _ أی ما یلاحظ وجوده فی مقابل عدمه _ ، فتکون المرة مسقطة للأمر به لحصوله بها وخروجه من کتم العدم إلی صفحة الوجود ، لا أنّ المطلوب فیها هو المرّة .

ثمّ إنّ صاحب الکفایة قدس سره جعل النزاع فی الهیئة والمادّة وقال : إنّ صیغة (إفعل) لا تدلّ علی خصوصیّة المرّة ولا التکرار ، لا بهیئتها ولا بمادّتها کما بیّنا .

ولکنّ صاحب الفصول قدس سره جعل النزاع فی الهیئة فقط ، وأنّه هل یستفاد من الصیغة المرّة أو التکرار ، أو لا یستفاد منها شیء من الخصوصیتین وأنّ مدلولها طلب حصول الطبیعی . فالنزاع فی المقام راجع إلی دلالة الهیئة علی أحدهما ؟ مع التسالم علی أنّ الصیغة بمادّتها لا تدلّ علی خصوصیة المرة أو التکرار ؛ وذلک لاتّفاق أهل

ص :362

یدل إلاّ علی الماهیة __ علی ما حکاه السکاکی __ لا یوجب کون النزاع ها هنا فی الهیئة _ کما فی الفصول _ فإنه غفلة وذهول عن کون المصدر کذلک، لا یوجب الإتفاق علی أن مادة الصیغة لا تدلّ إلاّ علی الماهیة، ضرورة أن المصدر لیست مادة لسائر المشتقات، بل هو صیغة مثلها، کیف؟ وقد عرفت فی باب المشتق

الشَرح:

العربیة _ کما ذکر السکاکی _ علی أنّ المصدر المجرد عن اللام والتنوین لا یدلّ إلاّ علی نفس الطبیعی(1) .

وأجاب عنه الماتن قدس سره وقال : هذا الکلام غفلة عن أنّ کون المصدر المجرد عنهما کذلک لا یوجب الاتفاق علی أنّ الصیغة بمادتها لا تدلّ علی خصوصیة المرة أو التکرار ؛ لأنّ المصدر المجرد لا یکون مادة لسائر المشتقات ومنها صیغة الأمر ، بل المصدر صیغة کسائر صیغ المشتقات له هیئة ومادّة ، وقد تقدّم فی باب المشتق مباینة المصدر مع سائر المشتقات فی المعنی ، فکیف یکون المصدر بمعناه المصدری مادة لها ؟ وعلیه فیمکن دعوی اعتبار المرة أو التکرار فی مادة صیغة الأمر ولا اتّفاق علی عدمه .

لا یقال : إذا لم یکن المصدر مادّة لسائر المشتقات ، فما معنی ما اشتهر فی الألسن من کون المصدر أصلاً فی الکلام ، والمراد بالکلام المشتق ، فإنّ إطلاق الکلام علی المشتق اصطلاح الصرفیین .

فإنه یقال : المراد بکون المصدر أصلاً فی المشتقات مع أن_ّه محلّ خلاف بین علماء الأدب ، هو أنّ المصدر سابق علی سائر المشتقات فی الوضع ، وأنّ سائرالمشتقات وضعت بتبع وضع المصدر .

ص :363


1- (1) الفصول الغرویة : 58 .

مباینة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنی، فکیف بمعناه یکون مادة لها؟ فعلیه یمکن دعوی اعتبار المرة أو التکرار فی مادتها، کما لا یخفی.

إن قلت: فما معنی ما اشتهر من کون المصدر أصلاً فی الکلام.

قلت: مع أن_ّه محلّ الخلاف، معناه أن الذی وضع أولاً بالوضع الشخصی، ثم بملاحظته وضع نوعیّاً أو شخصیّاً سائر الصیغ التی تناسبه، ممّا جمعه معه مادة لفظ متصورة فی کل منها ومنه، بصورة ومعنی کذلک، هو المصدر أو الفعل، فافهم.

ثمّ المراد بالمرة والتکرار، هل هو الدفعة والدفعات؟ أو الفرد والأفراد؟

الشَرح:

وبیان ذلک : أنّ من یلاحظ ألفاظا مختلفة الهئیة متحدة المادة ک(ضَرْب وضَرَبَ ویضرب وضارب ومضروب وإضرب) یری أنّها تشترک فی أمرین ؛ أحدهما : ملفوظ یتلفظ به ویعبّر عنه ب(ض ر ب) . وثانیها : معنی ذلک الملفوظ وکأنّ هیئات تلک الألفاظ صور للأمر الأوّل ، ومعانی الهیئات صور للأمر الثانی ، فیکون (ض ر ب) مادة لفظیة لتلک الهیئات ، ومعناه مادة لمعانی تلک الهیئات ، وحیث أنّ المادة اللفظیة غیر قابلة للحاظ إلاّ فی ضمن هیئة ، فالهیئة التی لاحظ الواضع المادة فی ضمنها أوّلاً کانت هی هیئة المصدر أو الفعل ، وبعد وضع المصدر أو الفعل وضع سائر المشتقات التی تشترک مع المصدر فی الأمرین المتقدّمین بأن وضع موادها شخصا ، وهیئتها نوعا ، فالوضع فی ناحیة المصدر شخصی فی هیئته ومادته ، وفی غیره نوعی بالإضافة إلی الهیئات ، وشخصی بالإضافة إلی موادّها .

وقد ذکر بعض الأعاظم قدس سره أنّ مناقشة صاحب الکفایة ضعیفة ؛ وذلک لأنّ المصدر وإن لم یکن مبدأً لسائر المشتقات ، إلاّ أنّ عدم التفاوت بین مبدأ المصدر ومبدأ سائر المشتقات فی المعنی قطعی ، وعلیه فالعلم بخروج المرة أو التکرار عن معنی المصدر مساوٍ للعلم بخروجهما عن مدلول مادة سائر المشتقات ، فینحصر

ص :364

والتحقیق: أن یقعا بکلا المعنیین محل النزاع، وإن کان لفظهما ظاهراً فی المعنی الأوّل، وتوهم أن_ّه لو أرید بالمرة الفرد، لکان الأنسب [1]، بل اللازم أن یجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتی، من أن الأمر هل یتعلق بالطبیعة أو بالفرد؟ فیقال عند ذلک وعلی تقدیر تعلقه بالفرد، هل یقتضی التعلّق بالفرد الواحد أو المتعدد؟ أو لا یقتضی شیئاً منهما؟ ولم یحتج إلی افراد کل منهما بالبحث کما الشَرح:

الخلاف فی صیغة (إفعل) من ناحیة هیئتها فقط ، کما ذکر فی الفصول .

أقول : العلم بخروج المرة والتکرار عن مدلول المصدر لا یکون موجبا للعلم بخروجهما عن مادة سائر المشتقات ، فإنّه من المحتمل أن یکون مادة جمیع المشتقات حتّی المصدر موضوعة للطبیعی المقید بأحدهما ، وتکون هیئة المصدر موضوعة لإلغاء الخصوصیة من المادة وإشراب المعنی الحدثی لها مع کون الوضع فی ناحیة هیئة المصدر أیضاً شخصیا؛ ولذا یکون سماعیا بحسب المواد، وإذا أمکن ذلک یکون تخصیص الخلاف فی صیغة الأمر بمدلول الهیئة دون المادة بلا وجه .

[1] ذکر فی الفصول أنّ المراد بالمرّة الدفعة ، وبالتکرار الدفعات ، لا الفرد والأفراد ، فإنّه لو کان المراد منها الفرد أو الأفراد لکان الأنسب ، بل المتعیّن جعل هذا البحث تتمة للبحث الآتی وهو تعلّق الأمر بالطبائع أو الأفراد ، فیقال : علی القول بتعلّقه بالفرد ، هل المتعلّق فرد واحد أو المتعدّد أو لا دلالة فی الأمر بشیء علی أحدهما ، وأمّا علی القول بتعلّق الأمر بالطبیعی فلا معنی لهذا البحث ، فإنّ مقتضی تعلّقه بالطبیعی عدم تعلّقه بالفرد أصلاً فضلاً عن أن یکون واحدا أو متعدّدا ، وهذا بخلاف ما إذا کان المراد منهما الدفعة والدفعات ، فإنّه بناءً علیه یصحّ جعل الدلالة علی المرة والتکرار أو عدم دلالتها علیهما بحثاً مستقلاًّ .

وبما أنّ الأصحاب أفردوا هذا البحث عن البحث الآتی وجعلوا خلاف المرة

ص :365

فعلوه، وأم_ّا لو أرید بها الدفعة، فلا علقة بین المسألتین، کما لا یخفی، فاسد، لعدم العلقة بینهما لو أرید بها الفرد أیضاً، فإن الطلب علی القول بالطبیعة إنّما یتعلق بها باعتبار وجودها فی الخارج، ضرورة أن الطبیعة من حیث هی لیست إلاّ هی، لا مطلوبة ولا غیر مطلوبة، وبهذا الإعتبار کانت مرددة بین المرة والتکرار بکلا المعنیین، فیصحّ النزاع فی دلالة الصیغة علی المرة والتکرار بالمعنیین وعدمها.

أما بالمعنی الأول فواضح، وأما بالمعنی الثانی فلوضوح أنّ المراد من الفرد أو الأفراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لأن وجود الطبیعة فی الخارج هو الفرد، غایة الأمر خصوصیته وتشخصه علی القول بتعلق الأمر بالطبائع یلازم المطلوب وخارج عنه، بخلاف القول بتعلقه بالأفراد، فإنّه ممّا یقوّمه.

الشَرح:

والتکرار بحثا مستقلاً یکون ذلک قرینة علی أنّ المراد بالمرة والتکرار الدفعة والدفعات .

والوجه فی عدم العلقة بین المسألتین بناءً علی أنّ المراد بالمرة الدفعة ، وبالتکرار الدفعات ، جریان النزاع علی القول بتعلق الأمر بالطبیعی ، وکذا علی القول بتعلّقه بالفرد ، فإنّ جریانه علی الأوّل معناه الإتیان بالطبیعی مرة أو مرات ، وعلی الثانی معناه الإتیان بالفرد أو الإتیان بالأفراد .

وقد ذکر الماتن قدس سره أنّه لا علقة بین مسألة الدلالة علی المرة والتکرار ومسألة تعلّق الأمر بالطبیعة أو الفرد ؛ وذلک لأن تعلّق الأمر بالطبیعة معناه طلب وجودها ، وإلاّ فالطبیعة _ مع قطع النظر عن وجودها _ لا یتعلّق بها الحب والبغض ولا الإرادة والکراهة ولا البعث والزجر ، فالقائل بتعلقه بالطبیعة ملتزم بأنّ مفاد الأمر بها طلب وجودها ، ولکنه ملغی عنها جمیع خصوصیات أفرادها وأنّ تلک الخصوصیات غیر داخلة فی المطلوب ، بحیث لو أمکن حصولها فی الخارج عاریة عن جمیع تلک

ص :366

تنبیه: لا إشکال بناءً علی القول بالمرة فی الإمتثال [1]، وأن_ّه لا مجال للاتیان بالمأمور به ثانیاً، علی أن یکون أیضاً به الإمتثال، فإنّه من الإمتثال بعد الإمتثال. وأم_ّا علی المختار من دلالته علی طلب الطبیعة من دون دلالة علی المرة ولا علی التکرار، فلا یخلو الحال: إمّا أن لا یکون هناک إطلاق الصیغة فی مقام البیان، بل فی الشَرح:

الخصوصیات لحصل متعلّق الطلب وسقط الأمر بالطبیعة لحصول الغرض .

ولکنّ القائل بتعلّق الأمر بالأفراد یلتزم بأنّ تلک الخصوصیات أیضاً داخلة فی المطلوب ، بحیث لو أمکن حصول الطبیعة بدونها لما حصل المطلوب ولم یحصل متعلّق الأمر، وعلی ذلک _ سواء قیل بتعلق الأمر بالطبیعی أو بالفرد _ یجری الخلاف فی الدلالة علی المرة والتکرار ، فإنّه علی القول بتعلق الأمر بالطبیعی یکون الخلاف فی أنّ المطلوب وجود واحد للطبیعی أو وجودات متعدّدة ، وعلی القول بتعلقه بالفرد یکون الخلاف فی أنّ المطلوب خصوصیات فرد واحد أو أفراد متعدّدة .

وبتعبیرٍ آخر : المراد بالفرد الواحد فی المقام هو الوجود الواحد ، کما أنّ المراد بالفرد فی ذلک البحث دخول الخصوصیات لوجود الطبیعی فی متعلّق الطلب ، فلا علقة بین المسألتین .

[1] ظاهر کلامه قدس سره أنّه إن قیل بدلالة الصیغة علی المرّة فالامتثال یحصل بحصول متعلّق الطلب خارجا مرة ، ولا یبقی مجال للإتیان به ثانیا علی أن یکون الثانی أیضاً امتثالاً للطلب ، فإنّه من الامتثال بعد الامتثال .

وأمّا لو قیل بعدم دلالتها علی خصوصیة المرة ولا علی خصوصیة التکرار ، بل کان مفادها طلب الطبیعی وإیجاد ذلک الطبیعی فإن لم یکن الآمر بصیغة الأمر فی مقام البیان من هذه الجهة بل کان فی مقام بیان أصل الطلب المتعلّق بالمادة المعبّر

ص :367

مقام الإهمال أو الإجمال، فالمرجع هو الأصل. وإما أن یکون إطلاقها فی ذلک المقام، فلا إشکال فی الإکتفاء بالمرة فی الإمتثال، وإنما الإشکال فی جواز أن لا یقتصر علیها، فإنّ لازم إطلاق الطبیعة المأمور بها، هو الإتیان بها مرة أو مراراً لا لزوم الإقتصار علی المرّة، کما لا یخفی.

الشَرح:

عن ذلک بمقام الإهمال أو کان غرضه إخفاء خصوصیة متعلّق الطلب وأنّه الطبیعی مرة أو مرات أو بدونهما ، فالمرجع الأُصول العملیة ، وإن کان فی مقام البیان کما هو الأصل فی کلّ خطاب صادر عن المتکلم ، فمقتضی إطلاق الطبیعة المأمور بها هو الإتیان بها مرة أو مرات لا لزوم الاقتصار علی المرة ، کما لا یخفی .

ثمّ قال قدس سره : ولکنّ التحقیق أنّ مقتضی الإطلاق جواز الإتیان بالطبیعة مرة فی ضمن فردٍ أو أفراد کما إذا قال (إذا حنثت الیمین فأعتق رقبة) فیجوز له عتق عبد أو عبید دفعة امتثالاً للأمر بعتق العبد ، وأمّا إیجاد فرد بعد إیجاد الآخر امتثالاً للأمر بالعتق ثانیا فهذا غیر جائز ؛ لسقوط الأمر بالعتق بالإتیان بالفرد الأوّل لا محالة ، فلا یبقی مجال للإتیان به ثانیا بعنوان الامتثال فیما إذا کان امتثال الأمر بالفرد الأوّل علّة تامّة لحصول الغرض کما فی المثال ، ولا یبقی أیضاً مجال للإتیان به ثانیا لیکون الإتیانان امتثالاً واحدا .

نعم إذا لم یکن الإتیان الأوّل علّة تامّة لحصول الغرض الأقصی وإن کان موجبا للغرض المترتّب علی الإتیان بالفعل ، کما إذا أمر المولی بالإتیان بالماء لیشربه أو یتوضّأ به ، فأتی به ، فإنّه مادام لم یشربه أو لم یتوضّأ فلا یبعد صحّة تبدیل الامتثال بالإتیان بفردٍ آخر أحسن منه ، بل وإن لم یکن أحسن منه کما کان له أن یأتی بذلک الماء قبل الإتیان بالماء المأتی به علی ما یأتی بیانه فی بحث الإجزاء .

أقول : لو کان مراد القائل بدلالة صیغة الأمر علی المرة أنّ المرة قید لمتعلّق

ص :368

والتحقیق: إن قضیة الإطلاق إنّما هو جواز الإتیان بها مرة فی ضمن فرد أو أفراد، فیکون إیجادها فی ضمنها نحواً من الإمتثال، کإیجادها فی ضمن الواحد، لا جواز الإتیان بها مرة ومرات، فإنّه مع الاتیان بها مرة لا محالة یحصل الإمتثال ویسقط به الأمر، فیما إذا کان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض الأقصی، بحیث یحصل بمجرده، فلا یبقی معه مجال لاتیانه ثانیاً بداعی امتثال آخر، أو بداعی أن الشَرح:

الطلب وأنّ مفاد الهیئة تعلّق الطلب بالمادة ومفاد مادّتها الطبیعی المقیّد بالمرة ، ففی الفرض لا یجوز الإتیان بالطبیعی مرة أُخری ، فإنّ الإتیان مرة أُخری یوجب عدم حصول متعلّق الطلب أصلاً ، کما هو الحال فی الرکوع الواجب فی کلّ رکعة من رکعات الفریضة .

وأمّا إذا کان مراده دلالة هیئة الصیغة علی أنّ الطلب المتعلّق بطبیعی الفعل واحد وأن_ّه لا تعدّد فی ناحیة الطلب المتعلّق بالطبیعی لا لزوماً ولا استحباباً ، ففی مثل ذلک وإن لم یجز الإتیان بالفرد الآخر من الطبیعی امتثالاً لطلب آخر إذ لا تعدّد فیه حسب الفرض ، إلاّ أنّه إذا أتی بالفرد الآخر بلا قصد الامتثال أو حتّی معه فلا یضرّ بالامتثال الأوّل ، کما هو الحال فی غسل الوجه أو الید الیمنی فی الوضوء ثلاث مرات ، فإنّ المکلف فی الفرض وإن شرع بقصد الامتثال بالفرد الآخر مع علمه بالحال إلاّ أنّه لا یضر بامتثاله بالفرد الأوّل ، ویترتّب علی ذلک أن_ّه لو أعاد الجنب غسله بعد اغتساله من الجنابة أوّلاً فلا تضرّ الإعادة بصحّة اغتساله الأوّل .

وکذلک الحال فیما لو قلنا بعدم دلالة الصیغة علی المرة ولا التکرار لا بمادتها ولا بهیئتها ، بل مفادها طلب صرف وجود الطبیعی ، فإنّه بعد حصول صرف وجوده بالفرد الأوّل لا یبقی مجال للامتثال بالفرد الآخر ، ولکن إذا أتی بالفرد الآخر بلا قصد الامتثال أو معه ، فلا یضرّ بالامتثال بالفرد الأوّل .

ص :369

یکون الإتیانان امتثالاً واحداً، لما عرفت من حصول الموافقة بإتیانها، وسقوط الغرض معها، وسقوط الأمر بسقوطه، فلا یبقی مجال لإمتثاله أصلاً، وأم_ّا إذا لم یکن الإمتثال علة تامة لحصول الغرض، کما إذا أمر بالماء لیشرب أو یتوضأ فأتی الشَرح:

وما ذکره قدس سره فی أوّل الأمر من أنّ مقتضی الإطلاق جواز عدم الاقتصار علی المرة ، لا یخفی ما فیه ، فإنّ الإتیان بذات الفعل ثانیا وثالثا جائز ، ولکن لا یجوز بقصد الامتثال ؛ لسقوط الأمر بالطبیعی بالإتیان بالفرد الأوّل ، فإنّ مقتضی إطلاق المادة عدم أخذ الخصوصیة فی المتعلّق ، کما تقدّم ، ومقتضی إطلاق الهیئة تعلّق الطلب بما لم یلاحظ فیه الخصوصیة لا تعلّقه بالخصوصیات أیضاً .

وما ذکره ثانیا من أن_ّه مع عدم حصول الغرض الأقصی فلا بأس بالامتثال ثانیا أیضاً غیر صحیح ؛ لأنّ بقاء الغرض الأقصی مع حصول الغرض من متعلّق التکلیف وهو تمکن الآمر من تناول الماء فی المثال لا یوجب بقاء التکلیف بذلک المتعلّق لیمکن الامتثال الآخر بعد الامتثال الأوّل .

ودعوی أن_ّه لو أُریق الماء الأوّل لزم علی العبد الإتیان به ثانیا ، وهذا دلیل علی بقاء التکلیف ما دام لم یحصل الغرض لا یمکن المساعدة علیها ، فإنّ العلم بالغرض فی نفسه ملزم للعبد بالفعل ومع إراقة الماء یعلم بعدم حصول الغرض الذی هو تمکّنه من تناول الماء وهو ملزم له بالفعل ثانیاً ، ولذا لو علم العبد بهذا الغرض وغفل المولی عن حضور عبده عنده لیأمره بالإتیان بالماء کان علیه الإتیان به وجاز للمولی أن یؤاخذه علی ترکه .

نعم ، بقی فی المقام أمر وهو أنّه قد یکون لمتعلّق الطلب مصادیق یختلف بعضها مع بعض فی الملاک ، فیکون ملاک الطلب فی بعضها أقوی وأکثر بالإضافة إلی بعضها الآخر ، کما فی الأمر بالتصدّق علی الفقیر ، فإنّه یمکن التصدّق علی فقیرٍ

ص :370

به، ولم یشرب أو لم یتوضأ فعلاً، فلا یبعد صحة تبدیل الإمتثال بإتیان فرد آخر أحسن منه، بل مطلقاً، کما کان له ذلک قبله، علی ما یأتی بیانه فی الإجزاء.

الشَرح:

بالمال الیسیر ویمکن التصدّق علیه بالمال الکثیر کما یمکن التصدّق علی فقیرٍ بعد التصدّق علی فقیرٍ آخر ، ففی مثل هذه الموارد لا بأس بعد التصدّق بالمال الیسیر التصدّق بمالٍ آخر علیه ، أو علی فقیرٍ آخر امتثالاً للأمر المتوجّه إلیه .

ولکن لا یخفی أنّ مثل ذلک لا یعدّ امتثالاً بعد الامتثال ، بل من موارد تعدّد المطلوب بمعنی أنّ الطلب بمرتبته الوجوبیّة وإن سقط بالتصدّق الأوّل ؛ ولذا لا یجوز له التصدق علی الفقیر الثانی بقصد الوجوب ، ولکنه قد بقی بمرتبته الاستحبابیة ، واستفادة تعدّد الطلب بهذا المعنی من الأدلة فی بعض الموارد ومن مناسبة الحکم والموضوع فی بعضها الأخر غیر بعید .

ثمّ إنّ هذا کلّه فیما إذا ثبت للآمر إطلاق ، سواء کان بالصیغة أو بغیرها ، وأمّا إذا لم یکن فی البین إطلاق ، کما إذا لم یصل خطاب الأمر إلینا أو وصل ولکن لم تتمّ فیه مقدّمات الحکمة وفرض وصول النوبة إلی الأصل العملی ، فمقتضی البراءة عدم کون الإتیان بالطبیعی ثانیا مانعا ، سواء أتی به بلا قصد التقرّب والامتثال ، أو لاحتمال مطلوبیته ولو ندبا ، وبناءً علی ما ذکره المصنف قدس سره یکون مقتضی استصحاب بقاء التکلیف جواز تبدیل الامتثال .

ص :371

المبحث التاسع: الحق أن_ّه لا دلالة للصیغة، لا علی الفور ولا علی التراخی[1]، نعم قضیة إطلاقها جواز التراخی، والدلیل علیه تبادر طلب إیجاد الطبیعة منها، بلا دلالة علی تقییدها بأحدهما، فلا بدّ فی التقیید من دلالة أخری، کما ادعی دلالة غیر واحد من الآیات علی الفوریة.

الشَرح:

دلالة صیغه الأمر علی الفور أو التراخی

:

[1] قد یکون الواجب مضیّقا بأن جعل الشارع للإتیان به وقتا یساوی الفعل ، کالصیام فی أیّام شهر رمضان أو غیرها ، وقد یکون موسّعا کالصلوات الیومیة ، حیث إنّ الزمان المعیّن لکلّ منها أوسع مما تقتضیه کلّ صلاة .

ولا کلام فی أن_ّه یتعیّن فی المضیّق الإتیان به فی زمانه ، کما لا ینبغی التأمّل فی أن_ّه یجوز فی الموسّع التأخیر إلی ما قبل انتهاء الوقت ممّن یدرکه ویتمکّن منه قبل انتهائه ؛ لأنّ تحدید الوقت الوسیع للفعل ظاهره الترخیص فی التأخیر المزبور .

وإنّما الکلام فیما إذا تعلّق الطلب بفعل بصیغة الأمر أو نحوها من غیر تحدید الفعل أو الطلب بالزمان فهل یکون مدلول الصیغة ونحوها طلب الإتیان به فورا أو طلب الإتیان به متراخیا أو لا دلالة لها علی شیء منهما بل مدلولها طلب ایجاد الطبیعی فیکون مقتضی إطلاقها جواز تأخیر الإتیان وعدم لزوم الإتیان فورا ، أو لزوم الإتیان متراخیا ، فلا ینافی دلالتها بالاطلاق علی جواز کل من الفور والتراخی .

ولو التزم فی مورد بتعین الإتیان بالفعل فورا فاللازم قیام دلیل وقرینة علی تلک الفوریة سواء کانت الفوریة بنحو وحدة المطلوب أو بنحو الإتیان به فورا ففورا وسواء کانت الفوریة عقلیة أو بنحو الفوریة العرفیة .

وقد یقال بقیام القرینة العامّة بالإضافة إلی جمیع موارد طلب الفعل وإیجابه ،

ص :372

وفیه منع، ضرورة أنّ سیاق آیة «وسارعوا إلی مغفرة من ربکم» وکذا آیة «فاستبقوا الخیرات» إنّما هو البعث نحو المسارعة إلی المغفرة والإستباق إلی الخیر، من دون استتباع ترکهما للغضب والشر، ضرورة أن ترکهما لو کان مستتبعاً للغضب والشر، الشَرح:

وتلک القرینة مستفادة من قوله تعالی : «سارِعُوا إِلی مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ»(1) و«اسْتَبِقُوا الْخَیْراتِ»(2) ؛ لأنّ مفادهما وجوب المبادرة إلی الخیر وموجب المغفرة ، وأمّا أنّ أیّ شیء خیر أو موجب للمغفرة فلا تعرّض فیهما لذلک ، والمستفاد من إطلاق الصیغة ونحوها کما تقدّم أنّ طبیعی الفعل _ فی أی زمان حصل _ خیر وموجب للمغفرة ، وإذا انضمّ ذلک إلی الکبری المستفادة من الآیتین تکون النتیجة وجوب الإتیان فورا ففورا ، فإنّه علی تقدیر الترک فی الآن الأوّل یکون الإتیان به فی الآن الثانی مسارعةً واستباقا بالإضافة إلی الأزمنة اللاحقة وهکذا .

وأجاب الماتن قدس سره عن دعوی هذه القرینة العامّة بجوابین :

الجواب الأوّل: أنّ طلب المسارعة إلی الخیر وموجب المغفرة استحبابی ، ولا أقلّ المستفاد منها مطلق مطلوبیّتهما لا الطلب الوجوبی ، وذلک لأنّ ظاهر الأمر بالمسارعة إلی الخیر والمبادرة إلی موجب المغفرة أن_ّه لیس فیهما (یعنی فی المسارعة والاستباق) ملاک ملزم آخر یفوت بالإتیان بالخیر وموجب المغفرة مع التأخیر ، لیکون ترک المسارعة والاستباق موجباً للغضب والسخط من جهة تفویت الملاک الملزم بالتأخیر فی إتیان موجب المغفرة وبالإتیان بالخیر فیما بعد ، ولو کان ترکهما کذلک لکان الأمر بهما بنحو التحذیر أنسب ؛ لئلاّ یکون لهما ظهور فی عدم

ص :373


1- (1) سورة آل عمران : الآیة 133 .
2- (2) سورة البقرة : الآیة 148 .

کان البعث بالتحذیر عنهما أنسب، کما لا یخفی، فافهم.

مع لزوم کثرة تخصیصه فی المستحبات، وکثیر من الواجبات بل أکثرها، فلا بدّ من حمل الصیغة فیهما علی خصوص الندب أو مطلق الطلب، ولا یبعد دعوی استقلال العقل بحسن المسارعة والإستباق، وکان ما ورد من الآیات

الشَرح:

الملاک الملزم الآخر ، وما ذکر یعیّن ظهورهما فی الاستحباب ، ومع الإغماض عن ذلک فالإلتزام بوجوب المسارعة والاستباق یوجب التخصیص المستهجن فی الآیتین بإخراج المستحبات طرّا والواجبات الموسعة ونحوهما ممّا یجوز فیها التأخیر ، وعلیه فلو لم تکونا ظاهرتین فی الاستحباب فلا أقلّ من إرادة مطلق المطلوبیة منهما .

والجواب الثانی: ما أشار إلیه بقوله «ولا یبعد دعوی استقلال العقل... إلخ» وحاصله أنّه لا یبعد أن یقال باستقلال العقل بحسن الاستباق إلی الخیر والمسارعة إلی موجب المغفرة ، ولیس المراد من حسنهما حسن الفعل ، بأن یکون فی المسارعة والاستباق ملاک مولوی آخر _ ملزم أو غیر ملزم _ غیر ما فی الإتیان بما هو خیر وموجب للمغفرة ، نظیر حکمه بحسن العدل وقبح الظلم ؛ لیتعیّن الأمر الشرعی والنهی الشرعی بقاعدة الملازمة بین حکم العقل والشرع ، بل المراد الحسن الامتثالی یعنی استقلال العقل بأنّ مع المسارعة یکون المکلف علی إحراز من درکه الخیر والوصول إلی المغفرة وهذا أرقی مراتب إحراز الامتثال ، وحیث إنّ الآیتین أیضاً ظاهرتان فی أن_ّه لیس فی المسارعة والاستباق غیر إحراز ملاک نفس الخیر وموجب المغفرة فیکون الأمر بهما فی الآیتین إرشادا إلی ما استقلّ به العقل ، کما هو الحال فی أمر الشارع بأصل الطاعة وترک المعصیة .

فتحصل ممّا ذکرنا أنّ مقتضی الجواب الثانی عدم کون الأمر بالمسارعة

ص :374

والروایات فی مقام البعث نحوه إرشاداً إلی ذلک، کالآیات والروایات الواردة فی الحثَّ علی أصل الإطاعة، فیکون الأمر فیها لما یترتّب علی المادة بنفسها، ولو لم یکن هناک أمر بها، کما هو الشأن فی الأوامر الإرشادیة، فافهم.

الشَرح:

والاستباق مولویا لا بنحو الایجاب ولا بنحو الاستحباب ، بل هو إرشاد ، ومقتضی الجواب الأوّل هو کون الأمر بالمسارعة والاستباق مولویا ، ولکن لا بنحو الإیجاب ، بل بنحو الاستحباب أو مطلق الطلب ومن دون دلالته علی خصوصیة الوجوب .

ولکن لا یخفی أنّ ما ذکره قدس سره فی الجواب الأوّل غیر تامّ ، حیث ذکر أنّ حمل الأمر بالمسارعة والاستباق علی الوجوب یوجب التخصیص المستهجن فی الآیتین، والوجه فی عدم التمامیة هو ما ذکرناه من أنّ الوجوب مقتضی إطلاق الطلب المستفاد من الصیغة ، والمراد من إطلاق الطلب کونه متّصفا بعدم ورود الترخیص فی الترک ، وعلیه فإذا تعلّق الطلب بأفعال ثمّ ورد الترخیص فی ترک بعضها أو أکثرها یرفع الید عن إطلاقه بالإضافة إلی ما ورد الترخیص فی ترکه فحسب ، سواء کان تعلّق الطلب بالأفعال بعناوینها ، أو بها بعنوان انحلالی ، فقیام القرینة فی المستحبّات علی الترخیص فی ترک أصلها فضلاً عن المسارعة إلیها وکذا فی الواجبات الموسّعة بالإضافة إلی المسارعة إلیها فی أوّل وقتها لا یوجب رفع الید عن إطلاق الطلب المتعلّق بالمسارعة إلی غیرهما من الخیرات وموجبات المغفرة .

وقد یقال : بأنّ ظاهر الأمر بالاستباق فی الخیر والمسارعة إلی المغفرة هو أمر المکلّفین بالمسابقة فی الخیرات والمغفرة ، ولا تکون المسابقة إلاّ فیما إذا لم یصل الشخص إلی المقصود قبل الآخرین لفات عنه ، کما فی قوله سبحانه : «وَاسْتَبَقا الْبابَ» فالاستباق والمسارعة هی المسابقة وإرادة الوصول إلی الشیء قبل الآخرین لئلاّ یفوت عنه الشیء ، وهذا یناسب الواجب الکفائی ممّا یکون المطلوب من

ص :375

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

جمیع المکلّفین عمل واحد بحیث لو قام به أحدهم لسقط عن الآخرین ، ولا یجری فیما إذا وجب علی کلّ مکلّف فعله المختصّ به ، من دون أن یرتبط بعمل الآخرین کما فی الواجبات العینیة المهمّة فی المقام .

و علی ما ذکر من اختصاص الأمر بالاستباق والمسارعة بالواجبات الکفائیه یکون الأمر بهما للإرشاد إلی عدم فوت العمل من غیر السابق إلیه .

أضف إلی ذلک أن_ّه لا دلالة لآیة المسارعة إلی المغفرة علی وجوب الإتیان بکلّ ما یؤمر به فورا ، حیث لا عموم فیها .

ودعوی توصیف المغفرة ب«مِنْ رَبّکُم» یقتضی العموم ، لا دلیل علیها ، ویؤیّد عدم العموم وقوع الخلاف بین المفسّرین فی المراد من المغفرة التی أمر بالمسارعة إلیها حیث قیل المراد کلمة الشهادة ، أو أداء الفرائض ، أو تکبیرة الإحرام فی صلاة الجماعة ، أو الصفّ الأوّل ، أو التوبة ، أو غیر ذلک .

أقول : لم یؤخذ فی معنی الاستباق فوت ما یتسابق فیه إذا لم یسبق إلیه ، بل یکون الفائت ملاک السبق إلیه کما إذا شرع کلّ عامل بعمله الخاصّ واستبقوا فی أعمالهم ، یعنی فی فراغ کلّ منهم عن عمله ، لم یفت ما یتسابق فیه بسبق أحدهم فی العمل . نعم إذا لم یکن العمل قابلاً للتکرار بل کان أمراً واحدا یفوت عن غیر السابق ، کما فی قوله تعالی : «وَاسْتَبَقا الْبابَ»(1) یکون الأمر کما ذکر ، بخلاف مثل قوله سبحانه : «وَلَوْ شِئْنا لَطَمَسْنا عَلی أعْیُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ»(2) فإنّ العمل لا یفوت عن

ص :376


1- (1) سورة یوسف : الآیة 25 .
2- (2) سورة یس : الآیة 66 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الآخرین باستباقٍ واحدٍ منهم ، وعلی ما ذکر فلا یوجب اختصاص الأمر باستباق الخیرات بالواجبات الکفائیة ، حیث إنّ فوت ملاک السبق لا یلازم فوت ما یتسابق فیه ، وأمّا آیة المسارعة ، فلیس فیها دلالة علی المسابقة المعروفة ، وما اشتهر من أنّ باب المفاعلة یکون بین الاثنین أمرٌ لا أساس له ، وسارعوا إلی مصارعهم أو مضاجعهم ، یعنی أراد کلّ الوصول إلی مصرعه أو مضجعه بسرعة .

وإذا کان المراد من المغفرة فی الآیة موجب الغفران والتزم بأنّ الواجبات من موجباتها کما یستظهر من قوله سبحانه «إِنَّ الْحَسَناتِ یُذْهِبْنَ السّیِّئاتِ»(1) فلا وجه لاختصاص الأمر بالمسارعة إلیها، بواجب دون واجب لحصول الملاک فی کلّ منها.

نعم لو قیل إن المراد منها التوبة عن الفواحش کما لا یبعد ، بقرینة ما ذکر بعد ذلک ، فلا ترتبط الآیة بالإتیان بالمأمور به فورا .

ثمّ إنّه _ مع الإغماض عمّا تقدّم فی تقریر کلام الماتن فی جوابه الثانی من أنّ ظاهر الآیتین کون الأمر بالاستباق فی الخیرات والمسارعة إلی المغفرة هو الإرشاد والأمن من عدم حصول الامتثال والغفران _ یمکن أن یقال إنّ الأمر بالاستباق والمسارعة فیهما لا یناسب الإلزام ، وإلاّ لخرج العمل مع التأخیر عن کونه خیرا وموجبا للمغفرة ، حیث یکون التأخیر موجبا للوزر . وإن شئت قلت یکون التأخیر وترک السبق عنوانا مزاحما لکون العمل خیرا وموجبا للغفران ، وظاهر الآیتین کون ما فی الاستباق والمسارعة من الملاک أمرا انضمامیا الی ملاک الخیر وموجب الغفران من دون أن یکون فی ترکهما مزاحمة للخیر وموجب الغفران .

ص :377


1- (1) سورة هود : الآیة 114 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وهذا نظیر ما قلناه فی مسألة وجوب التوبة من عدم کون وجوبها شرعیا ، وإنّما یکون عقلیا دفعا للضرر الحاصل من العمل السابق . نعم لا بأس بالالتزام بکونها مطلوبا نفسیا بما فیها من التضرّع والخشوع والاستغفار .

والوجه فی عدم کون وجوبها شرعیا أنّ التوبة قد فتح بابها ربّ العالمین رحمةً لعباده ، ومقتضاها أن لا یزید فتح بابها وزرا علی العبد فیما إذا توانی فیها ، وقد ذکرنا أنّ ذلک یستفاد من بعض الروایات المعتبرة(1) ، ومدلولها أنّه إذا صدرت معصیة من عبد مؤمن أجّله اللّه ساعات ، فإنّ تاب لا یکتب علیه وزر وذنب ، وإذا لم یتب یکتب علیه ذلک الذنب لا ذنبان ، فراجع .

بقی فی المقام أمر ، وهو أن_ّه قد یدّعی أنّ الصیغة وما بمعناها وإن لم تکن لها دلالة بنفسها علی لزوم الإتیان والعمل فورا وفی أوّل أزمنة الإمکان لما تقدّم من أنّ مدلول الهیئة طلب الإیجاد ، ومدلول المادة نفس طبیعی الفعل ، إلاّ أنّ فی البین قرینة عامّة علی أنّ طلب الطبیعی یراد به طلب إیجاده فی أوّل أزمنة الإمکان عرفا ما لم یکن فیالبین قرینة خاصّة علی خلافها ، والقرینة العامّة هی توجیه الخطاب إلی الشخص ، حیث إنّ التوجیه قرینة علی أنّ الغرض فی الطبیعی حین توجیه الخطاب ، لا فی الطبیعی ولو وجد بعد سنوات ، سواء کان الغرض ممّا یعود إلی الآمر أو إلی المأمور .

ولکن لا یخفی أنّ هذه الدعوی لو سُلِّمت فی الخطاب الخاصّ المتوجّه إلی شخص أو أشخاص متضمّن لتکلیفهم بفعلٍ ، فهی لا تجری فی الخطابات العامّة المتضمّنة

ص :378


1- (1) الوسائل : ج 11 ، الباب 85 من أبواب جهاد النفس .

تتمة: بناءً علی القول بالفور، فهل قضیة الأمر الإتیان فوراً ففوراً [1] بحیث لوعصی لوجب علیه الإتیان به فوراً أیضاً، فی الزمان الثانی، أو لا؟ وجهان: مبنیان علی أن مفاد الصیغة علی هذا القول، هو وحدة المطلوب أو تعدده، ولا یخفی أن_ّه لو قیل بدلالتها علی الفوریة، لما کان لها دلالة علی نحو المطلوب من وحدته أو تعدده، فتدبّر جیداً.

الشَرح:

للتکالیف الانحلالیة بنحو القضیة الحقیقیة کما هو المهم فیالمقام .

نعم لا یبعد دعوی عدم جواز التوانی فی امتثال التکالیف الانحلالیّة بحیث یعدّ التأخیر من عدم الاعتناء بالتکلیف ، وهذا أمر آخر غیر مسألة الإتیان بمتعلّق التکلیف فورا .

[1] إنّ القائل بالفور إن استظهر لزومه من آیتی المسارعة والاستباق فقد تقدّم أنّ مقتضاهما الإتیان فورا ففورا ، وإن استفاد الفور من دلالة نفس صیغة الأمر کما هو ظاهر الماتن قدس سره ، فابتناء القول بالإتیان فورا ففورا أو الإتیان فی الزمان الأوّل خاصة ، علی کون مدلول الصیغة وحدة المطلوب أو تعدّده ، غیر صحیح ، فإنّه بناءً علی تعدّد المطلوب یکون مدلولها مطلوبیة ذات الطبیعی ومطلوبیة الإتیان به أوّل الأزمنة بعد الأمر ، وإذا ترک المکلف العمل فی أوّل أزمنة الإمکان یبقی الطلب المتعلّق بذات الطبیعی ، ومقتضی بقائه جواز التأخیر لا الإتیان به فورا ففورا .

نظیر ما یقال فی تبعیة القضاء للأداء من أنّ المستفاد من الأمر بالصلاة فی الوقت مثلاً أمران ؛ أحدهما : مطلوبیة نفس الصلاة ، وثانیها : مطلوبیّتها فی وقتها ، وإذا خالف المکلف التکلیف الثانی یبقی الأوّل ، وهو التکلیف بالإتیان بالطبیعی ولو خارج الوقت ومقتضاه التوسعة . هذا وقد تقدّم فی بحث المرة والتکرار أنّ المستفاد من الهیئة وجوب واحد ، وإذا تعلّق بالعمل أوّل أزمنة الإمکان أو بالصلاة فی وقت ،

ص :379

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

یسقط ذلک الوجوب بعد انقضاء أوّل أزمنة الإمکان کانقضاء الطلب بانقضاء وقت الصلاة . وحدوث ملاک ملزم فی نفس الطبیعی بعد انقضاء أوّل أزمنة الإمکان أو بعد الوقت أو وجوده من الأوّل یحتاج إلی دلیلٍ وخطابٍ آخر متضمّن للتکلیف بنفس الطبیعی ؛ ولذا التزم المشهور بأنّ وجوب القضاء بأمرٍ جدیدٍ لا بالتکلیف بالفعل فی الوقت ، وإذا لم یتمّ دلیل علی التکلیف بالطبیعی ووصلت النوبة إلی الأصل العملی فالمرجع هو استصحاب عدم جعل تکلیف آخر ، ولا مجال لاستصحاب وجوب الفعل ، حیث إنّ الحادث المتیقّن سابقا _ وهو الوجوب المتعلّق بالفعل المقیّد _ قد علم بارتفاعه بانقضاء أوّل أزمنة الإمکان ، أو انقضاء الوقت ، والوجوب المتعلّق بنفس الطبیعی غیر محرز من الأوّل ، فیکون الاستصحاب فی طبیعی الوجوب من الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلّی ، فتدبّر .

لا یقال : إذا فرض دلالة الصیغة علی الفور یکون مدلولها طلب الفعل فی أوّل أزمنة الإمکان ، ومقتضی تقیید المتعلّق به عدم تعلّق طلبٍ بذات الفعل ، فلا تصل النوبة إلی الأصل العملی .

فإنّه یقال : یکون مدلول الصیغة تعلّق الطلب المُنشأ بالفعل المقیّد حتّی ثبوتا لا عدم إنشاء طلب آخر لذات الفعل ، فإنّ التقیید لا مفهوم له ، فاللازم عند الشک فی إنشاء طلبٍ آخر بذات العمل الرجوع إلی الأصل العملی ومقتضاه ما تقدّم ، ولا یبعد أن یکون ما ذکرنا هو مراد الماتن قدس سره من قوله «لما کان لها دلالة علی نحو المطلوب من وحدته أو تعدّده»(1) .

ص :380


1- (1) الکفایة : ص 80 .

الفصل الثالث

الإتیان بالمأمور به علی وجهه یقتضی الإجزاء فی الجملة بلا شبهة، وقبل الخوض فی تفصیل المقام وبیان النقض والإبرام، ینبغی تقدیم أمور:

أحدها: الظّاهر أنّ المراد من (وجهه) [1] _ فی العنوان _ هو النهج الذی ینبغی أن یؤتی به علی ذاک النهج شرعاً وعقلاً، مثل أن یؤتی به بقصد التقرب فی العبادة، لا خصوص الکیفیة المعتبرة فی المأمور به شرعاً، فإنّه علیه یکون (علی وجهه) قیداً توضیحیاً، وهو بعید، مع أنه یلزم خروج التعبدیات عن حریم النزاع، بناءً علی المختار، کما تقدم من أن قصد القربة من کیفیات الإطاعة عقلاً، لا من قیود المأمور به شرعاً، ولا الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب، فإنّه _ مع عدم اعتباره عند الشَرح:

مبحث الإجزاء

[1] قد تقدّم فی بحث التعبدی والتوصلی عدم إمکان أخذ قصد التقرب فی العبادات فی متعلّق الأمر بالإتیان بالصلاة مثلاً بلا قصد التقرب ، وإن کان من الإتیان بالمأمور به بتمامه إلاّ أنّه لا یکفی فی سقوط الأمر بها ، وعلیه فاللازم فی اندراج العبادات فی عنوان البحث أن یقال المراد من «وجهه» الوارد فیه هو النحو المعتبر شرعا وعقلاً فی الإتیان بمتعلّق الأمر ، ولا یصحّ إرادة خصوص النحو المعتبر شرعا ، وإلاّ لکان ذکر «علی وجهه» توضیحیا مع لزوم خروج التعبدیات عن عنوان الخلاف بناءً علی ما هو المختار عند الماتن قدس سره وغیره من أنّ قصد التقرّب اللاّزم فی العبادات من القیود المعتبرة فی کیفیة الإطاعة عقلاً ، لا ممّا یعتبر فی متعلّق الأمر شرعا.

والوجه فی لزوم خروجها وضوح عدم الإجزاء فیها بمجرّد الإتیان بتمام متعلّق

ص :381

المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره، إلاّ فی خصوص العبادات لا مطلق الواجبات _ لا وجه لإختصاصه بالذکر علی تقدیر الإعتبار، فلا بد من إرادة ما یندرج فیه من المعنی، وهو ما ذکرناه، کما لا یخفی.

ثانیها: الظّاهر أنّ المراد من الإقتضاء __ ها هنا __ الاقتضاء بنحو العلّیة والتأثیر[1]، لا بنحو الکشف والدلالة، ولذا نسب إلی الإتیان لا إلی الصیغة.

الشَرح:

الأمر.

ولا مجال أیضاً لتوهم أنّ المراد بالقید المزبور هو قصد الوجه الذی ذهب بعض إلی اعتباره فی العبادات ، والوجه فیه هو أنّ قید «علی وجهه» وارد فی عنوان البحث فی کلام الاصحاب کلّهم ، ولو کان المراد القصد المزبور لما ذکره إلاّ من یری اعتباره . ولا وجه أیضاً لتقیید مطلق الإتیان بالمأمور به ، بالقصد المزبور فإنّ من یعتبره لا یری اعتباره إلاّ فی خصوص العبادات .

کما لا وجه لاختصاصه بالذکر وإهمال قصد التقرّب بناءً علی ما تقدّم من عدم إمکان أخذه کقصد الوجه فی متعلّق الأمر ، فیتعیّن أن یکون المراد المعنی الجامع لیندرج فیه قصد الوجه أیضاً علی تقدیر القول باعتباره ، وهو ما تقدّم من النحو المعتبر فی الإتیان بالمأمور به عقلاً وشرعا.

وممّا ذکرنا ظهر أن_ّه بناءً علی أنّ قصد التقرّب وکذا قصد الوجه مما یمکن أخذه فی متعلّق التکلیف وأن_ّه لا فرق بینهما وبین سائر القیود المأخوذة فی متعلّقه ، یکون قید «علی وجهه» فی عنوان البحث توضیحیا لا محالة .

[1] ذکر قدس سره أنّ المراد من الاقتضاء فی عنوان البحث هو التأثیر والعلیّة لا بمعنی الکشف والدلالة ؛ ولذا نسب فیه الاقتضاء إلی الإتیان بالمأمور به ، لا إلی الصیغة ونحوها ، مما یدلّ علی طلب الشیء وإیجابه .

ص :382

إن قلت: هذا إنّما یکون کذلک بالنسبة إلی أمره، وأما بالنسبة إلی أمر آخر، کالإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری أو الظاهری بالنسبة إلی الأمر الواقعی، فالنزاع فی الحقیقة فی دلالة دلیلهما علی اعتباره، بنحو یفید الإجزاء، أو بنحو آخر لا یفیده.

الشَرح:

لا یقال : إنّ الإتیان بمتعلّق تکلیف علی وجهه یؤثّر ویوجب سقوط الأمر بذلک المتعلّق فیکون بمعنی التأثیر والعلیة ، وأمّا اقتضاء الإتیان بمتعلّق تکلیف لسقوط تکلیف آخر ، کما فی الإتیان بالمأمور به الظاهری ، حیث یسقط معه التکلیف الواقعی ، وکذا فی الإتیان بالمأمور به الاضطراری ، حیث یسقط معه التکلیف بالاختیاری ، والخلاف فیه یرجع إلی الخلاف فی دلالة خطاب الأمر بالظاهری أو بالاضطراری علی الإجزاء وعدم دلالته .

فإنّه یقال : یمکن أن یعنون مورد الخلاف فیاقتضاء الأمر الظاهری والاضطراری للإجزاء بذلک المعنی أیضاً ، بأن یقال : إنّ البحث فی أنّ الإتیان بالمأمور به الظاهری أو الاضطراری هل یؤثّر فی الإجزاء وسقوط التکلیف بالإضافة إلی التکلیف الواقعی أو الاختیاری أم لا ؟ کما کان بالإضافة إلی أمر نفسهما ، غایة الأمر البحث فی أنّ الإتیان بهما یؤثّر فی سقوط التکلیف الواقعی والاختیاری ، ینشأ عن الخلاف فی دلالة دلیل الأمر الظاهری أو الاضطراری وأنّ ذلک الدلیل یدلّ علی کون المأمور به الظاهری أو الاضطراری واجدا لتمام ملاک المأمور به الواقعی أو الاختیاری أو بالمقدار اللازم من ملاکهما أم لا ؟ بخلاف البحث فی أنّ الإتیان بهما یوجب سقوط الأمر بهما ، فإنّ البحث فی هذه الجهة لملاک آخر کما یأتی .

والمراد من قوله قدس سره «ویکون النزاع فی إجزاء الإتیان بالمأمور به الظاهری أو الاضطراری بالإضافة إلی التکلیف بالواقعی والاختیاری صغرویا أیضاً ، بخلافه فی

ص :383

قلت: نعم، لکنه لا ینافی کون النزاع فیهما، کان فی الإقتضاء بالمعنی المتقدم، غایته أن العمدة فی سبب الإختلاف فیهما، إنّما هو الخلاف فی دلالة دلیلهما، هل أن_ّه الشَرح:

الإجزاء بالإضافة إلی أمره فإنّه لا یکون إلاّ کبرویّاً»(1) أی بخلاف البحث فی أنّ الإتیان بهما یجزی عن أمر نفسهما ، فإنّ البحث فیه علی تقدیره کبروی لا محالة ، هو أنّ مع الإتیان بالمأمور به علی وجهه یکون المأتی به واجدا لتمام ملاک متعلّق التکلیف ، ویبحث فی المسألة فی أنّ المأتی به کذلک یوجب سقوط التکلیف ، بحیث لا یکون مجال للامتثال ثانیا ، لا أداءً ولا قضاءا ، أو لا یوجب سقوطه مطلقاً کما یأتی ، وبما أنّ البحث فی المأتی به الظاهری أو الاضطراری یقع فی دلالة دلیلهما علی أنّهما واجدان لملاک المأمور به الواقعی والاختیاری لا محالة یکون البحث فی إجزائهما عن التکلیف الواقعی والاختیاری بحثا صغرویا ، بخلاف البحث فی أنّ الإتیان بهما یجزی عن أمر نفسهما ، فإنّ هذا البحث والخلاف علی تقدیره کما نقل عن بعض یکون کبرویا لا محالة ؛ لأنّ المزبور حصول ملاک المأمور به الظاهری أو الاضطراری فی المأتی به منهما.

وذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره أنّ المراد بالاقتضاء فی عنوان الخلاف وإن کان هو الاقتضاء الثبوتی لا الإثباتی (أی الکشف والدلالة) ولذا نسب الاقتضاء فی العنوان إلی الإتیان لا إلی الأمر بالشیء ، إلاّ أنّ فی إسناد الاقتضاء إلی الإتیان لکونه علة لسقوط الأمر بالفعل أو لعدم الأمر بالقضاء والتدارک مسامحة ؛ لأنّ الإتیان بمتعلّق الأمر معلول للأمر به ، فکیف یکون الإتیان علة لعدم الأمر به ، فإنّ الشیء لا یمکن أن یکون علّة لعدم نفسه ، بل سقوط الأمر مستند إلی انتهاء أمده وعدم بقاء الغرض منه

ص :384


1- (1) الکفایة : ص 82 .

علی نحو یستقل العقل بأن الاتیان به موجب للإجزاء ویؤثر فیه، وعدم دلالته؟ ویکون النزاع فیه صغرویاً أیضاً، بخلافه فی الإجزاء بالإضافة إلی أمره، فإنّه لا یکون إلاّ کبرویاً، لو کان هناک نزاع، کما نقل عن بعض. فافهم.

الشَرح:

لانتهاء المعلول بانتهاء علّته ، وکذا الحال بالإضافة إلی الأمر بالقضاء ، حیث إنّ الأمر بالتدارک یتوقّف علی الخلل فی المتدارک ، من فوته بنفسه ، أو فوت بعض ملاکه ، ومع الإتیان بالمأمور به أو حصول ملاکه لا یکون فی البین فوت ، لا فی المأمور به ولا فی بعض ملاکه (1).

أقول : الظاهر أنّ المراد بالاقتضاء لیس الاقتضاء الإثباتی ولا الاقتضاء الثبوتی بمعنی علّیة الإتیان بالمأمور به وتأثیره فی سقوط التکلیف ، لا لما ذکره قدس سره ، بل لأنّ الطلب والبعث الاعتباری حدوثا وبقاءا یکون بالاعتبار والجعل ، فعدم الأمر بعد الإتیان بالمتعلّق خارجا إنّما هو لعدم سعة المجعول من الطلب بالإضافة إلی بقائه ، ولا یؤثر فیه شیء من الإتیان أو لعدم بقاء الغرض علی غرضیته ، فإنّه لو التزم بعدم الغرض فی أوامر الشارع أصلاً لکان الإتیان بالمتعلّق _ سواء کان علی نحو صرف وجود الطبیعی أو غیره _ مقتضیا لسقوط الأمر وعدم بقائه ، فالمراد من الاقتضاء مجرّد حکم العقل بعدم الانفکاک ، بمعنی أنّ عدم البعث نحو الفعل بقاءا المستند إلی عدم جعله ، ملازم للإتیان بمتعلّق الأمر ، وکذلک بالإضافة إلی عدم الأمر بالتدارک والقضاء . وبالجملة ، هذه المسألة نظیر مسألة اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه الخاصّ ، أو مسألة الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته بحث عن حکم العقل بالملازمة وعدمها .

ص :385


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 367 .

ثالثها: الظاهر أن الإجزاء _ ها هنا _ بمعناه لغة، وهو الکفایة [1]، وإن کان یختلف ما یکفی عنه، فإنّ الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی یکفی، فیسقط به التعبد به ثانیاً، وبالأمر الاضطراری أو الظاهری الجعلی، فیسقط به القضاء، لا أن_ّه یکون _ ها هنا _ اصطلاحاً، بمعنی إسقاط التعبد أو القضاء، فإنه بعید جداً.

رابعها: الفرق بین هذه المسألة، ومسألة المرة والتکرار [2]، لا یکاد یخفی، فإنّ البحث _ ها هنا _ فی أن الإتیان بما هو المأمور به یجزی عقلاً، بخلافه فی تلک المسألة، فإنّه فی تعیین ما هو المأمور به شرعاً بحسب دلالة الصیغة بنفسها، أو بدلالة أخری.

الشَرح:

وما ذکره المحقّق الاصفهانی قدس سره من أنّ الإتیان بمتعلّق الأمر معلول للأمر به ففیه أنّ الأمر لا یکون علّة ، بل یمکن أن یکون داعیا ومرجّحا لاختیار المکلف ، ولکن لا بوجوده الواقعی ، بل بوجوده الإحرازی والعلمی ، والفرق بین المرجح والداعی وبین العلّة تقدّم تفصیله فی بحث الطلب والإرادة .

[1] قد فسّر فی کلام جماعة الإجزاء بسقوط التعبّد ثانیا وبسقوط القضاء ، وعلیه یکون استعماله فیهما من استعمال اللفظ فی معنیین مختلفین ، ولکن لا یخفی أن_ّه لیس للإجزاء معنیً مصطلح ، بل المراد منه المعنی اللغوی وهو الکفایة ، ویختلف ما یکفی عنه ، فإن کان ما یکفی عنه الأمر به ، فلازم الکفایة عدم لزوم الإعادة أو عدم جواز تکرار الامتثال ، وإن کان الأمر الآخر کما فی إجزاء الإتیان بالمأمور به الظاهری عن الواقعی وإجزاء المأمور به الاضطراری عن الاختیاری ، فلازمه عدم لزوم التدارک أو القضاء .

[2] ذکر قدس سره أنّ الفرق بین البحث السابق فی دلالة صیغة الأمر علی المرة أو التکرار ، وبین البحث فی هذه المسألة ظاهرٌ ، حیث کان البحث فی تلک المسألة فی

ص :386

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

تعیین متعلّق الأمر بحسب دلالة الصیغة بنفسها ، أو بالقرینة العامّة کما تقدّم ، ولکن البحث فی هذه المسألة هو أن_ّه بعد تعیین المأمور به یکون البحث فی أنّ مع الإتیان به هل یحکم العقل بالاکتفاء به وأن_ّه لا یبقی للتعبّد به ثانیا مجال ، أم لا یحکم؟

نعم لو قیل فی تلک المسألة بدلالة الصیغة بنفسها أو بالقرینة علی التکرار ، لکان التکرار عملاً موافقا لعدم الإجزاء .

وکذا الفرق بین مسألة الإجزاء ومسألة تبعیّة الأداء للقضاء ظاهر ، فإنّ البحث فی مسألة تبعیة القضاء للأداء فی دلالة الصیغة علی تعدّد المطلوب بأن یکون نفس الفعل مطلوبا والإتیان به فی الوقت مطلوبا آخر ، بحیث یتحقّق بالإتیان فی الوقت کلا المطلوبین ویجب الإتیان بالفعل خارج الوقت علی تقدیر ترکه فی الوقت ، أو أنّ المستفاد منها وحدة المطلوب ، ویحتاج لزوم الإتیان بالفعل خارج الوقت إلی تکلیفٍ وخطاب آخر .

ویکون البحث فی المقام _ بعد تعیین أنّ المطلوب هو الطبیعی أو المقید _ فی أنّ الإتیان بالمأمور به هل یوجب سقوط الأمر أم لا ؟ ولا یخفی أنّ مسألة تبعیة القضاء للأداء ترکت فی کتب المتأخّرین ؛ لوضوح عدم استفادة المطلوبین من الأمر بالفعل فی الوقت ، بل لا یبعد القول بعدم إمکان تعلّق وجوبین فی زمان ، أحدهما بطبیعی الفعل ، وثانیهما بالطبیعی المقیّد بالزمان أو بغیره ؛ لأنّ الأمر بالطبیعی فی زمان الأمر بالمقیّد یصبح لغوا لحصول الطبیعی بالمقید ، وإنّما یصحّ وجوبه معلّقاً أو مشروطا بترک المقیّد أو فوته .

ص :387

نعم کان التکرار عملاً موافقاً لعدم الإجزاء لکنه لا بملاکه، وهکذا الفرق بینها وبین مسألة تبعیة القضاء للأداء، فإن البحث فی تلک المسألة فی دلالة الصیغة علی التبعیة وعدمها، بخلاف هذه المسألة، فإنّه _ کما عرفت _ فی أن الإتیان بالمأمور به یجزی عقلاً عن إتیانه ثانیاً أداءً أو قضاءً، أو لا یجزی، فلا علقة بین المسألة والمسألتین أصلاً.

إذا عرفت هذه الأمور، فتحقیق المقام یستدعی البحث والکلام فی موضعین:

الأول: إنّ الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی _ بل بالأمر الإضطراری [1] أو الظّاهری أیضاً _ یجزی عن التعبد به ثانیاً، لاستقلال العقل بأن_ّه لا مجال مع موافقة الأمر بإتیان المأمور به علی وجهه، لاقتضائه التعبد به ثانیاً.

الشَرح:

إجزاء الأمر عن نفسه

:

[1] یقع البحث فی مسألة الإجزاء فی موضعین :

أحدهما: إجزاء الإتیان بکلٍّ من المأمور به الاختیاری أو الاضطراری الظاهری عن الأمر المتعلّق بکلٍّ منها ، وحاصل ما ذکره قدس سره فی هذا الموضع أنّه لو کان حصول متعلّق الأمر علّة تامّة لحصول الغرض الأقصی ، کما إذا أمر المولی عبده ببیع شیء فباعه العبد ، ففی مثل ذلک لا محیص عن سقوط الأمر بحقیقته وملاکه ، ونظیره ما إذا أمره بعتق نفسه أو عتق عبد آخر فأعتقه .

وأمّا إذا لم یکن الإتیان علة تامة لحصول الغرض ، کما إذا أمره بالإتیان بالماء لیشربه أو یتوضّأ به ، ففی مثل ذلک لا یکون الأمر ساقطا بعد الإتیان بالماء ، بحقیقته وملاکه ، وإن سقطت داعویّته ، حیث إنّ الغرض الداعی إلی الأمر به لیس مجرّد تمکنّه من الماء ولو آنا ما ، بحیث لو أُهرق الماء بعد المجیء به لکان حاصلاً ، بل الغرض رفع عطشه والوضوء به ، والمفروض بقاء هذا الغرض ، فکیف یسقط الأمر

ص :388

نعم لا یبعد أن یقال: بأن_ّه یکون للعبد تبدیل الإمتثال والتعبد به ثانیاً، بدلاً عن التعبد به أولاً، لا منضماً إلیه، کما أشرنا إلیه فی المسألة السابقة، وذلک فیما علم أنّ مجرد إمتثاله لا یکون علّة تامة لحصول الغرض، وإن کان وافیاً به لو اکتفی به، کما الشَرح:

المسبّب منه ؟ نعم تسقط کما ذکرنا داعویّته مادام المأتی به قابلاً لصرفه فی عطشه أو وضوئه ، فلو أُهرق واطّلع علیه العبد تتجدّد داعویته ، فیجب الإتیان به ثانیا ، کما إذا لم یأت بالماء أوّلاً .

وعلی ذلک ، فما دام لم یصرف المولی الماء ، فللعبد تبدیل امتثاله بامتثالٍ آخر مثله أو أحسن منه .

تبدیل الامتثال

ولو لم یعلم أنّ الإتیان بالمأمور به من أی القسمین یکون له تبدیل الامتثال لاحتمال بقاء الأمر ، ویؤید جواز تبدیل الامتثال _ بل یدلّ علیه _ ما ورد فی إعادة من صلّی فرادی جماعةً ، من أنّ اللّه (سبحانه) یختار أحبّهما إلیه .

أقول : الإتیان بمتعلّق الأمر وإن لم یکن موجبا لحصول الغرض الاقصی ، ولکنّ ذلک الغرض لا یطلب حصوله من المکلف وما یکون مترتّبا علی متعلّق التکلیف یحصل بالإتیان به لا محالة ، فإذا أمر المولی بالإتیان بالماء لیشربه أو یتوضّأ به ، فما دام لم یصرفه فی شربه أو وضوئه وإن لم یحصل غرضه الأقصی ، إلاّ أنّ الغرض الداعی له إلی الأمر بالإتیان بالماء _ وهو تمکنه منه وحصول الماء تحت یده _ حاصل ، ومعه لا معنی لبقاء أمره ، إذ مع وجود الماء عنده بعد الإتیان أو قبله لایصحّ أمر العبد بالإتیان بالماء .

والحاصل أنّه مع الإتیان بالماء وتمکین المولی منه ، یکون الأمر به ساقطا بحقیقته وملاکه ، ولو کان فی الإتیان بالماء الآخر غرض آخر غیر إلزامی ، یکون

ص :389

إذا أتی بماء أمر به مولاه لیشربه، فلم یشربه بعد، فإن الأمر بحقیقته وملاکه لم یسقط بعد، ولذا لو أهریق الماء واطلع علیه العبد، وجب علیه إتیانه ثانیاً، کما إذا لم یأت به أولاً، ضرورة بقاء طلبه ما لم یحصل غرضه الداعی إلیه، وإلاّ لما أوجب حدوثه، فحینئذ یکون له الإتیان بماء آخر موافق للأمر، کما کان له قبل إتیانه الأول بدلاً عنه.

الشَرح:

الإتیان ثانیا امتثالاً للطلب غیر الإلزامی ، وتحصیلاً لذلک الغرض غیر الملزم ، ولا معنی لامتثال الأمر السابق الساقط .

نعم ، لو أُهرق الماء فی المثال واطّلع علیه العبد ، یجب الإتیان به ثانیا ، لکن لا بالأمر السابق الساقط ، بل للطلب الجدید الذی هو مثل السابق ، والعلم بأنّ المولی یرید منه الإتیان ثانیا کافٍ فی لزوم ذلک علیه ، بحیث لو فرض غفلة المولی عن إراقته یکون علمه بأنّ لمولاه غرضاً فی حصول الماء عنده ، حجّة علیه.

وما ورد فی إعادة الصلاة جماعة ، فهو أمرٌ آخر استحبابی تعلّق بإعادتها ، کاستحباب إعادة صلاة الآیات ، لا أنّها امتثال للأمر الأوّل ، وما فی بعضها من أن_ّه یجعلها فریضة ، فالمراد منها قصد القضاء لا قصد فریضة الوقت ، کما صرّحت بذلک موثّقة إسحاق بن عمّار ، قال : قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : «تقام الصلاة وقد صلّیت ، فقال : صلِّ واجعلها لما فات»(1) . فلا یتعیّن أن یکون المراد من جعلها فریضة قصد الفریضة بالأصل وإن کانت مستحبّة بعنوان إعادتها ، کما هو المحتمل فی صحیحة الحلبی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «إذا صلیت وأنت فی المسجد ، وأُقیمت الصلاة ، فإن شئت فاخرج ، وإن شئت فصلِّ معهم واجعلها تسبیحا»(2) . وفی موثقة عمار ،

ص :390


1- (1) الوسائل : ج 5 ، الباب 55 من أبواب صلاة الجماعة ، الحدیث 1 .
2- (2) الوسائل : 5 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ، الحدیث 8 .

نعم فیما کان الاتیان علة تامة لحصول الغرض، فلا یبقی موقع للتبدیل، کما إذا أمر بإهراق الماء فی فمه لرفع عطشه فأهرقه، بل لو لم یعلم أن_ّه من أیّ القبیل، فله التبدیل باحتمال أن لا یکون علّة، فله إلیه سبیل، ویؤید ذلک __ بل یدلّ علیه __ ما ورد من الروایات فی باب إعادة من صلّی فرادی جماعة، وأن اللّه تعالی یختار أحبّهما إلیه.

الشَرح:

قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یصلّی الفریضة ثمّ یجد قوما یصلّون جماعة ، أیجوز أن یعید الصلاة معهم ؟ قال : نعم ، وهو أفضل» الحدیث(1).

وبالجملة ، إعادة الصلاة المأتی بها ثانیاً کما فی إعادة صلاة الآیات ما لم یحصل الانجلاء ، والصلاة التی صلاّها فرادی مع الجماعة ثانیاً إنّما هو بأمر استحبابی آخر ، وکذا یجوز لمن صلّی فی جماعةٍ إماماً أن یعید تلک الصلاة إماما لقوم آخرین ، بأن یکون المأموم فی إعادتها غیر المأموم فی المأتی به أوّلاً ، کما یدلّ علی ذلک الإطلاق فی صحیحة ابن بزیع ، قال : کتبت إلی أبی الحسن علیه السلام : «إنّی أحضر المساجد مع جیرتی وغیرهم ، فیأمروننی بالصلاة بهم ، وقد صلّیت قبل أن آتیهم ، وربّما صلّی خلفی من یقتدی بصلاتی والمستضعف والجاهل ، فأکره أن أتقدّم ، وقد صلّیتُ لحال من یصلّی بصلاتی ممّن سمیّت ذلک ، فمرنی فی ذلک بأمرک أنتهی إلیه وأعمل به إن شاء اللّه تعالی ، فکتب علیه السلام : صلِّ بهم»(2) .

کل ذلک بأمرٍ آخر ، ولیس امتثالاً للأمر الأوّل.

نعم یمکن أن یکون المراد فی بعض الروایات الإتیان بصورة الصلاة لا إعادتها

ص :391


1- (1) الوسائل : 5 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ، الحدیث 9 .
2- (2) الوسائل : 5 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ، الحدیث : 5 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

حقیقة ، کالتی وردت فی إعادة الصلاة مع المخالفین ، وأمره علیه السلام بجعلها تسبیحة ، ولکنّ ظاهر البعض الآخر استحباب الإعادة لمن صلّی منفردا ثمّ وجد جماعة ، کصحیحة حفص البختری ، عن أبی عبداللّه علیه السلام «فی الرجل یصلّی الصلاة وحده ، ثمّ یجد جماعة ، قال یصلّی معهم ویجعلها الفریضة»(1) . والمراد بجعلها فریضة فی مثلها قصد الفریضة بالأصل ، وإن کانت مستحبّة بالإعادة . وموثّقة عمّار ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یصلّی الفریضة ثمّ یجد قوما یصلّون جماعة ، أیجوز له أن یعید الصلاة معهم ؟ قال : نعم ، وهو أفضل ، قلت : فإن لم یفعل ؟ قال : لیس به بأس»(2) .

وما فی روایة أبی بصیر ، قال : قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أُصلّی ثمّ أدخل المسجد فتقام الصلاة ، وقد صلّیت ، فقال : صلِّ معهم یختار اللّه أحبّهما إلیه»(3) ، مضافا إلی ما فی سندها من الضعف لا یدلّ علی تبدیل الامتثال بالمعنی الذی ذکره ، فإنّها ناظرة إلی مرحلة حفظ العمل لإعطاء الثواب ، ولا دلالة فیها علی وقوع الأحبّ مصداقا للواجب ، وإلاّ یکون اختیار المصداق بإرادة اللّه لا بقصد العبد ، کما هو المراد من تبدیل الامتثال ، وظاهرها أن_ّه لو کانت الجماعة المزبورة موجبة للمزیة فی الصلاة ، کما إذا کانت واجدة لشرائطها ، تحسب صلاته المنفردة التی صلاّها أوّلاً بتلک المزیة فی مقام إعطاء الثواب .

ثمّ إنّ هذا کلّه بالإضافة إلی الإتیان بالمأمور به الواقعی الاختیاری أو الإتیان . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بالمأمور به الاضطراری الواقعی، بالإضافة إلی أمر نفسهما وأنه لا مجال بعد الإتیان بمتعلّق الأمر فیها لإعادة الامتثال، إلاّ مع ورود الأمر الاستحبابی بإعادتهما أو مع احتمال

ص :392


1- (1) الوسائل : 5 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ، الحدیث 11 .
2- (2) الوسائل : 5 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ، الحدیث 9 .
3- (3) الوسائل : 5 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ، الحدیث 10 .

الأمر الاستحبابی بإعادتهما، حیث یمکن الإعادة بقصد الرجاء واحتمال ذلک الأمر.

وأمّا المأمور به الظاهری، فلا مجال فیه للتفصیل المتقدّم فیکلام الماتن قدس سره من کون الإتیان علّة تامّة لحصول الغرض أو بقاء الغرض الأقصی مع الإتیان به؛ وذلک لأن المأمور به الظاهری لا یکون فیه ملاک لیقال إنّ الإتیان به علّة تامّة لحصول ذلک الملاک أو بقاء الغرض الأقصی، کما هو المقرّر فی محلّه. نعم إذا صادف المأمور به الظاهری المأمور به الواقعی یجری علیه ما تقدّم فیالإتیان بالمأمور به الواقعی. وبالجملة، التفصیل فی الاجزاء بحسب الغرض والملاک لا یجری فی المأمور به الظاهری.

ص :393

الموضع الثانی: وفیه مقامان:

المقام الأول: فی أنّ الإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری، هل یجزی عن الاتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی ثانیاً، بعد رفع الاضطرار فی الوقت إعادة، وفی خارجه قضاءً، أو لا یجزی؟

تحقیق الکلام فیه یستدعی [1] التکلم فیه تارة فی بیان ما یمکن أن یقع علیه

الشَرح:

إجزاء الأمر الاضطراری عن الواقعی

:

[1] تعرض قدس سره لأقسام المأمور به الاضطراری ، وذکر له أربعة أقسام ، والتزم بالإجزاء فی القسم الأوّل والثانی والرابع ، وبعدم الإجزاء فی الثالث .

أنحاء الفعل الاضطراری

:

القسم الأوّل: ما إذا کان المأمور به الاضطراری فی ظرف تشریعه الواقعی مشتملاً علی تمام ملاک الاختیاری أو المقدار اللازم منه ، وظرف التشریع یختلف ، فتارةً یکون عدم التمکّن من الاختیاری فی تمام وقته ، وأُخری یکون ظرف تشریعه عدم التمکّن من الاختیاری ، ولو فی بعض الوقت مطلقاً ، أو بشرط الیأس من التمکّن من الاختیاری إلی آخر الوقت ، وعبّر عن الفرض الأوّل بالاضطرار بشرط الانتظار، وعن الثانی بالاضطرار مطلقا ، وعن الثالث بالاضطرار مع الیأس من طروّ الاختیار، وعلی الفروض الثلاثة یکون الإتیان بالمأمور به الاضطراری فی ظرف تشریعه موجبا للإجزاء فی الفرض الأوّل عن القضاء فقط ، وعن القضاء والإعادة فی الفرضین الآخرین.

الأمر الاضطراری من الانحاء، وبیان ما هو قضیة کلّ منها من الإجزاء وعدمه، وأخری فی تعیین ما وقع علیه.

فاعلم أن_ّه یمکن أن یکون التکلیف الاضطراری فی حال الاضطرار، کالتکلیف الاختیاری فی حال الاختیار، وافیاً بتمام المصلحة، وکافیاً فیما هو

الشَرح:

هذا بحسب الفروض فی القسم الأوّل ، ولکن لا یخفی أنّ ظاهر خطاب

ص :394

الاضطراری مع عدم القرینة علی الخلاف هو الفرض الأوّل ، أی اعتبار عدم التمکّن من الاختیاری فی شیء من الوقت ، وذلک لأنّ التمکّن اللازم فی الأمر بالاختیاری هو التمکّن من صرف وجوده لا علی کلّ واحدٍ من وجوداته ومصادیقه ، ومع التمکّن منه ولو فی آخر الوقت یصحّ إیجابه من أوّل الوقت ، حیث یترتّب علی إیجابه من أوّل الوقت تهیئة بعض ما یتوقّف علی تهیئته الإتیان به ولو فی آخر الوقت ، وعلی ذلک فیکون ظاهر عدم التمکّن من الاختیاری ، الموضوع للأمر بالاضطراری هو عدم التمکّن من صرف وجوده فی وقته ، نعم مع القرینة علی الخلاف تتبع تلک القرینة ، سواء کان مقتضاها اعتبار مجرّد الاضطرار مطلقاً ، أو بشرط الیأس . وبالجملة ، ففی فروض اشتمال المأمور به الاضطراری فی ظرف تشریعة علی تمام ملاک الاختیاری لا موجب لوجوب الإعادة أو القضاء .

القسم الثانی: أن یکون الفعل الاضطراری مشتملاً علی بعض ملاک الاختیاری، ولکن لو استوفی ذلک البعض بالإتیان به لا یبقی مجال لتدارک الباقی لا بالاعادة ولا بالقضاء ، وفی مثل ذلک لا یصحّ للآمر الأمر بالفعل الاضطراری إلاّ مع استیعاب الاضطرار جمیع الوقت ، کما لا یجوز للمکلّف الإتیان به أوّل الوقت أو فی جزء منه مع تمکّنه من الاختیاری ، ولو فی آخر الوقت ؛ لأنّ فی هذه المبادرة تفویتا للغرض ولمقدار من الملاک الملزم ، لفرض تمکّنه من إدراک تمام الملاک الملزم بالإتیان المهم والغرض، ویمکن أن لا یکون وافیاً به کذلک، بل یبقی منه شیء أمکن استیفاؤه أو لا یمکن. وما أمکن کان بمقدار یجب تدارکه، أو یکون بمقدار یستحب، ولا یخفی أن_ّه إن کان وافیاً به یجزی، فلا یبقی مجال أصلاً للتدارک، لا قضاءً ولا إعادةً، وکذا لو لم یکن وافیاً، ولکن لا یمکن تدارکه، ولا یکاد یسوغ له

الشَرح:

بالاختیاری ولو فی آخر وقته ، وهذا فیما کان المقدار الفائت بالبدار ملاکاً ملزما کما هو ظاهر الفرض .

لا یقال : لا مجال فی الفرض لتشریع الاضطراری أصلاً ، بل یتعیّن الأمر بقضاء الاختیاری لإمکان الاستیفاء به .

فإنّه یقال : لا یتدارک بالقضاء مصلحة الوقت ؛ ولذا یتعیّن تشریع الاضطراری فی صورة استیعاب الاضطرار لتمام الوقت ، ومع فرض الاستیعاب یجوز للمکلف

ص :395

الإتیان بالاضطراری فی أوّل الوقت ؛ إذ مع إحرازه استیعاب الاضطرار لا تفویت فی البدار . نعم ، مع عدم إحرازه لا یجوز له ذلک لاحتمال التفویت ، والاستصحاب فی بقاء الاضطرار إلی آخر الوقت لا یثبت عدم التفویت ، ولو بادر المکلّف إلی الإتیان بالاضطراری فی هذا القسم _ ولو مع إحرازه التمکّن من الاختیاری _ فهل یمکن الحکم بصحته حتّی فی العبادات ، فلا یبعد ذلک کما هو ظاهر الماتن قدس سره أیضاً ، حیث فرض مع البدار حصول بعض الملاک وبهذا الاعتبار یمکن قصد التقرّب بالعمل ولا یکون الفعل الاضطراری المتبادر إلیه محرّما شرعا لعدم اقتضاء الأمر بالاختیاری النهی عن ضده الخاصّ ، وإنّما یحکم العقل بعدم جوازه فی الفرض لئلاّ یکون الإتیان به موجبا لفوات الملاک الملزم فی الاختیاری .

ثمّ إنّه لا وجه للاستثناء من عدم جواز البدار فی الفرض بقوله : «إلاّ لمصلحة البدار فی هذه الصورة إلاّ لمصلحة کانت فیه، لما فیه من نقض الغرض، وتفویت مقدارٍ من المصلحة، لولا مراعاة ما هو فیه من الأهم، فافهم.

الشَرح:

کانت فیه»(1) وذلک لأن_ّه لو کان المراد البدار فی صورة استیعاب الاضطرار لتمام الوقت فهذا لیس من البدار المصطلح ، وإن کان المراد البدار فی صورة ارتفاع الاضطرار قبل تمام الوقت فلا یحصل بالبدار تمام الملاک الملزم ، فضلاً عن أن یکون أهمّ من ملاک الاختیاری ، ولعلّه إلی ذلک أشار بقوله «فافهم» .

القسم الثالث: أن یکون الفعل الاضطراری واجدا لبعض الملاک الملزم ، ویبقی بعضه الآخر قابلاً للتدارک بالإتیان بالاختیاری مع ارتفاع الاضطرار فی الوقت بالإعادة ومع ارتفاعه بعد خروج الوقت بالقضاء ، وفی هذا القسم یجب الإتیان بالاختیاری بالإعادة عند ارتفاع الاضطرار فی الوقت وبالقضاء عند ارتفاعه خارجه ، ویجوز البدار إلی الاضطراری ، وعلیه فیتخیّر المکلف فی فرض ارتفاع الاضطرار قبل خروج الوقت بین الإتیان بالاضطراری حال اضطراره مع الإتیان بالاختیاری قبل خروج الوقت وبین الإتیان بالاختیاری خاصّة قبل خروج الوقت وهذا فیما إذا کان البعض الباقی من الملاک وافیا بالمقدار اللاّزم استیفاؤه ولا یقلّ عنه .

ص :396


1- (1) الکفایة : ص84 .

أقول : لا یمکن المساعدة علی ما ذکره فی هذا القسم ، فإنّ الفعل الاختیاری فی هذا القسم مع تمکّن المکلّف من صرف وجوده قبل خروج الوقت ، مأمور به من الأوّل ، کما هو مقتضی کونه واجبا موسعا ، ومعه کیف یمکن إیجاب الاضطراری حال الاضطرار ، والتکلیف التخییری بین فعل وبین ذلک الفعل مع الفعل الآخر غیر معقول ؛ لأنّ أحد الفعلین مأمور به علی کلا التقدیرین ، وإنّما الممکن الأمر لا یقال: علیه، فلا مجال لتشریعه ولو بشرط الانتظار، لإمکان استیفاء الغرض بالقضاء.

فإنّه یقال: هذا کذلک، لولا المزاحمة بمصلحة الوقت، وأم_ّا تسویغ البدار أو الشَرح:

الاستحبابی بالبدار إلی الاضطراری .

نعم ، مع استیعاب عدم التمکّن لتمام الوقت ، یمکن الأمر بکل من الاضطراری بعنوان الاداء لاستیفاء ملاک الوقت وبالاختیاری بعنوان القضاء لاستیفاء باقی الملاک الملزم ، ولا یمکن فی موارد الأمر بالقضاء اشتمال الاختیاری قضاءا علی تمام ملاک الاختیاری أداءا وإلاّ کان اشتراط الوقت بلا ملاک .

القسم الرابع: ما إذا أمکن استیفاء بعض الباقی من الملاک ، ولکن لم یکن ذلک البعض بالمقدار اللازم استیفائه ، بل کان أقلّ منه ففی هذا الفرض إن کان الإضطرار مستوعبا لتمام الوقت یتعیّن الإتیان بالاضطراری فی الوقت ویستحبّ قضاء الاختیاری خارج الوقت .

ولو کان الفعل الاضطراری مشتملاً علی بعض الملاک الملزم کذلک فبمجرّد طروّ الاضطرار وإن لم یستوعب تمام الوقت لا یتعیّن البدار ، بل یجوز للمکلّف الإتیان بالاضطراری حال الاضطرار والإتیان بالاختیاری بعد رفع الاضطرار قبل خروج الوقت .

ولا یخفی أنّ کلام الماتن قدس سره : «وفی الصورة الثانیة» أی فیما لم یکن المقدار الباقی لازم الإستیفاء یتعیّن علیه البدار ، ویستحبّ إعادته بعد زوال الاضطرار ، غیر تامّ لا فی فرض وجود الملاک مع استیعاب الاضطرار ، فإنّه خلاف مصطلح البدار وإن صحّ البدار فی هذا الفرض ولا فی فرض وجود الملاک بمجرد حدوث إیجاب الانتظار فی الصورة الأولی، فیدور مدار کون العمل _ بمجرد الاضطرار مطلقاً،

ص :397

أو بشرط الانتظار، أو مع الیأس عن طروّ الإختیار _ ذا مصلحة ووافیاً بالغرض.

الشَرح:

الاضطرار ، حیث ذکرنا أنّ المکلّف مخیّر مع ارتفاع الاضطرار قبل خروج الوقت .

وقد ظهر ممّا ذکرناه فی الأقسام أن_ّه یلزم من تشریع المأمور به الاضطراری فی القسمین الأوّلین والقسم الرابع الإجزاء بخلاف تشریعه فی القسم الثالث ، فإنّه لا یلازم الإجزاء .

ولا یخفی أنّ فیالبین قسما خامسا من المأمور به الاضطراری ، وهو أن یکون فیه ملاک ملزم آخر یحدث ذلک الملاک عند الاضطراری إلی ترک الاختیاری ولکن لا یفوت _ حتّی مع الإتیان به _ ملاک الفعل الاختیاری رأسا ، حیث إنّ الملاکین سنخان لا یرتبط أحدهما بالآخر أصلاً ، وفی هذا الفرض کما یؤمر بالاضطراری یؤمر بالاختیاری أیضاً بعد تجدّد الاختیار لاستیفاء الملاک الفائت ولو بقدر الإمکان کما فی مسألة من لا یتمکّن من إدراک الوقوف بالمشعر بعد الإحرام بالحجّ ، فإنّه مکلّف بإتمام الإحرام عمرة وبالحج فی السنة القابلة .

وقد یقال : إنّ البحث عن إجزاء المأمور به الاضطراری عن الاختیاری فی الأقسام الأربعة مبنی علی تعدّد الأمر والوجوب بأن یتعلّق وجوب بالفعل الاختیاری ووجوب آخر بالفعل الاضطراری ، ویبحث فی أنّ موافقة الثانی أو امتثاله هل یوجب سقوط الأمر بالاختیاری أو لا ؟ مع أن_ّه لو کان الأمر کذلک فکلّ تکلیف یقتضی امتثال نفسه ولا یوجب سقوط التکلیف الآخر ، بل التتبّع فیما هو الثابت فی الشرع من التکالیف الاضطراریة یرشدنا إلی أن_ّه لیس فی البین إلاّ تکلیف متعلّق بطبیعة واحدة بالإضافة إلی جمیع المکلّفین علی نحو الوجوب العینی أو الکفائی ، وتختلف أفراد وإن لم یکن وافیاً، وقد أمکن تدارک الباقی فی الوقت، أو مطلقاً ولو بالقضاء خارج الوقت، فإن کان الباقی مما یجب تدارکه فلا یجزی، بل لابد من إیجاب الإعادة أو القضاء، وإلاّ فیجزی، ولا مانع عن البدار فی الصورتین، غایة الأمر یتخیر الشَرح:

تلک الطبیعة بالإضافة إلی المکلّفین تارةً ، وإلی مکلّف واحد بحسب حالاته تارةً أُخری ، فمثلاً خطاب «أقیموا الصلاة» یقتضی توجّه التکلیف بالصلاة إلی کلّ واحد من المکلفین والمطلوب فی الخطاب طبیعی الصلاة من کلّ مکلف .

ص :398

غایة الأمر أنّ الطبیعی من المسافر فی الرباعیات رکعتان ومن غیره أربع رکعات کما أنّ الطبیعی من واجد الماء یکون بوضوء أو غسل ومن فاقد الماء یکون بالتیمم ، وهکذا من القادر علی القیام لا یتحقّق بالجلوس ویتحقّق به من العاجز عن القیام .

والحاصل أنّ علی کلّ مکلّف امتثال الأمر بالطبیعی، ولا یکون فرده فی حال فردا فی حالٍ آخر ، وهذا لا یوجب تعدّد الطبیعة وتعدّد الأمر، نعم یبقی فی البین تشخیص أنّ الصلاة مع التیمّم مثلاً فرد لها عند عدم وجدان الماء فی جمیع الوقت أو إنّما فرد لها بمجرّد عدم التمکّن ولو فی بعض الوقت مطلقاً أو بشرط الیأس عن وجدانه قبل خروج الوقت، فإنّ أُحرز أنّ المعتبر العجز فی تمام الوقت فلا مورد لوجوب القضاء وإن أُحرز الثانی فلا موضوع للامتثال بعد سقوط الأمر بالطبیعی. وعدم جواز البدار واقعا مع اعتبار العجز فی تمام الوقت ، إنّما هو لعدم کون المأتی به مع البدار فردا من الطبیعی، فتحصّل أنّه مع إحراز کون المأتی به فردا لا إعادة ولا قضاء.

لا یقال : یمکن أن یکون الفرد الاختیاری للصلاة أتمّ صلاحا وأقوی ملاکا ولبقاء الملاک بالإتیان بالفرد الاضطراری یجب الإعادة أو القضاء لتدارک الباقی من الملاک .

فإنّه یقال : اللازم عقلاً علی المکلّف امتثال أمر الشارع لا تحصیل المصالح لعدم إحاطة عقولنا بالمصالح الواقعیة لیلزم علینا تحصیلها .

فی الصورة الأولی بین البدار والإتیان بعملین: العمل الاضطراری فی هذا الحال، والعمل الاختیاری بعد رفع الاضطرار أو الانتظار، والاقتصار بإتیان ما هو تکلیف المختار، وفی الصورة الثانیة یجزی البدار ویستحب الإعادة بعد طروّ الاختیار.

الشَرح:

أقول : لیس المراد فی باب الإجزاء أنّ الثابت فی حقّ کلّ مکلّف تکلیفان : أحدهما واقعی اختیاری ، والآخر واقعی اضطراری ، بل المراد أنّ مقتضی الإتیان بالمکلّف به الاضطراری ، أن لا یتوجّه إلیه ما یجب علی المکلّف المختار علی فرض ترکه الفعل الاختیاری من القضاء أو الأداء والإعادة .

ودعوی أن_ّه لا تعدّد فی ناحیة متعلّق التکلیف بالإضافة إلی المختار والعاجز ، بل کلٌّ منهما مکلّف بطبیعی واحد وإنّما الاختلاف فی ناحیة أفراد تلک الطبیعة ، لا یمکن المساعدة علیها ، لما تقدّم فی مبحث الصحیح والأعمّ أن_ّه لا یمکن فرض جامع فی الصلاة بحیث ینطبق علی الأفراد الصحیحة خاصّة ولا یعمّ الأفراد الناقصة

ص :399

المعبّر عنها بالفاسدة ، نعم فی مثل الطهارة بناء علی کونها من المسبّبات کما ذهب إلیه المشهور ، وأنّ التیمّم والوضوء والغسل موجد لها یمکن القول بأنّ الصلاة المقیّدة بالطهارة لا تختلف وأنّ المأمور به فی حقّ کلّ من واجد الماء وفاقده هی الصلاة مع الطهارة ، حیث إنّ التیمّم من واجد الماء لا یوجب طهارة ، ولکنّ هذا لا یجری بالإضافة إلی صلاة العاجز عن القیام وصلاة القادر علیه وکذا صلاة المتمکّن من استقبال القبلة وصلاة غیر المتمکّن منه ، ونحوهما بل لابدّ من الالتزام بتعدّد الوجوب لتعدّد المتعلّق ، وخطاب «أقیموا الصلاة» وإن کان یعمّ العاجز والقادر ، إلاّ أنّه بضمیمة ما دلّ علی اعتبار الاستقبال والستر والقیام مع التمکّن منها ینکشف أنّ متعلّق الوجوب ثبوتا غیر متعلّق الوجوب فی حقّ العاجز عنها .

نعم فی باب الصلاة خصوصیة وهی أنّ الإجماع والضرورة اقتضتا عدم وجوب . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الأزید من خمس صلوات فی الیوم واللیلة فی حقّ کلّ مکلّف ، وإذا ثبت فی مورد تشریع الصلاة الاضطراری واقعا ولو مع التمکّن من الاختیاری فی آخر الوقت یحکم بإجزاء الاضطراری ، ولا ربط لذلک بالقول بأنّ متعلّق الوجوب فی حقّ جمیع المکلّفین طبیعة واحدة .

وأمّا ما ذکر أخیرا من أن_ّه لا یجب علی المکلّف استیفاء المصالح ورعایتها لعدم إحاطة عقولنا بها ، ففیه ما لا یخفی ، فإنّ الأقسام المتقدّمة إنّما فرضت بحسب مقام الثبوت فی علم الشارع وملاحظته ، وأنّ الشارع إذا لاحظ أنّ الملاک الموجود فی الإتیان بالفعل الاختیاری لایدرک إلاّ بالإتیان بالاضطراری فی الوقت وبالاختیاری فی خارجه ، یأمر بالاضطراری فی الوقت وبالاختیاری بعد ارتفاع الاضطرار فی خارج الوقت ، نظیر ما ذُکر فی القسم الخامس من الأمر بإتمام الإحرام للحجّ عمرة مفردة ، مع الأمر بقضاء الحجّ فی السنة القادمة والذی دلّ علیه صحیحة معاویة بن عمار ، قال أبو عبداللّه علیه السلام : «أیّما حاجّ سائق للهدی ، أو مفرد للحجّ ، أو متمتّع بالعمرة إلی الحجّ ، قدم وقد فاته الحج فلیجعلها عمرة ، وعلیه الحج من قابل»(1) .

ص :400


1- (1) الوسائل : ج 10 ، باب 27 من أبواب الوقوف بالمشعر ، الحدیث 1 .

والحاصل ، یقع البحث فیالمقام فی أن_ّه لو شرّع الفعل الاضطراری ولم یقم دلیل علی أن_ّه من قبیل تشریع الصلاة عند الاضطرار ، أو أن_ّه من قبیل الأمر بإتمام الإحرام للحج عمرة عند فوت الوقوف الاضطراری أیضاً ، فهل لازم تشریع الاضطراری الإجزاء ، أو أن_ّه لا یلازم الإجزاء ، لما تقدّم من إمکان وقوعه علی بعض الأقسام ممّا هو غیر ملازم للإجزاء ، کما إذا تیمّموا المیت لفقد الماء وکفّنوه وصلّوا هذا کلّه فیما یمکن أن یقع علیه الاضطراری من الأنحاء، وأمّا ما وقع علیه فظاهر إطلاق دلیله، مثل قوله تعالی «فلم تجدوا ماء فتیمموا صعیداً طیباً»(1)[1[ وقوله علیه السلام : (التراب أحد الطهورین) و: (یکفیک عشر سنین) هو الإجزاء، وعدم الشَرح:

علیه ودفنوه ، وبعد أیّام أُخرج المیت بجریان السیل علی مکان دفنه ، أو بفعل آدمیّ ، فهل یجب تغسیله فعلاً ؛ لأنّ المیت لم یغسّل ، أو أنّ تشریع التیمّم السابق یلازم کفایته فلا حاجة إلی تغسیله ، بل یجب دفنه خاصّة .

[1] یظهر من کلامه قدس سره أنّه یستفاد من خطاب الأمر بالاضطراری الإجزاء عن الاختیاری فی موردین :

الأوّل: أن یستفاد من خطابه کفایة الاضطرار ، ولو فی بعض الوقت فی مشروعیّته والأمر به ، ولو کان المکلّف متمکّناً من الاختیاری بعد ذلک ، کما هو ظاهر الآیة المبارکة فی أنّ التیمم وظیفة غیر الواجد للماء عند القیام إلی الصلاة حتّی لو وجد الماء بعد الصلاة ولو قبل خروج وقتها .

الثانی: أن یدلّ خطاب الاضطراری علی تساوی ملاکه مع ملاک الفعل الاختیاری ، والتساوی إمّا أن یستفاد من إطلاق خطاب الاضطراری ، کقوله علیه السلام : «إنّ التیمّم أحد الطهورین»(2) ، حیث إنّه لم یقیّد بمثل قوله «ولکنّه ناقص فی طهوریته» أو یصرّح بالتساوی أو یذکر ما ظاهره التساوی ، کقوله صلی الله علیه و آله : «یا أبا ذر ، یکفیک الصعید عشر سنین»(3) ، وفی مثل الموردین یؤخذ بمقتضی خطاب الاضطراری ویرفع الید عن إطلاق خطاب الاختیاری لو کان له إطلاق یقتضی الإتیان به عند

ص :401


1- (1) سورة النساء : الآیة 43 و سورة المائدة : الآیة : 6 .
2- (2) الوسائل : ج 2 ، باب 23 من أبواب التیمم ، الحدیث 4 و 5 .
3- (3) الوسائل : ج2 ، باب 23 من أبواب التیمم ، الحدیث : 4 و 5 .

وجوب الإعادة أو القضاء، ولا بد فی إیجاب الاتیان به ثانیاً من دلالة دلیل بالخصوص.

وبالجملة: فالمتبع هو الإطلاق لو کان، وإلاّ فالأصل، وهو یقتضی البراءة من

الشَرح:

حصول التمکّن .

ولو لم یکن لخطاب الفعل الاضطراری إطلاق _ کما ذکر _ ، وکان لخطاب الاختیاری إطلاق یقتضی الإتیان به عند التمکّن ، کما فی مثال إخراج المیت الذی ییمّموه سابقا ، یؤخذ بإطلاق الاختیاری ومقتضاه عدم الإجزاء .

وأمّا إذا لم یکن إطلاق لا فی ناحیة الخطاب الاضطراری ولا فی ناحیة خطاب الأمر بالاختیاری ، ووصلت النوبة إلی الاصل العملی ، فالمرجع هی أصالة البراءة عن وجوب الاختیاری فی الوقت أو ما هو بمنزلة الوجوب فی الوقت، لکونه شکّا فی التکلیف، کما أنّ المرجع هی أصالة البراءة عن وجوب القضاء بالأولویّة ؛ لأنّ القضاء بأمرٍ جدید.

نعم لو فرض أنّ موضوع وجوب القضاء فی خطاب الأمر به ، عدم الإتیان بالاختیاری ، ولو مع عدم وجوبه واستیفاء الغرض منه کلاًّ أو بعضا لوجب القضاء ، ولکنّ هذا مجرّد فرض ؛ لأنّ الموضوع للقضاء فوت الشیء ، أی عدم إدراک ملاکه ، ومع احتمال الإدراک بالاضطراری لا یحرز الفوت .

أقول : کما أن_ّه إذا لم تجب الإعادة لم یجب القضاء بالاولویة ، کذلک وجوب القضاء یوجب الإعادة أیضاً بالأولویة .

ثمّ بناءً علی ما ذکره قدس سره فی الصورة الثالثة من إمکان کون الاضطراری واجدا لبعض الملاک الملزم ویکون المقدار الباقی ممکن الاستیفاء بالفعل الاختیاری قبل خروج الوقت أو بعد خروجه قضاءا ، وفی فرض القدرة علی الاختیاری قبل خروجه إیجاب الإعادة، لکونه شکاً فی أصل التکلیف، وکذا عن إیجاب القضاء بطریق أولی، نعم لو دل دلیله علی أن سببه فوت الواقع، ولو لم یکن هو فریضة، کان القضاء واجباً علیه، لتحقق سببه، وإن أتی بالفرض لکنه مجرد الفرض.

الشَرح:

یکون الوجوب فی الوقت علی النحو التخییر بین الفعلین بأن یأتی بالاضطراری عند

ص :402

الاضطرار وبالاختیاری قبل خروج الوقت أو یأتی بالاختیاری فقط ، لا یمکن أن یکون تشریع الاضطراری فی بعض الوقت موجبا للحکم بالإجزاء ، ولو کان لخطاب الاضطرار إطلاق ، فإنّ مقتضی إطلاقه أنّه متعلّق للأمر ، سواء تمکّن من الاختیاری قبل خروج الوقت أو لم یتمکّن .

وهذا لا ینافی عدم الإجزاء ، واحتمال الوجوب التعیینی فی المأمور به الاضطراری مع عدم استیعاب الاضطرار لجمیع الوقت غیر موجود ، وعلیه فیمکن أن یکون تشریعه فی بعض الوقت من قبیل القسم الثالث .

نعم بناءً علی ما ذکرنا من عدم إمکان الوجوب التخییری بین الفعلین والفعل الواحد منهما یکون الأمر بالاضطراری حال الاضطرار ولو تخییرا بینه وبین ترکه إلی الإتیان بالاختیاری مقتضیا للإجزاء لا محالة، وأیضاً استظهار کفایة الاضطرار فی بعض الوقت فی الإتیان بالصلاة بالتیمّم من الآیة المبارکة علی تقدیر تمامیته، إنّما هو مع قطع النظر عن الروایات الواردة فی فاقد الماء، وأمّا بالنظر إلیها فلا تصحّ الصلاة مع التیمم مع عدم الیأس عن الظفر بالماء قبل خروج الوقت فضلاً عن العلم به، وفی صحیحة زرارة عن أحدهما علیهماالسلام قال: إذا لم یجد المسافر الماء فلیطلب ما دام فی الوقت، فإذا خاف أن یفوته الوقت فلیتیمّم ولیصلّ(1). والتفصیل موکول إلی محلّه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ولا یخفی أیضاً أنّ استفادة الاجزاء ، فیما إذا کان مدلول الخطاب أنّ القید الاضطراری لمتعلّق الأمر ولو کان الاضطرار فی بعض الوقت کالقید الاختیاری فی حال الاختیار ، وإن کان صحیحا إلاّ أنّه لا یوجب جواز إدخال المکلّف نفسه فی الاضطرار ، حیث إنّ منصرف عدم التمکّن من الاختیاری الموضوع للأمر بالاضطراری صورة عدم الإدخال فی الاضطرار عمدا فی ظرف الأمر بالاختیاری ، ولا یستفاد مما ورد فی أنّ التیمّم أحد الطهورین ، مع ملاحظة ما ورد من تفریع الأمر بالتیمم علی عدم التمکّن من الطهارة المائیة إلاّ الأمر به عند هذا الاضطرار ، کما هو الحال أیضاً بالإضافة إلی ما دلّ علی أن من أدرک اضطراری الوقوف بالمشعر فقد

ص :403


1- (1) الوسائل : ج 2 ، باب 1 من أبواب التیمم ، الحدیث 1 .

أدرک الحجّ ، بل وعدم جواز إدخال النفس فی الاضطرار فی ظرف فعلیة الأمر بالاختیاری هو مقتضی فعلیّة هذا الأمر ، فالحکم بجواز إدخال النفس فی موضوع الاضطرار بعد حصول ظرف فعلیة الأمر بالاختیاری فی موردٍ یحتاج إلی دلیلٍ خاصّ فیه ، کالحکم بجواز إدخال النفس فی التقیة الموجبة لترک بعض ما یعتبر فی الصلاة ، کترک السجود علی ما یصح السجود علیه ، کالحکم بجواز إجناب المکلّف نفسه بإتیان الزوجة مع علمه بعدم التمکّن من الاغتسال ولو أدخل المکلّف نفسه فی الاضطرار بعد فعلیة التکلیف بالاختیاری، فإن قام دلیل علی أنّ التکلیف لا یسقط حتّی مع الاضطرار، کذلک کما هو الحال بالإضافة إلی الصلاة ، تنتقل الوظیفة إلی الصلاة بالقید الاضطراری، وإن أثم بمخالفة مقتضی التکلیف بالاختیاری بإدخال نفسه فی الاضطرار بعد فعلیته .

وأمّا إذا لم یقم دلیل علی عدم سقوط التکلیف ، فلا یمکن الحکم بالإجزاء مع القید الاضطراری ، کما قد یقال بذلک بالإضافة إلی الصوم فیما إذا تعمّد المکلّف . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

البقاء علی الجنابة إلی أن بقی إلی الفجر زمان لا یسع إلاّ التیمم ، حیث إنّه لا یحکم بإجزاء ذلک الصوم ، وهذا هو الحال فیمن ترک الوقوفین فی عرفة والمشعر متعمّدا وأراد أن یکتفی بالوقوف فی المشعر یوم العید قبل الظهر.

ثمّ إنّ ما ذکره قدس سره من أنّه إذا لم یتمّ الإطلاق فی ناحیة الاضطراری لیکون مقتضیا للاجزاء ، ولا فی ناحیة الاختیاری لیکون مقتضیا للإعادة ، مع فرض عدم الإطلاق فی الاضطراری ، ووصلت النوبة إلی الأصل العملی ، یکون مقتضی أصالة البراءة عن وجوب الاختیاری عدم لزوم الإعادة ، غیر خالٍ عن الإشکال ، بناءً علی ما ذکره فی القسم الثالث من التخییر بین الفعلین ، أی الإتیان بالاختیاری فی آخر الوقت والإتیان بالاضطراری فی حال الاضطرار ، مع لزوم الاختیاری آخر الوقت فإنّ احتمال عدم الإجزاء یلازم احتمال وقوع الأمر بالاضطراری علی هذا النحو ، وبناءً علی صحّة التکلیف بالاختیاری من أوّل الأمر ، لتمکّن المکلّف من صرف وجوده بین الحدین ، کان المکلّف علی یقین من حصول الأمر بالاختیاری من حین الأمر بالاضطراری ، ویحتمل عدم سقوط ذلک التکلیف بالإتیان بالاضطراری ، فیکون

ص :404

وجوب الاختیاری بعد الإتیان بالاضطراری مجری للاستصحاب بناءً علی اعتباره فی الشبهة الحکمیة ومقتضاه لزوم الإعادة فی الوقت .

والالتزام بحدوث الأمر بالاختیاری بحدوث الاختیار والتمکّن بلا موجب ، حیث إنّ التمکّن من صرف وجود الاختیاری قبل خروج الوقت کافٍ فی الأمر به فی أوّل الوقت ، فلا مجال لتوهّم أنّ المورد من موارد الرجوع إلی البراءة ؛ لاحتمال حدوث التکلیف بالاختیاری عند حدوث التمکّن علیه .

نعم بناءً علی ما ذکرنا من أنّ التخییر فی الوجوب بین فعل وفعلین أحدهما . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

عین الأوّل غیر معقول ، یکون تشریع الاضطراری عند الاضطرار فی بعض الوقت ملازما للإجزاء فیما إذا کان التشریع بنحو الإیجاب ؛ لأنّ المکلّف فی الفرض یکون مکلّفا بفعلٍ واحد ، وهو إمّا الإتیان بالاضطراری فی ظرف الاضطرار ، وإمّا الإتیان بالاختیاری قبل خروج وقته ، فیتعلّق الوجوب بأحدهما ، ومعه لا مجال لاحتمال عدم الإجزاء .

وأمّا إذا احتمل تشریع الاضطراری فی ظرف الاضطرار بنحو الاستحباب ، وأنّ المکلف یتعیّن علیه الفعل الاختیاری ، یدخل المقام فی دوران أمر التکلیف بالاختیاری بین التعیین والتخییر ، فإنّ الوجوب المعلوم إمّا تعلّق بالاختیاری أو بالجامع بینه وبین الاضطراری ، فالاول کما إذا کان تشریع الاضطراری بنحو الندب ، والثانی ما إذا کان بنحو الإیجاب ، وقد ذکرنا فی محلّه أنّه مع دوران أمر التکلیف بین کونه بنحو التعیینی أو التخییری یکون مقتضی البراءة عن تعلّقه بخصوص أحدهما هو التخییر ، ولا یعارض بأصالة البراءة عن تعلّقه بالجامع ؛ لأنّ رفع الوجوب المحتمل فی الجامع خلاف الامتنان ، وهذا بعد سقوط الاستصحاب فی ناحیة عدم جعل الوجوب للجامع مع عدم جعله لخصوص الاختیاری ، وتمام الکلام فی محلّه .

وکذا الحال فیما إذا لم یعلم تشریع الاضطراری بنحو البدار أصلاً، بل احتمل تشریعة بنحو الوجوب التخییری، فإنّه یکون المرجع أصالة البراءة عن تعیین الاختیاری.

وذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره فی تعلیقته علی کلام الماتن قدس سره ما حاصله : أنّ تعلّق الوجوب بالاختیاری کالصلاة بالوضوء محرز ، کما أنّ تعلّقه بالصلاة مع التیمّم

ص :405

محرز _ کما هو فرض جواز البدار واقعا _ ولکن لم یعلم أنّ البدل بمجرّده عدل للاختیاری ، أو أنّ البدل المنضمّ الیه المبدل عدل له ، فإن کان تشریع الاضطراری . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بالقسم الأوّل أو بالقسم الرابع ، فالبدل بمجرّده عدل للاختیاری ، وإن کان تشریع الاضطراری بالقسم الثالث _ الذی لازمه عدم الإجزاء _ فالعدل للاختیاری هو الاضطراری المنضمّ إلیه الاختیاری بناءً علی التخییر بین الفعلین والفعل الواحد ، وعلیه فلا مانع من جریان البراءة فی ناحیة تعلّق الوجوب بانضمام المبدل إلی البدل.

ولا یقاس المقام بدوران الأمر بین تعلّق الوجوب بالأقل أو الأکثر الارتباطیین، حیث یقال فیه بعدم انحلال العلم الإجمالی بالوجوب عقلاً ، والوجه فی عدم القیاس أنّ الأقلّ فی ذلک الباب مرتبط بالأکثر فی الصحّة ، وحصول ملاکه لو کان الوجوب متعلّقا بالأکثر بخلاف المقام ، فإنّ الوجوب لو کان متعلّقا بالبدل المنضمّ إلیه المبدل لحصل ملاک البدل وصحّ الإتیان به ، کما أنّ الأمر فی ناحیة المبدل أیضاً کذلک ، وعلیه فتعلّق الوجوب بذات البدل محرز ، وتجری البراءة فی تعلّق ذلک الوجوب بالمبدل المنضم الی البدل.

وبتعبیرٍ آخر: تعلّق الوجوب بالمبدّل المسبوق بالبدل غیر محرز، فتجری البراءة عن وجوبه، وأمّا تعلّقه بالمبدّل غیر المسبوق بالبدل، فهو محرز کما أنّ تعلّقه بأصل البدل محرز، فالمقام أشبه بموارد دوران أمر الواجب بین الأقل والأکثر الاستقلالیین(1).

أقول : لو سلّم قدس سره فی موارد الوجوب التخییری تعلّق وجوب واحد بعنوان ینطبق علی کلٍّ من الأبدال کما هو ظاهر کلامه قدس سره ، فالأمر فی ذلک العنوان الجامع دائر بین أن یکون بحیث ینطبق علی المبدّل بانفراده وعلی البدل بانفراده ، أو أن یکون بحیث ینطبق علی المبدّل بانفراده وعلی البدل المنضمّ إلیه المبدّل ، ومقتضی . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

استصحاب عدم تعلّق وجوب بالجامع علی النحو الأوّل عدم الإکتفاء بالبدل

ص :406


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 386 .

بانفراده ، ولا یعارض هذا الاستصحاب استصحاب عدم تعلّقه بالجامع علی النحو الثانی ، فإنّ هذا الاستصحاب لا أثر له للعلم بإجزاء المبدل بانفراده والبدل المنضمّ إلیه المبدل ، فإن أُرید بهذا الاستصحاب نفی هذا الإجزاء فلا مورد له ، وإن أُرید إثبات تعلّقه بالجامع علی النحو الأوّل فهو مثبت .

الّلهم إلاّ أن یقال : مقتضی هذا الاستصحاب أن_ّه لا یتعین علی المکلّف الإتیان بالمبدل المنضمّ إلی البدل ، فیتعارضان وتصل النوبة إلی البراءة ، فتجری فی ناحیة تعلّق الوجوب بالعنوان علی النحو الثانی ولا تعارضها البراءة عن تعلّقه بالجامع بالنحو الأوّل ، فإنّها خلاف الامتنان ، کما مرّ .

وأمّا ما یقال من أنّ الأصل فی المقام هو الاشتغال کما هو مقتضی العلم بوجود الملاک الملزم فی البین ، وتمکّن المکلّف من استیفائه بالإتیان بالاختیاری قبل خروج الوقت ، وأمّا مع الاقتصار علی البدل فلا یحرز استیفائه ، فلا یخفی ما فیه ، فإنّ هذا القول ذکر وجهاً لوجوب الاحتیاط فی موارد دوران أمر الواجب بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین، وکذا مورد دورانه بین التعیین والتخییر ، والجواب کما ذکر فی ذلک البحث أنّ الملاک الملزم لایزید علی التکلیف ، فمع جریان البراءة عن وجوب الأکثر ، أو وجوب ما یحتمل تعیینه ، یکون مقتضاه عقلاً معذوریة المکلّف فی ترک استیفاء الملاک لو کان موجودا فی الأکثر أو فیما یحتمل تعیینه .

ثمّ إنّ الرجوع إلی الأصل العملی _ علی ما مرّ _ یختصّ بما إذا لم یکن فی البین ما یثبت نفی تشریع الاضطراری ، وقد ذکرنا أنّ فی موارد الشک فی تشریعه یکون خطاب الأمر بالاختیاری نافیا لتشریعه ، فإنّ مقتضاه تعلّق التکلیف بالاختیاری معینا المقام الثانی: فی إجزاء الإتیان بالمأمور به بالأمر الظاهری وعدمه.

والتحقیق: إنّ ما کان منه یجری فی تنقیح ما هو موضوع التکلیف وتحقیق متعلقه [1]، وکان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره، کقاعدة الطهارة أو الحلیة، بل واستصحابهما فی وجه قوی، ونحوها بالنسبة إلی کل ما اشترط بالطهارة أو الحلیة الشَرح:

مع التمکّن من صرف وجوده من أوّل دخول الوقت إلی آخره .

إجزاء المأمور به الظاهری عن الواقعی

:

[1] حاصل ما ذکره قدس سره فی المقام أنّه قد یکون مقتضی خطاب الحکم الظاهری

ص :407

جعل ما هو معتبر فی موضوع الحکم ومتعلّق التکلیف جزءا أو شرطا کقاعدة الطهارة ، فإنّ مفاد خطابها اعتبار طهارة البدن واللباس المأخوذة فی تعلّق الأمر بالصلاة ، وکاستصحابها بناءً علی ما هوالصحیح من کون الاستصحاب أصلاً عملیّا ومفاد خطاب اعتباره ثبوت حکم ظاهری مماثل للثابت سابقا .

غایة الأمر الثابت سابقا طهارة واقعیة بخلاف الثابت بالاستصحاب فإنّها طهارة ظاهریة لا محالة ، وکقاعدة الحلّیة فإنّ مقتضاها حلّیة المکان أو الحیوان المأخوذ من أجزائه اللباس وکذا استصحاب الحلّیة فیما إذا طرء علی الحیوان أو المکان ما یشک معه فی بقاء الحلّیة ، وهذا کما ذکر بناءً علی ما هو الصحیح من اعتبار الاستصحاب کسائر الأُصول العملیة لا أن_ّه معتبر کالأمارات .

وقد یکون مفاد خطاب الحکم الظاهری اعتبار کشف الشیء عن الواقع أو اعتبار منجزیته ومعذریته کما فی أدلّة اعتبار الأمارات الحاکیة عن الواقع .

ثمّ إنّه یحکم بالإجزاء فی مورد الإتیان بالمأمور به الظاهری وانکشاف مخالفته للواقعی فی القسم الأوّل ، ممّا یکون مفاد الخطاب الظاهری تحقّق الجزء أو الشرط یجزی، فإن دلیله یکون حاکماً علی دلیل الاشتراط، ومبیّناً لدائرة الشرط، وأن_ّه أعمّ من الطهارة الواقعیة والظاهریة، فانکشاف الخلاف فیه لا یکون موجباً لإنکشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إلیه یکون من قبیل ارتفاعه من حین ارتفاع الشَرح:

للمأمور به بجعلهما ، والسرّ فی الإجزاء حکومة الخطاب الظاهری علی دلیل اعتبار ذلک الشرط أو الجزء فی متعلّق التکلیف أو موضوعه ، فمثلاً تکون القاعدة والاستصحاب فی طهارة الثوب أو حلّیته موجبا للتوسعة فیما دلّ علی اعتبار الطهارة والحلّیة فی ثوب المصلّی ، وأنّها أعمّ من الطهارة أو الحلّیة الواقعیة .

أقول : ظاهر کلامه قدس سره عدم الفرق فی الصورة الثانیة التی یحکم فیها بعدم الإجزاء بین القول بجعل الحجیة للأمارة أو جعل الحکم الطریقی ، وأنه لا یحکم بالإجزاء علی کلا القولین .

وعلیه یبقی سؤال الفرق بین الطهارة والحلّیة فی موارد جریان الأُصول وبین الطهارة والحلّیة فی موارد قیام الطریق والأمارة ، فإنّه بناءً علی جعل الحکم الطریقی یکون المجعول فی مورد قیام الطرق علی قیود متعلّق التکلیف کمفاد الأُصول فیها .

ص :408

وقد ذکر المحقق الاصفهانی قدس سره فی التفرقة بین الأصل العملی الجاری فی متعلّق التکلیف وبین الأمارة القائمة علیه _ علی مسلک جعل مدلول الأمارة حکما طریقیا _ ما حاصله : أنّ الأمارة بما أنّها تحکی عن الثبوت واقعا ، یکون اعتبارها جعل الأثر المترتّب علی ذلک الواقع ، فیکون مقتضی اعتبار الأمارة القائمة علی طهارة شیء أو حلّیة حیوان جواز الصلاة فیه أو معه ، بخلاف الأصل الجاری فی طهارة شیء أو حلّیته ، فإنّ مقتضی قوله علیه السلام : «کلّ شیءٍ طاهر أو حلال» جعل نفس الطهارة للشیء من غیر نظر إلی ثبوتها أو نفیها واقعا ، وکذا فی الحلّیة .

لا یقال: علی ما ذکر یلزم أن لا یکون الاستصحاب فی طهارة الثوب أو البدن الجهل، وهذا بخلاف ما کان منها بلسان أنه ما هو الشرط واقعاً، کما هو لسان الأمارات، فلا یجزی، فإن دلیل حجیته حیث کان بلسان أن_ّه واجد لما هو شرطه الواقعی، فبارتفاع الجهل ینکشف أن_ّه لم یکن کذلک، بل کان لشرطه فاقداً.

الشَرح:

موجباً للتوسعة فی المتعلّق؛ لأنّ مفاد خطاب اعتباره ثبوت الطهارة السابقة وبقائها، فیکون کالأمارة القائمة علی بقائها فی أنّه إذا انکشف الخلاف وظهر عدم ثبوتها واقعا یکون مقتضی خطاب التکلیف بالمأمور به الواقعی الإتیان به، مع أنّ صحیحة زرارة قد صرّحت بخلافه.

فإنّه یقال : المدّعی قصور التعبّد بثبوت الشیء واقعا عن جعل نفس ذلک الشیء ، لا أنّه ینافیه ، وعلیه فلا بأس بالتعبّد بثبوته واقعا مع جعل نفس ذلک الشیء ، ولکن نقول التعبّد بالأمارة القائمة علی طهارة شیء لا یقتضی جعل نفس الطهارة ؛ لأنّ التعبّد فی الأمارة إنّما هو فی جهة حکایتها ، والتعبّد فیها من هذه الجهة لا یقتضی إلاّ جعل أثر المحکی عنه بخلاف الاستصحاب ، فإنّ اعتباره لیس من جهة الحکایة ، نعم هو کذلک بناءً علی أن_ّه ظنّ بالبقاء وأن_ّه اعتبر من هذه الحیثیة(1) .

أقول : قد یتبادر إلی الذهن أن نتسائل کیف حکم الماتن قدس سره بإجزاء الإتیان بالمأمور به الظاهری فی الموارد المشار إلیها ، مع أن_ّه قدس سره قد قسّم المأمور به الاضطراری إلی أقسامٍ أربعة ، وحکم فی بعضها بعدم الإجزاء وفی بعضها بعدم جواز

ص :409


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 392 .

البدار لتفویت الملاک ، ولکن لم یفصّل فی المأمور به الظاهری بمثل ذلک ؟

والجواب أن_ّه استفاد من خطاب اعتبار الاستصحاب وقاعدتی الطهارة والحلّیة فی موارد جریانهما فی متعلّق التکلیف ، التوسعة فی الواقع المعبّر عنها فی کلمات هذا علی ما هو الأظهر الأقوی فی الطرق والأمارات، من أن حجیتها لیست بنحو السببیة، وأم_ّا بناءً علیها، وأنّ العمل بسبب أداء أمارة إلی وجدان شرطه أو شطره، یصیر حقیقة صحیحاً کأن_ّه واجد له، مع کونه فاقده، فیجزی لو کان الفاقد الشَرح:

القوم بالحکومة ، ولازم التوسعة تدارک ملاک القید الواقعی مع الإتیان بالمأمور به الظاهری ، فلا نقص فیه من جهة تدارک الملاک .

ولکن لا یخفی أنّ الاستصحاب فی طهارة الثوب لو کان موجبا للتوسعة فی شرط الصلاة بأن یکون أعمّ من الطهارة الواقعیة و الظاهریه لکان الاستصحاب فی نجاسته أیضاً موجبا للتوسعة فی مانعیة النجاسة عن الصلاة ، وعلیه لو قامت أمارة علی نجاسة الثوب فصلّی فیه برجاء طهارته لاحتمال عدم إصابة الامارة للواقع وشکّ رجل آخر فی بقاء نجاسة ثوبه وصلی فیه برجاء طهارته واقعا ، ثمّ بعد الصلاة ظهر طهارة کلّ من الثوبین حال الصلاة ، فاللازم الحکم بصحة الصلاة فی مورد قیام الأمارة والبطلان فی مورد الاستصحاب ، مع أنّ الحکم بالصحة فی الأوّل والبطلان فی الثانی لم یعهد التزامه من فقیه ، وأیضاً لو کانت الحکومة فی قاعدة الطهارة واستصحابها أمرا صحیحا ؛ للزم الالتزام بطهارة المتنجس فیما إذا غسله بماءٍ شکّ فی طهارته ثمّ بعد غسله علم بأنّ الماء کان نجسا ، فإنّ الطهارة المعتبرة فی الماء المغسول به أعمّ من الواقعیة والظاهریة علی الفرض ، ولو شک فی بقاء وضوئه وصلّی ، ثمّ علم بأنّه کان محدثا ، فاللازم الحکم بعدم وجوب إعادة الصلاة لعدم الخلل بذلک فی الطهارة ، حیث إنّ الطهارة _ کما زعم الماتن قدس سره _ قد ارتفعت من حین العلم بالحدث ، وأنّ الصلاة قد وقعت مع الطهارة المعتبرة ، حیث إنّها أعمّ من الطهارة الواقعیة والظاهریة .

ولو شک فی بقاء الماء علی طهارته ولاقاه شیء طاهر، وبعد ذلک علم نجاسة معه _ فی هذا الحال _ کالواجد فی کونه وافیاً بتمام الغرض، ولا یجزی لو لم یکن کذلک، ویجب الإتیان بالواجد لإستیفاء الباقی _ إن وجب _ وإلاّ لاستحب. هذا مع

ص :410

إمکان استیفائه، وإلاّ فلا مجال لإتیانه، کما عرفت فی الأمر الاضطراری.

الشَرح:

الماء، فاللازم أن لا یحکم بنجاسة الملاقی؛ لأنّ الماء المزبور حال الملاقاة کان طاهرا.

والسرّ فی ذلک کلّه أنّه یعتبر فی الحکومة الموجبة للتوسعة والتضییق أن یکون المنفی أو المجعول المحکی بخطاب الحاکم من سنخ المجعول المحکی بخطاب المحکوم فی کونه نفسیا أو طریقیّاً ؛ لیکشف خطاب الحاکم عن السعة والضیق فی المجعول المحکی بخطاب المحکوم ، وأمّا إذا کان المجعول فی الخطاب حکما نفسیا ، وفی الخطاب الآخر _ ولو عبّر عنه بخطاب الحاکم _ طریقیا ، یکون مقتضی المجعول الطریقی عدم النفسیة وأنّه یرتّب علیه أثر الواقع النفسی ما دام الجهل لغایة التنجیز والتعذیر ، وإذا أُحرز الواقع وأن_ّه کان علی خلاف المجعول طریقا ، فاللازم رعایته، حیث إنّ ثبوت الحکم الظاهری لا یوجب الانقلاب والتغییر فی المجعول الواقعی؛ لعدم المنافاة بین أن یکون تعلّق الحکم أو موضوعه مقیّدا بالقید الواقعی ، وبین جعل ذلک القید طریقیا ، بحیث یعتبر ذلک الحکم الطریقی بترتیب أثر القید الواقعی علیه ما دام لم ینکشف الواقع لمصلحة فی جعل ذلک القید الطریقی واعتباره ، ولو کانت تلک المصلحة نوعیة ، وإذا انکشف الخلاف وجب التدارک لبقاء الواقع بحاله وعدم الإتیان بمتعلّق التکلیف الواقعی . وممّا یکشف عن بقاء قذارة الشیء ونجاسته الواقعیة بحالها الغایة الواردة فی خطاب قاعدة الطهارة من قوله علیه السلام : «کل شیءٍ نظیف حتّی تعلم أن_ّه قذر»(1) .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ودعوی أنّ معنی جریان أصالة الطهارة الجاریة فی الثوب المشکوک طهارته لیس جعلاً لطهارة الثوب ضرورة ، أن_ّه لو کان نجسا فهو باقٍ علی نجاسته واقعا ، وإنّما الطهارة الظاهریة له تفید التوسعة فی الشرطیة الحاصلة من تعلّق التکلیف بالصلاة فی الثوب الطاهر ، حیث إنّ المتفاهم عرفا من خطاب أصالة الطهارة مع

ص :411


1- (1) الوسائل : ج 2 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، الحدیث 4 .

لحاظ خطاب الأمر بالصلاة فی الثوب الطاهر ، هو أنّ القید أعمّ ، فإذا صلّی فی الثوب المزبور یسقط ذلک التکلیف حتّی لو انکشفت نجاسة ذلک الثوب حال الصلاة ؛ لأنّ التوسعة فی الشرطیة أوجبت سقوط التکلیف ولا ان_کشاف للخلاف بالإضافة إلی التوسعة، ومع ذلک یحکم بنج_اسة ملاقی ذلک الثوب رطبا ولو قبل ظهور الحال.

والحاصل أنّ ما دلّ علی طهارة المشکوک حاکم علی خطاب اشتراط الصلاة بطهارة الثوب لا خطاب ما دلّ علی تنجّس الشیء بملاقاة النجس ، وهذا بخلاف ما إذا قام الطریق علی طهارة ثوب وانکشف خطأه فیما بعد، فإنّ اعتبار شیء طریقا إلی القید الواقعی لا یوجب التوسعة فی الشرطیة المستفادة من مثل خطاب: صلِّ فی ثوبٍ طاهر. ویمکن استفادة هذا الإجزاء فی موارد قاعدة الطهارة واستصحابها من مثل قول علی علیه السلام : «ما أُبالی أبولٌ أصابنی أو ماء إذا لم أعلم»(1).

لا یمکن المساعدة علیها ، فإنّه لم یظهر الفرق بین ما إذا کان مفاد الأصل والقاعدة اعتبار ما هو قید لمتعلّق التکلیف ، وبین ما إذا کان مفادهما اعتبار قید لموضوع الحکم الوضعی ، بأن یقال بإجزاء الصلاة مع استصحاب الطهارة ، ولا یطهر الثوب المتنجّس بماءٍ مستصحب الطهارة ، ودعوی الفرق بینهما جزاف ، وجعل . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الفارق ضرورة الفقه کما تری ، فإنّ الحکم بصحّة الصلاة مع النجاسة الواقعیة جاهلاً بها إنّما هو من باب عدم کونها مانعة فی الصلاة.

نعم النقض علی کلام الماتن قدس سره بموارد قاعدة التجاوز کما إذا شکّ فی الرکوع بعد ما سجد وبنی علی الرکوع قبله وأتمّ الصلاة ، ثمّ انکشف عدم الإتیان بالرکوع ، أو بموارد بیع الشیء مع الشکّ فی کونه ملکا له ، وبعد البیع ظهر عدم کونه ملکا له ، ونحوهما لا وجه له ؛ لأنّ مفاد قاعدة التجاوز لیس جعلاً للرکوع ، ومفاد قاعدة الید لیس جعلاً للملکیة حال البیع ، بل القاعدة اعتبرت طریقا إلی الملکیة الواقعیة.

ثمّ لو فرض صحّة الالتزام فی موارد جعل الطهارة والحلّیة الظاهریتین بالإجزاء للتوسعة المزعومة ، فلا یجری ذلک فی موارد استصحاب الطهارة والحلّیة ، وإن قلنا

ص :412


1- (1) الوسائل : ج 2 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5 .

_ کما هو الصحیح _ بکون الاستصحاب أصلاً عملیّا ؛ وذلک لما ذکرنا فی بحث الاستصحاب بأنّ مفاد دلیله لیس جعل حکم مماثل للحکم السابق ، بل مفاده اعتبار العلم بحصول السابق علماً بالبقاء ، والتفصیل موکول إلی محلّه .

بقی فی المقام أمرٌ ، وهو أن_ّه لو قیل بالإجزاء فی موارد التعبّد بالشرط أو الجزء أو عدم المانع بمفاد الأُصول باعتبار أنّها توجب التوسعة فیما هو شرط وجزء ومانع فی متعلّق التکلیف لا یفرق فی جریان الأُصول بین الشبهات الموضوعیة والحکمیة ، وهذا بخلاف موارد الأمارات ، حیث إنّ مفاد دلیل اعتبارها ثبوت الشرط الواقعی بجعل الأمارة طریقاً تامّا إلیه فلا یوجب قیامها الإجزاء بعد انکشاف الخلاف فیها ، ویکون مقتضی التکلیف بما هو مقید بالشرط امتثاله ، وهذا کلّه بناءً علی ما هو الأظهر فی اعتبار الأمارات من أنّ اعتبارها علی وجه الطریقیة لا بنحو السببیّة .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الإجزاء فی الأمارات علی السببیة

:

وأمّا بناءً علی السببیة وکون قیامها موجبا لحصول الحلّیة أو الطهارة للشیء ، فیکون الإتیان بالمأمور به الظاهری موجبا لحصول الامتثال ؛ لأنّ المأمور به الذی یأتی به المکلف علی طبق الأمارة القائمة علی الطهارة _ مثلاً _ یکون مشتملاً علیها بقیام الأمارة ، ویکون کالواجد لها بالوجدان فی حصول الملاک ، کما هو مقتضی دلیل اعتبارها ، بناءً علی السببیة ، إلاّ أن یقوم دلیل خاصّ فی مورد علی فوات بعض الملاک الواقعی بحیث یلزم تدارکه ، فلا یجزی ، أو یستحب تدارکه فیجزی کصورة اشتماله علی جمیع الملاک . والوجه فی اقتضاء إطلاق دلیل اعتبارها علی السببیة هو أنّ مدلوله بناءً علیها جعل مدلول الأمارة شرطا واقعیا ، والوجه فی اقتضاء إطلاق دلیل اعتبارها علی السببیة هو أنّ مدلوله بناءً علیها جعل مدلول الأمارة شرطا واقعیا ، فلا معنی لانکشاف الخلاف فیه بعد ذلک .

ولکن لا یخفی أنّه لا یظنّ أن یلتزم أحد باعتبار الأمارة علی نحو السببیة إلاّ فی الأمارات القائمة علی الأحکام الکلیّة التکلیفیة أو الوضعیة، دون القائمة علی الموضوعات الخارجیة والأحکام الجزئیة ، کما إذا اشتری ثوبا من جلد الحیوان وبعد الصلاة حصل له العلم بأنّه من المیتة ، فالإلتزام بالإجزاء من جهة اعتبار سوق

ص :413

المسلمین من باب السببیة ، وأنّ الشارع قد جعل التذکیة الواقعیة للثوب المزبور بشرائه منه مادام لم ینکشف الحال ، غیر معهود فی باب اعتبار الأمارات ، وعلیه فتنحصر ثمرة اعتبار الأمارة بنحو الکشف أو السببیة فی الأحکام الکلّیة فقط ، سواء کانت وضعیة (مثل ما إذا قامت الأمارة علی کون الدباغة فی المیتة ذکاة) ، أو تکلیفیّة (مثل ما إذا قامت علی وجوب صلاة الجمعة فی عصر الغیبة) .

ولا یخفی أنّ قضیة إطلاق دلیل الحجیة __ علی هذا __ هو الإجتزاء بموافقته أیضاً، هذا فیما إذا أحرز أن الحجیة بنحو الکشف والطریقیة، أی بنحو الموضوعیة والسببیة، وأم_ّا إذا شک فیها ولم یحرز أنها علی أیّ الوجهین، فأصالة عدم الإتیان بما یسقط معه التکلیف مقتضیة للإعادة فی الوقت [1]، واستصحاب عدم کون الشَرح:

الإجزاء عند الشکّ فی سببیّة الأمارة وطریقیتها

:

[1] بعد ملاحظة کلامه قدس سره فی المقام من صدره إلی ذیله ، یظهر أنّ مراده من قوله قدس سره : «أصالة عدم الإتیان بما یسقط...» إلخ ، أحد أمرین :

الأوّل: أن یکون مراده منها استصحاب التکلیف المحرز حدوثه بنحو القسم الثانی من الکلّی ، حیث إنّ التکلیف یختلف باختلاف متعلّقه ، ومتعلّق التکلیف المحرز إمّا المقیّد بالقید الواقعی ، کما هو مقتضی اعتبار الأمارة بنحو الطریقیة والکشف ، وإمّا المقیّد بما هو مدلول الأمارة ، کما هو مقتضی اعتبارها بنحو الموضوعیة والسببیة ، فمع عدم إحراز کیفیة اعتبار ألامارة وانکشاف الخلاف _ کما هو المفروض _ ، یحکم ببقاء ذلک التکلیف المحرز حدوثه حین قیام الأمارة ، ولا ینفع فی إحراز سقوطه أصالة عدم فعلیة التکلیف بالقید الواقعی بعد انکشاف الواقع ، حیث إنّ إحراز سقوطه یکون بإحراز تعلّق الأمر حقیقةً عند قیام الأمارة بالمأتی به وإثبات تعلّقه به بأصالة عدم الفعلیة فی ناحیة الواقعی إثبات لأحد المتلازمین بالأصل الجاری فی ناحیة نفی الملازم الآخر فیکون من الأصل المثبت.

الثانی: أن یکون مراده کما یُستفاد من ذیل کلامه ، أن_ّه مع العلم بحدوث التکلیف و وجوده حال قیام الأمارة ، یکون المورد بعد انکشاف الخلاف مجری قاعدة الاشتغال حیث یحتمل بقاء ذلک التکلیف علی ما کان فی عدم الامتثال و عدم السقوط أو استصحاب عدم الإتیان بمتعلّق التکلیف الحادث حال قیام الأمارة ،

ص :414

التکلیف بالواقع فعلیاً فی الوقت لا یجدی، ولا یثبت کون ما أتی به مسقطاً، إلاّ علی القول بالأصل المثبت، وقد علم اشتغال ذمته بما یشک فی فراغها عنه بذلک المأتی.

وهذا بخلاف ما إذا علم أن_ّه مأمور به واقعاً، وشک فی أنّه یجزی عما هو الشَرح:

لیثبت به بقاء التکلیف الحادث المزبور، والاستصحاب کذلک داخل فی الشبهة المصداقیّة ، کما یأتی فی بیان إثبات وجوب القضاء به .

وأمّا تقریب قاعدة الاشتغال ، فبأنّه لو أُحرز أنّ المأتی به الظاهری متعلّق التکلیف حقیقة ، کما فی موارد الأُصول الشرعیة التی تقدّم أنّ مقتضی خطاباتها التوسعة فی الواقع ، وکما إذا أُحرز اعتبار الأمارة القائمة علی الشرط بنحو الموضوعیة والسببیة وشکّ فی إجزاء المأتی به الظاهری أو الاضطراری یکون مقتضی الأصل العملی الإجزاء حتّی بالإضافة إلی الإعادة کما تقدّم ، حیث یدور الأمر بین أن یکون عدل الواجب علی المکلف هو المأمور به الظاهری المنضمّ إلیه الواقعی بعد کشف الخلاف ، أو الاضطراری المنضمّ إلیه الاختیاری بعد ارتفاع الاضطرار ، وبین أن یکون عدل الواجب نفس المأمور به الظاهری أو الاضطراری ، فأصالة البراءة عن وجوب ضمّ الواقعی أو الاختیاری مقتضاها الإجزاء .

وهذا بخلاف ما إذا لم یحرز کون الفعل الاضطراری مأمورا به حال الاضطرار حقیقة ، أو الظاهری مأمورا به کذلک ، فإنّه مع عدم إحراز ذلک _ کما هو مقتضی تردّد اعتبار الأمارة بین السببیة والطریقیة _ یشکّ فی امتثال التکلیف المحرز حال قیام الامارة ویحکم العقل بالاشتغال ولزوم إحراز السقوط ، ولم یحرز تعلّق الأمر بالمأتی به حتّی یکون المورد مجری لأصالة البراءة ، واستصحاب عدم فعلیة التکلیف بالواقعی _ کما تقدّم _ لا یثبت تعلّق التکلیف حقیقة بالمأتی به ، إلاّ علی الأصل المثبت.

ص :415

المأمور به الواقعی الأولی، کما فی الأوامر الاضطراریة أو الظاهریة، بناءً علی أن یکون الحجیة علی نحو السببیة، فقضیة الأصل فیها _ کما أشرنا إلیه _ عدم وجوب الإعادة، للإتیان بما اشتغلت به الذمة یقیناً، وأصالة عدم فعلیة التکلیف الواقعی الشَرح:

أقول : یرد علی الماتن قدس سره :

أوّلاً: أنّه إذا لم یحرز تعلّق التکلیف بالظاهری حقیقة _ کما هو مقتضی تردّد اعتبار الأمارة القائمة بالشرط بین السببیة والطریقیة _ یکون مقتضی الإطلاق فی خطاب التکلیف الواقعی وجوب الإتیان بمتعلّقه وعدم الإجتزاء بغیره ، کما ذکرنا ذلک فی الاضطراری أیضاً ، وقلنا : إذا لم یتمّ دلیل علی تشریع الاضطراری عند الاضطرار فی بعض الوقت ، یکون مقتضی الإطلاق (أی عدم ذکر العدل للإختیاری فی خطابه) تعیّن الإتیان به ولو فی آخر الوقت ، فلا تصل النوبة إلی الأصل العملی بمجرّد تردّد أمر اعتبار الأمارة ثبوتا بین کونه علی نحو الطریقیة أو السببیة ، بل مقتضی إطلاق الأمر الواقعی نفی اعتبارها علی نحو السببیة ؛ لأنّ مثبتات الأُصول اللفظیة حجّة.

وثانیا: قد ذکرنا سابقا أنّ الوجوب التخییری بین الإتیان بفعلین وبین إتیان واحد معیّن منهما ثبوتا غیر معقول ، وما ذکره قدس سره من الرجوع إلی البراءة فی فرض إحراز تعلّق الأمر حقیقة بالمأتی به وفی غیره إلی الاشتغال أو استصحاب التکلیف مبنیّ علی إمکان فرض الوجوب التخییری المزبور ، والاّ فإن کان المأتی به مأمورا به واقعا ، فالأمر والتکلیف یتعلّق بالجامع ، وعلی فرض عدمه یتعلّق بخصوص الاختیاری أو الواقعی ، فاستصحاب عدم تعلّق التکلیف ثبوتا بالجامع معارض باستصحاب عدم تعلّقه بخصوص الاختیاری أو الواقعی ، وبعد تساقطهما یکون المقام من موارد دوران أمر الواجب بین التعیین والتخییر ، أو بین المطلق والمقید ، وتقدّم أنّ أصالة البراءة تجری فی ناحیة تعلّقه بمحتمل التعیین أو المقیّد ، لکون رفع بعد رفع الاضطرار وکشف الخلاف.

وأم_ّا القضاء فلا یجب بناءً علی أن_ّه فرض جدید[1]، وکان الفوت المعلّق

الشَرح:

التکلیف عنهما موافقا للامتنان ، بخلاف رفعه عن الجامع أو المطلق ، فإنّ تعلّق التکلیف بهما ثبوتا وإن کان غیر معلوم إلاّ أنّ رفعه عنهما خلاف الامتنان ، فلا یعمّ

ص :416

خطاب «رفع ما لا یعلمون» ذلک التکلیف المحتمل .

[1] یعنی مع دوران الأمر بین السببیة والطریقیة ، وانکشاف الخلاف فی الأمارة بعد الوقت ، فلا یجب تدارک الواقع بالقضاء ولا یفید فی وجوبه استصحاب بقاء التکلیف فی الوقت وعدم الإتیان بمتعلّقه ؛ لأنّ مجرّد إحراز عدم الإتیان بمتعلّق التکلیف فی الوقت بالأصل لا یکون إحرازا لفوته ، فإنّه من الأصل المثبت ، فیجری الاستصحاب فی ناحیة عدم فوته ، ولا أقلّ من أصالة البراءة عن وجوب القضاء .

نعم لو قیل بأنّ وجوب القضاء مستفاد من الأمر بالأداء ، بأن یکون الإتیان بذات الفعل مطلوبا ، والإتیان به فی الوقت مطلوبا آخر ، وأنّه بانقضاء الوقت یسقط الطلب الثانی ویبقی الأوّل ، لکان (عند دوران اعتبار الأمارة بین السببیة والطریقیة) استصحاب طلب الطبیعی بعد خروج الوقت مقتضیا للقضاء ، وکذا لو کان وجوب القضاء بأمرٍ جدید ، ولکن کان موضوعه عدم الإتیان بالواجب الواقعی فی الوقت ، لا فوته ، فإنّ عدم الإتیان به فی الوقت بعد انکشاف الخلاف فی الأمارة محرز .

أقول : هذا إذا کان الموضوع لوجوب القضاء عدم الإتیان بالفریضة الأوّلیة فی وقتها ، وإلاّ فلو کان موضوعه عدم الإتیان بفریضة الوقت ، سواء کانت أولیة أو ثانویة لکانت الشبهة مصداقیّة ، وقد ذکرنا عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات المفهومیة ، وعلیه کان المرجع أصالة البراءة عن وجوب القضاء ، کما لا یخفی .

ص :417

علیه وجوبه لا یثبت بأصالة عدم الإتیان، إلا علی القول بالأصل المثبت، وإلاّ فهو واجب، کما لا یخفی علی المتأمل، فتأمل جیّداً.

الشَرح:

تبدّل فتوی المجتهد

:

ثمّ إنّه لا فرق فی عدم الإجزاء _ بناءً علی الطریقیة فی موارد الأُصول والأمارات _ بین انکشاف الخلاف بالوجدان أو انکشافه بحجّة معتبرة ، کما فی موارد تبدّل رأی المجتهد أو عدول العامی بعد موت مقلّده إلی الأعلم من الأحیاء ، أو عدوله إلی من صار أعلم ممّن کان یقلّده ، وذلک لأنّ الأمارة السابقة أو الأصل السابق لا یزید فی الاعتبار علی الیقین والاعتقاد الجزمی الذی لم یکن معتبرا بعد زواله حتّی بالإضافة إلی الأعمال السابقة .

فإنّ غایة دلیل اعتبار الأمارة أنّها علم بالواقع ، وغایة مفاد خطاب الأصل المحرز أنّ المکلّف عالم بالواقع ، وخطاب الأصل غیر المحرز أنّه تنجیز أو تعذیر عن الواقع ، علی ما تقرّر من أن_ّه المجعول فی مورد الأمارة أو الأصل ، ولو قلنا بأنّه الحکم المماثل أو المؤدّی لا یخرج من الطریقیة إلی النفسیة أیضاً .

لا یقال : تبدّل الرأی والاجتهاد لا یوجب إلاّ زوال الاعتبار عن الاجتهاد السابق والفتوی السابقة ، من حین زواله لا من الأوّل . وبتعبیرٍ آخر : التبدّل فی الفتوی أو التردّد فیها ، نظیر الفسخ ، لا یوجب إلغاء المعاملة إلاّ من حینه ، فیکون التبدّل أو التردّد موجبا لإلغاء الرأی السابق من حین حصولهما لا من الأصل .

فإنّه یقال : قیاس تبدّل الفتوی أو التردّد بفسخ المعاملة مع الفارق ؛ إذ فی مورد الفسخ یتغیّر الواقع من حین الفسخ ، فالملکیة الحاصلة بالبیع تنتفی من حین فسخه ، ومع انتفائها من حینه لا یمکن ترتیب آثار عدم الملکیة من الأوّل ، بخلاف موارد . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

تبدّل الفتوی أو التردّد ، فإنّ الزائل من حین حصولهما هو الاعتبار لا الواقع ، وإذا أُحرز الواقع بالفتوی الثانیة ، المفروض عدم اختصاص اعتبارها بالأعمال اللاحقة والموجود بعد التغیّر والتبدّل فقط، فاللازم تدارکه مع فوته أو إحراز الإتیان به ، ودعوی أن_ّه لا اعتبار للفتوی اللاحقة بالإضافة إلی الأعمال السابقة ، یدفعها مقتضی

ص :418

إطلاق دلیل اعتبارها بعد سقوط الأُولی عن الاعتبار ، حتّی بالإضافة إلی تلک الأعمال ؛ ولذا لو فات الواقع بترک العمل بها فی السابق یجب تدارکه علی طبق الحجّة الفعلیة .

وینبغی قیاس المقام بحصول التردّد وصیرورة المکلف شاکّا بزوال یقینه ، فإنّ زوال الاعتقاد وإن لم یوجب إلاّ زوال المنجزیّة والمعذریّة من حین زواله ، إلاّ أنّه بعده لا اعتبار له حتّی بالإضافة إلی الأعمال السابقة .

وتوضیح ذلک : إنّ تبدّل الفتوی یکون بالظفر بأصلٍ حاکم علی الأصل الذی کان یُعتمد علیه ، أو بالظفر بالأمارة أو المخصّص أو المقیّد أو القرینة علی خلاف ما کان یعتمد علیه ، وإذا ظفر بذلک فهو یکشف بحسب المدلول عن ثبوت مقتضاها من الأوّل ، وهذا الکشف قد اعتبر علما علی ما هو مفاد دلیل اعتبار الأمارة ، ولا ینتفی بعد ذلک موضوع الحجّة والأصل الذی کان یعتمد علیه ، حتّی بالإضافة إلی الأعمال الماضیة ، ولیس المراد أنّ قیامها یکشف عن عدم الأصل من الأوّل ، بل المراد ارتفاع موضوع الأصل والحجّة بالظفر علی الأصل الحاکم أو الأمارة أو المخصّص والمقیّد ونحوهما من القرائن ، ونظیر ذلک ما إذا استظهر من روایة حکما ثمّ تردّد فی الاستظهار ، فإنّه لم یثبت عنده ظهور فعلاً لیبقی معتبرا بالإضافة إلی الأعمال السابقة .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

والحاصل أنّ الإجزاء فی موارد الأُصول العملیة أو الأمارة بعد انکشاف الواقع علی خلافها ولو بکاشفٍ تعبّدی یحتاج إلی دلیل خاصّ أو عامّ ، کالذی ذکرناه وجها للإجزاء فی العبادات والمعاملات ، بمعنی العقود والإیقاعات فی موارد تغیّر الفتوی أو عدول العامی ، أو مثل حدیث «لا تعاد» فی موارد الإخلال بما یعتبر فی الصلاة ممّا لا یدخل فی المستثنی الوارد فیه ، ویطلب تفصیل المقام ممّا ذکرناه فی بحث الاجتهاد والتقلید فی وجه الإجزاء .

الإجزاء عند تبدّل الفتوی أو العدول

ومجمل ما ذکرنا فی ذلک البحث أنّه یحکم علی العمل الواقع سابقا علی طبق اجتهادٍ صحیح ، أو علی طبق فتوی معتبرة فی ذلک الزمان ، بالإجزاء فی العبادات

ص :419

والمعاملات، بمعنی العقود والإیقاعات السابقة ؛ لما علم من مذاق الشارع بجعل هذه الشریعة سهلة سمحة، وأنّه لم یعهد فی الشریعة أن یأمر الائمّة علیهم السلام من کان یعمل علی طبق أخبارهم المعتبرة أن یتدارک عمله السابق بمجرّد ظهور خبر أو وروده عنهم علیهم السلام فیما بعد ، بحیث یقدّم بعد وروده علی ما کان یعمل علیه، بل ورد عنهم ما یشیر إلی إجزاء ذلک العمل، ففی موثّقة محمد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «قلت له: ما بال أقوام یروون عن فلان وفلان عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله لا یتّهمون بالکذب، فیجیء منکم خلافه؟ قال: إنّ الحدیث ینسخ کما ینسخ القرآن»(1)، فإنّ التعبیر عن الحدیث الآتی من قبلهم بالناسخ للحدیث عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وتنزیله الحدیث منزلة القرآن فی وقوع النسخ فیه یشیر إلی إجزاء العمل السابق قبل ورود . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الحدیث الناسخ، فإنّ النسخ فی المقام، وإن لم یکن بمعناه المعروف بل المراد منه التقیید والتخصیص، إلاّ أنّ العمل بالکتاب قبل ورود المخصّص أو المقیّد علیه کما کان یجزی کذلک العمل بالحدیث قبل ورود الحدیث اللاحق، ویؤیّد ذلک الإجماعات المنقولة فیالمقام علی الإجزاء حیث قال فی العروة: «فإذا أفتی المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغیر الحدید مثلاً، فذبح حیوانا کذلک، فمات مجتهده، وقلّد من یقول بحرمته، فإن باعه أو أکله حکم بصحّة البیع وإباحة الأکل، وأمّا إذا کان الحیوان المذبوح موجودا فلا یجوز بیعه ولا أکله»، وقال قبل ذلک: «وکذا لو أوقع عقدا أو إیقاعا بتقلید مجتهد یحکم بصحّته، فإن مات وقلّد من یقول ببطلانه، یجوز له البناء علی الصحّة. نعم یجب علیه العمل بمقتضی فتوی المجتهد الثانی فیما یأتی»(2).

ولا یخفی أنّ ما ذکره من الفرق بین الذبح بغیر الحدید وبین العقد السابق لا یصحّ ، إلاّ بأن یقال المتیقّن من التسالم علی الإجزاء ، موارد العبادات السابقة والعقود والإیقاعات ، ویبقی غیرها تحت القاعدة المشار إلیها آنفا فی الأصل الأولی علی القول بالطریقیة فی الأمارات واعتبار الأُصول من عدم الإجزاء .

ص :420


1- (1) الوسائل : ج 18 ، باب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 4 .
2- (2) العروة الوثقی : ج 1 ، مسألة 53 ، من کتاب الاجتهاد والتقلید .

ثمّ إنّه یقع الکلام فی أن_ّه لو قلنا بإجزاء الأعمال السابقة علی طبق الفتوی السابقة ، فیما إذا انکشف خلافها بالفتوی اللاّحقة ، فهل تکون تلک الأعمال مجزیة بالإضافة إلی غیر العامل أیضاً ممّن یکون الطریق المعتبر عنده علی خلاف تلک الأعمال ، مثلاً إذا تیمّم الإمام لصلاته فی مورد ، یری الغیر أن_ّه یتعیّن فی ذلک المورد . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وضوء الجبیرة ، فهل یجوز _ لمن یکون الحکم عنده کذلک _ الائتمام بصلاة هذا الإمام الذی یصلّی بالتیمّم ، بدعوی أن_ّه إذا کانت صلاة الإمام مجزیة بحیث لا یجب علیه تدارکها بالإعادة والقضاء بعد کشف الخلاف عنده بتبدّل فتواه أو رجوعه إلی المجتهد الآخر ، تکون صلاته مع التیمّم المزبور کالصلاة مع الخلل فی الموارد التی تدخل فی المستثنی منه من حدیث «لا تعاد» ، وکما أنّه یجوز الاقتداء فیها مع علم المأموم بخلل صلاة الإمام بما لا یضرّ الإخلال به فی صحّتها فی حقّه ، فکذلک الحال فی الفرض ، أو أن_ّه لا یجوز للغیر ممن یقوم الطریق المعتبر عنده علی بطلان عمله واقعا ترتّب أثر الصحیح علی تلک الأعمال ؟

الصحیح هو الثانی ، وذلک لأنّ الحکم بالإجزاء فی الأعمال السابقة بالإضافة إلی العامل ، لیس بمعنی صحّتها واقعا ، بل معنی الإجزاء إبقاء فتواه السابقة أو فتوی المجتهد السابق علی الاعتبار بالإضافة إلی تلک الأعمال فی حقّ العامل ؛ ولذا لو کان کشف الخلاف فی الفتوی السابقة مع الواقع کشفا وجدانیا لم تکن مجزیة ، ولزم تدارک الواقع الفائت ، فلا یقاس الإجزاء فیها بموارد الخلل فی الصلاة ، ممّا یدخل فی المستثنی منه من الحدیث ، فإنّ الصحّة فی تلک الموارد واقعیة ؛ ولذا لا تجب إعادة الصلاة ولا قضائها بالکشف الوجدانی للخلل .

وبالجملة غایة ما یستفاد ممّا تقدّم _ من أنّ لزوم التدارک فی موارد تبدّل الفتوی أو الرجوع الی المجتهد الآخر ینافی کون الشریعة سهلة وسمحة وقیام السیرة المتشرعة الجاریة علی عدم التدارک فیما إذا وقعت الأعمال السابقة عن تقلید أو اجتهاد صحیح فی العبادات والمعاملات من العقود والإیقاعات _ هو بقاء الفتوی السابقة أو الاجتهاد السابق علی الاعتبار بالاضافة إلی العامل فحسب ، وکذا فیما ثمّ إن هذا کلّه فیما یجری فی متعلّق التکالیف، من الأمارات الشرعیة

ص :421

والأصول العملیة [1]، وأم_ّا ما یجری فی إثبات أصل التکلیف، کما إذا قام الطریق الشَرح:

أشرنا إلیه من الروایة ، فتدبّر .

قد یقال : إنّه یستثنی ممّا ذکر من عدم ترتیب أثر الصحیح لمن یری بطلان ذلک العمل بحسب اجتهاده أو تقلیده موردان :

أحدهما: النکاح ، فإنّه إذا عقد علی امرأة بعقدٍ صحیح عندهما بحسب تقلیدهما ، فلا یجوز للغیر الذی یری بطلانه اجتهادا أو تقلیدا تزویجها بعد ذلک بلا طلاقٍ صحیح ، بدعوی أنّ المرأة من الأوّل خلیّة ؛ لبطلان العقد علی رأیه .

الثانی: الطلاق فإنّه إذا طلّق زوجته بطلاقٍ یری صحّته ، کما إذا أنشأه ببعض الصیغ مما أفتی بعض بصحّة إنشائه بها ، ویری الغیر بطلان ذلک الطلاق ، فیجوز له التزویج بتلک المرأة بعد انقضاء عدّتها .

والدلیل علی ترتیب الأثر فی الموردین _ مضافا إلی السیرة المستمرّة _ ما یستفاد ممّا ورد فی أنّ «لکلّ قومٍ نکاح» وما ورد فی قاعدة الإلزام .

ولکن لا یخفی ما فیهما ، إذ دعوی السیرة المستمرّة فی موارد الحکم الظاهری لم تثبت ، وما ورد فی أنّ لکلّ قومٍ نکاح أو فی قاعدة الإلزام لا یستفاد منهما إجزاء النکاح أو الطلاق الواقع علی طبق الحجّة المعتبرة عند العامل ، بالإضافة إلی من تکون الحجّة المعتبرة عنده علی خلافها ، وکذلک الحال فی المیراث . نعم إذا کان النکاح والطلاق أو المیراث عند قومٍ مخالفا لما عندنا ، فهو مجری السیرة وقاعدة الإلزام لا ما إذا کان عند مجتهدٍ مخالفاً لما عند مجتهدٍ آخر .

[1] کان کلامه قدس سره فی الأُصول العملیة والأمارات التی تکون مقتضاها إحراز قیود متعلّق التکلیف جزءا أو شرطا ، نفیا أو إثباتا . وأمّا التی مقتضاها إحراز التکالیف أو الأصل علی وجوب صلاة الجمعة یومها فی زمان الغیبة، فانکشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر فی زمانها، فلا وجه لإجزائها مطلقاً، غایة الأمر أن تصیر صلاة الجمعة فیها _ أیضاً _ ذات مصلحة لذلک، ولا ینافی هذا بقاء صلاة الظهر علی ما هی علیه من المصلحة، کما لا یخفی، إلاّ أن یقوم دلیل بالخصوص علی عدم وجوب صلاتین فی یوم واحد.

الشَرح:

ص :422

المستقلّة ، فلا یوجب الإلتزام بالسببیة فیها الإجزاء ، ولو قامت أمارة علی وجوب فعلٍ ، وکان الواجب فی الواقع غیره ، فلا یوجب قیامها عدم لزوم تدارک الواقع بعد انکشافه ، حیث إنّ غایة اعتبارها أنّ قیامها أوجب صلاح ذلک الفعل لا سقوط الواجب الواقعی عن صلاحه ، إلاّ فیما کانت الأمارة القائمة علی وجوب فعلٍ دالّة علی عدم وجوب ذلک الواجب الواقعی ، کما فی مثل الأمارة القائمة علی وجوب القصر أو الجمعة فی یومها ، فإنّها بالملازمة تنفی وجوب التمام أو الظهر لقیام الضرورة ، ولا أقلّ من الإجماع علی عدم وجوب الأزید من الصلوات الخمس فی الیوم واللیلة علی کلّ مکلّف ، فإنه فی الفرض یحکم بالإجزاء علی مسلک السببیة ، حتّی مع کشف الخلاف فی الوقت ، حیث إنّه لو وجب التدارک لزم وجوب الأزید من الصلوات الخمس علی المکلّف .

ص :423

تذنیبان:

الأول: لا ینبغی توهم الإجزاء فی القطع بالأمر فی صورة الخطأ [1]، فإنّه لا یکون موافقة للأمر فیها، وبقی الأمر بلا موافقة أصلاً، وهو أوضح من أن یخفی، نعم ربما یکون ما قطع بکونه مأموراً به مشتملاً علی المصلحة فی هذا الحال، أو علی مقدار منها، ولو فی غیر الحال، غیر ممکن مع استیفائه استیفاء الباقی منها، ومعه لا یبقی مجال لإمتثال الأمر الواقعی، وهکذا الحال فی الطرق، فالإجزاء لیس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعی أو الطریقی للإجزاء بل إنّما هو لخصوصیة اتفاقیة فی متعلقهما، کما فی الإتمام والقصر، والإخفات والجهر.

الشَرح:

[1] مراده قدس سره أنّه یمکن أن یکون الجزم بوجوب فعل فی موردٍ ، مع الغفلة عن الواجب الواقعی فی ذلک المورد ، موجبا لحدوث تمام مصلحة الواقع فی ذلک الفعل ، فلو أتی به حال الغفلة عن الواجب الواقعی لا یبقی مجال لتدارک الواجب الواقعی بعد زوال الجزم ؛ لأنّ المزبور تدارک مصلحته بالفعل الذی جزم بوجوبه . وکون فعل فی حال الغفلة عن الواجب الواقعی کذلک وإن کان ممکنا إلاّ أنّه لا یمکن أن تکون مصلحة الواقع فی ذلک الفعل مطلقة ، (یعنی ولو فی غیر حال الغفلة عن الواجب الواقعی) وإلاّ کان تخصیص الوجوب بذلک الفعل وعدم جعله تخییریّا بینهما بلا موجب .

نعم ، یمکن أن یکون الفعل الذی جزم بوجوبه مع کون الواجب فعلا آخر مشتملاً علی بعض ملاک الواجب مطلقاً ، ولو فی غیر حال الغفلة عن الواجب الواقعی ، ومع ذلک لا یتعلّق به الوجوب لا تعیینا ولا تخییرا بین الفعلین والفعل الواحد ؛ لأنّ مع الإتیان به أوّلاً لا یمکن تدارک الباقی بالإتیان بالفعل الآخر ؛ ولذا عمّم قدس سره الاشتمال علی مقدار من المصلحة بقوله : «ولو فی غیر هذا الحال» .

الثانی: لا یذهب علیک أنّ الإجزاء فی بعض موارد الأصول [1] والطرق والأمارات، علی ما عرفت تفصیله، لا یوجب التصویب المجمع علی بطلانه فی الشَرح:

وبالجملة اشتمال فعل علی تمام ملاک الواجب الواقعی حال الغفلة عنه أو علی بعض ملاکه مطلقاً ، مع عدم إمکان استیفاء الباقی ، أمر ممکن ، ولکن هذا لا

ص :424

یرتبط ببحث إجزاء الإتیان بالمأمور به الظاهری عن الواقعی ؛ لأنّ القائل بالإجزاء فی المأمور به الظاهری لا یلتزم بالإجزاء بالإتیان بما اعتقد أنّه الواجب الواقعی ، کما أنّ القائل بعدم الإجزاء فی الإتیان بالمأمور به الظاهری یلتزم بالإجزاء فی موارد کون الاعتقاد بوجوب فعل موجبا لحدوث مصلحة الواقع فیه ، أو کونه واجدا لبعض ملاک الواجب الواقعی ولم یمکن مع الإتیان به تدارک الباقی فیما قام دلیل خاصّ علی ذلک ، کإجزاء کلّ من الجهر والإخفات فی موضع الآخر ، وکالتمام فی صورة الجهل بوجوب القصر .

[1] کأنّ هذا الأمر ردّ علی من ذکر أنّ الالتزام بإجزاء المأمور به الظاهری _ حتّی بعد انکشاف الخلاف _ یلازم التصویب فی الأحکام والتکالیف الواقعیة ، ویظهر من صدر کلامه قدس سره إلی ذیله أنّ التصویب الباطل هو ما کان یستتبع خلو الواقعة عن الحکم الواقعی الإنشائی فی حقّ الجاهل ، وإنّ هذا لا یلزم من الالتزام بالإجزاء ، فإنّ معنی خلو الواقعة عن الحکم الواقعی فی حقّ الجاهل هو أن لا یکون فی حقّه حکم إلاّ مؤدّی الأمارة أو مقتضی الأصل ، بحیث لو أُغمض عن تلک الأمارة أو الأصل لم یکن فی الواقع للواقعة حکم فی حق الجاهل أصلاً ، والقول بالإجزاء لا یلازم ذلک ؛ لأنّ الحکم الواقعی المشترک بین العالم والجاهل فی مرتبة الإنشاء محفوظ ، ولا یختصّ بالعالم ، ولکنّ هذا الحکم الإنشائی لا یصل إلی مرتبة الفعلیة فی ظرف قیام الأمارة أو وجود الأصل العملی علی خلافه ، بلا فرق فی ذلک بین الالتزام بالإجزاء أو عدمه ، تلک الموارد، فإنّ الحکم الواقعی بمرتبته محفوظ فیها، فإنّ الحکم المشترک بین العالم والجاهل والملتفت والغافل، لیس إلاّ الحکم الإنشائی المدلول علیه بالخطابات المشتملة علی بیان الأحکام للموضوعات بعناوینها الأولیة، بحسب ما یکون فیها من المقتضیات، وهو ثابت فی تلک الموارد کسائر موارد الامارات، وإنّما المنفی فیها لیس إلاّ الحکم الفعلیّ البعثیّ، وهو منفی فی غیر موارد الإصابة، الشَرح:

فالقائل بعدم الإجزاء متّفق مع القائل بالإجزاء علی عدم الفعلیة فی التکلیف الواقعی فی مورد الأصل أو ظرف قیام الأمارة فیما لو خالفا الواقع ، والفرق أنّ الأوّل یقول بصیرورته فعلیّا بعد انکشاف الخلاف ویلزم التدارک ، والقائل بالإجزاء یقول بأنّه لا یصیر فعلیّا ؛ إمّا لحصول الملاک ، أو لعدم إمکان استیفاء الباقی ، وعلیه فکیف

ص :425

یکون الإجزاء موجبا للتصویب ، أی خلّو الواقعة عن الحکم ، وأن لا یکون فی حقّ الجاهل حکم غیر مؤدّی الأمارة ومفاد الأصل ، مع أنّ الجهل بخصوصیة الواقعة أو بأصل حکمها موضوع لاعتبار الأمارة والأصل ، وما دام لم یفرض أنّ فیالواقعه حکما لا یتم الموضوع للأصل أو لاعتبار الأمارة .

أقول : التصویب تارة یکون باختصاص الأحکام الشرعیة والتکالیف الواقعیة بالعالمین بها ، بأن یکون المجعول الواقعی قاصرا عن الشمول للجاهلین بها ولایکون فی حقّ غیر العالمین إلاّ مقتضی الأصل أو مدلول الأمارة ، وهذا النحو من التصویب منسوب إلی الأشعری ، ولازمه أخذ العلم بالحکم فی موضوع ذلک الحکم ، وأُخری بأن یکون الحکم المجعول فی الوقائع بنحو الاقتضاء ، یعنی اعتبر التکلیف والحکم فی حقّ المکلّف مطلقا ما لم یکن مقتضی الأصل أو الأمارة علی خلافه ، ومع مخالفة مقتضاهما له یکون الحکم الثابت هو مقتضی الأصل أو مدلول الأمارة ، وهذا النحو من التصویب منسوب إلی المعتزلی ، والإجزاء المتقدّم فی بعض الأُصول العملیة وإن لم نقل بالإجزاء، فلا فرق بین الإجزاء وعدمه، إلاّ فی سقوط التکلیف بالواقع بموافقة الأمر الظاهری، وعدم سقوطه بعد انکشاف عدم الإصابة، وسقوط التکلیف بحصول غرضه، أو لعدم إمکان تحصیله غیر التصویب المجمع علی بطلانه، وهو خلو الواقعة عن الحکم غیر ما أدت إلیه الأمارة، کیف؟ وکان الجهل بها _ بخصوصیتها أو بحکمها _ مأخوذاً فی موضوعها، فلا بد من أن یکون الحکم الواقعی بمرتبته محفوظاً فیها، کما لا یخفی.

الشَرح:

کما التزم به الماتن قدس سره ولو مع دعوی الطریقیة فی مفادها ، یلازم هذا النحو من التصویب ، کما أنّ الالتزام بالسببیة فی الأمارات یوجبه أیضاً ، فإنّه إذا اقتضی الأصل تحقّق قید متعلّق التکلیف وقیل إنّ الأصل المزبور حاکم علی أدلّة شرائط متعلّق التکلیف ، وأن_ّه یوجب التوسعة فیه واقعا تکون الطهارة المعتبره فی الصلاة _ فی حال الشکّ فیها _ أوسع من الطهارة الواقعیة ، وکذلک القول فی الأمارة القائمة علی الشرط بناءً علی السببیة ، وکذا فیما قامت الأمارة بناءً علیها علی تکلیفٍ مستقلٍّ ، کما إذا قامت الأمارة علی وجوب القصر مع کون الحکم المجعول الأوّلی فیه هو التمام ، فإنّه لا محالة یتقیّد وجوب التمام تعیینا فی ذلک المورد ، بما إذا لم تقم

ص :426

الأمارة علی وجوب القصر ، ومع قیامها إمّا یسقط وجوب التمام رأسا ، أو یکون وجوبه حال قیام الأمارة المزبورة تخییریا .

وبالجملة الحکم المجعول أوّلاً یتبع الصلاح والملاک ومع عدم انحصار الملاک فی وجوب التمام عند قیام الأمارة علی خلافه یکون تخصیص الوجوب التعیینی بالتمام بلا ملاک .

وبتعبیرٍ آخر : کما أنّ طریان الإکراه أو الاضطرار علی الحرام الواقعی أو ترک الواجب الواقعی یوجب انتهاء تلک الحرمة أو ذلک الوجوب ، فیکون الثابت بعد . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

طریان أحدهما الحلّیة ، کذلک قیام الأمارة المخالفة للواقع بناءً علی السببیة أو کون مفاد الأصل فی مورد علی خلافه یوجبان انتهاء الحکم الواقعی . وهذا التصویب المعتزلی یلازم القول بالسببیّة فی اعتبار الأمارات والأُصول ، کما أنّ القول بالسببیة یلازم الإجزاء ، فالتزامه قدس سره بالإجزاء فی موارد بعض الأُصول العملیة یلازم القول بالسببیة فی مفادها الموجبة للتصویب لا محالة .

نعم الالتزام بالإجزاء فی موارد بعض الأمارات _ علی ما ذکره فی التذنیب الأوّل _ لا یلازم التصویب بالنحو الأوّل ولا بالنحو الثانی ؛ لأنّ المزبور فی مواردها أنّ العمل علی مفاد الأمارة هو الذی یلازم حدوث الملاک فی الفعل لا قیام الأمارة بحکم ذلک الفعل ، فقیام الأمارة علی وجوب القصر فی مورد وجوب التمام أو علی وجوب الظهر فی مورد وجوب الجمعة لا یوجب حدوث الصلاح فی القصر أو الظهر ، کما هو مقتضی القول بالسببیة فی اعتبار الأمارة ، بل القصر والظهر بعد قیام الأمارة علی وجوبهما باقیان علی ما هما علیه من عدم الملاک ، وأنّ المصلحة الملزمة تکون فی التمام أو فی الجمعة ، إلاّ أنّ الإتیان بالقصر أو الظهر یلازم حدوث مصلحة فیها تسدّ مکان صلاح التمام أو الجمعة ، ویعبّر عن هذا الأمر بالمصلحة السلوکیة ، ولکن هذا النحو من المصلحة أیضاً یوجب التقیید فی المجعول الأوّلی بأن ینشأ الوجوب فی ذلک المورد ما دام لم یأتِ المکلف بالقصر وینشأ وجوب الجمعة مادام لم یعمل بأمارة وجوب الظهر .

وذلک لأنّ إنشاء الحکم والتکلیف بفعلٍ یکون لغرض إمکان کونه داعیا

ص :427

للمکلّف إلی العمل عند وصوله إلیه ، فالإنشاء لداعٍ آخر _ کالتعجیز والاستهزاء _ لا یدخل فی الحکم والتکلیف ، وإذا فرض عدم الملاک فی التمام بعد الإتیان . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بالصلاة قصرا أو فی الجمعة بعد الإتیان بالظهر ، یکون جعل الوجوب المتعلّق بهما مطلقا لغواً .

وقد ظهر ممّا ذکرنا أنّ الإجزاء فیما إذا أتی بفعل باعتقاد وجوبه أو قیام الأمارة علی وجوبه وإن کان لا یلازم التصویب بالنحوین ، فإنّ التصویب _ کما ذکرنا _ تغییر الحکم الواقعی فی ظرف ثبوت مدلول الأمارة أو مفاد الأصل . ومن الظاهر أنّه فی الفرض یثبت الحکم الواقعی علی ما هو علیه من غیر تغییر فی ظرف قیام الأمارة علی الخلاف ، وإنّما یکون سقوط الحکم الواقعی بعد العمل بمدلول الأمارة من أجل عدم إمکان امتثاله لا لسببٍ آخر .

وعلیه فالإلتزام بعدم وجوب الإعادة علی المسافر الجاهل بالقصر بعد ما صلّی تماماً ثمّ علم بوجوب القصر علیه ، لیس التزاما بالتصویب ، وهکذا فی مسألة الجهر فی موضع الإخفات وبالعکس ، ولکن لو قلنا بالمصلحة السلوکیة المعبّر عنها بالطریقیة المخلوطة فقد یقال إنّها أیضاً توجب التصویب لا محالة (أی التبدّل فی الحکم الواقعی) فیما لو کانت المصلحة السلوکیة بحیث یتدارک بها مصلحة الواقع ، فإنّه إذا قامت الأمارة علی وجوب صلاة الظهر یوم الجمعة ، وکان الواجب بحسب الواقع صلاة الجمعة ، وقیل بأنّ قیام الأمارة لا یوجب المصلحة فی صلاة الظهر ، بل العمل بتلک الأمارة والالتزام بأنّ مدلولها حکم من قبل الشارع ، یشتمل علی مصلحة یتدارک بها ما فات بترک الواجب الواقعی ، فإنّه مع انکشاف الخلاف قبل خروج الوقت وإن لزم الإتیان بالواجب الواقعی لعدم فوته ، إلاّ أنّه إذا لم ینکشف الخلاف إلاّ بعد الوقت لم یجب القضاء ، باعتبار أنّ مصلحة الجمعة فی الواقع متدارکة بصلاة الظهر المأتی بها بعنوان العمل بالأمارة .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فاللازم أن یکون التکلیف الواقعی متعلّقا بأحد أمرین إمّا بالجمعة أو الإتیان

ص :428

بالظهر بعنوان العمل بالأمارة مع فرض عدم انکشاف خلافها ، هذا بالإضافة إلی من قامت الأمارة عنده علی وجوب صلاة الظهر ، وأمّا فی حقّ من لم تقم عنده هذه الأمارة فالواجب فی حقّه صلاة الجمعة خاصّة ، فلیس وجوب صلاة الجمعة تعیینا بمشترک بین العالم والجاهل ، کما هو مبنی القول ببطلان التصویب حتّی المنسوب إلی المعتزلی وغیره .

لا یقال : فی موارد کشف الخلاف بعد الوقت یتدارک مصلحة الفعل فی الوقت لا مصلحة نفس الفعل ؛ لئلاّ یلزم تدارکه بالقضاء .

فإنّه یقال : لا سبیل لنا إلی العلم بتعدّد الملاک الملزم فی الفعل فی الوقت لیلتزم بوجوب القضاء مع انکشاف الخلاف فی خارج الوقت ، والأمر بالقضاء علی من فاته الواقع لایکشف عن ذلک ، فلعلّ الملاک فی الفعل خارج الوقت قد حصل بعد خروج الوقت فی حقّ من لم یدرک مصلحة الفعل فی الوقت ، ولذا من تدارک مصلحة الفعل فی الوقت لا یجب علیه العمل بالأمارة ، فیلزم علی القول بالمصلحة السلوکیة الالتزام بالإجزاء بالإضافة إلی القضاء .

وبالجملة الالتزام بالمصلحة السلوکیة یوجب التغییر والتبدّل فی الحکم الواقعی بالإضافة إلی من لا ینکشف خلاف الأمارة له أصلاً ، أو حتّی فیما إذا انکشف خلافها عنده بعد خروج الوقت ، کما فی فرض وحدة الملاک الملزم فی الفعل فی الوقت وحدوث ملاک ملزمٍ آخر فی ذات الفعل بعد خروجه فی حقّ من فات عنه الملاک الملزم الذی کان فی الفعل فی الوقت لا مطلقا ، کما لا یخفی .

فقد تحصّل أنّ القول بالإجزاء یوجب التقیید فی التکلیف الواقعی بعدم الإتیان . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بمؤدّی الأمارة فیما إذا لم یمکن تدارک مصلحة الواقع بعد العمل بها من غیر أن یکون فی العمل بها مصلحة شخصیة، وإلاّ لزم التبدّل والتغیّر فی الحکم الواقعی کما مرّ.

ولا یخفی أیضاً أنّه إنّما یلزم من الالتزام بالإجزاء تقیید الحکم الواقعی بعدم العمل بمدلول الأمارة المخالفة فیما إذا التُزم بالإجزاء فی مورد کشف الخلاف وجدانا، کما فی مسألة التمام فی موضع القصر والإخفات أو الجهر فی موضع الآخر.

وأمّا إذا التزمنا بالإجزاء فی خصوص کشف الخلاف بأمارة معتبرة ، کما فی

ص :429

موارد تبدّل الفتوی ، أو عدول العامی إلی مجتهدٍ آخر ، فلا یلزم من الالتزام بالإجزاء التقیید فی التکلیف الواقعی أصلاً ، فإنّ معنی الإجزاء فی هذه الموارد بقاء الأمارة السابقة علی اعتبارها بالإضافة إلی الأعمال السابقة وعدم اعتبار الأمارة الحادثة إلاّ بالإضافة إلی الأعمال الآتیة ؛ ولذا لو کان کشف الخلاف فی الأمارة السابقة وجدانا کان یجب تدارک العمل السابق والعمل علی الوظیفة الواقعیة .

لا یقال : من أین علمنا أنّ الأحکام الواقعیة فی الوقائع والتکالیف الشرعیة المجعولة فی حقّ المکلّفین لم تقیّد بعدم الإتیان بمؤدیّات الطرق والأمارات القائمة علی خلافها ، حتّی نلتزم بلزوم التدارک ، فیما إذا انکشف الخلاف مطلقاً ، أو فی خصوص الإنکشاف الوجدانی ؟

فإنّه یقال : نکتشف عدم التقیید من الأوامر الواردة بالاحتیاط فی الدین والوقائع المبتلی بها ، حتّی مع قیام الأمارة فیها علی تعیین الأحکام والتکالیف بنحو خبر العدل والثقة وغیرهما ، مما یحتمل مخالفتها مع الواقع ، کما یأتی الکلام فی ذلک فی بحث شرائط العمل بالأصل إن شاء اللّه تعالی ، کما أنّ إطلاق هذه الأخبار ینفی التصویب حتّی المنسوب منه إلی المعتزلی .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بقی فی المقام أمرٌ وهو أنّ ما ذکره الماتن قدس سره من عدم فعلیة الحکم الواقعی فی مورد قیام الأمارة علی خلافه _ سواء قیل بالإجزاء أم لا _ ینافی ما اختاره فی الجمع بین الحکم الظاهری والواقعی فی مبحث حجیة الامارات. وقد ذکرنا أنّ الفعلیة بالمعنی الذی التزم به وجعلها من مراتب الحکم أمرٌ غیر صحیح، ولیست الفعلیة فی التکلیف المجعول علی نحو القضیة الحقیقیة إلاّ تحقّق الموضوع لذلک التکلیف المجعول خارجا، وبینّا أنّ الفعلیة فی التکلیف الواقعی مع جهل المکلّف به لا ینافی الحکم الظاهری، حیث إنّ الحکم واقعیا کان أو ظاهریا ، مجعول اعتباری یکون منافاته مع المجعول الآخر، إمّا فی الملاک أو فی الغرض من الجعل، والحکم الظاهری والواقعی یختلفان فی الغرض ولا یتنافیان فی الملاک، ولتفصیل الکلام مقام آخر.

ص :430

فصل

فی مقدمة الواجب

وقبل الخوض فی المقصود، ینبغی رسم أمور:

الأول: الظّاهر أنّ المهم المبحوث عنه فی هذه المسألة، البحث عن الملازمة [1] بین وجوب الشیء ووجوب مقدمته، فتکون مسألة أصولیة، لا عن نفس وجوبها، کما هو المتوهم من بعض العناوین، کی تکون فرعیة، وذلک لوضوح الشَرح:

مقدمة الواجب

:

[1] المبحوث عنه فی هذه المسألة هی الملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدّمته ، وأنّ التفکیک بین إیجاب شیء وإیجاب مقدّمته ممتنع أم لا ، ولیس المراد من وجوب المقدّمة وجوبها المولوی التفصیلی ، بأن یکون القائل بوجوبها مدّعیا عدم تحقّق الأمر بشیء إلاّ مع الأمر بمقدّمته أیضاً ، لیقال کثیرا ما لا یکون الآمر عند أمره بشیءٍ ملتفتاً إلی مقدّمته ، فضلاً عن أمره بها أیضاً . بل المراد الوجوب المولوی الارتکازی ، بمعنی أنّ الآمر علی تقدیر لحاظ مقدّمة الشیء هل یعتبر الوجوب لها أیضاً أم لا ؟ ویعبّر عن هذا الوجوب بالتبعی وهو علی تقدیر ثبوته غیری ، بمعنی أنّ تعلّقه بما ینطبق علیه عنوان مقدّمة الواجب یکون لغرض الوصول بها إلی ذلک الواجب ، لا لتعلّق غرض بنفسها مع الإغماض عن ذیها .

وحیث إنّ نتیجة البحث عن الملازمة تقع فی طریق الاستنباط تکون المسألة أن البحث کذلک لا یناسب الأصولی، والاستطراد لا وجه له، بعد إمکان أن یکون البحث علی وجه تکون عن المسائل الأصولیة.

ثمّ الظّاهر أیضاً أنّ المسألة عقلیة، والکلام فی استقلال العقل بالملازمة وعدمه، لا لفظیة کما ربّما یظهر من صاحب المعالم، حیث استدلّ علی النفی الشَرح:

أُصولیة ؛ إذ بناءً علی الملازمة یکون ثبوتها موجبا للعلم بوجوب الوضوء ونحوه فی

ص :431

قیاس استثنائی ، فیقال :

لو کان الشیء واجبا وجبت مقدّمته أیضاً، ولکنّ الصلاة تجب عند الزوال فتجب مقدّمتها أیضاً من الوضوء وتحصیل الساتر وتطهیر الثوب والبدن إلی غیر ذلک.

وظاهر بعض عبارات الأصحاب أنّ المبحوث عنه فی المسألة نفس وجوب المقدّمة لا الملازمة بین وجوب ذیها ووجوبها ، حیث ذکر فی عنوان البحث أنّ ما لا یتمّ الواجب إلاّ به ، واجب ، وعلیه لا تکون المسألة أُصولیة ، بل تکون فرعیّة ، فإنّ البحث عن وجوب المقدّمة کالبحث عن وجوب الوفاء بالنذر ، ووجوب طاعة أمر الوالد وغیرها من المسائل الفرعیة .

وقد ذهب السیّد الأُستاذ قدس سره إلی أنّ البحث فی مقدّمة الواجب من المبادئ الاحکامیّة(1) .

وفیه : أنّ المبادئ إمّا تصوّریة أو تصدیقیّة ، والأُولی هی التی یکون البحث فیها عن نفس موضوعات مسائل العلوم أو محمولاتها ، کالبحث عن المراد من الفاعل أو المفعول أو الحال أو التمییز من موضوعات مسائل علم النحو ، أو البحث عن المراد من الرفع أو النصب من محمولاتها .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

والثانیة _ یعنی المبادئ التصدیقیة _ هی التی یحرز بها ثبوت المحمولات فی مسائل العلم لموضوعاتها ، وبتعبیرٍ آخر : بما أنّ مسائل العلم نظریة تحتاج إلی الواسطة فی الإثبات _ کنتائج المسائل الأُصولیة بالاضافة الی المسائل الفقهیة _ فتکون نتائج مسائل علم الأُصول وسائط فی إثبات المسائل الفقهیة .

فإن أُرید أنّ البحث فی المقدمة من المبادئ التصدیقیة لعلم الفقه فهو صحیح ، کما هوالحال فی جمیع المسائل الأُصولیة ، وإن أُرید من المبادئ الأحکام المبادئ التصوّریة لعلم الفقه ، أو معنیً آخر مستقلاًّ عنهما ، فلا یمکن المساعدة علیه ، بل لا نتصوّر للمبادئ الاحکام معنی فی مقابل المبادئ التصوریة والتصدیقیة .

نعم ، بناءً علی ما اشتهر بینهم ، والتزم به الماتن قدس سره ، من أنّ مسائل العلوم تکون

ص :432


1- (1) نهایة الأُصول : 1 / 142 .

بمفاد کان الناقصة ، حیث یبحث فی مسائل العلم عن العوارض الذاتیة لموضوع العلم المنطبق علی موضوعات مسائله ، انطباق الکلی علی مصداقه والطبیعی علی فرده ، یشکل جعل بحث الملازمة بین إیجاب شیءٍ وإیجاب مقدّمته من مسائل علم الأُصول ، فإنّ الملازمة إن کانت بعینها حکم العقل فیکون البحث عن ثبوت الملازمة بحثا بمفاد کان التامّة ، حیث یبحث عن ثبوت موضوع علم الأُصول الذی عدّ منه حکم العقل أو عن ثبوت مصداقه وإن کانت أمراً واقعیا یکشف عنه العقل ، فیمکن أن یتکلّف فی المقام بأنّ البحث عنها بحث عن کشف العقل عن ذلک الأمر الواقعی، ولکن المذکور فی عنوان البحث الذی هو المعیار فی دخول المسألة فی مسائل العلم هو البحث عن أصل ثبوت الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته.

وأمّا بناءً علی ما ذکرنا _ من أنّ المعیار فی کون مسألة من مسائل العلم هو ترتّب الغرض منه علیها ، سواء کان البحث فیها بمفاد کان التامّة أو الناقصة _ فلا کلام فی بانتفاء الدلالات الثلاث، مضافاً إلی أن_ّه ذکرها فی مباحث الألفاظ، ضرورة أنّه إذا کان نفس الملازمة بین وجوب الشیء ووجوب مقدمته ثبوتاً محل الاشکال، فلا مجال لتحریر النزاع فی الإثبات والدلالة علیها بإحدی الدلالات الثلاث، کما لا یخفی.

الشَرح:

کون البحث فی المقام بحثا عن مسألة أُصولیة ، وقد تقدّم ترتّب استنباط الحکم الشرعی علی نتیجة المسألة فی قیاس استثنائی .

ومنه ظهر أنّ المسألة لیست من مباحث الألفاظ من علم الأُصول ، کدلالة صیغة الأمر أو مادّته علی الوجوب أو الفور أو المرة ، بل المسألة عقلیة وأنّ الکلام فی ثبوت الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته بمعنی أنّ العقل هل یری إمکان تفکیک المولی وجوب الشیء عن وجوب مقدّمته أو لا ؟ فلا تکون المسألة من مباحث الألفاظ ، کما یظهر من کلام صاحب المعالم قدس سره ، حیث استدلّ علی نفی الملازمة بانتفاء الدلالات الثلاث ، وذکرها فی مباحث الألفاظ .

وبالجملة ، فالمهمّ فی المقام هو البحث عن الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته فإنّ ثبوتها موجب للعلم بوجوب مثل الوضوء عند وجوب الصلاة علی ما مرّ ، وأمّا الدلالة اللفظیة فلا یترتّب علی انتفائها عدم وجوب الوضوء عند

ص :433

وجوب الصلاة ؛ لإمکان ثبوت الملازمة بین إیجاب شیءٍ وإیجاب مقدّمته من غیر دلالة لفظیة لخطاب الأمر بذی المقدّمة علی وجوب مقدّمته ، بل للملازمة ، ومعها تکون المقدّمة واجبة بوجوب ذیها . ولو کان ثبوت الملازمة بین الإیجابین محلّ مناقشةٍ ، فاللازم هو البحث عنها لترتّب المطلوب من المسألة الأُصولیة علیها ، لا البحث عن ثبوت الدلالة اللفظیة للأمر بذی المقدّمة أو عدمها ، بل عدم دلالة الأمر بشیء علی وجوب مقدّمته بالدلالة اللفظیة أمرٌ واضح لا ینبغی البحث عنه .

الأمر الثّانی: إنّه ربّما تقسم المقدمة إلی تقسیمات:

منها: تقسیمها إلی داخلیة [1] وهی الأجزاء المأخوذة فی الماهیة المأمور بها، والخارجیة وهی الأمور الخارجة عن ماهیته ممّا لا یکاد یوجد بدونه.

وربّما یشکل فی کون الأجزاء مقدمة له وسابقة علیه، بأن المرکب لیس إلا نفس الأجزاء بأسرها.

الشَرح:

المقدمة الداخلیة والخارجیة

:

[1] المراد بالمقدّمة الداخلیة هی الداخلة فی متعلّق الوجوب النفسی ، کأجزاء المرکّب المتعلّق به الوجوب . والخارجیة هی الخارجة عن ذلک المتعلّق ، کالشرائط . ویقع الکلام فی هذا الأمر من جهتین :

الأُولی: هل أجزاء المرکّب مقدّمة له ، أو أنّ الجزء بالإضافة إلی کلّه لا یتصّف بالمقدّمة ؟

والثانیة: أنّه علی تقدیر کون الجزء مقدّمة للکلّ ، فهل یتعلّق به الوجوب الغیری ، بناءً علی الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدمته ، أو أنّ المقدّمة الداخلیة لا یتعلّق بها الوجوب الغیری ، حتّی بناءً علی الملازمة ؟

وقد تعرّض قدس سره لما قیل فی الجهة الأُولی من منع کون الجزء مقدّمة للکلّ ، بأنّ کون شیءٍ مقدّمة والآخر ذا المقدّمة مقتضاه الإثنینیّة والتعدّد بینهما ، حیث تکون المقدمة سابقة فی التحقّق علی ذیها والحال أنّ الکلّ بحسب الخارج عین الإجزاء فلا إثنینیة بینهما .

وأجاب عن ذلک بأنّه لا یعتبر فی التعدّد بینهما التعدد الخارجی بأن یکون للمقدّمة وجود ولذیها وجود آخر ، بل یکفی التعدّد الاعتباری ، وهذا التعدّد متحقّق

ص :434

والحل: إن المقدمة هی نفس الأجزاء بالأسر، وذو المقدمة هو الأجزاء بشرط الإجتماع، فیحصل المغایرة بینهما، وبذلک ظهر أن_ّه لابدّ فی اعتبار الجزئیة أخذ الشیء بلا شرط، کما لابد فی اعتبار الکلیة من اعتبار اشتراط الإجتماع.

وکون الأجزاء الخارجیة کالهیولی والصورة، هی الماهیة المأخوذة بشرط لا ینافی ذلک، فإنّه إنّما یکون فی مقام الفرق بین نفس الأجزاء الخارجیة والتحلیلیة، من الجنس والفصل، وأن الماهیة إذا أخذت بشرط لا تکون هیولی أو صورة، وإذا أخذت لا بشرط تکون جنساً أو فصلاً، لا بالإضافة إلی المرکب، فافهم.

الشَرح:

بین الجزء والکلّ ، حیث إنّ الکلّ هو الجزء بشرط سائر الأجزاء ، والمقدّمة هی الأجزاء لا بشرط ، وبما أن_ّه قد یتوهّم أنّ هذا الفرق بین الکلّ والجزء ینافی ما ذکر فی المعقول من أنّ جزء الطبیعی مع اعتباره «لا بشرط» یکون جزءا تحلیلیّا ، کالجنس والفصل ، ومع اعتباره «بشرط لا» یکون جزءا خارجیا ، کالهیولی والصورة ، تعرّض قدس سره لدفع هذا الوهم بما حاصله :

أنّ ما ذکر فی المعقول من اعتبار الجزء الخارجی «بشرط لا» إنّما هو فی مقام التفرقة بینه وبین الجزء التحلیلی للماهیة کالجنس والفصل ، وما ذکرناه من أنّ الجزء الخارجی «لا بشرط» هو فی مقام التفرقة بینه وبین الکلّ ، حیث إنّ الجزء بالإضافة إلی کلّه یکون «لا بشرط» ومع اختلاف الإضافة لا یکون فی البین تنافٍ ، وقد تقدّم فی بحث المشتقّ بیان المراد من قولهم «لا بشرط» و«بشرط لا» وأنّ مرادهم من «لا بشرط» و«بشرط لا» هناک بالإضافة إلی الحمل ، والمراد هنا بشرط سائر الأجزاء لا بشرط یکون جزءاً بالإضافة إلی الاجتماع .

أضف إلی ذلک أنّ الکلام فی المقام فی المرکّبات الاعتباریة لا الحقیقیة لینافی ما ذکروه فیالتفرقة بین الجنس والفصل وبین الهیولی والصورة «بلا شرط» ثمّ لا یخفی أنّه ینبغی خروج الأجزاء عن محلّ النزاع [1]، کما صرّح به بعض وذلک لما عرفت من کون الأجزاء بالأسر عین المأمور به ذاتاً، وإنّما کانت المغایرة بینهما اعتباراً، فتکون واجبة بعین وجوبه، ومبعوثاً إلیها بنفس الأمر الباعث إلیه، فلا تکاد تکون واجبة بوجوب آخر، لامتناع اجتماع المثلین، ولو قیل بکفایة تعدد الشَرح:

ص :435

و«بشرط لا» . ولعلّه یشیر إلی ذلک بقوله «فافهم».

[1] ذکر قدس سره أنّ الجزء وإن کان مقدّمة للکلّ إلاّ أنّه ینبغی خروجه عن محلّ الخلاف فی بحث الملازمة بین وجوب فعل ووجوب مقدّمته ، حیث إنّه لا یتعلّق به الوجوب الغیری ولو علی الملازمة ، لما تقدّم من أنّ الأجزاء عین الکلّ ذاتا ، والاختلاف بینها وبین الکلّ بالاعتبار ، فیکون الوجوب النفسی المتعلّق بالکلّ متعلّقاً بنفس الأجزاء ، فلا تکون واجبة بوجوبٍ آخر ؛ لامتناع اجتماع المثلین ، حتّی علی بناءً جواز اجتماع الأمر والنهی فی واحدٍ بعنوانین.

وذلک لأنّ الجهة المصحّحة للاجتماع _ کما سیأتی _ هی الجهة التقییدیة ، فمع تعدّدها _ بأن یکون فی فعلٍ جهتان _ جاز أن یتعلّق به الأمر من جهة ، والنهی من جهةٍ أُخری ، ولیس عنوان المقدّمة عنوانا تقییدیا ؛ لأنّ الوجوب الغیری لا یتعلّق به ، حیث إنّ ذا المقدّمة لا یتوقّف علی تحقّق عنوان المقدّمة ، بل علی ما یکون بالحمل الشائع مقدّمة ، کالوضوء والغسل وتحصیل الساتر بالاضافة إلی الصلاة . وبما أنّ الجزء یتعلّق به الوجوب النفسی فی ضمن تعلّقه بالکل ، لسبقه علی الوجوب الغیری ، فلا یمکن أن یتعلّق به الوجوب الغیری للزوم اجتماع المثلین ، نعم عنوان المقدّمة جهة تعلیلیة ، یعنی انطباق عنوان المقدّمة علی شیء یوجب تعلّق الأمر الغیری به لولا المحذور .

وبالجملة وحدة تعلّق الأمر النفسی والغیری مانعة عن تعلّق الوجوبین بالجزء ، الجهة، وجواز اجتماع الأمر والنّهی معه، لعدم تعددها ها هنا، لأنّ الواجب بالوجوب الغیری، لو کان إنّما هو نفس الأجزاء، لا عنوان مقدمیتها والتوسل بها إلی المرکب المأمور به، ضرورة أن الواجب بهذا الوجوب ما کان بالحمل الشائع مقدمة، لأن_ّه المتوقف علیه، لا عنوانها، نعم یکون هذا العنوان علة لترشح الوجوب علی المعنون.

الشَرح:

وبما أنّ الأمر النفسی سابق فی المرتبة علی الوجوب الغیری ، یتعلّق به الأمر النفسی فقط دون الغیری حتّی مع ثبوت ملاک الأمر الغیری أیضاً فیه .

أقول : محصّل کلامه فی المقام أنّ المقدّمة للکلّ نفس الأجزاء ، ولکن لم یلاحظ فیها وصف اجتماعها لا أن_ّه لا یکون لها اجتماع ، وذو المقدّمة هو الکلّ ،

ص :436

یعنی الأجزاء بلحاظ اجتماعها ، وعبّر عن فرض عدم لحاظ الاجتماع بلا بشرط ، وعن لحاظ الاجتماع بشرط شیء ، وعلیه فیکون للکلّ المتألّف من عشرة أجزاء ، عشر مقدّمات داخلیة ؛ لتوقّف الکلّ علی کلٍّ منها ، ولکن مع ذلک لا یتعلّق بها الوجوب الغیری ؛ للزوم اجتماع المثلین من تعلّقه بها .

لکن الصحیح أنّ الأجزاء لا تکون مقدّمة لحصول الکلّ ، بل الأجزاء عین الکلّ خارجا ، والمقدّمة تقتضی الاثنینیة الخارجیة ؛ وذلک لأنّ الإنسان إذا أراد فعلاً وتوقّف حصول ذلک الفعل علی أمرٍ آخر فی الخارج تتولّد من إرادته لذلک الفعل إرادة أُخری تتعلّق بذلک الأمر ، فیأتی به بداعویة الإرادة المتولدة من إرادته لذلک الفعل ، فتکون إرادة الفعل أصلاً ومنشأً للإرادة المتعلّقة بذلک الأمر ، وبناءً علی الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته ، حیث إنّ الفعل یتوقّف حصوله خارجا علی أمرٍ آخر ، تکون الإرادة الطلبیة من المولی المتعلّقة بفعل ، منشأً لإرادته الطلبیة الأُخری المتعلّقة بذلک الأمر الموقوف علیه ، وهذا التوقّف الخارجی الموجب فانقدح بذلک فساد توهم اتصاف کلّ جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسی والغیری، باعتبارین، فباعتبار کونه فی ضمن الکل واجب نفسی، وباعتبار کونه ممّا یتوسل به إلی الکل واجب غیری، اللّهمّ إلا أن یرید أن فیه ملاک الوجوبین، وإن کان واجباً بوجوب واحد نفسی لسبقه، فتأمل.

الشَرح:

لحصول إرادةٍ أُخری من إرادة الفعل ، هو الموجب لتعدّد طلب المولی ، فهناک طلبان ؛ أحدهما بالأصالة والآخر بالتبعیة ، ومن الظاهر أنّ موارد الکلّ والجزء لا تکون من هذا القبیل ؛ إذ من یرید الإتیان بالکلّ یأتی بالأجزاء بنفس تلک الإرادة المتعلّقة بالکلّ ، حیث إنّ الکلّ نفس تلک الأجزاء ، فیکون الحال فی الطلب المولوی المتعلّق بالکلّ أیضاً کذلک ، حیث لا یکون فی البین موجب لتولّد طلبٍ آخر یتعلق بالأجزاء ، فإنّ الأجزاء عین الکلّ ، ولا یؤتی بها إلاّ بإرادة الکلّ لا بإرادةٍ أُخری ، وإن شئت قلت : تکون الإرادة بالإضافة إلی کلّ جزءٍ ضمنیة لا غیریة ، فیکون طلبها أیضاً ضمنیا ، فما ذکره قدس سره من حصول ملاک الوجوب الغیری فی الأجزاء أیضاً ، لکون الجزء مقدّمة لحصول الکلّ ، لا یمکن المساعدة علیه بوجه .

والعجب أنّه قدس سره أنکر علی من زعم أنّ الإتیان بالفرد مقدّمة للإتیان بالطبیعی ،

ص :437

وذکر أنّ الطبیعی عین الفرد ولا معنی للمقدّمیة ، مع أنّ الاختلاف بین الطبیعی وفرده اعتبارا أوضح من اختلاف الأجزاء مع الکلّ ؛ لصدق الطبیعی علی غیر المأتی به ، بخلاف الکلّ فإنّه لا یکون إلاّ عین الأجزاء ولا یصدق علی غیرها ، وکما أنّ الموجد للفرد یأتی به بنفس الإرادة المتعلّق منه بالإتیان بالطبیعی ، کذلک الحال بالإضافة إلی الآتی بالمرکّب.

ولو أُغمض عن ذلک وبُنی علی أنّ الجزء مقدّمة للکلّ وفیه ملاک الوجوب الغیری أیضاً وأنّه لا یمکن اجتماع المثلین ، فلم لا یلتزم بتعلّق وجوب واحد مؤکّد ، . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

نظیر سائر الموارد التی یکون فی الفعل ملاکین لوجوبین ، فاجتماع الوجوبین بالمعنی الذی ذکره غیر لازم ، وبمعنی التأکّد لا محذور فیه ، بل هو واقع کثیرا ، کما إذا نذر المکلّف الإتیان بفریضته الیومیة ، فإنّ مع النذر یتأکّد وجوبها لا محالة .

وما قیل من أنّ التأکّد مع اختلاف الرتبة لا یمکن، فهو کما تری ، إذ اختلاف ملاک الحکمین فی الزمان _ بمعنی عدم إمکان اجتماعهما _ ینافی التأکّد ، وأمّا اختلافهما فی الرتبة فلا یمنع التأکّد.

أضف إلی ذلک أنّ الإیجاب وغیره من الأحکام أمر اعتباری لا یجری فیه مسألة اجتماع المثلین أو الضدّین ، ولا یکون من العرض بالإضافة إلی متعلّقه وموضوعه ، بل إن کان عرضا فهو من فعل المولی ، وإنّما لا یمکن اعتبار حکمین علی متعلّقٍ واحدٍ باعتبار تنافی ملاکهما ، حیث إنّ الحکم یحتاج إلی ملاک غالب أو خالص فی متعلّقه أو من ناحیة الغرض من جعلهما ؛ ولذا لا یمکن ثبوت حکمین متضادّین فی متعلّقٍ واحد یکون تضادّهما من حیث الملاک والغرض ، وأمّا إذا لم یکن فی ناحیة الملاکین تناف ، ولا فی ناحیة الغرض تضاد ، فلا مانع من اعتبارهما کما فی مسألة نذر الفریضة.

ثمّ إنّه قد یقال إنّه یترتب علی تعلّق الوجوب الغیری بالجزء _ کتعلّقه بسائر المقدّمات _ انحلال العلم الإجمالی بالتکلیف عند دوران أمر الواجب بین الأقل والأکثر الارتباطیین ، کما إذا دار أمر الصلاة بین کون أجزائها تسعة أو عشرة ، فإنّه علی القول بتعلّق الوجوب الغیری بالأجزاء ینحّل العلم الإجمالی إلی علمٍ تفصیلی

ص :438

بوجوب التسع ، إمّا نفسیّا أو غیریّا ، کما هو ظاهر کلام الشیخ الأنصاری قدس سره فی ذلک هذا کله فی المقدمة الداخلیة، وأم_ّا المقدمة الخارجیة، فهی ما کان خارجاً عن المأمور به، وکان له دخل فی تحققه، لا یکاد یتحقق بدونه، وقد ذکر لها أقسام، وأطیلَ الکلامُ فی تحدیدها [1] بالنقض والإبرام، إلاّ أن_ّه غیر مهم فی المقام.

ومنها: تقسیمها إلی العقلیة والشرعیة والعادیة:

فالعقلیة هی ما استحیل واقعاً وجود ذی المقدمة بدونه.

والشرعیة علی ما قیل: ما استحیل وجوده بدونه شرعاً، ولکنه لا یخفی

الشَرح:

البحث ویکون وجوب الزائد مشکوکا .

ولکن لا یخفی أنّ الأجزاء متعلّقة للوجوب الضمنی لا محالة ، فیکون تعلّق الوجوب بالأقلّ محرزا ؛ إذ هی إمّا نفس متعلّق الوجوب النفسی إذا کان الواجب هو الأقلّ ، أو نفس متعلّق الوجوب الضمنی إذا کان الواجب هو الأکثر ، ولو کان هذا المقدار من المعلومیة موجباً لانحلال العلم لما کان حاجة إلی ثبوت الأمر الغیری بها ، وإن لم یکن کافیا فلا یفید فی الانحلال الالتزام بتعلّق الوجوب الغیری بالأجزاء ؛ لما ذکروا من أنّ الوجوب الضمنی أو الغیری یکون فعلیته بفعلیة الوجوب المتعلّق بالواجب النفسی لو کان ذلک هو الأکثر ، ولو کان فعلیة الوجوب المتعلّق بالأقلّ موجبا لعدم فعلیة الوجوب النفسی إذا کان متعلّقا بالأکثر لزم الخلف .

مع أن_ّه یلزم من الانحلال المزبور عدم الانحلال ، وذلک فإنّ فعلیة وجوب الأقلّ علی کلّ تقدیرٍ یستلزم عدم فعلیة الوجوب النفسی لو کان متعلّقا بالأکثر ، وعدم فعلیته یوجب أن لا یکون وجوب الأقل فعلیّا علی کلّ تقدیر المستلزم لعدم الانحلال ، وما یلزم من وجوده عدمه محال .

[1] قد ذکر فی أقسام المقدّمة الخارجیة السبب والمقتضی والشرط وعدم المانع ، وأُطیل الکلام فی تعریف کلٍّ منها ، کما فی القوانین وغیرها ، إلاّ أنّه لا یترتّب . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

المهمّ _ وهو ثبوت الملازمة بین وجوب شیءٍ ووجوب مقدّمته _ علی تحقیق الفرق بین السبب والشرط والمانع .

ص :439

المقدّمة العقلیة والشرعیة والعادیّة

:

ومن تقسیمات المقدّمة ، تقسیمها إلی شرعیة وعقلیة وعادیة .

أمّا المقدّمة الشرعیة فهی ما یتوقّف الواجب علی أمرٍ لکون التقیّد به مأخوذا فی الواجب النفسی ، کالطهارة بالإضافة إلی الصلاة ، فإنّ الطهارة بنفسها وإن لم تؤخذ فی متعلّق الأمر بالصلاة إلاّ أنّ تقیّد الصلاة بها داخل فی تعلّق الأمر ، وتکون نفس الطهارة مقدّمة خارجیة شرعیة لتوقّف الصلاة المأمور بها علیها شرعا ، ولکن لا یخفی أن_ّه بعد فرض أخذ التقیّد بالطهارة فی متعلّق الأمر بالصلاة یکون توقّف الصلاة المأمور بها علیها عقلیا لانتفاء المشروط والمقیّد بانتفاء شرطه وقیده عقلاً .

وأمّا المقدّمة العقلیة فهی ما یتوقّف الواجب النفسی علی أمرٍ من غیر أن یکون مأخوذا فیه لا بنفسه ولا بتقیّده ، کتوقّف الحجّ من النائی علی السفر ، ویطلق علی السفر المقدّمة الخارجیة العقلیة .

وأمّا المقدّمة العادیّة فإن أُرید بها ما لا یتوقّف الواجب علیها عقلاً ، بأن أمکن الإتیان بالواجب فعلاً بدونها ، ولکن قد جرت العادة علی الإتیان بها قبل الواجب ، کالأکل والشرب قبل الفجر بالإضافة إلی صوم الغد ، فلا وجه لإدخالها فی محلّ الکلام فی المقام ، فإنّه لا یتعلّق به الوجوب المولوی حتّی بناءً علی القول بالملازمة ؛ لعدم کونها ممّا یتوقّف علیه الواجب .

وإن أُرید منها ما لا یکون الإتیان بالواجب بدونها ممتنعا ذاتا ، ولکنّ الواجب رجوع الشرعیة إلی العقلیة، ضرورة أن_ّه لا یکاد یکون مستحیلاً ذلک شرعاً، إلاّ إذا أخذ فیه شرطاً وقیداً، واستحالة المشروط والمقید بدون شرطه وقیده، یکون عقلیاً.

وأم_ّا العادیة، فإن کانت بمعنی أن یکون التوقف علیها بحسب العادة، بحیث یمکن تحقق ذیها بدونها، إلاّ أنّ العادة جرت علی الاتیان به بواسطتها، فهی وإن کانت غیر راجعة إلی العقلیة، إلاّ أن_ّه لا ینبغی توهم دخولها فی محل النزاع، وإن کانت بمعنی أن التوقف علیها وإن کان فعلاً واقعیاً، کنصب السلم ونحوه للصعود علی السطح، إلاّ أن_ّه لأجل عدم التمکن من الطیران الممکن عقلاً فهی أیضاً راجعة إلی العقلیة، ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلاً لغیر الطائر فعلاً، وإن کان طیرانه ممکناً ذاتاً، فافهم.

ص :440

الشَرح:

موقوف علیها فعلاً ، کنصب السلّم للصعود علی السطح لغیر المتمکّن من الطیران ، وهو الإنسان الموجود المکلّف بالفعل ، فهذا القسم داخل فی المقدّمة العقلیة لامتناع تحقّق الصعود أو الکون علی السطح للإنسان فعلاً بدون نصب السلّم ، ولا فرق بین الکون علی السطح الموقوف علی نصب السلّم وبین المشی إلی الحجّ من النائی .

وبالجملة تنحصر مقدّمة الواجب بالعقلیة ، غایة الأمر کون شیء مقدّمة عقلیة له تارة ینشأ من تقیّد الواجب النفسی بذلک الشیء ، کما فی توقف الصلاة المأمور بها علی الطهارة ، وأُخری من توقّف الواجب النفسی علی ذلک الشیء خارجا من غیر أن یؤخذ فی الواجب تقیّده به ، کالحجّ بالاضافة إلی سفر النائی .

ص :441

ومنها: تقسیمها إلی مقدمة الوجود، ومقدمة الصحة، ومقدمة الوجوب، ومقدمة العلم [1].

لا یخفی رجوع مقدمة الصحة إلی مقدمة الوجود، ولو علی القول بکون الأسامی موضوعة للأعم، ضرورة أنّ الکلام فی مقدمة الواجب، لا فی مقدمة المسمی بأحدها، کما لا یخفی.

الشَرح:

المقدّمة الوجودیة والعلمیة و...

:

[1] لا یخفی أنّ مقدّمة الصحّة ترجع إلی مقدّمة الوجود ، ولو علی القول بأن أسامی العبادات موضوعة للأعمّ ، فإنّ الکلام فی المقام فی مقدمات الواجب لا فی مقدّمات المسمّی بأحد تلک الألفاظ .

وإذا کان التقیّد بالطهارة مأخوذا فی متعلّق الوجوب النفسی ، تکون الطهارة بنفسها من مقدّمات وجود الصلاة المأمور بها کما مرّ ، وهذا الکلام بناءً علی ما ذکرنا فی بحث التعبدی والتوصلی من إمکان أخذ قصد التقرّب فی متعلّق الأمر بالصلاة _ مثلاً _ صحیح ، فإنّه علیه تنحصر مقدّمة الواجب بمقدّمة الوجود .

وأمّا بناءً علی ما سلکه الماتن قدس سره وغیره من امتناع أخذ قصد التقرّب فی متعلّق الأمر بها تکون مقدّمة الصحّة غیر مقدّمة الوجود لا محالة ، ویتعیّن تقسیم المقدّمة إلی مقدّمة الوجود وإلی مقدّمة الصحّة ، حیث یمکن للقائل بالملازمة نفی الملازمة بین وجوب شیء ومقدّمة صحّته والإلتزام بها فی خصوص مقدّمة الوجود کما علیه الماتن قدس سره أیضاً ، فلا وجه لاعتراضه علی التقسیم المزبور . نعم ما ذکر فی کلماتهم مثالاً لمقدّمة الصحّة من الشرائط محلّ نظر ، بل منع .

وعلی کلّ حالٍ ، فمقدّمة الوجوب خارج عن مورد الکلام فی المقام ، فإنّه ولا إشکال فی خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع، وبداهة عدم اتصافها بالوجوب من قبل الوجوب المشروط بها، وکذلک المقدمة العلمیة، وإن استقل العقل بوجوبها، إلاّ أن_ّه من باب وجوب الإطاعة إرشاداً لیؤمن من العقوبة علی مخالفة الواجب المنجز، لا مولویاً من باب الملازمة، وترشح الوجوب علیها من قبل وجوب ذی المقدمة.

الشَرح:

ص :442

لا یمکن أن یتعلّق الوجوب الغیری بتلک المقدّمة ، حیث لا وجوب للواجب النفسی إلاّ علی تقدیر حصولها ، وتعلّق الوجوب بها بعد حصولها من طلب الحاصل .

وکذلک مقدّمة العلم بحصول الواجب ، فإنّ لزوم مقدّمة العلم لا یبتنی علی الملازمة بین وجوب شیء وجوب مقدّمته ، حیث إنّ اللزوم فی مقدّمة العلم عقلی لا شرعی ، وملاک اللزوم العقلی فیها غیر ملاک الوجوب الشرعی الغیری لمقدّمة الوجود ، فإنّ المقدّمة العلمیة لا تکون مقدّمة لوجود الواجب ضرورة أنّ الصلاة إلی القبلة _ مثلاً _ لا تتوقّف علی الإتیان بها إلی جهتین فی مورد اشتباه القبلة فیها ، بل إحراز الإتیان بالصلاة إلی القبلة موقوف علی تکرارها بالإتیان إلیهما ، وتحصیل العلم بالإتیان بالمأمور به لازم عقلاً ؛ للأمن من العقاب ، فیکون أمر الشارع به کأمره بالإطاعة لمجرّد الإرشاد إلی ما یستقلّ به العقل فی مقام الامتثال من لزوم إحراز سقوط التکلیف والفرار من العقاب المحتمل ، بخلاف الوجوب الشرعی لمقدّمة وجود الواجب ، فإنّه منبعث من وجوب الواجب النفسی علی ما تقدّم ، وملاکه المقدمیة فی الوجود والتحقّق ، کما لا یخفی .

ص :443

ومنها: تقسیمها إلی المتقدّم، والمقارن، والمتأخر، بحسب الوجود بالإضافة إلی ذی المقدمة [1]، وحیث إنّها کانت من أجزاء العلة، ولا بد من تقدمها بجمیع أجزائها علی المعلول أشکل الأمر فی المقدمة المتأخرة، کالأغسال اللیلیة المعتبرة فی صحة صوم المستحاضة عند بعض، والإجازة فی صحة العقد علی الکشف الشَرح:

المقدّمة المتقدّمة والمقارنة والمتأخرة

:

[1] قد ذکروا فی تقسیمات المقدّمة تقسیمها إلی المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة، وهذا التقسیم بلحاظ زمان حصول المقدّمة بالإضافة إلی زمان حصول ذیها، وبما أنّه لا ینبغی التأمّل فی أنّه لا یحصل المعلول إلاّ بحصول علته بتمام أجزائها، ضرورة أنّ المؤثر فی المعلول علّته، ففرض شیء من أجزاء العلة، وفرض حصول المعلول قبله، غیر ممکن، حیث إنّه لو لم یکن ذلک الشیء مؤثّرا ودخیلاً فی حصول المعلول لزم الخلف، وإن کان مؤثرا أو دخیلاً لزم تأثیر المعدوم فی حصول الشیء.

الشرط المتأخّر

:

وعلی ذلک، فقد أشکل الأمر فی موارد قد ثبت فیها من الشرع کون شیء شرطا للمأمور به أو التکلیف أو الوضع، مع أن_ّه متأخّر فی الوجود عن زمان وجود المأمور به، أو التکلیف، أو الوضع، کالأغسال اللیلیّة المعتبرة عند بعض فی صحّة صوم المستحاضة ، فإنّ الصوم یتحقّق فی الیوم وینتهی بدخول اللیل مع أنّ شرطه _ وهو الغسل _ یکون فی اللیل بعد انقضاء الیوم .

ومنها کون الإجازة شرطا فی العقد الفضولی بنحو الکشف ، فإنّ الملکیة تحصل من حین العقد ، مع أنّ شرط حصولها وهو الإجازة توجد بعد حین ، وکالوضوء من ماء قد وقف علی الوضوء للصلاة فی المسجد ، فإنّ جواز الوضوء منه کذلک، بل فی الشرط أو المقتضی المتقدم علی المشروط زماناً المتصرِّم حینه، کالعقد فی الوصیة والصرف والسلم، بل فی کلّ عقد بالنسبة إلی غالب أجزائه، لتصرّمها حین تأثیره، مع ضرورة اعتبار مقارنتها معه زماناً، فلیس إشکال انخرام القاعدة العقلیة مختصاً بالشرط المتأخر فی الشرعیات _ کما اشتهر فی الألسنة _ بل یعمّ الشرط والمقتضی المتقدّمین المتصرّمین حین الأثر.

الشَرح:

ص :444

یحصل من قبل مع أنّ شرط الجواز _ وهو الصلاة فی المسجد _ یحصل بعد ذلک .

والمذکور فی الکلمات وإن کان التعرّض للإشکال فی الشرط المتأخّر إلاّ أنّ الماتن قدس سره قد أجراه فی المقتضی أو الشرط المتقدّم أیضاً، فإنّ ملاک الاستحالة المزعومة فی المتقدّم والمتأخّر أمرٌ واحد، وهو تحقّق الشیء مع عدم ما یتوقّف علیه.

ولیس المراد أنّه لو کان الشیء من أجزاء العلّة فلا یمکن تحقّقه قبل وجود المعلول بزمان ، بل المراد أن_ّه لابدّ فی تأثیره ودخله من بقائه إلی زمان تحقّق سائر أجزاء العلّة ، إلاّ إذا کان السابق من قبیل المعد ، بأن یکون السابق مقدّمة لللاحق ، کالصعود علی السطح بالسلّم ، فإنّ التدرّج فی السلّم للکون علی السطح لأجل أنّ الصعود علی الدرج الأوّل مقدّمة للکون علی الدرج الثانی ، والصعود من الثانی مقدّمة للکون علی الدرج الثالث وهکذا ، والتدریجیة فی مثل ذلک لا بأس بها ، بل لابدّ منها لامتناع الطفرة .

والمراد من تقدّم العلّة علی المعلول بجمیع أجزائها هو التقدّم رتبة المصحّح لدخول الفاء علی المعلول ، بأن یقال : (وجدت فوجد) لا التقدّم بحسب الزمان ، وإلاّ تخلّف المعلول عن علّته التامّة .

والتحقیق فی رفع هذا الاشکال أن یقال [1]: إنّ الموارد التی توهم انخرام القاعدة فیها، لا یخلو إما یکون المتقدم أو المتأخر شرطاً للتکلیف، أو الوضع، أو المأمور به.

الشَرح:

[1] قد قسّم قدس سره موارد توهّم إنخرام القاعدة العقلیة إلی قسمین ؛ الأوّل : أن یکون المتقدّم أو المتأخّر شرطا للتکلیف أو الوضع ، یعنی الحکم الوضعی ، والثانی : ما یکون المتقدّم والمتأخّر شرطا فی متعلّق التکلیف .

الأول؛ شرط الحکم

وحاصل ما ذکره فی دفع الإشکال فی القسم الأوّل هو أنّ الدخیل فی ثبوت التکلیف أو الوضع لحاظ ما یسمّی شرطا لا تحقّقه الخارجی ، لیقال بأنّ المتأخّر أو المتقدّم لا یؤثّر ولحاظهما کلحاظ الشرط المقارن مقارن لجعل التکلیف ، أو اعتبار الوضع وانتزاعه

ص :445

وبتعبیرٍ آخر : بما أنّ الحکم فعل اختیاری للحاکم یکون صدوره عنه موقوفا علی انقداح الداعی فی نفسه إلی جعله ، ولیس الداعی له إلیه ما یطلق علیه الشرط بوجوده الخارجی ، بل بوجوده اللحاظی ، ویکون لحاظه مقارنا لجعل الحکم ، سواء کان وجوده الخارجی متقدّما علی الحکم أو متأخّرا أو مقارنا ، بلا فرقٍ فی ذلک بین الحکم التکلیفی والوضعی.

وناقش فی هذا الدفع المحقّق النائینی قدس سره وبنی علی امتناع الشرط المتأخّر للتکلیف أو الوضع.

وحاصل مناقشته : أنّ جعل الحکم علی نحوین:

النحو الأوّل: أن یجعله علی وجه الإطلاق بمفاد القضیة الخارجیة ، کما إذا أم_ّا الأوّل: فکون أحدهما شرطاً له، لیس إلا أن للحاظه دخلاً فی تکلیف الآمر، کالشرط المقارن بعینه، فکما أن اشتراطه بما یقارنه لیس إلاّ أنّ لتصوره دخلاً فی أمره، بحیث لولاه لما کاد یحصل له الداعی إلی الأمر، کذلک المتقدم أو المتأخر.

الشَرح:

أحرز المولی الصلاح فی کون عبده خارج البلد فی زمان خاصّ لاستقبال ولده من سفره ، فیأمره بالذهاب إلی خارج البلد فی ذلک الزمان من غیر تعلیق واشتراط ، فیکون الحکم فی هذه الصورة فعلیا حتّی لو فرض عدم قدوم ولده من سفره فی ذلک الزمان کما إذا کان اعتقاد المولی بقدومه مخطئاً ، لأنّ فعلیة الحکم فی هذا النحو من الجعل لا تکون مسبّبة عن تحقّق قدوم ولده خارجا ، بل یکون اعتقاده ولحاظه داعیا للمولی إلی طلبه وحکمه.

وبالجملة الدخیل فی هذا النحو من الطلب هو اللحاظ والاعتقاد بحصول الشیء ، وهذا حاصل مقارنا للجعل والطلب ، ولا عبرة بحصول نفس الملحوظ فی المستقبل ، فلا مجال لتوهّم انخرام القاعدة العقلیة فی نظائره .

وأمّا النحو الثانی: فهو أن یجعل الحکم بمفاد القضیة الحقیقیة معلّقاً علی حصول شرط ، کالمثال فیما إذا کان حکمه بالکون فی خارج البلد معلّقا علی مجیء الولد فی ذلک الزمان ، بأن کان الجعل بمفاد القضیة الحقیقیة ، وفی هذا الفرض تکون فعلیة الحکم دائرة مدار تحقّق الشرط خارجا ، ولو أحرز العبد قدوم الولد فی ذلک

ص :446

الزمان لزم علیه الکون خارج البلد ، ویکون قدومه کاشفا عن فعلیة الحکم من الأوّل ، والشرط المتأخّر بهذا المعنی غیر ممکن ؛ لأنّ الدخیل فی فعلیة الحکم وجود الشرط وتحقّقه خارجا ، وکیف یثبت الحکم ویکون فعلیا فی زمان مع عدم حصول شرطه فیه ؟

وبالجملة: حیث کان الأمر من الأفعال الإختیاریة، کان من مبادئه بما هو کذلک تصوَّر الشیء بأطرافه، لیرغب فی طلبه والأمر به، بحیث لولاه لما رغب فیه ولما أراده واختاره، فیسمی کلّ واحد من هذه الأطراف التی لتصورها دخل فی حصول الرغبة فیه و إرادته شرطاً، لأجل دخل لحاظه فی حص_وله، کان مقارناً له أو لم یکن کذلک، متقدماً أو متأخراً ، فکما فی المقارن یکون لحاظه فی الحقیقة شرطاً، کان

الشَرح:

وبتعبیرٍ آخر : الإشکال فی المجعول بنحو القضیة الحقیقیة وشرائط فعلیة الحکم لا فی شرائط جعله ، وإلاّ فشرط الجعل _ ومنه کون الفعل الذی یعتبره واجبا ذا مصلحة _ یکون أیضاً باللحاظ واعتقاد المولی ولو بنحو الخطأ ، فما ذکره فی الکفایة خلط بین شرائط الجعل وشرط فعلیة المجعول(1) .

أقول : لا یخفی ما فیه ، فإنّ فعلیة الحکم المجعول بنحو القضیة الحقیقیة تابعة لکیفیة الجعل ، ولکن الشرط بوجوده الخارجی _ کقدوم الولد فی المثال _ غیر مؤثّر فی فعلیة الحکم ؛ إذ فعلیة الحکم کانت علی تقدیر حصول الشرط فی المستقبل لکون الجعل بهذا النحو وعدم فعلیته علی تقدیر عدم حصوله إنّما هو لعدم الجعل علی تقدیر العدم فی الحال.

وبالجملة لا مانع من لحاظ المولی عند الجعل أمرا متقدّما أو متأخرا أو مقارنا لحکمه وجعل الحکم علی تقدیر حصول ذلک الأمر بمعنی أن تکون فعلیّة الحکم تابعة لحصول الشرط المزبور علی النحو الذی لاحظه ، ولو کان الوجوب المعتبر من أوّل الیوم علی تقدیر حصول ذلک الأمر فی آخره إلاّ أنّ الشرط لا یکون مؤثّرا فی فعلیة الحکم لیقال بأنّ المعدوم لا یؤثّر ، بل کما ذکرنا فعلیة الحکم علی تقدیره . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص :447


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 224 .

الشَرح:

تخضع للجعل علی ذلک التقدیر ، وعدم جعله علی تقدیر آخر .

وممّا ذکرنا یظهر الحال فی الوضع وأن_ّه لا مانع من اعتبار الملکیة _ مثلاً _ فی العقد الفضولی من حین حصول العقد علی تقدیر إجازة المالک ولو بعد حین بنحو القضیة الحقیقیة . وما یقال من أنّ الحکم لا یتقدّم علی موضوعه ، وشرائط الحکم کلّها راجعة إلی قیود الموضوع ، غیر سدید ، فإنّ الحکم لا یکون معلولاً ولا عرضا لموضوعه فیما کان أمرا إنشائیا ، کما هو الفرض فی المقام ، ولا بأس بتقدّمه علی الموضوع زمانا مع کون اعتباره وجعله علی هذا النحو .

نعم ، ظاهر خطاب الحکم فیما إذا لم یقترن بقرینة داخلیة أو خارجیة اتّحاد زمان الحکم والموضوع فی الفعلیة فیحتاج رفع الید عن هذا الظهور إلی قرینة خاصة ؛ ولذا التزمنا فی العقد الفضولی بالکشف الحکمی حیث إنّ ظاهر الأدلّة أن إمضاء المعاملة مقارن لحصول استنادها إلی المالک ورضا من یعتبر رضاه بها .

والمتحصّل أنّه لا فرق فی الحکم المجعول بنحو القضیة الخارجیة والحقیقیة من جهة توقّف الفعلیة فیهما علی ثبوت الجعل ، وإنّما الفرق بینهما فی أنّ فعلیة المجعول بنحو القضیة الخارجیة بنفس الجعل فقط ، وفی المجعول بنحو القضیة الحقیقة بحصول ما علّق الحکم علیه خارجا علی النحو الذی اعتبره فی الجعل .

وممّا یترتب علی ذلک أنّ شخصاً لو اعتقد فی جماعة أنّهم أصدقائه وأذن لهم فی دخول داره بأن قال : (ادخلوا داری) أو : (فلیدخل کل منکم داری) فیجوز لکلّ منهم الدخول ولو لم یکن فی الواقع من أصدقائه ، بخلاف ما إذا قال : (فلیدخل داری منکم من کان صدیقا لی) فإنّه لا یجوز الدخول إلاّ لمن کان صدیقا له .

فقد ظهر ممّا ذکرنا أنّه لیس المراد بالحکم المجعول بنحو القضیة الحقیقیة هی فیهما کذلک، فلا إشکال، وکذا الحال فی شرائط الوضع مطلقاً ولو کان مقارناً، فإن دخل شیء فی الحکم به وصحة انتزاعه لدی الحاکم به، لیس إلا ما کان بلحاظه یصح انتزاعه، وبدونه لا یکاد یصح اختراعه عنده، فیکون دخل کل من المقارن وغیره بتصوره ولحاظه وهو مقارن، فأین انخرام القاعدة العقلیة فی غیر المقارن؟ فتأمل تعرف.

الشَرح:

ص :448

کلیة الحکم وبالمجعول بنحو القضیة الخارجیة القضیة الشخصیة بأن یوجه التکلیف بفعل إلی شخص معیّن ، فإنّه یمکن أن تکون القضیة الشخصیة حقیقیة من جهة قید التکلیف کما مثّلنا .

والمعیار فی کون القضیة حقیقیة عدم جعل الحکم بنحو الإطلاق ، بل علی تقدیر تحقّق أمر أو أُمور سواء کان الحکم کلّیا أو شخصیا ، بخلاف القضیة الخارجیة من جمیع الجهات فإنّه لا تقیید ولا تعلیق فیها بجهة من جهات الحکم ، فکلّ جهة فرضها المولی وجعل الحکم مقیدا بها ، تکون فعلیة المجعول علی تقدیر فعلیة ذلک الأمر سواء کان الحکم شخصیا أو کلیّا .

لا یقال : کلّ ما هو شرط الحکم المجعول بنحو القضیة الحقیقیة أو کلّ ما أحرزه المولی من الأمر المتأخّر بکونه شرطاً فی حکمه بنحو القضیة الخارجیة إمّا أن یکون لوجود المتأخّر دخالة فی صلاح الحکم المجعول أو لا ، بأن یکون للحاظ ذلک الأمر المتأخّر تمام الدخل فی صلاح الحکم تکلیفا أو وضعا دون وجوده ولا أظنّ أن یلتزم أحد به ؛ ولذا لو أخطأ المولی وجعل الحکم بنحو القضیة الخارجیة باعتقاد حصول ذلک المتأخّر ولم یحصل ، لم یکن لحکمه أیّ صلاح ، وإذا کان الدخیل فی صلاحه وجود ذلک الأمر المتأخّر فکیف یکون فی حکمه صلاح مع أنّ ذلک المتأخّر لم یحصل ، فیعود محذور تأثیر المعدوم فی الموجود .

وأم_ّا الثانی: فکون شیء شرطاً للمأمور به [1] لیس إلاّ ما یحصل لذات المأمور به بالإضافة إلیه وجه وعنوان، به یکون حسناً أو متعلقاً للغرض، بحیث الشَرح:

فإنّه یقال : إنّما الإشکال کان فی ثبوت الحکم متقدّما أو متأخّرا مع عدم الشرط حال ثبوته ، لتقدّمه أو تأخّره ، وقد أجبنا عن ذلک بأنّ ثبوته کذلک یخضع لکیفیة جعله ، وقد فرض أنّ الدخیل فی جعله لحاظه ، فالمتأخّر أو المتقدّم بلحاظه دخیل فی جعل المولی ودخیل فی فعلیة الحکم إذا کان الجعل بنحو القضیة الحقیقة ، ودخله بهذا النحو إنّما کان لتعلیق المولی اعتباره علی حصوله متقدّما أو متأخرا ، ودخالته لیس بمعنی التأثیر ، بل بمعنی ثبوت الجعل علی ذلک التقدیر .

وأمّا مسألة صلاح الحکم ، فقد یأتی الکلام فیه فی الشرط المتقدّم أو المتأخّر للمأمور به إن شاء اللّه تعالی ، إذ الدخالة فی الصلاح لا یفرق فیه بین صلاح الحکم

ص :449

وصلاح متعلّق التکلیف ، غایة الأمر متعلّق التکلیف فعل العبد ، والحکم فعل المولی ، واتّصافهما بالصلاح وعدمه علی حدٍّ سواء ، وإذا صحّحنا دخالة المتأخّر والمتقدّم فی صلاح الفعل من غیر لزوم انخرام القاعدة العقلیة یصحّ تصویر الدخل فی صلاح الحکم أیضاً بعین الوجه المفروض .

الثانی؛ شرط المتعلّق

:

[1] وحاصله أنّ إطلاق شرط المأمور به علی أمر من فعل أو غیره لیس إلاّ باعتبار أنّه یحصل لمتعلّق التکلیف بالإضافة إلیه عنوان حسن ، ویحسن متعلّق التکلیف بتعنونه بذلک العنوان ، مثلاً ضرب الیتیم باعتبار مقارنته بقصد تأدیبه یتعنون بعنوان التأدیب ، وبه یکون حسنا ویتعلّق به الغرض ، ومع عدم مقارنته به لا یکون حسنا ، بل یکون قبیحا ، ولیس ذلک إلاّ لأجل أنّ إضافة الضرب إلی القصد المزبور یوجب تعنونه بعنوان التأدیب الذی یکون الفعل به حسنا عقلاً وشرعا ، ومن لولاها لما کان کذلک، واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الإضافات، ممّا لاشبهة فیه ولا شک یعتریه، والإضافة کما تکون إلی المقارن تکون إلی المتأخّر أو المتقدّم بلا تفاوت أصلاً، کما لا یخفی علی المتأمل، فکما تکون إضافة شیء إلی مقارن له موجباً لکونه معنوناً بعنوان، یکون بذلک الشَرح:

الظاهر کما أنّ إضافة الفعل إلی أمرٍ مقارن یوجب تعنونه بعنوانٍ حسن ، کذلک إضافته إلی أمرٍ متأخّر أو متقدّم یوجب ذلک ، نظیر الکذب ، فإنّه یکون حسنا ویتعلّق به الغرض بالإضافة إلی نجاة النفس عن الهلاکة المتحقّقة بعده ولو فیما بعد ، فإنّ الکذب بالإضافة إلی ترتّبه علیه فیما بعد یتعنون بعنوان حسن .

وبالجملة ، إذا کان المتأخّر أو المتقدّم شرطا للمأمور به فهو باعتبار أنّ إضافة الفعل إلی المتأخّر أو المتقدّم توجب تعنون الفعل بعنوانٍ حسن من زمان الإضافة لا من زمان حصول الشرط ، ولیس نفس ما یسمی شرطا بمؤثّر فی العنوان الحسن ، بل الموجب له الإضافة الحاصلة من قبل وإنّما یتأخّر طرف الإضافة .

لا یقال: لا یمکن حصول الإضافة قبل حصول طرف الإضافة المتأخّر أو بعد انقضاء المتقدّم، فإنّه من قبیل حصول الشیء المعلّق بلا متعلّق وقیام الإضافة بالمعدوم؛ لأنّ المزبور أنّ الإضافة فعلیّة مع أنّ طرفها _ یعنی المتقدّم أو المتأخّر _ معدوم.

ص :450

وبتعبیرٍ آخر : المضاف والمضاف إلیه متضائفان ، والمتضائفان متکافئان فی الفعلیة والقوة.

فإنّه یقال: هذا غیر شبهة تأثیر المعدوم فی الموجود ، والشبهة التی توهم انخرام القاعدة العقلیة قد ارتفعت بما تقدّم من أنّ إطلاق الشرط علی قیود المأمور به لیس بحسب معناه المصطلح فی المعقول الذی هو من أجزاء العلّة التامّة لیقال إنّ المعلول لا یتقدّم علی علّته ولا یتأخّر عنها زمانا ، وما ذُکر شبهة أُخری وهی قیام العنوان حسناً ومتعلقاً للغرض، کذلک إضافته إلی متأخّر أو متقدّم، بداهة أنّ الإضافة إلی أحدهما ربما توجب ذلک أیضاً، فلو لا حدوث المتأخّر فی محلّه، لما کانت للمتقدّم تلک الإضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه والأمر به، کما هو الحال فی الشَرح:

الإضافة وفعلیّتها الموجبة لصلاح الفعل ، مع أنّ أحد طرفیها غیر فعلی ، فیکون من فعلیّة العرضی بلا فعلیة معروضه وفعلیة الأمر الانتزاعی بلا فعلیة منشأ انتزاعه .

وهذه الشبهة أیضاً موهومة ؛ إذ کما أنّ أجزاء الزمان یتّصف فعلاً بعضها بالتقدّم وبعضها بالتأخّر مع أنّ الجزء الآخر منه غیر موجود ، کذلک الصوم فی النهار من المستحاضة یتّصف بأنّه یتعقّبه الغسل فی اللیل، مع أنّ الغسل فی اللیل غیر موجود فی النهار، وکما أنّ الجزء المتأخّر من الزمان لو لم یتحقّق لما کان السابق متّصفاً بالتقدّم، کذلک الغسل فی اللیل لو لم یتحقّق لما کان الصوم فی النهار متّصفاً بالتعقب بالغسل فی اللیل، فیکون معنی کون الغسل فی اللیل شرطا لصوم النهار أخذ التقید به فی متعلّق الأمر بالصوم، والتقیّد المزبور واقع التعقب لا عنوانه، وهذا بخلاف کون شیء جزءا لمتعلّق الأمر ، فإنّ ما یطلق علیه الجزء بنفسه مأخوذ فی متعلّق الأمر النفسی.

وربّما یقال کما عن المحقق الاصبهانی قدس سره أنّ ظرف اتّصاف الصوم بوصف تعقّبه الغسل هو الخارج ولیس من قبیل الاتصاف بالکلیة والجزئیة والجنسیة ونحوها، ممّا یکون ظرف الاتصاف فیها الذهن إلاّ أنّ اتصاف الصوم بالتقدّم أو اتصاف الغسل بالتأخّر لا ینشأ عن خصوصیة خارجیة زائدة علی أصل وجود موصوفه.

وتقریره أنّ الإضافة بین المتضائفین قد تحصل لخصوصیة زائدة فی کلّ من الموصوفین کما فی العاشقیة والمعشوقیة ، فإنّ للعاشق عشقاً وفی المعشوق کمالاً، وقد تحصل لخصوصیة فی أحدهما فقط ، کالعالمیة والمعلومیة ، والخصوصیة هی

ص :451

العلم للعالم ، وقد لا تکون خصوصیة زائدة فی شیء من الموصوفین کالمتیامن المقارن أیضاً، ولذلک أطلق علیه الشرط مثله، بلا انخرام للقاعدة أصلاً، لأن المتقدم أو المتأخر کالمقارن لیس إلاّ طرف الإضافة الموجبة للخصوصیة الموجبة للحسن، وقد حقق فی محله أنّه بالوجوه والاعتبارات، ومن الواضح أنّها تکون بالإضافات.

الشَرح:

والمتیاسر وثانی الاثنین وثالث الثلاثة ، وما نحن فیه من هذا القبیل ، فإنّ نفس الصوم فی النهار لو لوحظ مع الغسل فی اللیل لاستلزم تعقّلهما تعقّل عنوانین متضائفین ، ولکنّ هذا لا یدفع الإشکال ؛ لانّ المتضائفین متکافئان فی القوة والفعلیة وأنّ ما لم یکن اتصاف المتأخّر بالتأخّر لایتصف الصوم بالتقدّم علیه .

ولا یقاس بالزمان ، فإنّ تقدّم جزء الزمان علی جزئه الآخر ذاتی ، حیث إنّ الزمان الوحدانی وجوده تدریجی ، فالتکافؤ فی أجزائه إنّما هو لاتصالها ووحدة وجودها ، بخلاف التقدّم فی الصوم والتأخّر فی الغسل ؛ إذ لیس الاتصاف بهما بالذات بل بالعرض بتبع الزمان ، فما دام لم یکن للغسل تأخّر لم یکن للصوم فی النهار تقدّم ، بمقتضی التکافؤ فی المتضائفین فی الفعلیة والقوة ، وعلی ذلک فإن کان الصلاح فی الصوم المتصفّ بالتقدّم ، یکون للمتأخّر دخل فی ذلک الصلاح ، ویعود محذور دخالة المتأخّر فی المتقدّم .

وذکر فی آخر کلامه هذا فیما إذا کان الصلاح حقیقیا ، وأمّا إذا کان اعتباریا کالاحترام والتعظیم ، فلا بأس باعتباره فعلاً علی تقدیر حصول المتأخّر فی ظرفه نظیر ما تقدّم فی اعتبار الحکم علی تقدیر حصول المتأخّر فی ظرفه(1) .

أقول : لو صحّ تقدّم الجزء من الزمان وأنّ له عند حصوله تقدّم ذاتی فیکون فمنشأ توهم الانخرام إطلاق الشرط علی المتأخر، وقد عرفت أن إطلاقه علیه فیه، کإطلاقه علی المقارن، إنّما یکون لأجل کونه طرفاً للإضافة الموجبة للوجه، الذی یکون بذاک الوجه مرغوباً ومطلوباً، کما کان فی الحکم لأجل دخل تصوره فیه، کدخل تصور سائر الأطراف والحدود، التی لولا لحاظها لما حصل له

ص :452


1- (1) نهایة الدرایة : 2 / 45 .

الرغبة فی التکلیف، أو لما صح عنده الوضع.

وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال فی دفع هذا الإشکال، فی بعض فوائدنا، ولم یسبقنی إلیه أحد فیما أعلم، فافهم واغتنم.

الشَرح:

الصوم المتقیّد به أیضاً کذلک بالإضافة إلی المتقیّد بجزئه الآخر ، فإنّه لا فرق بین کون الذاتی لنفس الشیء أو لقیده .

والمتحصّل أنّ الدخالة فی اتصاف الشیء بعنوان انتزاعی غیر تأثیره فی تحقّق المتصّف بذلک العنوان ، بمعنی استناد وجود المتّصف إلیه ، فمثلاً تحقّق المعلول فی رتبته ، له دخالة فی اتصاف شیء بالعلیة له بحیث لو لا المعلول لما کان الشیء متّصفا بالعلیة له ، ولکن من الظاهر أنّ العلة لا تستند فی حصولها إلی المعلول ، وإلاّ لم یحصلا ، وعلی ذلک فحصول المتأخّر فی ظرفه له دخل فی اتّصاف الصوم فی النهار بتعقّبه به ، إلاّ أنّ تحقّق الصوم فی النهار لا یستند إلی الغسل فی اللیل ، بل اللازم حصول الإضافة التی لا تحقّق لها إلاّ تحقّق طرفیها عند فعلیة کلّ منهما فی ظرفه ، لا فعلیته فی غیر ظرفه .

لا یقال: المتضائفان متکافئان فی القوة والفعلیة .

فإنّه یقال : التضائف بین الوصفین لا بین الموصوفین ، ففی فرض اتصاف الصوم بالتقدّم یکون وصف التأخّر للغسل فی اللیل فعلیا ، کما أنّ اتصاف الیوم بالتقدّم واتصاف الغد بالتأخر فعلیّان فی هذا الیوم .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وذکر النائینی قدس سره إنّ النزاع فی الشرط المتأخّر والمناقشة فیه لا یجری فی شرط المأمور به ؛ وذلک لأنّ شرط المأمور به المتأخّر زمانا کالجزء الأخیر من العمل لا یکون مورد المناقشة ، کذلک الشرط المتأخّر ، حیث إنّه فی أی زمان تحقّق الشرط یتمّ المشروط من ذلک الزمان ، کما هو الحال فی الجزء الأخیر ، فیحصل الکلّ من حین حصول ذلک الجزء لا قبله .

لا یقال : بین الجزء الأخیر والشرط الأخیر فرق ، فیمکن الأوّل دون الشرط المتأخّر ، فإنّ الجزء بنفسه یتعلّق به الأمر النفسی ، فما دام لم یتحقّق لا یتمّ العمل ،

ص :453

بخلاف الشرط فإنّ الداخل فی متعلّق الأمر النفسی هو التقیّد لا نفس القید .

وعلیه فیقع الکلام فی مورد الشرط المتأخّر فی أنّه لو کان التقیّد المأخوذ فی متعلّق الأمر النفسی حاصلاً قبل حصول الشرط یلزم دخالة الشیء وتأثیره حال عدمه ؛ إذ المزبور أنّ الشرط حین حصول التقیّد غیر موجود ، وإن حصل التقیّد بعد وجود الشرط یلزم قیام الإضافة بطرفٍ واحد ، حیث إنّ التقیّد فی حقیقته إضافة ، وأحد طرفیها الشرط وهو موجود ، والطرف الآخر وهو الفعل معدوم ؛ لانقضائه بانقضاء الیوم علی الفرض .

فإنّه یقال : التقیّد أمر انتزاعی لا یتعلّق به الأمر النفسی ، بل الأمر النفسی یتعلّق بمنشأ انتزاعه وهو الشرط ؛ ولذا یعتبر أن یکون الشرط المتأخّر للمأمور به مقدورا ؛ إذ مع خروجه عن الاختیار لا یصلح شرطا _ سواء کان حصوله قطعیا أم لا _ فإنّه مع حصوله قطعا یکون أخذه قیداً فی متعلّق الأمر لغوا ، ومع عدم حصوله یلزم توقّف الامتثال علی أمرٍ غیر اختیاری .

والحاصل أنّه لا فرق بین الجزء الأخیر والشرط المتأخّر للمأمور به، إلاّ کون الجزء ولا یخفی أن_ّها بجمیع أقسامها داخلة فی محل النزاع [1]، وبناء علی الشَرح:

بنفسه وبتقیّده دخیلاً فی متعلّق الأمر بخلاف الشرط، فإنّه دخیل فیه بتقیّده فقط(1).

وفیه أنّ المزبور فی الشرط المتأخّر للمأمور به حصول التقیّد قبل حصول ما یطلق علیه الشرط المتأخّر ، وهذا التقیّد فی حقیقته إضافة کما ذکرنا ، وحصولها للفعل إنّما هو بإضافة الفعل إلی المتأخّر ، بحیث یکون حصول المتأخّر فی ظرفه کاشفا عن حصول تلک الإضافة للفعل من الأوّل .

وما ذکر قدس سره من عدم إمکان تعلّق الأمر بالانتزاعی ، بل یتعلّق بمنشأ انتزاعه ، صحیحٌ ، ولکن منشأ انتزاع التقیّد فی باب الشروط هی الحصة التی یتعلق بها الأمر النفسی ، وتکون تلک الحصة منحلّة بنظر العقلی إلی الطبیعی وتقیّده بما یسمّی بالشرط ، ولو تعلّق الأمر النفسی بنفس الشرط بطل کونه شرطا وانقلب إلی کونه جزءا ، ولم یمکن أن یتعلّق به الأمر الغیری حتّی بناءً علی القول بالملازمة ، وقد

ص :454


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 221 .

تقدّم جواز کون الشرط خارجا عن الاختیار ، حیث یکفی فی جواز الأمر بالحصة کون الحصة مقدورة ، وإلاّ جری الحکم فی الشرط المتقدّم والمقارن أیضاً .

[1] یعنی مقدّمة الوجود للواجب بجمیع أقسامها من المتقدّم والمقارن والمتأخّر مورد الخلاف فی بحث الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته، فإنّه بناءً علی الملازمة یتعلّق بما یطلق علیه المقدّمة وشرط الواجب، الوجوب الغیری.

لا یقال : تعلّق الوجوب الغیری بما یطلق علیه الشرط المتأخّر للواجب وإن لم یکن فیه إشکال ، إلاّ أنّ الوجوب الغیری حیث یتبع الوجوب النفسی فی الحصول فبعد انقضاء ظرف الواجب النفسی _ کما فی انقضاء النهار فی صوم المستحاضة _ إمّا الملازمة یتصف اللاحق بالوجوب کالمقارن والسابق، إذ بدونه لا تکاد تحصل الموافقة، ویکون سقوط الأمر بإتیان المشروط به مراعیاً بإتیانه، فلولا اغتسالها فی اللیل __ علی القول بالإشتراط __ لما صح الصوم فی الیوم.

الشَرح:

أن یلتزم ببقاء الوجوب الغیری أو بسقوطه ، فإن التزم ببقائه فکیف یکون تبعیا وترشحیا مع سقوط الواجب النفسی ، وإن قیل بسقوطه أیضاً کالوجوب النفسی ، فکیف یثبت الوجوب الغیری من الأوّل ؟ لعدم إمکان داعویته إلی متعلّقه فی ظرف الواجب النفسی لعدم التمکّن علیه ولا بعده لسقوطه تبعا للنفسی ، ولو مع التمکّن علی الإتیان بمتعلّقه .

والإشکال فی الشرط المتقدّم آکد فیما کان لوجوب الواجب النفسی شرط لم یحصل فی ظرف الإتیان بالشرط المتقدّم ، فإنّه کیف یتعلّق الوجوب الغیری بالمقدّمة مع عدم فعلیة الوجوب النفسی ، کما فی وجوب الغسل علی الجنب فی اللیل مقدّمة لصوم الغد بناءً علی اشتراط فعلیة وجوب الصوم بالفجر .

ولا یجدی الالتزام ببقاء الوجوب النفسی المتعلّق بالصوم إلی أن ینقضی زمان التمکّن علی الاغتسال من اللیل أو إلی أن یغتسل فی اللیل ، فإن اغتسلت المرأة فی اللیل یسقط کلّ من الأمر النفسی والغیری بالامتثال والموافقة ، وإن لم تغتسل سقطا بالعصیان والمخالفة .

فإنّه یقال: لا یمکن الالتزام ببقاء الوجوب النفسی بعد انقضاء النهار ، لأنّه لم یتعلّق بالاغتسال فی اللیل لیعقل بقائه إلی حصول تمام متعلّقه ، بل یبقی مراعی

ص :455

إلی تحقّق شرطه ، فإنّ المرأة لو اغتسلت فی اللیل یکون اغتسالها کاشفا عن سبق تحقّق الصوم وتقدّمه علی الاغتسال عند انقضاء زمان الصوم ، فلا معنی لبقاء التکلیف بالصوم بعده ، وإن لم تغتسل فیکشف عن عدم سبق الصوم علی الغسل . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وأنّ التکلیف قد سقط عند انقضاء النهار بالعصیان .

أقول : وجوب المقدّمة بناءً علی الملازمة وإن کان غیریّا تبعیّا إلاّ أنّه لیس المراد من التبعیة حصول وجوب المقدّمة بلا إنشاء بمعنی حصوله قهرا، نظیر تبعیة الحرارة للنار، بل المراد أنّ إرادة إنشاء الوجوب للمقدّمة عند التفات المولی إلی کونها مقدّمة تحصل بتبع إرادته إنشاء الوجوب لذیها، وعلیه فلا مانع من إنشاء الوجوب للمقدّمة بحیث یبقی بعد انقضاء ظرف الإتیان بذیها، لئلاّ ینطبق بالإتیان بمتعلّق الوجوب الغیری عنوان العصیان علی سقوط الأمر بذیها فی السابق، بل ینطبق علیه عنوان الامتثال، وکذلک الحال فی الشرط المتقدّم، کأمر الجنب بالاغتسال فی اللیل لئلاّ یکون التکلیف بالصوم عند طلوع الفجر من التکلیف بغیر المقدور، بل سیأتی أنّه لو صحّ جعل الوجوب الغیری من المولی، فهو فی مثل هذه الموارد، ولیس هذا من الوجوب النفسی التهیّئی، کما ذکر فی بعض الکلمات، فلاحظ.

ص :456

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.